الكتاب: المبسوط
المؤلف: الشيخ الطوسي
الجزء: ٦
الوفاة: ٤٦٠
المجموعة: فقه الشيعة الى القرن الثامن
تحقيق: تصحيح وتعليق : محمد الباقر البهبودي
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: المكتبة المرتضوية لإحياء آثار الجعفرية
ردمك:
ملاحظات:

المبسوط
في فقه الإمامية
تأليف
شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي
المتوفى 460 هجري
صححه وعلق عليه
محمد الباقر البهبودي
الجزء السادس
عنيت بنشره - المكتبة المرتضوية
لإحياء الآثار الجعفرية
حقوق طبع محفوظ
رقم تلفن 532138
1

بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب النفقات
قال الله تعالى " فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم
ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا " بمعنى لا يكثر من
تمونون فلولا أن النفقة واجبة والمؤنة عليه، ما حذره من كثرتها عليه، وقيل إن
معنى " ألا تعولوا " ألا تجوروا، يقال عال يعول إذا جار، وأعال إذا كثر عياله وقد
قيل إن عال يعول مشترك بين جار وبين كثر عياله ذكره الفرا، وعال يعيل إذا افتقر
ومنه قوله " ووجدك عائلا فأغنى (2) " قال تعالى " الرجال قوامون على النساء بما
فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم " (3).
ومنه دليلان أحدهما قوله تعالى " قوامون " والقوام على الغير هو المتكفل
بأمره من نفقة وكسوة وغير ذلك، والثاني قوله " وبما أنفقوا من أموالهم " يعني
عليهن من أموالهم، وقال " قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم " (4) وهذا دليل على
وجوب النفقة، وقال الله تعالى " وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف " (5)
والمولود له الزوج وقد أخبر أن عليه رزقها وكسوتها.
وروى سفيان ابن عيينة عن محمد بن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن
أبي هريرة أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وآله فقال يا رسول الله معي دينار، قال أنفقه على
نفسك، قال معي آخر، قال: أنفقه على ولدك، قال: معي آخر، قال أنفقه على أهلك

(1) النساء: 3.
(2) الضحى: 7.
(3) النساء: 34.
(4) الأحزاب: 50.
(5) البقرة: 233.
2

قال معي آخر، قال أنفقه على خادمك قال معي آخر، قال أنت أبصر.
وفي رواية أخرى أنه قال بعد أهلك قال معي آخر قال أنفقه على والدك، قال
معي آخر قال أنفقه على خادمك، قال معي آخر قال أنفقه في سبيل الله، وذاك أيسر.
وقد جمع هذا الخبر جهات النفقات كلها فإنها تستحق بالقرابة والزوجية و
الملك، وروي عنه عليه السلام أنه قال كفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول، وعنه عليه السلام أنه
قال ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف.
وروي أن هندا جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقالت: يا رسول الله إن أبا سفيان
رجل شحيح، وإنه لا يعطيني وولدي إلا ما آخذ منه سرا وهو لا يعلم، فهل على
فيه شئ؟ فقال خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف.
وفي الخبر فوائد منها أن للمرأة أن تبرز في حوايجها عند الحاجة وتستفتي العلماء
فيما يحدث لها، وأن صوتها ليس بعورة لأن النبي صلى الله عليه وآله سمع صوتها فلم ينكره.
ومنها أن للإنسان أن يذكر غيره بما فيه لموضع الحاجة، وإن كان ذما، ويشكوه
إذا منعه حقه.
ومنها أن للحاكم أن يحكم بعلمه وعلى غائب فإن النبي صلى الله عليه وآله ما طلب البينة
فعلم أنه قضى بعلمه، وعلى غائب لأن أبا سفيان لم يكن حاضرا.
ومنها أن للمرأة أن تلي النفقة على ولدها، وأن لها النفقة، ولولدها النفقة،
وأن النفقة قدر الكفاية، وأن الكفاية بالمعروف، فإنه قال " خذي " فولاها ذلك
" ما يكفيك " فأوجب لها النفقة " وولدك " فأوجبه للولد، والكفاية لأنه قال " ما
يكفيك " ثم قال " بالمعروف ".
ومنها أن الانسان إذا منع حقه له أن يأخذ حقه ممن له عليه سرا لأنه قال
" خذي ".
ومنها أن له الأخذ من جنس حقه ومن غير جنسه، لأنه أطلقها في الإذن.
ومنها أن له بيع المأخوذ وصرفه إلى جنسه، فإنه عليه وآله السلام أطلق
أخذ ذلك لها، وكانت تأخذ ما لا يؤكل، وكان لها بيعه.
3

يجوز للرجل أن يتزوج أربعا بلا خلاف، والمستحب أن يقتصر على واحدة،
وقال داود المستحب أن لا يقتصر على واحدة، لأن النبي صلى الله عليه وآله قبض عن تسع.
قد ذكرنا أن على الزوج نفقة زوجته، فأما وجوب الخادم لها، والإنفاق
عليه، فإن كان مثلها مخدوما فعليه إخدامها، ونفقة خادمها لقوله تعالى " وعاشروهن
بالمعروف " (1) وهذا معتاد معروف.
هذا إذا كانت ممن يخدم مثلها وإن كانت ممن لا يخدم مثلها لم يكن عليه إخدامها
لقوله: " وعاشروهن بالمعروف " ومن المعروف أن لا يخدم مثلها،
والمرجع في من يخدم و
من لا يخدم إلى العادة والعرف، فإن كانت من أهل بيت كبير ولها شرف ونسب و
مال وثروة، ومثلها لا يعجن ويطبخ ويكنس الدار ويغسل الثياب، فعليه إخدامها،
وإن كانت من أفناء الناس كنساء الأكرة والحمالين ونحو هؤلاء، فليس عليه إخدامها.
وهكذا نقول فيمن وجب عليها حكم وكانت مخدرة لا تبرز في حوائجها بعث
إليها من يحكم بينها وبين خصمها في بيتها، فإن كانت ممن تبرز وتخرج وتدخل في حوائج
نفسها وتبايع الرجال وأهل الأسواق، فعليها حضور مجلس الحكم لأن الغامدية
أتت النبي صلى الله عليه وآله فذكرت أنها زنت فأمر برجمها ظاهرا وقال في المرأة الأخرى:
واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها فأمر برجمها في بيتها وكان
الفصل بينهما أن الغامدية كانت ممن تبرز في حوائجها، والأخرى مخدرة في بيتها لا
تبرز للناس.
فإذا ثبت أن المرجع في هذا إلى العرف، فإنما يرجع إلى العرف في مثلها،
ولا يرجع إلى ما تزيت هي به نفسها.
فإن كانت من ذوي الأقدار فتواضعت وانبسطت في الخدمة وجب عليه إخدامها
وإن كانت بالضد من هذا فتكبرت وتعظمت وترفعت عن الخدمة لم تستحق بذلك
الخدمة لأن المرجع فيه إلى قدرها، لا إلى الموجود منها في الحال.
هذا إذا كانت صحيحة فأما إن مرضت واحتاجت إلى من يخدمها كان عليه أن

(1) النساء: 19.
4

يخدمها، وإن كان مثلها لا يخدم في حال الصحة، لأن الاعتبار في كل هذا بالعرف ومن
العرف أن يحتاج إلى خادم كما أن العرف في الجليلة أنها تفتقر إلى خادم فجعلت
هذه في حال المرض كالجليلة النسيبة حال الصحة.
وكل من قلنا لها الخدمة فليس على زوجها أن يزيدها على خادم واحد بحال،
ولو كانت أجل الناس، ومن الناس من قال على الزوج أن يخدمها بقدر جمالها و
مالها والأول أصح لأن الذي عليه من الخدمة الكفاية، والكفاية تحصل بواحد فإن
كان لها مال وجهاز تحتاج إلى خدمة ومراعاة فليس عليه، والذي عليه إخدامها هي.
فإذا تقرر أنها لا تزاد على خادم واحد، فالكلام في صفة الخادم، فقال بعضهم
الزوج مخير بين أربعة أشياء: بين أن يشتري خادما أو يكتري أو يكون لها خادم
ينفق عليه بأذنها، أو يخدمها بنفسه فيكفيها ما يكفيه الخادم، لأن الذي عليه تحصيل
الخدمة لها وليس لها أن تتخير الجهات التي يحصل ذلك منها.
وقال بعضهم هو مخير بين ثلاثة أشياء بين أن يشتري أو يكتري أو ينفق على
خادمها، والأول أقوى لما تقدم.
فإن قالت لست أختار أن يخدمني أحد، وإني أخدم نفسي، وأخذها ما كان يأخذه
خادمي، لم يكن ذلك لها، لأن الخدمة لأجل الترفة والدعة، فإذا لم تختر ذلك
وطلبت الخدمة لم يكن لها عوض. ومتى كان الخادم مشترى أو كان لها وأنفق عليه
كانت النفقة عليه في ماله، وكذلك الفطرة لأنها تتبع النفقة، وإن كان مكترى فلا
نفقة له ولا فطرة، لأن الذي له أجرة عمله لا نفقة له على المكتري ولا زكاة عليه.
إذا كاتب الرجل عبده فله أن يشتري الرقيق لأن له تنمية المال بكل ما
يمكنه فإذا اشترى جارية لم يكن له وطيها لأن فيه تغريرا بمال سيده، فإن أذن له
في ذلك جاز عندنا، وقال بعضهم ليس له وإن أذن، فإن وطئها بإذن سيده أو بغير
إذنه فلا حد عليه، لأن هناك شبهة والنسب لاحق لأنه وطي سقط الحد فيه عن
الواطي.
فإذا لحق نسبه فإنه مملوك لأنه من بين مملوكين، ويكون مملوكا لأبيه لأنه
5

ولد مملوكه، ولا يعتق عليه لأنه ناقص الملك، ولا يجوز له بيعه، لأن الشرع منع من
بيع الأبناء، ولا يملك عتقه لأن فيه إتلاف مال سيده لكن عليه النفقة على ولده.
فأما نفقة ولده من زوجته فلا يجب عليه، سواء كانت حرة أو أمة أو أم ولد
لغيره أو مكاتبة، لأنها إن كانت حرة فلا نفقة عليه، لأنها تجب باليسار وهو غير
موسر، لأن ما في يده لمولاه. وإن كانت أمة لم يجب عليه نفقته، لأنه مملوك لسيد
الأمة، ولا يجب عليه نفقة مملوك غيره، ويفارق ولده من أمة لأنه مملوكه فلهذا أنفق
عليه كسائر مماليكه، وإن كانت أم ولد للغير فلا نفقة عليه لما مضى وإن كانت
مكاتبة للغير فكذلك.
فإذا ثبت أنه لا نفقة عليه فعلى من يجب نفقة ولده من زوجته؟ نظرت، فإن
كانت زوجته حرة فالنفقة على الزوجة، لأنه إذا لم يكن الأب من أهل الانفاق
أنفقت الأم، وإن كانت مملوكة للغير فعلى سيدها نفقة هذا الطفل، لأنه مملوك لسيدها،
وإن كانت أم ولد الغير فنفقته على سيدها، لأنه مملوكه.
وإن كانت مكاتبة فإن ولدها لا يكون مكاتبا، لكن قال بعضهم يكون مملوكا
قنا لسيدها، فعلى هذا النفقة على سيدها وقال آخرون هو موقوف مع أمة يعتق
بعتقها، فعلى هذا نفقته على أمه كما تنفق على نفسها مما في يدها، وهذا أليق بمذهبنا.
وكل موضع قلنا لا يجب عليه أن ينفق فلا يجوز له أيضا ذلك، لأن فيه
تضييعا لمال سيده، فأما إذا كانت زوجته مكاتبة لسيده فلا نفقة عليه، وتكون نفقته على
ما فصلناه.
فإن اختار هذا المكاتب أن ينفق على ولده منها ههنا جاز، لأنه لا يغرر بمال
سيده، فإن عجز فرق فالنفقة كانت على مملوك لسيده وإن أدى وعتق فقد أنفق على
مال سيده: والحكم في ولد العبد من زوجته كالحكم في ولد المكاتب من زوجته لا يجب
عليه الانفاق ولا يجوز لما مضى.
نفقة الزوجات معتبرة بحال الزوج لا بحالها فإن كان موسرا فعليه مدان في
كل يوم وإن كان متوسطا متجملا فعليه مد ونصف وإن كان معسرا فقدر المد فالنفقات
6

ثلاثة: نفقة الموسر والمتوسط والمعسر وفيه خلاف ويعتبر بغالب قوت أهل البلد وينظر
إلى غالب قوته فأوجب عليه كالإطعام في الكفارات وعليه أن يعطيها الحب لأنه أكمل
منفعة فإن طلبت منه غيره لم يجب عليه لأنها تطالب بغير حقها وإن أراد أن يعطيها
غيره لم تجبر على قبوله لأنه يدفع غير حقها وإن اتفقا على أخذ البدل منها دراهم
أو دنانير جاز عندنا، وقال بعضهم لا يجوز.
فأما الكلام في الخادم فقد ذكرنا أنها إن كانت ممن يخدم فعليه إخدامها، و
أنه مخير بين أربعة أشياء تقدم ذكرها، وبينا أنه يجب عليه نفقة خادمها، إما بأن
يشتري أو ينفق على خادمها فقط، ويختلف ذلك باختلاف حال الخادم على ما
فصلناه في نفقتها.
فإن كان موسرا أو جبنا له مدا وثلثا لأنه أقل من نفقة الموسر والمتوسط،
وأرفع من نفقة المعسر، وإن كان معسرا لزم نفقة مد لأنه لا يمكن أقل منه، لأن
البدن لا يقوم بأقل منه، والذي يقتضيه مذهبنا أنه يرجع إلى اعتبار العادة في ذلك.
وأما الجنس والصفة وأخذ البدل على ما فصلناه في نفقة الزوجة.
وأما الأدم فعليه أن يعطيها مع الطعام ما تأتدم به لقوله عز وجل " وعلى المولود
له رزقهن وكسوتهن بالمعروف " (1) وذلك من المعروف، والمرجع في جنسه إلى غالب
أدم بلدها من الزيت أو الشيرج أو السمن ومقداره يرجع فيه إلى العادة، فما كان
أدما للمد في العادة وجب، ويفرض لخادمها الأدم كما يفرض لها ويرجع في جنسه
ومقداره إلى العرف كالزوجة نفسها.
وأما الجودة فمنهم من قال يكون مثل أدم الزوجة، ومنهم من قال دونه،
فأما اللحم فإنه يفرض لها كل أسبوع مرة، لأنه هو العرف، ويكون يوم الجمعة
لأنه عرف عام، ومقداره يرجع فيه إلى العرف، ومنهم من قدره برطل، ومنهم
من زاد عليه بيسير، وكذلك القول في أدم الخادم، فمن قال إنه مثل أدمها في الجودة،
قال هي مثلها في اللحم، ومن قال دون ذلك قال في اللحم مثل ذلك.

(1) البقرة: 233.
7

وأما الدهن الذي تدهن به شعرها وترجله والمشط، فالكل معروف على
زوجها لأنه من كمال النفقة، وليس عليه أجرة طبيب ولا فصاد ولا حجام ولا ثمن
دواء.
وشبه الفقهاء الزوج بالمكتري والزوجة بالمكري دارا، فما كان من تنظيف
كالرش والكنس وتنقية الآبار والخلاء، فعلى المكتري، لأنه يراد للتنظيف، وما
كان من حفظ البنية كبناء الحائط وتغيير جذع انكسر فعلى المكري، لأنه الأصل.
وكذلك الزوج ما يحتاج إليه للنظافة وترجيل الشعر فعليه، وما كان من
الأشياء التي تراد لحفظ الأصل والبنية كالفصد والحجامة فعليها، وإنما يختلفان في
شئ واحد، وهو أن ما يحفظ البنية على الدوام وهو الإطعام فعليه دونها ففي هذا
يفترقان، وفيما عداه يتفقان.
وليس لخادمها دهن ولا مشط، لأنه إنما يراد لإزالة الشعث والترجيل و
التحسين، ولاحظ للخادم في هذا، فإنما عمله الخدمة، فلا معنى لجميع ذلك.
فأما الكلام في الكسوة فإن كسوة الزوجة على الزوج لقوله تعالى " وعلى
المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف " والمرجع في عددها وقدرها وجنسها إلى
عرف العادة، لما ذكرناه من الآية.
وأما العدد فللزوجة أربعة أشياء: قميص، وسراويل، ومقنعة، وشئ تلبسه
في رجلها من نعل أو غيره، لأنه أقل ما يمكن أن يقتصر عليه في العادة، وأما
خادمها فثلاثة أشياء: قميص، ومقنعة، وخف. ولا سراويل لها.
وإنما وجب لها الخف، لأنها تحتاج إلى الدخول والخروج في حوايج الزوجة
فلا بد لها من خف، ويفارق الزوجة لأنه ليس لها دخول ولا خروج، والسراويل
يراد للزينة وذلك للزوجة دونها، ولها المقنعة لأنها تقيها من البرد والحر لا للزينة.
فهذه كسوة الصيف
فأما كسوة الشتاء فإنه يزيدها على هذا جبة محشوة بقطن،
لأن بدنها لا يقوم إلا بها، وأما الخادمة فإنه يزيدها على كسوة الصيف جبة من لباس
مثلها، ومنهم من قال تكون صوفا ولا تكون محشوة، لأنها يحتاج أن يتصرف في
8

الخدمة وذلك تثقلها.
فأما الكلام في قدرها من الكبر والصغر فإنه يكون معتبرا بها من طول أو قصر
ودقة وغلظة، فيكون الكسوة على ذلك لأنه هو المتعارف، وأما جنسها فقال قوم
لامرأة الموسر من لين الكوفي والبصري ووسط البغدادي، ولخادمها من غليظ
الكوفي والبصري وأما امرأة المقتر فلها من غليظ الكوفي والبصري، ولخادمها
كرباس، وهو كتان أغلظ من غليظ الكوفي والبصري، والمعتمد في ذلك الرجوع
إلى عرف الناس فيه، وقد صار العرف في أزواج الموسر الخز والابريشم والكتان،
فتكسى على عرف العادة لمثلها في بلدها، ولا يفرض لها من الكسوة ما لا يسترها، فيجوز
لها الصلاة فيه مثل القصب وما أشبهه ويجوز مثل الصقلي والدبيقي كسوة مثلها.
قد بينا أن نفقة الزوجة مقدرة ويجوز لها أن يتصرف في ذلك كيف شاءت
لأنها تملكه سواء أضر بها أو لم يضر بها، أهزلها أو لم يهزلها. ومنهم من قال: إن
ما أضر بها يمنع منه لأنه يؤدي إلى العلة والتلف، ويؤثر في قلة الاستمتاع وهو
الأقوى.
فأما الفراش والوسادة واللحاف وما ينام فيه قال قوم يجعل لها فراش ووسادة
من غليظ البصري ولحاف منه، وقال قوم الفراش الذي تجلس عليه نهارا هو الذي
ينام عليه ليلا مثل لبد أو زلية فأما مضربة محشوة فلا، لأن العرف هذا، والأول أقوى
لأنه العرف والعادة، ويكون لها لحاف محشوة وقطيفة أو كساء فأما خادمها فلها
وسادة وكساء تغطي به دون الفراش.
هذا في امرأة الموسر: فأما امرأة المعسر فدون هذا، ويعطيها كساء تغطي به ولخادمها
عباءة أو كساء غليظ تنام فيه أو فروة.
إذا أعطى الكسوة لمدة تلبس في مثلها ستة أشهر تقديرا، فاختلقت وبليت لم
يخل من ثلاثة أحوال إما أن تبلي في وقتها أو بعده أو قبله، فإن أخلقت في وقتها فعليه
مكانها، لأنه هو العرف، وإن أخلقت قبل ذلك بشهرين أو ثلاثة لم يكن عليه البدل،
كما لو سرقت كسوتها قبل انقضاء المدة وكذلك إذا أعطاها قوت يومها فتلف قبل أن
9

تأكله لم يكن عليه بدله.
ومتى جاءت المدة والثياب جيدة لم تبل ولم تخلق، قال قوم ليس عليه تجديد
الكسوة، لأن ما عليها فيه كفاية، ولا يلزمه أكثر من الكفاية، وقال آخرون إن
عليه تجديدها، كما لو أخلقت قبل وقتها لم يكن عليه تجديدها، وهو الأقوى.
وكذلك إذا أعطاها قوت يومها فلم تأكله إلى الغد، وجب عليه في الغد القوت بلا خلاف.
والكلام في النفقة في فصلين وقت الوجوب ووقت وجوب التسليم: فأما وقت
الوجوب فالكلام عليه يأتي وأما وقت وجوب التسليم فعليه تسليمها في أول النهار من
كل يوم، لئلا يضربها التأخير، وربما تجوع.
فإن اتفقا على أن يسلفها نفقة أكثر من ذلك بشهر أو شهرين جاز، لأنه عجل
الحق قبل محله كالدين، فإذا حصل ذلك نظرت فإن أقامت معه حتى انقضت المدة
فلا كلام، وإن بانت منه بموت أو طلاق أو غيره في التقدير في اليوم الأول لم يسترد
ما قبضت ليومها لأنها قبضت ما وجب لها، بلى عليها رد ما قبضت لما بعد اليوم، لأنها
قبضت ما لم تستحقه على أن يقع موقعها، فإذا لم يقع موقعها كان عليها الرد كما لو
عجل الزكاة، فبان كافرا فإنه يرد.
وأما الكسوة فلا يمكنه أن يعطيها يوما بيوم، فإذا أعطاها لمدة ثم بانت بموت
أو غيره قال قوم عليها رد الكسوة، وقال آخرون لا يسترد لأنها أخذته باستحقاق
بدليل أنه لو امتنع منها طولب بها، فعلم أنه باستحقاق، والأول أقوى.
حكم البدوية في جميع ما ذكرناه من تقدير النفقة على حسب صفة الزوج من
يسار وإعسار وتوسط، وكذلك الأدام والخادم والكسوة والفراش على ما وصفناه
في حكم الحضرية سواء.
وإنما يفترقان من وجه وهو أن قوت البادية يخالف قوت الحاضرة، فإنهم
يقتاتون الأقط والبلوط، فعليه نفقتها من غالب قوت البادية كما قلناه في غالب قوت
البلدان سواء.
ولا يجب على الزوج أن يضحي عن زوجته، ولو نذرت أن تضحي لم يجب
10

عليه أيضا التضحية عنها وكذلك كفارة اليمين لا يلزمه عنها، وتجب عليه زكاة فطرتها.
فأما الكلام في وقت وجوب النفقة والسبب الذي به يجب فلا يخلو الزوجان
من أربعة أحوال إما أن يكونا كبيرين، أو الزوج كبيرا وهي صغيرة، أو هي كبيرة و
هو صغير، أو يكونان صغيرين.
فإن كانا كبيرين كل واحد منهما يصلح للاستمتاع، فالنفقة يجب في مقابلة
التمكين من الاستمتاع لأنه لو وجد العقد دون التمكين فلا نفقة، ولو وجد التمكين
وجبت وإن نشزت سقطت.
والتمكين الذي يجب في مقابلته هو التمكين المستحق بالعقد المستند إليه، ولا
نقول به وبالعقد، بل نقول بالتمكين المستند إلى العقد، بدليل أنه لو وجد التمكين
من غير عقد أو عن عقد فاسد لم يستحق شيئا، وذلك التمكين هو التخلية التامة.
والتمكين الكامل هو أن تمكنه من نفسها على الاطلاق من غير اعتراض عليه
في موضع مثلها ونقلها إليه، بدليل أن الرجل يزوج أمته ثم يرسلها إلى زوجها ليلا
فأمسكها لخدمة نفسه نهارا لا نفقة لعدم التمكين الكامل، وإنا وجد ما يجب به
النفقة، وجب تسليمها إليه في كل يوم في أوله.
فإن فعل فلا كلام، وإن توانى ولم يدفع إليها حتى مضت مدة استقرت النفقة
عليها وقال بعضهم تسقط بمضي الوقت ما لم يفرضها الحاكم، فمتى فرضها استقرت.
فأما إن لم تمكنه التمكين الكامل مثل أن قالت أسلم نفسي إليك في بيت أبي
أو في بيت أمي أو في محلة دون محلة أو بلد دون بلد، فلا نفقة لها، لأن التمكين
الكامل ما وجد كما قلناه في الأمة إذا أسلمت نفسها ليلا وانصرفت نهارا.
هذا الكلام في التمكين التام والناقص،
فأما إن لم يوجد واحد منهما مثل أن
عقد النكاح وتساكتا من غير مطالبة بتمكين ولا إنفاق، فإن النفقة لا تجب ولو بقيا
سنين على هذه الصورة، سواء كان كل واحد منهما على صفة متى طولب بما يجب من
جهته بادر به، أو لم يكن كذلك، لأن النفقة إنما يجب بوجود التمكين لا بإمكان
التمكين.
11

فإن وجد منها التمكين الكامل على ما وصفناه لم يخل الزوج من أحد أمرين
إما أن يكون حاضرا أو غايبا، فإن كان حاضرا وجب عليه النفقة لأنه قد وجد سبب
الاستحقاق.
وإن كان غائبا، فحضرت عند الحاكم وذكرت أنها مسلمة نفسها إلى زوجها
على الاطلاق، لم يحكم لها بالنفقة بهذا القدر لكنه يكتب إلى حاكم البلد الذي فيه
الزوج يعرفه ذلك ثم ذلك الحاكم يحضره ويقول له فلانة زوجتك قد بذلت التمكين
الكامل، فأما أن يسير للتسليم أو لا يسير، فإن سار لوقته أو وكل من ينوب عنه في القبض
والتسليم، فحضر وقبض كان ابتداء النفقة من حين القبض، وإن لم يسر ولا وكل
ضرب المدة التي لو سافر فيها وصل إليها لم يكون عليه نفقتها عند انتهاء هذه المدة،
لأنه وجد منها التمكين الكامل، وقدر هو على القبض فلم يفعل، فعليه نفقتها.
هذا إذا كانا كبيرين
وهكذا إذا كان كبيرا وهي مراهقة تصلح للوطي، فالحكم
فيهما سواء وإنما يفترقان في فصل واحد، وهو أنها كانت كبيرة فالخطاب معها في
موضع السكنى والتمكين الكامل، وإذا كانت صغيرة قام وليها مقامها فيه لو كانت
كبيرة على ما شرحناه.
فإن لم يكن ولي أو كان لكنه غائب أو كان حاضرا فمنعها، فسلمت هي نفسها
منه وجبت النفقة، وإن كانت ممن ليس من أهل الإقباض ولا يصح تصرفها، لأن
الشئ إذا كان استحق قبضه فمتى قبضه المستحق صح وإن كان المقبوض منه ليس من
أهل الإقباض.
ألا ترى: من اشترى عبدا ودفع الثمن إلى بايعه، استحق المشتري قبض العبد
فلو قبضه من صبي أو مجنون أو وجده في الطريق فأخذه وقع القبض موقعه اعتبارا بالقابض
المستحق للقبض، ولا يراعى جهة المقبض لما بيناه.
وأما القسم الثاني وهو إذا كان الزوج كبيرا والزوجة صغيرة، لا يجامع
مثلها لصغرها، فلا نفقة لها، وقال آخرون لها النفقة والأول أصح عندنا
وأما القسم الثالث، وهو إذا كان الزوج صغيرا وهي كبيرة، قال قوم لها النفقة
12

وقال آخرون لا نفقة لها، وهو الأقوى عندي، والأول أصح عند المخالفين.
وأما إذا كانا صغيرين فلا نفقة لها عندنا وقال آخرون لها النفقة.
إذا مرضت زوجته لم تسقط نفقتها بمرضها، لأنها من أهل الاستمتاع، ولأنها
قد يألفها ويسكن إليها وتفارق الصغيرة بهذين المعنيين،
وإذا كان الزوج عظيم
الخلقة، كبير البدن، غليظ الذكر، وكانت ضعيفة نحيفة نضو الخلق، عليها في جماعه
شدة ضرر ولا تأمن الجناية عليها بإفضاء أو غيره، منع من جماعها لقوله تعالى و " عاشروهن
بالمعروف " ومن المعروف أن يكون الجماع على صفة يلتذان به، وليس له الخيار
في فسخ النكاح لأنه إنما يثبت بعيب يجد بها وليس ها هنا عيب، بدليل أنه لو كان
زوجها مثلها لم يلحقها شدة في جماعه.
فإذا ثبت أنه لا خيار له قلنا لك الخيار من وجه آخر إما أن تصبر على الاستمتاع
بها دون الفرج، أو تطلق، فإن صبر فعليه المهر والنفقة، وإن طلق رجع عليه نصف
الصداق لأنه ما دخل بها.
ويتوصل إلى معرفة ذلك من وجهين إما أن يعترف هو فتمنع منه، أو لا يعترف
فلا يثبت إلا من جهة المشاهدة بأن تشاهده النساء حين الإيلاج من غير حايل دون
فرجها لأنه موضع ضرورة كالعيوب تحت الثياب، فمنهم من قال يقبل قول امرأة واحدة
فإنه على طريق الأخبار، ومنهم من قال لا يقبل إلا قول أربع نسوة كالشهادة على
الولادة.
الرتق هو انسداد فرج المرأة على وجه لا يطاق جماعه، القرن عظم في باطن الفرج
يمنع دخول الذكر فيه، وقيل إنه لحم نابت في الفرج يمنع الجماع.
فإذا كان بالمرأة ذلك، أو كان بها جنون أو جذام أو برص أو عيب من العيوب
التي توجب الرد يثبت له الخيار، فإذا اختار الإمساك فعليه النفقة، وله أن يستمتع
منها دون الفرج كيف شاء.
إذا أحرمت ففي إحرامها ثلاث مسائل إحداها أحرمت بإذنه وأحرم معها وهي
معه، فلها النفقة لأنها ما خرجت من يده وقبضه.
13

والثانية أحرمت بغير إذنه فإن كان إحرامها بحجة الاسلام أو كان تطوعا فأذن
لها فيه لم تسقط نفقتها عندنا، وإن كان تطوعا بغير إذنه فلا ينعقد عندنا إحرامها ولا
تسقط نفقتها.
وعند المخالف إذا أحرمت بغير إذنه فلا نفقة لها، لأنه إذا كان تطوعا
فحقه واجب، وهو مقدم على التطوع، وإن كان واجبا فحقه أسبق، والحج على
التراخي فلا نفقة.
الثالثة أحرمت وحدها بإذنه، فعندنا لها النفقة، وبه قال قوم، وقال آخرون
لا نفقة لها، لأنها سافرت وحدها، فكل موضع قلنا لا نفقة لها، فلا فرق بين أن
يكون مالها فيه عذر وما لا عذر لها فيه كما لو تعذر تسليم المبيع على البايع.
فأما الاعتكاف ففيه ثلاث مسائل مثل الحج إن اعتكفت بإذنه وهو معها، فالنفقة
لها، وإن اعتكفت بغير إذنه فعندنا لا يصح اعتكافها، ولا تسقط نفقتها، وعندهم يصح
الاعتكاف وتسقط النفقة، لأنها ناشزة، وإن اعتكفت بإذنه وحدها فلها النفقة عندنا و
قال بعضهم لا نفقة لها.
وأما الصوم فضربان تطوع وواجب، فإن كان تطوعا فله منعها منه، لأن
النبي صلى الله عليه وآله قال: لا تصوم المرأة تطوعا إلا بإذنه إذا كان زوجها حاضرا، فإن صامت
نظرت فإن طالبها بالفطر فأفطرت فلا كلام، وإن امتنعت كان نشوزا وتسقط نفقتها و
قال بعضهم لا تسقط لأنها ما خرجت عن قبضه.
وإن كان واجبا فعل ضربين نذرا وشرعا، فإن كان نذرا لم يخل من أحد أمرين
إما أن يكون في الذمة أو متعلقا بزمان، فإن كان في الذمة فلا فصل بين أن يكون
بإذنه أو بغير إذنه، فله منعها، لأنه على التراخي عندهم، وإن كان معينا بزمان
نظرت فإن كان بغير إذنه فله منعها أيضا لأنه تعين عليها من جهتها بغير إذنه، وإن
كان بإذنه فليس له المنع لأنه تعين عليها بإذنه.
فأما إن كان شرعيا نظرت فإن كان في شهر رمضان، فليس له منعها، لأن هذا
يقع مستثنى بعقد النكاح لأن عقد النكاح يعم كل الأزمان إلا ما وقع مستثنى، و
14

هو زمان العبادات، وزمان الأكل، فأما قضاء رمضان، فله منعها منه إن لم يضق الوقت
لأنه على التراخي، فإن ضاق الوقت وهو أن يبقى إلى رمضان السنة القابلة بقدر ما
عليها من الصيام، لم يكن له منعها، لأنه متى أخرته عن وقته كان عليها القضاء و
الكفارة، وقد مضى الكلام فيه.
هذا إذا نذرت صوما بعد عقد النكاح وأما إن وجب عليها الصيام بالنذر ثم
تزوج بها فإن كان النذر صوما في الذمة، كان له منعها منه، لأن حقه على الفور
وما في ذمتها على التراخي، وإن كان النذر زمانا بعينه لم يكن له منعها، لأن هذا
الزمان قد استحق عليها قبل عقد النكاح، فإذا وقع العقد وقع ذلك الزمان مستثنى
بأصل العقد، فلهذا لم يكن له منعها منه.
وأما الصلاة فليس له منعها منها لأنها عبادة تعلقت بزمان بعينه، ولها أن تصلي
في أول الوقت، وليس له منعها منها، لأنه يفوتها فضيلة أول الوقت، وإن كانت
الصلاة في الذمة كان له منعها، وإن كان قضاء أو نذرا كالصوم في الذمة سواء. وضوم
الكفارات لا يكون أبدا إلا في الذمة فهو كالنذر في الذمة.
إذا تزوج امرأة لم تخل من أحد أمرين إما أن تكون حرة أو أمة، فإن كانت
حرة فلها أن تمنع نفسها حتى تقبض المهر، فإذا قبضت فلا نفقة لها حتى تمكن من
الاستمتاع الكامل، فإذا حصل التمكين من الاستمتاع الكامل، وجبت النفقة، وإن
نشزت سقطت نفقتها بلا خلاف إلا الحكم فإنه لا يسقط نفقتها.
وأما إذا كانت أمة فلسيدها المنع حتى يقبض المهر، فإذا قبضه وجب التسليم،
فإذا سلم فهو بالخيار بين أن يمكن منها التمكين الكامل، وبين أن لا يمكن: وله أن
يرسلها ليلا ويمسكها عنه نهارا للخدمة، لأن السيد يملك من أمته منفعتين استخداما
واستمتاعا، فإذا عقد على إحداهما كان له استيفاء الأخرى، كما لو آجرها من ذي
محرم لها أو امرأة ثقة، فله أن يمسكها للاستمتاع ليلا ويرسلها للخدمة نهارا.
فإذا ثبت ذلك نظرت فإن أطلقها إليه ومكنه من الاستمتاع الكامل، وجبت
النفقة كالحرة سواء، اعتبارا بحال الزوج موسرا كان أو معسرا أو متوسطا.
15

فأما الخدمة فلا يجب إخدامها عندنا، لأن العرف أن يخدم الأمة نفسها، و
يخدم مولاها، فلا يجب على مولاها إخدامها، وقال بعضهم يجب، لأن منهم من لها
المنزلة والفضل، وليس بشئ، لأن فضيلتها إنما هو للسيد، فإن أراد استخدامها
لم يكن لها الامتناع.
فأما إن مكنته ليلا وأمسكها عنه نهارا فلا نفقة لها، لأن النفقة بالتمكين
الكامل، وليس هذا بحاصل، ألا ترى أن الحرة إذا قالت أنا أسلم نفسي ليلا وأنصرف
إلى بيتي نهارا فلا نفقة لها؟
إذا اختلف الزوجان في قبض المهر والنفقة لم يخل من أحد أمرين إما أن يكون
قبل الزفاف أو بعده، فإن كان قبل الزفاف وقبل تسليم نفسها إليه فإنما يتصور الخلاف
في قبض المهر وأما النفقة فلا، لأنها ما وجبت لعدم التمكين.
فإذا قال قد قبضت المهر و أنكرت، فالقول قولها، لأن الأصل أنها ما قبضت
كالمتبايعين إذا اختلفا في قبض الثمن فالقول قول البايع، هذا بلا خلاف.
وإن كان الخلاف بعد أن أسلمت نفسها وحصلت في منزله وتحت قبضه، فإنه
يتصور ها هنا اختلافهما في الأمرين جميعا.
فإذا اختلفا فالقول قولها فيهما عند بعضهم، وقال بعضهم القول قول الزوج،
لأن الظاهر يشهد له، فإن العرف أنها ما سلمت نفسها حتى قبضت المهر، وبهذا
تشهد روايات أصحابنا، فلو غاب عنها ثم عاد وادعى أنه كان خلف لها نفقة كان عليه
البينة، وإلا عليها اليمين بلا خلاف.
فمن قال القول قولها قال إن الاختلاف في قبض المهر نظرت، فإن كانت الزوجة
حرة فلا خلاف بينهم أن القول قولها، إلا أن يقيم الزوج البينة بقبضها وإن كانت
الزوجة أمة فالخلاف بينه وبين سيدها دونها، ويكون القول قوله لأن المهر له دونها
فالسيد في المهر كالحرة فيه.
وإن كان الخلاف في قبض النفقة، فإن كانت حرة فالخلاف معها، لأن النفقة
لها كالصداق، وإن كانت أمة فالخلاف معها أيضا دون سيدها، لأن النفقة لها دون
16

سيدها وما كان حقا لها فلا مدخل لسيدها فيه وكذلك لو أصابت بزوجها عيبا كالجنون
والجذام والبرص كان لها الخيار في فسخ النكاح دون سيدها عندهم، لأنه حق لها.
هذا إذا اختلفا في أصل النفقة، فأما إذا اختلفا في قدرها فقالت كنت طول هذه
المدة موسرا فأعطيتني نفقة المعسر، وقد بقي عليك مد عن كل يوم ما أقبضتنيه،
فقال ما زلت معسرا وقد قبضت جميع نفقتك، فهذا اختلاف في حق وجب عليه لم يقبض
بدله مالا، فالقول قوله مع يمينه، لأن الأصل أنه لا مال له والحق ما يجب عليه
في مقابلة مال قبضه، فوجب أن يكون القول قوله ولا شئ لها.
إذا كان الزوجان وثنيين أو مجوسيين وأسلم أحدهما نظرت، فإن أسلمت الزوجة
لم تخل من أحد أمرين إما أن يكون قبل الدخول أو بعده، فإن كان قبل الدخول
انفسخ النكاح ولا مهر لها، لأن الفسخ جاء من قبلها قبل الدخول، وإن كان إسلامها
بعد الدخول لم يسقط المهر، ووقف النكاح على انقضاء العدة، فأن أسلم الزوج قبل
انقضاء العدة كانا على النكاح، وإن لم يسلم حتى انقضت العدة تبينا أن الفسخ وقع
باختلاف الدين.
وأما النفقة فلها عليه ما لم تنقض عدتها لأنه زوجة مسلمة فإذا كان لها النفقة
وهي مشركة فبأن تكون لها وهي مسلمة أولى.
فإذا ثبت أن لها النفقة، فإن أسلم قبل انقضاء العدة فلها النفقة، لما مضى، و
إن أسلم بعد انقضائها انفسخ النكاح، وكان لها النفقة مدة العدة، لأنها محسوبة عليه
وهكذا الحكم إذا كانا كتابيين فأسلمت هي، لأنها مسلمة تحت كافر.
فأما إذا أسلم الزوج وكانا مجوسيين أو وثنيين لم يخل أيضا من أحد أمرين:
إما أن يسلم قبل الدخول أو بعده، فإن كان قبل الدخول وقع الفسخ في الحال، وعليه
نصف المهر لأن الفسخ جاء من قبله قبل الدخول، وإن كان إسلامه بعد الدخول فالمهر
بحاله ووقف النكاح على انقضاء العدة، فإن أسلمت قبل انقضائها فهما على النكاح
وإن لم يسلم حتى انقضت العدة تبينا أن الفسخ وقع بإسلامه.
فإذا ثبت هذا فمتى أسلم وأقامت على الشرك فلا نفقة لها عليه، لأن التحريم
17

وإن جاء من قبله، فإن استدامته من جهتها، لأنه يمكنها تلافيه بأن تسلم فإذا لم
تفعل كان التفريط من جهتها، فلهذا لا نفقة لها.
فإذا تقرر أنه لا نفقة لها ما دامت على الشرك نظرت، فإن لم تسلم حتى
انقضت عدتها فلا شئ لها من النفقة، وإن أسلمت قبل انقضاء عدتها كان لها النفقة
في المستأنف، لأنهما اجتمعا على النكاح، وهل لها النفقة لما مضى مدة مقامها على
الكفر؟
قال قوم لها النفقة، وقال آخرون وهو الصحيح عندنا أنه لا نفقة لها، لأن
مقامها على الشرك أعظم من النشوز وهي مسلمة، فإن الناشز لا يحرم على زوجها و
هذه تحرم، ومع هذا فالناشز لا نفقة لها فهذه أولى.
إذا كانا مسلمين فارتدت الزوجة، فإن كان قبل الدخول سقط مهرها لأن الفسخ
جاء من قبلها قبل الدخول بها، وإن كان بعد الدخول وقف على انقضاء العدة ولا نفقة
لها عليه ما دامت في العدة، لأن الردة آكد في بابها من النشوز لما مضى.
فإن عادت إلى الاسلام بعد انقضاء العدة فلا شئ لها، وإن كان قبل انقضائها
اجتمعا على النكاح ولها النفقة في المستقبل، ولا نفقة لما مضى، ومن قال في المسألة
الأولى أن لها النفقة قال ههنا مثله.
إذا ارتدت زوجته سقطت نفقتها على ما بينا، فإن غاب زوجها قبل أن عادت
إلى الاسلام ثم أسلمت وهو غائب عادت نفقتها، لأن علة سقوطها هي الردة، وقد
زالت، فأما إن نشزت امرأته سقط نفقتها، فإن غاب قبل أن أطاعته وعادت إلى بيته
وهو غائب لم تعد نفقتها، حتى تكتب إليه بذلك، ليعود هو أو وكيله بقبضها.
والفصل بينهما أن علة سقوط نفقة المرتدة الردة، فإذا زالت زالت العلة، و
العلة في الناشز خروجها عن قبضته وامتناعها عليه، فلا يعود النفقة حتى يعود إلى
قبضته أو بأن تمكنه ردها إلى قبضته فلا يفعل، فلهذا لم تعد نفقتها.
إذا تزوج مشرك وثنية أو مجوسية فدفع إليها مثلا نفقة شهر، ثم أسلم الزوج
بعد الدخول بها وقف النكاح على انقضاء العدة، فإن أقامت على الشرك حتى انقضت
18

العدة تبينا أن الفسخ وقع يوم أسلم الزوج، وإذا أسلمت قبل انقضائها اجتمعا على
النكاح.
وأما النفقة فلا نفقة لها مدة مقامها على الشرك، لأنها أسوء حالا من الناشز
وأما الرجوع فيما عجله لها من النفقة ينظر فيه، فإن كان سلم إليها مطلقا من غير
شرط أنها نفقتها في المستقبل، لم يكن له الرجوع، لأن الظاهر أنه تطوع، فإن
كان شرط أنه نفقتها في المستقبل كان له الرجوع فيها.
وجرى مجرى من عجل زكاته إلى فقير فحال الحول وقد هلك ماله، فهل له أن
يرجع؟ فينظر فيه، فإن كان قد أطلق لم يرجع، وإن قال هذه زكاتي عجلتها رجع
ومنهم من قال إن له أن يرجع وإن دفعه مطلقا كما لو شرط.
والفصل بينه وبين الزكاة أنه إذا لم يكن شرط، فإن قال هذه زكاتي، فالظاهر
أنه دفع إليه ما قد كان وجب عليه، وإن قال صدقتي فالصدقة تنقسم إلى فرض ونفل
فإن كان فرضا لم يرجع، وإن كان تطوعا فهي صلة وهبة ليس له الرجوع فيها، فلهذا
لم يكن له الرجوع في الزكاة إذا كانت مطلقة بكل حال.
وليس كذلك النفقة لأنه إن كان هذا نفقة فالظاهر أنها لما يأتي، وإنما
سكت حين الدفع، فالقول قوله في حكم الدفع كمن دفع إلى رجل مالا ثم اختلفا
فقال هو وديعة وقال المدفوع إليه هبة، فالقول قول الدافع، فثبت أن له الرجوع
بكل حال، والذي يقتضي مذهبنا أن له الرجوع بكل حال، لأنه إن كان هبة كان
له الرجوع فيها.
فإذا تقرر هذا فإن أسلمت بعد انقضاء العدة رجع عليها بجميع ما سلم إليها بلا
إشكال، وإن أسلمت قبل انقضاء العدة فلها النفقة من حين أسلمت لما يأتي، فله أن
يرجع بما قابل مدة مقامها على الشرك إلى حين أسلمت، ومنم قال ليس له.
إذا تزوج العبد القن والمدبر والمكاتب فعلى كل واحد منهم نفقة زوجته
للآية، ويجب عليه ذلك إذا وجد التمكين التام منها والتخلية الكاملة فإن كانت حرة
بأن تسلم نفسها إليه على الاطلاق وإن كانت أمة بأن يؤويها سيدها معه ليلا ونهارا.
19

فإذا وجد هذا وجبت النفقة كالحرة تحت الحرة سواء، ولا يلزمه إلا نفقة المعسر
سواء كانت موسرة أو معسرة، حرة كانت أو أمة، مسلمة كانت أو كافرة، لأن الاعتبار
بزوجها وزوجها أسواء حالا من المعسر لأن المعسر قد يملك شيئا ويصح أن يملك
شيئا، والعبد لا يملك شيئا بوجه.
وأما أين تجب؟ فلا يخلو العبد من أحد أمرين إما أن يكون مكتسبا أو غير
مكتسب، فإن كان مكتسبا فالنفقة في كسبه، ويكون إذن السيد في التزويج إذنا في
تعلق نفقة الزوجة بكسبه.
ثم ينظر فإن كان كسبه وفق ما عليه، فلا كلام، وإن كان أكثر كان الفاضل
لسيده، وإن كان دونه أنفق قدر كسبه، وما الذي يصنع بالتمام؟ يأتي الكلام عليه.
هذا إذا كان مكتسبا فأما إذا لم يكن مكتسبا فالحكم في كل النفقة ههنا وفيما
ذكرناه واحد، وقال قوم يتعلق برقبته لأن الوطي في النكاح بمنزلة الجناية، ومنهم
من قال يتعلق بذمته لأنه حق ذمته باختياره من له الحق، فكان في ذمته كالقرض، و
الأول أليق بمذهبنا.
فمن قال يتعلق برقبته على ما اخترناه قال إن أمكن أن يباع منه كل يوم بقدر
ما يجب عليه من النفقة فعل، فإن لم يمكن بيع كله كما قيل في الجناية ووقف ثمنه
ينفق عليها فيه، وقد انتقل بذلك سيده عنه إلى سيد آخر.
ومن قال: يتعلق بذمته، قال: قيل لها زوجك فقير لا مال له، فإن اخترت أن تقيمي
معه حتى يجد، وإلا فاذهبي إلى الحاكم ليفسخ النكاح، فإن العسرة يفسخ بها النكاح
عندهم، وعندنا لا يفسخ غير أن هذا تسقط عنا.
ومتى أراد السيد أن يسافر به ويستخدمه لم يكن له ذلك، لأنه يقطعه عن
كسبه، ويضر به وبزوجته، وإن قال السيد أنا أضمن ما عليه، فإن كان كسبه وفق
ما عليه فعلى سيده القيام به لها، وإن كان أكثر من النفقة ضمن قدر النفقة، وكان
الفاضل له، وإن كان كسب دون النفقة لزمه تمام النفقة عندنا، وقال بعضهم ليس يلزمه
ذلك، لأنه إنما عطل عليه قدر الكسب فليس عليه أكثر منه.
20

إذا تزوج العبد بحرة ملك ثلاث تطليقات، وإن تزوج بأمة ملك تطليقتين
عندنا، وقال قوم يملك طلقتين فإن طلقها طلقة بعد الدخول فلها النفقة، لأنها رجعية
وهي في معنى الزوجات، فإن طلقها أخرى كان مثل ذلك عندنا، فإن طلقها ثالثة فقد
بانت منه، وعند المخالف تبين بالثانية على كل حال.
فإذا بانت فإن كانت حايلا فلا نفقة لها، وإن كانت حاملا، فمن قال إن النفقة
لأجل الحمل لها، قال هي لها عليه، لأن العبد ينفق على زوجته، ومن قال للحمل
قال لا نفقة عليه، لأن العبد لا يجب عليه نفقة ذوي أرحامه، وقد مضى أن على
مذهبنا أن النفقة للحمل، فعلى هذا لا نفقة عليه، وإن قلنا إن عليه النفقة لعموم الأخبار
في أن الحامل لها النفقة، كان قويا.
فأما من كان نصفه حرا ونصفه عبدا فنصف كسبه له بما فيه من الحرية، ونصفه
لسيده بما فيه من الرق، ونصف نفقته على نفسه، ونصفها على سيده، فإذا تزوج فعليه
نفقة زوجته، فيكون ما وجب عليه منها لما فيه الحرية في ذمته، وما وجب عليه منها
بما فيه من الرق في كسبه.
فعلى هذا فإن عليه بما فيه من الرق نصف نفقة المعسر، وبما فيه من الحرية
ينظر فيه، فإن كان معسرا أنفق نفقة المعسر، وإن كان موسرا بما فيه من الحرية كأن
ملك مالا باكتساب أو غيره، فإنه ينفق بما فيه من الرق نصف نفقة المعسر، وبما فيه
من الحرية نصف نفقة الموسر، وقال قوم ينفق نفقة المعسر على كل حال، ولو ملك
ألف دينار، والأول أقوى.
إذا أعسر الرجل بنفقة زوجته فلم يقدر عليها بوجه، كان على المرأة الصبر إلى
أن يوسع الله تعالى عليه لقوله تعالى " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " (1) وذلك
عام ولا يفسخ عليه الحاكم، وإن طالبته المرأة بذلك، هذا عندنا منصوص.
وقال المخالف هي بالخيار بين أن تصبر حتى إذا أيسر استوفت منه ما اجتمع
لها، وبين أن يختار الفسخ فيفسخ الحاكم بينهما، وهكذا إذا اعتبرنا بالصداق قبل

(1) البقرة: 280.
21

الدخول، فالاعسار عيب، لزوجته الفسخ، وعندنا ليس هذا كذلك على ما قلناه و
فيه خلاف.
والكلام في الكسوة مثل الكلام في النفقة، وكذلك الأدم، وعندهم يفسخ به
وعندنا لا يفسخ، فأما نفقة الخادم بلا خلاف أنه لا ينفسخ به.
إذا كان يقدر على نفقتها يوما بيوم، وهذا الكسب قدر الواجب لها فلا خيار
لها، لأن القدر الواجب قادر عليه وإن قدر على نفقة يوم ويوم لا، فلها الخيار وهذا
يسقط عنا.
فأما إن كان موسرا بالنفقة، فمنعها مع القدرة، كلفه الحاكم الانفاق عليها فإن
لم يفعل أجبره على ذلك، فإن أبى حبسه أبدا حتى ينفق عليها، ولا خيار لها، وإن
غاب عنها وهو موسر غيبة معروفة أو منقطعة فلا خيار، وإن بقيت بلا نفقة فلا خلاف
لأجل الإعسار وهذا غير معلوم.
وتعذر النفقة يكون لأمرين أحدهما إعسار عدم، والثاني تعذر تأخير مثل
أن كان صانعا لعمل لا يفرغ منه إلا في كل ثلاث، كصنعة التكك وغيرها، ويكون
قدر نفقته في الثلاث فإنه لا خيار لها بلا خلاف، لأنه ليس عليها كبير ضرر، ولأنه
غير معسر وإنما يتأخر عنها إلى وقت فإن كان التعذر لعدم لا يقدر على نفقتها بحال
فلها الخيار عندهم، وهل هو على الفور أو على التراخي؟ على قولين أحدهما يؤجل
ثلاثا، والثاني لا يؤجل، بل لها الفسخ في الحال:
فمن قال لها الفسخ في الحال فلا كلام ومن قال يمهل ثلاثا قال: لها أن تبرز في
حوائجها مدة المهلة، لأن النفقة في مقابلة التمكين، فإذا أعوزت كان لها أن تظهر
في حوائجها، هذا إذا فعل مرة أو مرتين، فإذا تكرر منه ذلك ثلاث مرات كلف الفسخ
بكل حال.
وأما إذا أعسر عن نفقة خادمها لم يكن لها خيار الفسخ بحال.
وأما إذا أعسر بالصداق لم يخل من أحد أمرين، إما أن يعسر قبل الدخول أو بعده
فإن كان قبل الدخول كان لها الخيار عندهم، وقد قلنا إنه ليس لها ذلك بحال، وإن
22

كان بعد الدخول عندنا كذلك، ومن قال لا خيار لها مثل ما قلناه وهو الأقوى عندهم
والثاني لها الخيار.
فمن قال لا خيار فلا كلام، ومن قال لها ذلك في موضع قال: إن اختارت الفسخ
فذلك وإن اختارت المقام معه سقط خيارها، فإن رجعت في الخيار لم يكن ذلك لها
لأن الصداق لا يجب إلا دفعة واحدة، فإذا رضيت بإعوازه بعد البينة سقط خيارها و
ليس كذلك النفقة لأنها تجب يوما فيوما فإذا رضيت بإعساره يوما لم يسقط فيما يجب
في يوم آخر.
وإذا أعسر الرجل بنفقة زوجته كان لها الخيار عندهم على ما مضى فإن اختارت
فراقه فلا كلام، وإن اختارت المقام لم يسقط خيارها مع بقاء إعساره.
إذا تزوجت وكان معسرا لا شئ معه مع العلم بحاله، فوجدته على الوجه الذي
عرفته كان لها الخيار عندهم، وعندنا لا خيار لها.
إذا تزوج بامرأة على صداق معلوم سماه لها لم يخل من أحد أمرين إما أن
يكون موسرا أو معسرا، فإن كان معسرا به كان لها الخيار عندهم، فإن اختارت فراقه فلا كلام
وإن اختارت المقام معه سقط خيار الفسخ، لكن لها أن تمنع من تسليم نفسها إليه حتى
يسلم الصداق، لأن اسقاط الخيار ليس بالرضا بتسليم نفسها إليه.
وإن كان موسرا بالصداق وقال لست أدفع الصداق، قلنا له ولا تدفع نفسها. فإن
قال كل واحد منهما لست أسلم ما علي حتى أتسلم ما أستحقه قال قوم يوقف، وأيهما
سلم ما عليه أجبر الآخر على تسليم ما عليه، وقال آخرون يجبر الزوج على تسليم
المهر فإذا حصل عند عدل أجبرت هي على تسليم نفسها، فإذا دخل بها سلم العدل إليها
وهذا هو الأقوى عندي.
ولا يمكن أن يقال تجبر على تسليم نفسها أولا لأنا متى فعلنا هذا ربما هلك
البدل، ويفارق البيع لأنا يمكننا أن نحجر عليه في هذا وفي كل ماله وههنا قبضه
هو الاتلاف، فلهذا لم يصح هذا.
إذا أعسر بكسوتها لم يكن لها الخيار عندنا مثل ما قلناه في النفقة، ومن قال
23

هناك لها الخيار قال ها هنا الخيار، لأنه لا يقوم البدن إلا بها كالنفقة، وإن أعسر
بالأدم فعندنا مثل ذلك، وقال بعضهم لها الخيار، وقال آخرون ليس لها ذلك، وأما
السكنى فلا خيار لها بلا خلاف، لأنه غير مقصود في النكاح وإنما يقصد المهر والنفقة
وإنه يقوم بدنها بلا سكنى.
المطلقة ضربان رجعية وباين، فالرجعية لها النفقة لأنها في معنى الزوجات
وإن كانت باينا فلا نفقة لها ولا سكنى عندنا، وقال بعضهم لها سكنى بلا نفقة، وقال
بعضهم لها النفقة.
وأما النكاح المفسوخ فعلى ضربين: نكاح وقع مفسوخا، ونكاح وقع صحيحا ثم
فسخ، فأما ما كان مفسوخا مثل نكاح الشغار عندنا، وعندهم مثل المتعة والنكاح بلا
ولي وشاهدين، فلها بالعقد مهر المثل، لأنها معاوضة فاسدة فلم يجب فيها المسمى
كالبيع الفاسد، وأما النفقة فلا يجب لها، وإن مكنت من نفسها التمكين الكامل، لأنها
في مقابلة التمكين المستحق الواجب عليها، ويفرق بينهما ولا يقران على فرج حرام.
فإذا فرق بينهما لم يخل من أحد أمرين إما أن يكون قبل الدخول أو بعده،
فإن كان قبله انصرفت ولا شئ لها بوجه، وإن كان بعد الدخول فعليها العدة من
حين فرق بينهما في المكان، ولها المهر، ويكون مهر المثل عند المخالف، لأنه وجب
عن نكاح فاسد.
وعندنا أنه إن لم يسم فمهر المثل، فإن كان مسمى لزمه ما سمى، وأما
السكنى فلا يجب لها لأنها لحرمة النكاح ولا نكاح ههنا وكذلك لا نفقة لها بعد
الفرقة إذا كانت حايلا وإن كانت حاملا فلها النفقة عندنا لعموم الأخبار، ومن قال
إن النفقة للحمل قال: فههنا النفقة، لأنه ولده، ومن قال النفقة للحامل، قال لا نفقة
ههنا، لأن النفقة يستند إلى نكاح له حرمة ولا حرمة ها هنا، إذا وقع فاسدا.
فأما إن وقع صحيحا ثم فسخ بالعيب لم يخل من أحد أمرين إما أن يكون قبل
الدخول أو بعده فإن كان قبله فلا نفقة ولا سكنى ولا مهر، ولا فرق بين أن يكون العيب
موجودا حال العقد أو حدث بعده وأما إن كان قبله فلها مهر مثلها، وسقط المسمى
24

عندهم وعندنا يثبت المسمى ويكون الحكم في العدة والسكنى والنفقة على ما فصلناه
في النكاح المفسوخ من أصله.
وإن كان لعيب حدث بعد الدخول، فإن المسمى يستقر لها عندنا وعندهم لأن الفسخ
يستند إلى حال حدوث العيب وحدوثه بعد الوطي، فالوطي حصل في نكاح صحيح، و
الحكم في السكنى والنفقة على ما فصلناه في النكاح المفسوخ.
وإذا بانت عن نكاح صحيح وكانت حاملا فلها النفقة لقوله تعالى " وأنفقوا
عليهن حتى يضعن حملهن " وقال عليه وآله السلام لفاطمة بنت قيس وكانت مبتوتة
لا نفقة إلا أن تكوني حاملا. وهل يجب لها أو للحمل؟ على ما مضى.
وهل تحل لها يوم بيوم أو تصبر حتى تضع قيل فيه قولان أحدهما يدفع إليها نفقة
يوم بيوم وهو الأقوى عندي، والثاني لا يدفع إليها شئ حتى تضع، فمن قال لا
تعطى شيئا قال يراعى فإن بانت حائلا فقد أصبت في المنع، وإن بانت حاملا أعطيت
النفقة لما مضى.
ومن قال يدفع إليها يوما بيوم على ما قلناه قال أريت القوابل فإذا شهدن بأنها
حامل أطلق النفقة من حين الطلاق إلى حين الشهادة، ثم لها يوما بيوم حتى يتبين أمرها،
فإن بانت حاملا فقد استوفت حقها وإن بانت حايلا فعليها رد ما أخذت سواء قيل
النفقة للحمل أو لها لأجل الحمل.
إذا قذف زوجته وهي حامل فعليها الحد إلا أن ينفيه باللعان، فإذا لاعنها ونفى النسب سقط الحد وانتفى النسب، وزالت الزوجية، وحرمت على التأبيد، وهذه أحكام اللعان، وعليها العدة، وتنقضي عدتها بالوضع، ولا سكنى لها، وعندهم
لها ذلك نفقة لها عندنا وعند بعضهم، سواء قيل إن الحمل له النفقة أو لها بسببه
لأن الحمل قد انتفى.
فإن أكذب نفسه لحق النسب به ووجب الحد وعادت نفقتها في المستقبل حتى
تضع ولها أن ترجع ما انقطعت النفقة عنها لأنها إنما انقطعت لانقطاع النسب

(1) الطلاق: 6
25

فإن عاد النسب عادت النفقة.
هذا إذا قذف زوجته ولاعنها فأما إن طلقها وأبانها ثم ظهر بها حمل فقذفها
ونفاه فهل يصح اللعان على نفي الحمل بعد البينونة؟ قيل فيه قولان: أحدهما يصح
وهو الصحيح عندنا، والآخر لا يصح.
فمن قال يصح فنفاه وقع التحريم المؤبد، وسقطت نفقتها لانتفاء الحمل، فإن
أكذب نفسه ههنا عاد النسب وعادت النفقة التي قطعها عن نفسه من حين اللعان إلى حين التكذيب
وهكذا إن وضعته ثم أكذب نفسه، فعليه نفقتها زمان العدة، وأجرة حضانتها لأنه
قد بان أنه كان واجبا عليه، وجملته أن كل ما سقط باللعان يعود بإكذاب نفسه.
إذا أبانها بالخلع أو الطلقة الثالثة، فقد قلنا لا نفقة لها فإن ظهر بها حمل فلها
النفقة سواء قيل إن النفقة لها أو للحمل، وعليه أن ينفق يوما بيوم.
وفي الناس من قال يصبر حتى تضع، فإن أنفق عليها ثم بان أنها حائل أو أتت
بولد لا يمكن أن يكون منه، بأن أتت به لأكثر من أقصى مدة الحمل من حين الطلاق
رجع عليها بما أنفق، وفيهم من قال لا يرجع.
إذا كان الطلاق رجعيا أنفق عليها، وإن كانت حايلا، لأنها في معنى
الزوجات، فإن ظهرت أمارات الحمل لكنها كانت تحيض وتطهر، وقيل إنه حيض
أو دم فساد فإذا أنفق عليها ههنا على الظاهر فإن عدتها منه بوضع الحمل ولا يخلو من
أحد أمرين إما أن تبين حايلا أو حاملا:
فإن بانت حايلا فإن كانت رجعيا فلم تقر بثلاث حيض أو كان حيضا فيطول و
يقصر، لم يجعل لها إلا الأقصر لأنه اليقين، ويطرح الشك فيقال لها إذا بانت حايلا
إنما لك من النفقة مدة العدة، وهي ثلاثة أقراء، أخبرينا عن المدة التي انقضت
الأقراء فيها:
فإذا كلفت هذا ففيه أربع مسائل:
إحداها قالت أنا أعرف العادة في الطهر والحيض، وأعرف المدة، وهي كذا
وكذا، فالقول قولها، ولها النفقة طول هذه المدة، وترد ما بعد ذلك.
26

الثانية قالت أعرف العادة وهي التقدير أحيض سبعا فأطهر ثلاثا وعشرين يوما
ولست أعرف مدة الانقضاء قلنا، فلا يضرنا ذلك، ويرجع إلى العادة فيحسبها،
فإذا انقضت ثلاثة أقراء فلك النفقة فيها، وعليك رد ما بعدها.
الثالثة قالت عادتي يختلف: يطول الحيض تارة ويقصر أخرى، وكذلك الطهر
غير أني لا أعرف الأقراء بأي العادتين انقضت فهاهنا يجعل العدة على الأقصر، لأنه
اليقين ويطرح الشك.
الرابعة قالت عادتي يختلف ولست أعرف صورة الاختلاف ولا أعرف مدة
الانقضاء، يجعل عدتها هاهنا أقل ما يمكن أن تنقضي فيه ثلاثة أقراء، لأنه اليقين
ويطرح الشك.
هذا الكلام إذا بانت حائلا فأما إذا بانت حاملا فإن أتت به لمدة يمكن أن
يكون منه، فالولد يلحق به والنفقة ثابتة لها إلى حين الوضع، وإن أتت به لأكثر
من أقصى مدة الحمل من حين الطلاق قيل فيه قولان:
أحدهما يلحق به هذه المدة وقدر العدة وهو الصحيح عندنا، لأن الطلاق
رجعي فعلى هذا إنفاقه بحق لها ولا يرجع بشئ، وعليه أجرة حضانتها من حين الوضع.
والقول الثاني لا يلحق به، ويكون منتفيا عنه بلا لعان، ولا ينقضي عدتها به عنه
لأنه لا يمكن أن يكون منه، فعلى هذا تكون عدتها بالأقراء.
فيقال هذا الولد ممن؟ فإن قالت عن وطي شبهة نظرت، فإن قالت وطئني غير
الزوج بشبهة قيل متى كان الوطي؟ فإن قالت بعد انقضاء الأقراء، قلنا فلك النفقة إلى
حين انقضائها وعليك رد الفضل.
وإن قالت الوطي بعد مضي قرءين قلنا فلك نفقة القرءين، ولا شئ لك لمدة
الحمل، وعليك أن تأتي بالقرء الثالث بعد الوضع، ولك نفقته.
فإن قالت الوطي عقيب الطلاق قلنا فعدتك منه ثلاثة أقراء بعد الوضع فلا
نفقة لك مدة الحمل فعليك ردها ولك النفقة مدة الأقراء بعد الوضع.
هذا إذا كان الواطي غير الزوج، فأما إن قالت: الزوج هو الواطي وطئني في
27

العدة، أو قالت راجعني، فالقول قوله مع يمينه، فإذا حلف قلنا لها عليك أن تبيني
متى وطئت؟
فإن قالت: وطئت بعد انقضاء العدة، فقد اعترفت بأن العدة ثلاثة أقراء متصلة
بالطلاق، قلنا فقد ثبت لها النفقة هذه المدة، وعليها رد ما بعدها، وإن قالت وطئت
عقيب الطلاق قلنا له فالأقراء بعد الوضع فلها النفقة مدة الأقراء وترد ما أنفق عليها
حال الحمل.
وقال بعضهم إن عدتها ينقضي بالوضع من هذا الحمل، لأنه ولد يمكن أن
يكون منه فانقضت به عدتها كولده الذي ينفيه باللعان، هذا في حقها وأما في حقه
فإن عدتها تنقضي في أقل ما يمكن أن يمضي فيه ثلاثة أقراء لأنه اليقين فلا يجب
عليه نفقة أكثر من ذلك، فقبلنا قولها في حقها وأنها بعد في العدة، ولم يقبل قولها
في وجوب النفقة عليه وهذا هو الأقوى.
قد ثبت أنه إذا طلقها طلاقا باينا فإن كانت حايلا فلا نفقة لها، وإن كانت
حاملا فلها النفقة، ولمن تجب النفقة؟ قيل فيه قولان:
أحدهما النفقة لها لأجل الحمل وهو أصحهما عند المخالف.
والثاني النفقة للحمل وهو أقواهما عندي، بدليل أنها لو كانت حائلا لا نفقة
لها، وإذا كانت حاملا وجبت النفقة، فلما وجبت بوجوده وسقطت بعدمه، ثبت أن
النفقة له كالزوجة لها النفقة ما دامت زوجة، فإذا زالت الزوجية فلا نفقة لها، فكانت
النفقة لأجل الزوجية.
ولأنه لما كانت النفقة له إذا كان منفصلا فكذلك إذا كان متصلا ولأن أصحابنا
رووا أنه ينفق عليها من مال الحمل، فدل على أنه لا يجب لها.
ومن خالف قال: لو كانت النفقة لأجل الحمل لوجب نفقته دون نفقتها (1) ولما
كان نفقتها مقدرة بحال الزوج فيجب عليه بقدره، ونفقة الأقارب غير مقدرة، دل

(1) وهذا لا يرد، فإن رزق الولد إنما هو دم أمها يجري عليه من سرته، وهذا الدم
إنما يتولد بالنفقة عليها، فكأن بطن أمها مكينة أو مطبخ لرزق الولد.
28

على أنه لها، لأن نفقة الأقارب على الكفاية.
وأيضا فلو كان لأجل الحمل لوجبت على الجد كما لو كان منفصلا، فلما
ثبت أنها تجب عليه، ثبت ما قلناه. وأيضا فلو كانت نفقة الولد لوجب أن يسقط بيسار
الولد، وهو إذا ورث أو أوصى له بشئ فقبله أبوه، فلما لم تسقط بيساره ثبت أنها
ليست نفقة الولد.
وعندنا تسقط بيساره ويقتضي المذهب أنها يجب على الجد فيخالف في جميع ما
قالوه وفايدة الخلاف أشياء:
منها إذا تزوج حر بأمة فأبانها وهي حامل، فمن قال للحمل لم تجب على
والده، بل تجب على سيده وهو سيد الأمة ومن قال لها لأجله كانت على زوجها.
ومنها إذا تزوج عبد بأمة فأبانها وهي حامل فمن قال النفقة للحمل، كان على
سيد الولد، دون والده، لأن العبد لا يجب عليه نفقة أقاربه، ومن قال لها لأجله
قال النفقة عليه في كسبه.
ومنها إذا تزوج عبد بحرة فأبانها وكانت حاملا فمن قال النفقة للحمل، قال
تجب على الزوجة لأنه ولد حرة وأبوه مملوك، ومن قال لها لأجله قال لا يكون
في كسبه.
ومنها إذا كان النكاح فاسدا والزوج حر فمن قال لها قال لا نفقة لأن النفقة
لمن كانت معتدة عن نكاح له حرمة، ولا حرمة له، ومن قال للحمل فعليه النفقة
لأنها نفقة ولده، ولا فصل بين النكاح الصحيح والفاسد في لحوق النسب وثبوته.
29

* (فصل) *
* (في النفقة على الأقارب) *
الذي ثبت له النفقة بنص الكتاب الولد لقوله تعالى " ولا تقتلوا أولادكم خشية
إملاق " (1) يعني خشية الفقر، فلولا أن عليه نفقته ما قتله خشية الفقر، وقال تعالى:
" لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده " (2) فمنع من الإضرار به، وقال تعالى
" فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن " (3) وأراد به المطلقات دون الزوجات، بدلالة
أنه أوجب الأجرة بشرط الرضاع وهذه صفة المطلقة، لأن الزوجة لا يستحق الأجرة
بشرط الرضاع، ولأنه سماه أجرة، والنفقة لا تسمى بذلك.
وروي أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال له: معي دينار، فقال أنفقه على
نفسك، قال معي آخر قال أنفقه على ولدك، فأمره بالإنفاق على الولد، وحديث هند
يدل على ذلك لأنه قال لها " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ".
فإذا ثبت ذلك فالكلام في فصلين في صفة الولد الذي يستحق النفقة، وصفة
الوالد الذي يجب عليه الانفاق.
فأما صفة الولد فأن يكون أولا معسرا ثم يكون ناقص الخلق أو ناقص الأحكام
أو ناقص الأحكام والخلقة.
فأما ناقص الخلقة، فالضرير أو المعضوب (4) الزمن، وأما ناقص الأحكام فالولد
الصغير لأنه لا حكم لكلامه، و القلم لا يجري عليه، وأما ناقص الأحكام والخلقة

(1) أسرى: 31.
(2) البقرة: 233.
(3) الطلاق: 6.
(4) المعضوب الضعيف، والمخبول الزمن الذي لا حراك به، كأن الزمانة عضبته و
منعته عن الحركة.
30

معا فالكبير الضرير المجنون فإنه ناقص الأمرين معا فهذه صفة الولد الذي يجب على
والده النفقة عليه.
وأما صفة الوالد الذي يجب عليه النفقة على ولده، فهو الذي يقدر على نفقة
ولده في الفاضل عن قوت يومه، فإذا قدر على ذلك المال في يده أو قدر على كسب فعليه
الانفاق.
وإنما قلنا إنه في الفاضل عن كفاية يومه، لأن النبي صلى الله عليه وآله قال للسايل أنفقه
على نفسك، فقدمه على ولده، وقال عليه السلام ابدأ بنفسك ثم بمن تعول.
وإنما قلنا إنه إذا كان قادرا على الكسب يلزمه أن يكتسب وينفق عليه، هو
أن القدرة على الكسب بمنزلة المال في يده، لما روي أن رجلين أتيا النبي صلى الله عليه وآله
فسألاه من الصدقة، فقال أعطيكما بعد أن أعلمكا أن لاحظ فيها لغني ولا لقوي
مكتسب، فأجراه مجرى الغني في المنع من أخذ الزكاة.
فإذا ثبت من يجب له وعليه، فالكلام بعد هذا في الترتيب وجملته أن نفقته على
والده إن كان موسرا، وإن لم يكن له والد أو كان وكان معسرا فعلى جده، فإن لم يكن
جد أو كان معسرا فعلى أبي الجد، وعلى هذا أبدا. وقال بعضهم لا يجب على الجد.
فإن لم يكن له أب ولا جد، أو كانا وكانا معسرين فنفقته على أمه، وقال بعضهم
لا يجب عليها.
وكل جدة وإن علت، فكالأم إذا لم يكن دونها جدة، أو كانت لكنها معسرة مثل
ما قلناه في الأب.
هذا إذا لم يكن من شق الأم إلا هؤلاء فأما إن كان في شق الأم غير هؤلاء و
هو أبو الأم، وأم أبي الأم، ومن جرى هذا المجرى فهم من أهل الانفاق في الجملة
لأن النفقة تجب بالقرابة فقط على من وقع اسم الأب عليه حقيقة أو مجازا أو على
من وقع عليه اسم الجد حقيقة أو مجازا كالعتق بالملك بلا خلاف، وكالشهادة والقصاص
على خلاف فيه، فأما ترتيب المستحقين فالكلام عليه يأتي.
إذا كان له أب وأم فالنفقة على الأب دون الأم، فإن كان له أم وجد أبو أب
31

وإن علا، فالنفقة على الجد دون الأم، وقال بعضهم النفقة بينهما على الأم الثلث
وعلى الجد الثلثان كالميراث عنده.
فإذا اجتمع أبو أم وأم أم فهما سواء، لأنهما تساويا في الدرجة، وكذلك
إذا كان له أم أم أم وأبو أم أم فهما سواء.
فإن اجتمع أم أم وأم أب، أو أبوام وأم أب فهما سواء عندنا لتساويهما
في الدرجة، وقال بعضهم أم الأب أولى، لأنها تدلي بعصبته.
وجملته أنه متى اجتمع اثنان ينفق كل واحد منهما إذا تفرد، لم يخل من ثلاثة
أحوال إما أن يكونا من قبل الأب أو من قبل الأم أو منهما.
فإن كانا من قبل الأب نظرت، فإن اشتركا في التعصيب فلا يكونان أبدا على درجة
ولا بد أن يكون أحدهما أقرب والأقرب أولى.
وإن تساويا في القرب وانفرد أحدهما بالتعصيب، مثل أم أب وأبي أب فالعصبة
أولى فإن كان الذي له العصبة أبعدهما فهو أولى عندهم، ولو بعد بمائة درجة وعندنا
أن الأقرب أولى.
وإن لم يكن لأحدهما تعصيب ولا يدلي بعصبته، فإن كانا على درجه واحدة
فهما سواء وإن كان أحدهما أقرب فالأقرب أولى بلا خلاف، وإن لم يكن أحدهما
عصبة لكن أحدهما يدلي بعصبة، مثل أم أم أب وأم أبي أبي أب فهما سواء عندنا و
قال بعضهم من يدلي بعصبته أولى.
فإن كانا من قبل الأم معا نظرت، فإن كانا على درجة فهما سواء، وإن كان
أحدهما أقرب فالأقرب أولى سواء كانا ذكرين أو أنثيين أو ذكرا وأنثى لأن الكل
من ذوي الأرحام.
وإن كانا من الشقين معا فإن كان أحدهما عصبة فهو أولى عندهم، وإن بعد.
وعندنا هما سواء والأقرب أولى.
وإن لم يكن أحدهما عصبة ولا يدلي بعصبة فإن كانا على درجة فهما سواء، و
إن كان أحدهما أقرب فالأقرب أولى، مثل أم أم أم، وأم أم أب، فإن كان أحدهما
32

يدلي بعصبته فإن كانا على درجة واحدة مثل أم أم وأم أب فهما سواء عندنا، وقال
بعضهم أم الأب أولى، وإن اختلفا في الدرجة فالأقرب أولى مثل أم وأم أب أو
أم أم وأم أبي أب فالأقرب أولى.
هذا إذا لم يكن للولد مال فأما إذا كان له مال فنفقتهم من أموالهم، ولا يجب
نفقتهم على الغير.
وأما وجوب نفقة الوالد على ولده فعلى الولد أن ينفق على والده في الجملة لقوله
تعالى " وصاحبهما في الدنيا معروفا " (1) ولقوله عليه السلام أنفقه على والدك في الخبر الذي
تقدم.
وروى محمد بن المنكدر عن جابر قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال: يا
رسول الله إن لي مالا وعيالا، ولأبي مال وعيال ويريد أن يأخذ مالي، فقال:
أنت ومالك لأبيك.
وروي أن النبي صلى الله عليه وآله قال إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه، وإن ولده
من كسبه.
وروي عنه عليه السلام أن أولادكم هبة من الله لكم " يهب لمن يشاء إناثا ويهب
لمن يشاء الذكور " (2) وأموالهم لكم إذا احتجتم إليها.
فإذا ثبت هذا فعليه أن ينفق على والده وعلى جده وإن علا، وقال بعضهم لا
ينفق على جده، وعليه أن ينفق على أمه وأمهاتها، وإن علون، وقال بعضهم لا
يجب عليه أن ينفق على أمه.
فإذا ثبت فالكلام في صفة من يجب له وعليه، فأما من يجب عليه، فإنها يجب
في الفاضل عن قوت يومه وليلته،
وصفة من يجب له فأن يكون فقيرا ناقص الأحكام أو الخلقة أو هما.
فناقص الأحكام: المجنون. والخلقة: الزمانة، وهما: أن يكون مجنونا زمنا، فمتى
حصل هذه الصفة وجبت نفقته على ولده، وإن كان كامل الأحكام والخلقة معا لكنه

(1) لقمان: 15.
(2) الشورى: 50.
33

فقير قيل فيه قولان: قال قوم لا ينفق، والثاني يجب عليه أن ينفق وهو الصحيح
عندنا.
وأما الولد إذا كان كامل الأحكام والخلقة وكان معسرا قال قوم يجب عليه
نفقته، وهو الأقوى عندي، وقال آخرون لا يجب.
فأما إعفافه فلا يجب عندنا، سواء كان ناقص الأحكام أو الخلقة معسرا كان أو
موسرا، وقال بعضهم إن كان معسرا ناقص الأحكام والخلقة، فعليه أن يعفه بعقد نكاح
أو ملك يمين، لقوله " وصاحبهما في الدنيا معروفا " وإن كان معسرا كامل الأحكام
و الخلقة قال بعضهم يجب عليه إعفافه، وقال آخرون لا يجب.
إذا كان موسرا و أبواه معسرين، فإن كان معه ما ينفق عليهما فعليه ذلك، وإن
لم يفضل عن كفايته إلا نفقة أحدهما قال بعضهم الأم أولى لقول النبي صلى الله عليه وآله للسايل:
أمك ثلاث مرات، وقال في الرابعة أباك، ولأنهما تساويا في الدرجة، ولها مزية
الحضانة والحمل والوضع.
وقال آخرون الأب أولى لأنه انفرد بالتعصيب، وقال قوم هما سواء وهو
الصحيح عندنا، فيكون الفاضل بينهما.
إن كان موسرا وله أب وابن معسرين، فإن فضل ما يكفيهما أنفق عليهما، وإن
لم يفضل إلا ما يكفي أحدهما، فإن كان الابن ناقص الأحكام والخلقة (1) ولا حركة
به لتحصيل شئ كان أحق من الأب، لأن الأب يحتال، وهذا طفل لا حيلة له.
فإن كان الابن مراهقا كامل الخلقة ناقص الأحكام، والأب كامل الأحكام ناقص
الخلقة، قال قوم الولد أحق به، لأن نفقته تثبت بالنص ونفقة الأب بالاجتهاد،
وقال آخرون الأب أحق بها لأن حرمته أقوى، بدلالة أنه لا يقاد به ويقوى في
نفسي أنهما سواء.
وإن كان موسرا وله أب وجد: أبو أب معسرين، أو ابن وابن ابن معسرين فإن
فضل ما يكفي الكل أنفق عليهم، وإن فضل ما يكفي واحدا منهم قال قوم الابن أولى

(1) في النسخ: ناقص الأحكام والحكم بصفة نصفه.
34

من ابن الابن لأنه أقرب، وهكذا الأب والجد وهو الصحيح عندي وقال آخرون
هما سواء.
فأما إذا كان معسرا وله ابن وأب موسران، قال قوم نفقته على أبيه دون ابنه
لأنه إنفاق على ولد، وقال آخرون هما سواء لأنهما تساويا في القرابة والتعصيب
والرحم وهو الصحيح عندي.
إذا كان موسرا وله زوجة ومن ذوي الأرحام من تجب عليه نفقته، فإن فضل
ما يكفي الكل أنفق على الكل، وإن فضل ما يكفي أحدهم فالزوجة أحق، لأن
نفقتها على سبيل المعاوضة، ونفقة ذوي الأرحام مواساة، والمعاوضة أقوى بدلالة
أنها تستحق مع يسارها وإعسارها، والوالد إذا كان موسرا لا نفقة له، وتستحق
مع يسار الزوج وإعساره والولد لا نفقة له على أب معسر.
وجملته أن كل سبب يجب به الانفاق من زوجية ونسب وملك يمين، فإنا
نوجبها مع اختلاف الدين كما نوجبها مع اتفاقه، لأن وجوبها بالقرابة والرحم و
يفارق الميراث لأنه استحق بالقرابة والموالاة، واختلاف الدين يقطع الموالاة.
نفقة الغير على الغير بحق النسب عندنا مقصورة على الأب وإن علا، والأم وإن علت
اجتمعا أو انفردا، وكذلك على الولد وولد الولد وإن نزلوا، فالنفقة تقف على هذين
العمودين وفيه خلاف ذكرناه وروي في بعض أخبارنا أنه ينفق على من يرثه إذا لم يكن
غيره وذلك على الاستحباب.
ونفقة الأقارب تجب يوما بيوم، فإن فات ذلك اليوم قبل الدفع سقطت ونفقة
الزوج يستحق أيضا يوم بيوم فإن مضى الزمان استقرت لما مضى.
والفصل بينهما أن نفقة الزوجات تجب على وجه المعاوضة، ونفقة الأقارب
على وجه المواساة.
فإذا ثبت هذا فاستقر عليه نفقتها أو كان لها عليه دين أو وجبت نفقة يومها ونفقة
القرابة يومه يقال له أنفق، فإن أنفق وإلا كلفه السلطان فإن أبي حبسه، فإن أبي عزره
فإن أبى فالحكم فيه في هذه المسألة وفيه إن كان غايبا هاربا سواء.
35

فالسلطان ينظر فيما عليه وفيما هو ماله الآن، فإن كان من جنس الدين قضاه
منه، وإن كان من غير جنسه، فإن كان له عقار وغيره باع عليه غير العقار في دينه،
فإن لم يكن له غير العقار باع فيه العقار، وصرف ثمنه إلى ما هو عليه وفيه خلاف.
وإذا كان عليه نفقة زوجة من الطعام و الأدام والكسوة، وكان له عليها دين
من جنس ما لها عليه، فأراد أن يحتسب ما وجب لها عليه بما وجب له عليها لم يخل
من أحد أمرين: إما أن تكون موسرة أو معسرة.
فإن كانت موسرة كان ذلك له، لأن من عليه الدين كان له أن يقضي دينه من
أي أمواله شاء، وهذا له مال في ذمتها، فوجب أن يملك قضاء دينه منه.
وإن كانت معسرة لم يكن ذلك له، لأنه إنما يجب قضاء الدين في الفاضل عن
قوته، وهذا لا يفضل لها عن قوتها، فليس عليها أن يجعله في الدين، فإذا لم يكن عليها
لم يكن له ذلك.
ولأنها إذا كانت معسرة فعليه أن تؤخرها إلى اليسار، وإذا وجب الإنظار كان
بمنزلة الدين المؤجل، ومن له دين إلى أجل ووجب عليه دين حال لم يكن له جعل
الحال عليه بالمؤجل به.
ليس للرجل أن يجبر زوجته على إرضاع ولدها منه، شريفة كانت أو مشروفة
موسرة كانت أو معسرة، دنية كانت أو نبيلة، وفيه خلاف.
إذا ثبت أنها لا تجبر على ذلك فإن تطوعت به كره له منعها منه، لأنها أشفق
عليه وأحنى وأرفق، وتدر عليه ما لا تدر عليه غيرها ويستمرئ لبنها ما لا يستمرئ
لبن غيرها وقال بعضهم له منعها منه لأن له منعها من كل ما يشغلها عنه وأثر في الاستمتاع
بها من وطي ولمس ونظر إلا في أوقات العبادات، وهو الأقوى عندي.
فأما إن امتنعت إلا بأجرة فاستأجرها لذلك كان الإجارة باطلة وهكذا إن
استأجرها لخدمته.
وإن آجرت نفسها لرضاع أو لخدمة بغير إذنه كانت باطلة وإنما لم يصح أن
تؤاجر نفسها من غيره لأنها عقدت على منافع لا يقدر على إيفائها، فإن زوجها
36

قد ملك الاستمتاع بها في كل وقت وفي جميع الأزمان إلا ما وقع مستثنى بالعقد من أوقات
الصيام والصلاة، فإذا لم تقدر على إيفاء ما عقدت عليه كان العقد باطلا.
وإنما قلنا إنها إذا آجرت نفسها من زوجها لم يصح هو أنه يملك منعها من إيفاء
ما وجب عليها بعقد ثان ليستوفي ما وجب له عليها بعقد النكاح، وكذلك من استأجر
إنسانا شهرا بعينه لم يجز من ذلك الانسان أن يؤاجر نفسه ذلك الشهر بعينه لا له ولا لغيره
وأما إن تطوعت بإرضاعه ورضى زوجها بذلك فلا يلزمه أن يزيد في نفقتها، وقال قوم
عليه ذلك والأول أقوى عندي لأنه لا دليل عليه.
إذا بانت زوجته منه وله منها ولد لم يكن له إجبارها على إرضاعه ولا على
حضانته إذا كان له دون سبع سنين، لقوله تعالى " فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن " (1)
فرد الرضاع إليها، وعلق الأجرة بشرط يوجب من جهتها، وما عليها لا يكون لها،
وقال تعالى " وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى " (2) فلو لا أن لها الامتناع ما وصفها
بهذه الصفة.
فإذا ثبت أنها بالخيار نظرت، فإن امتنعت عليه، فعليه أن يكتري من ترضعه
لقوله تعالى " وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى " وإن أجابت إلى إرضاعه وطلبت الأجرة
ففيه ثلاث مسائل:
إما أن تطلب أجرة المثل ولا يجد غيرها، أو يجد غيرها بهذه الأجرة، وتطلب
أكثر، أو تطلب أجرة مثلها ويجد غيرها متطوعة.
فإن طلبت أجرة مثلها وليس هناك غيرها، أو هناك غيرها بهذه الأجرة فهي أحق
لقوله تعالى " فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن ".
فإن طلبت أكثر من أجرة مثلها والزوج يجد بأجرة المثل، كان له نقله عنها،
لقوله تعالى " وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى " ولقوله " وإن أردتم أن تسترضعوا
أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف " (3) فأباح تعالى نقل الولد عنها إذا

(1) الطلاق: 6.
(2) الطلاق: 6.
(3) البقرة: 233.
37

سلم الأجرة بالمعروف ولا موضع يجوز نقله إلى أجرة المثل إلا إذا طلبت أكثر من
أجرة مثلها.
وأما إن رضيت بأجرة مثلها، وهو يجد متطوعة أو بدون هذه الأجرة قال قوم
له ذلك، ومنهم من قال ليس له ذلك، والأول أقوى عندي.
فمن قال ليس له نقله سلم إليها ولها أجرة المثل ومن قال له نقله عنها إلى
من يتطوع بذلك على ما قلناه نظرت فإن صدقته في أنه يجد متطوعة نقله ولا كلام، وإن كذبته فالقول قوله لأنها تريد شغل ذمته بإيجاب الأجرة لها عليه والأصل
براءة الذمة.
38

* (فصل) *
* (في أن الأبوين أحق بالولد) *
إذا بانت امرأة الرجل منه بطلاق أو فسخ أو خلع أو غير ذلك وهناك ولد فتنازعاه لم
يخل الولد من ثلاثة أحوال إما أن يكون طفلا لا يميز أو بالغا أو طفلا يميز ويعقل.
فإن كان طفلا لا يميز ولا يعقل، فالأم أحق به من أبيه تربيه وتحضنه
والنفقة على أبيه لما روى أن امرأة قالت يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء،
وثديي له سقاء وحجري له وطاء، وإن أباه طلقني وأراد أن ينتزعه مني، فقال لها
النبي صلى الله عليه وآله " أنت أحق به ما لم تنكحي ".
فإن كان الولد بالغا رشيدا فلا حق لأحد الوالدين فيه، والخيار إليه في المقام
عند من شاء منهما، والانتقال عنهما، ذكرا كان أو أنثى، غير أنه يكره للبنت أن تفارق أمها
حتى تتزوج وقال بعضهم ليس لها أن تفارق أمها حتى تتزوج ويدخل بها الزوج.
وأما إن كان طفلا بلغ حدا يميز بين ضره ونفعه وهو إذا بلغ سبع سنين
أو ثماني سنين فما فوقها إلى البلوغ، فالذي رواه أصحابنا أنه إن كان ذكرا فالأب
أحق به، وإن كانت أنثى فالأم أحق بها إلى أن تبلغ ما لم تتزوج وقال قوم تخير
بين أبويه فمن اختار سلم إليه.
وقال آخرون الأم أحق به، حتى يبلغ إن كان ذكرا، وإن كان أنثى حتى
يتزوج ويدخل بها الزوج.
وقال قوم إن كانت جارية فأمها أحق بها ما لم تتزوج، وإن غلاما فأمه
أحق به حتى يبلغ حدا يأكل ويشرب ويلبس بنفسه، فتكون أحق به.
ومن قال بالتخيير قال لا تخير إلا بأربع شرائط وهو أن يكونا حرين مسلمين
مأمونين مقيمين، فأما إن كان أحدهما حرا والآخر مملوكا نظرت فإن كانت أمه حرة
فهي أحق به بغير تخيير، وهكذا نقول لأنه مشغول بخدمة سيده، وإن كان أبوه
39

حرا والأم مملوكة فإن كان الولد حرا فأبوه أحق به، لأن أمه مشغولة بخدمة سيدها
وإن كان مملوكا فسيده أحق به، وإن كان أحدهما مسلما فالمسلم أحق به عندنا و
عند أكثرهم وقال بعضهم يخير.
وإن كان أحدهما عدلا والآخر فاسقا فالعدل أحق به بكل حال، لأن الفاسق
ربما فتنه عن دينه، وإن كان أحدهما مقيما والآخر منتقلا فلا يخلو المسافة من أحد
أمرين إما أن يقصر فيها الصلاة أو لا يقصر، فإن لم يقصر فالحكم فيها كالإقامة، وإن كان
يقصر فيها فالأب أحق به بكل حال.
وقال قوم إن كان المنتقل هو الأب فالأم أحق به، وإن كانت الأم منتقلة
فإن انتقلت من قرية إلى بلد فهي أحق به، وإن انتقلت من بلد إلى قرية فالأب أحق
به لأنه في السواد يسقط تعليمه وتخريجه وهو قوي.
ومن قال بالتخيير فبلغ حد التخيير فخير لم يخل من أحد أمرين إما أن يختار
أمه أو أباه، فإن اختار أمه نظرت، فإن كان الولد جارية كانت عندها ليلا ونهارا ولا
يخرج نهارا لأن تأديبها وتخريجها جوف البيت، وإن كان غلاما فأمه أحق به ليلا
لأنها تحفظه وتحضنه وأبوه أحق به نهارا ليخرجه ويؤدبه ويعلمه.
وإن اختار أباه فهو أحق به ليلا ونهارا لأنه لو كان جارية فلا حاجة بها
إلى الخروج، وإن كان غلاما فعنده يأوي ليلا ويخرج إليه نهارا ولا يمنع من الاجتماع
مع أمه، لأن في ذلك قطع الرحم وذلك لا يجوز.
ثم ينظر فإن كان ذكرا ذهب هو إلى أهله وزارها في كل أيام حتى لا ينقطع
الرحم بينهما، وإن كان جارية فإن أمها تأتيها زائرة لأن الجارية لم تخرج، و
الأم قد اعتادت الخروج، وإذا زارتها أمها فلا تطيل عندها، بل تخفف وتنصرف
ولا تنبسط في بيت مطلقا. هذا في حال الصحة.
فأما في حال المرض فأيهما مرض قصده الصحيح فإن كان المريض هو الولد فلا
تمنع أمه أن تجيئه وتراعيه وتمرضه وتقيم عنده، لأنها أشفق عليه وأحنى وارأف
وأعطف وأرفق من غيرها، وإن مرضت الأم فإن ولدها يزورها ويتردد إليها ذكرا
40

كان أو أنثى.
فأما إن مات أحدهما نظرت، فإن مات الولد فإن أمه تحضره وتجهزه وتتولى
أمر غسله وتكفينه وإخراجه، فإن ماتت الأم فالولد يحضرها ويجهزها ويتولى أمرها
من تكفين وغيره فإذا فرغت الأم من تجهيز الابن لا يجوز أن تتبع الجنازة إلى المقبرة،
لأن النساء قد نهين عن زيارة القبور روي عنه عليه وآله السلام أنه قال لعن الله
زائرات القبور.
فإذا بلغ سن التخيير فكان مجنونا أو عاقلا فخبل فأمه أحق به، ويسقط التخيير
لأنه في معنى الطفولة ومتى اختار أحدهما سلم إليه، فإذا أراد الآخر بعده حول إليه،
فإن أراد رده إلى الأول رد وعلى هذا أبدا، لأنه تخيير إيثار وشهوة، وليس تخيير
إلزام وحتم.
إذا تزوجت المرأة سقط حقها من الحضانة وزال التخيير، وإن كان له أم أم
لا زوج لها قامت مقامها، وإن كان لأمها زوج هو جد هذا الطفل قامت مقامها، وإن
كان أجنبيا فالأب أحق به وقال الحسن البصري لا يسقط حقها بالنكاح.
ومتى طلقها زوجها عاد حقها على ما كانت وقال بعضهم لا يعود، والأول أصح
عندي وإذا ثبت أنه يعود فلا فرق بين أن يكون الطلاق باينا أو رجعيا وقال بعضهم إن
كان باينا عاد، وإن كان رجعيا لم يعد، لأنها في حكم الزوجات، فهو كما لو لم يطلقها
وهو الصحيح عندي.
إذا اجتمع نساء القرابة فتنازعن المولود ففيها مسئلتان إحداهما إذا لم يكن معهن
رجل، والثانية إذا كان معهن رجل، فإذا كان معهن رجل فالكلام في ترتيب الأولى
والأحق.
قال قوم الأم أولى ثم أمهاتها ثم أم الأب وأمهاتها، ثم أم الجد وأمهاتها،
ثم أم أبي الجد وأمهاتها فإن لم تكن فلأخت للأب والأم ثم الأخت للأب، ثم
الأخت للأم ثم الخالة، ثم العمة، وفيه خلاف طويل وشرح على مذهب القوم.
والذي عندي أن الأم أولى من كل أحد، فإن لم تكن فكل امرأة كان أولى
41

بميراثها فهي أولى به، فإن اجتمعا في درجة واحدة ولا مزية فهو بينهما لقوله تعالى
" وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض " (1) وذلك عام في كل شئ وعلى هذا الأخت للأب
والأم أولى من الأخت للأب ومن الأخت من الأم لأنها تدلي بسببين فإذا لم تكن
فالأخت للأب أولى وقال بعضهم الأخت للأم أولى والأول أقوى، فإن لم تكن أخت
من أب فالأخت للأم أولى، والخالة والعمة عندنا في درجة، وعندهم الخالة مقدمة،
وعندنا إذا اجتمعا أقرع بينهما.
فإذا ثبت هذا فالخلاف في ثلاثة مواضع: فيمن هو أولى بعد أمهات الأم؟
الأخوات أو الجدات؟ فعندي أنهما سواء، ويقرع بينهما فمن خرج اسمه سلم إليه
لأنه لا يمكن قسمته مثل الميراث، وعندهم على قولين.
الثاني هل الخالة أولى من أم الأب؟ فعندهم على قولين، وعندي أن أم الأب
أولى.
والثالث في الأخت للأب مع الأخت للأم عندهم على قولين وعندي أن الأخت من
قبل الأب أولى وإن قلنا إنهما سواء ويقرع بينهما كان قويا والعمة مؤخرة عن هؤلاء
كلهن، وكل موضع قلنا إنها أحق فإنها مع الولد كالأم هي أحق حتى يبلغ.
فإذا بلغت نظرت فإن كان ذكرا فالمستحب له أن يفارقها، وإن كان أنثى فإن
كانت ثيبا فكالذكر، وإن كانت بكرا كره لها مفارقتها حتى تتزوج ويدخل بها، و
كل موضع اجتمع اثنتان أختان أو خالتان، وكان المولود طفلا لا يعقل أقرع بينهما
فإذا بلغ حد التخيير خيرناه بينهما.
أم الأب له حق في الحضانة بوجه، وكذلك أم أبي الأم لأنهما يرثان عندنا، و
عندهم لاحظ لهما وفيه خلاف فأما إذا كان هناك رجال ونساء فالأم أولى من الأب
ومن كل أحد على ما بيناه ما لم تتزوج، أو يكون الولد ذكر أو يبلغ سنتين فيكون
الأب أولى فأما غير الأب فهي أولى به على كل حال.
فإن لم تكن أم فالأب أولى من أمهات الأم، وإن علون، وعندهم أمهات

(1) الأنفال: 75.
42

الأم وإن علون أولى، فإن لم يكن أحد من أمهات الأم فالأب أولى من كل من
يتقرب به من الأخوة والأخوات والجد والجدة بلا خلاف.
وإن كان معه من يدلي بالأم أخت لأم أو خالة وليس معه غيرهما فالأب أولى
عندنا. وعندهم على وجهين أحدهما مثل ما قلناه والآخر الأب يسقط بها لقول
النبي صلى الله عليه وآله الخالة أم.
وإذا ثبت أن الأب أولى منهما، فما دام هو باقيا فهو أولى، ثم أمه وأبوه في
درجة، ثم جده وجدته في درجة مثل الميراث عندنا سواء، للآية وعلى مذهب القوم
إذا قالوا بما قلناه وفيه خلاف.
هذا إذا كان الأب موجودا فأما إن كان مفقودا ميتا أو هالكا فعندنا أن كل
من كان أولى بميراثه فهو أولى به، فإن تساووا أقرع بينهم، فمن خرج اسمه سلم إليه
وفيه خلاف
وكل أب خرج من أهل الحضانة بفسق أو كفر أورق فهو بمنزلة الميت سواء
ويكون الجد أولى فإن كان الأب غائبا انتقلت حضانته إلى الجد، لأن القصد حفظه
وصيانته، فكان أحق به من غيره، وكل من عدا الأب والجد ممن يتقرب بهما من
الذكور، له حظ في الحضانة عندنا ويقومون مقام الأب والجد إذا كانوا أولى بميراثه
فإن تساووا فالقرعة، وفيه خلاف بينهم.
إذا كان الأبوان مملوكين فلا حضانة لهما إذا كان الولد حرا، وإن كان أحدهما
حرا فهو أحق من المملوك، وإن كان الولد مملوكا فالأولى لسيده أن يقره مع أمه،
فإن أراد أن ينقله عنها إلى غيرها لتحضنه كان له ذلك عندنا، ومنهم من قال ليس له
ذلك، ومن لم يكمل فيه الحرية فهو كالعبد القن سواء.
43

* (فصل) *
* (في نفقة المماليك) *
قد ذكرنا أن النفقة تستحق بأحد أسباب ثلاثة: زوجية وقرابة وملك يمين
وقد مضى الكلام في نفقة الزوجة والأقارب، والكلام ها هنا في نفقة المماليك، و
إنما قلنا يجب نفقته لا جماع الفرقة على ذلك، ولقوله عليه السلام للمملوك طعامه وكسوته
بالمعروف، ولا يكلف من العمل ما لا يطيق. فأخبر أن طعامه وكسوته ونفقته على سيده
لأنه لا أحد أولى به منه، وهو إجماع لا خلاف فيه.
فإذا ثبت وجوبها لم يخل العبد من أحد أمرين: إما أن يكون مكتسبا أو غير
مكتسب فإن لم يكن مكتسبا لصغر أو كبر أو زمانة أو مرض فنفقته على سيده، وإن
كان مكتسبا فسيده بالخيار إن شاء جعلها في كسبه، وإن شاء أنفق عليه من عنده،
لأن كسبه له وماله له، فإن أنفق عليه من ماله كان له جميع كسبه وإن جعل بعضه في
كسبه، فإن كان وفق نفقته فلا كلام وإن زاد عليه كان لسيده الفاضل، وإن كان دون
ذلك فعلى السيد إتمامه.
فإذا ثبت الوجوب وكيفية الوجوب فالكلام بعده في فصلين في قدر النفقة و
في جنسها.
فأما قدر كفايته في العرف وهو قوت مثله فيجعل له، ولا ينظر إلى النادر في كفاية
الناس، فإن فيهم من يكفيه القليل وهو نادر، وفيهم من لا يكفيه إلا الكثير وهو
نادر، ولا ينظر إليهما بل ينظر إلى كفاية مثله في العادة لقوله عليه السلام للمملوك طعامه و
كسوته بالمعروف.
فأما جنسها فمن غالب قوت البلد، أي قوت كان هو الغالب عليه كان قوت
المماليك منه، ولا يعتبر قوت سيده، فإنه قد يكون منعما لا يرضى بغالب قوت البلد،
وهكذا الأسوة بكسوة من غالب كسوة البلد، لا من كسوة سيده فإن سيده قد يزيد وينقص
44

على ما قلناه للخبر من قوله بالمعروف.
فإذا ثبت أن الذي على السيد أن يطعمه من غالب قوت البلد، فإن كان منهم
من يلي إصلاح الطعام وتقديمه إليه فالمستحب للسيد أن يدعوه فيجلسه معه ليأكل
معه فإن أبى فلقمة أو لقمتين لما روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه إذا كفى أحدكم خادمه طعامه
حره ودخانه فليدع فليجلسه معه فإن أبى فليروع له اللقمة واللقمتين والترويع أن
يرويه من الدسم، والخادم الذي لا يراه فالمستحب له أيضا أن يطعمه لقمة لأنه لا يكاد
يخفى عليه ما صنع، والأول أشد استحبابا.
فأما الكسوة فمن غالب كسوة البلد أيضا من كتان أو قطن وغير ذلك، للخبر
فإن كان المملوك غلاما فالكسوة واحدة، لا يخص بعضهم بأجود من بعض، لأنهم
يرادون للخدمة، وهم يتساوون فيه، وإن كانت أمة فإن كانت للخدمة دون التسري
فكذلك وإن كانت للتسري فينبغي أن يخصها بالأجود، ويفرق بينها وبين الخادمة
لأن هذا هو الفرق، ومنهم من قال لا فرق بينهما.
فأما استعمال الغلام فإنه يكلفه من العمل ما يطيق ولا يكلفه ما لا يطيق للخبر
ومعناه ما يطيق الدوام عليه، فأما ما يقدر عليه يوما أو يومين ثم يعجز عنه في الثالث
فليس له ذلك، للخبر.
ومتى تعطل العبد الكسوب عن الكسب، كانت نفقته على مولاه في غير كسبه
وأما ولدها فإذا كان منه فهو حر فعليه أن ينفق على ولده، وإن كان من غيره من
زوج حر شرط عليه أو زنا فهو ملكه ويجوز له بيعه وعليه نفقته.
فإن كان لها ولد طفل يحتاج إلى رضاع وكانت الأمة قنا فأراد أن يؤجرها
للرضاع أو يلزمها الرضاع لغير ولدها نظرت، فإن كان لبنها وفق كفايته لم يكن ذلك
له، لأنه يضر بولدها فهو كالكبير إذا أراد أن ينقصه بعض قوته لم يكن له.
وإن كان في لبنها فضل على الكفاية كان له أن يسترضعها في الفاضل من لبنها
عن ولدها لأنه لا ضرر على ولدها، ويؤجرها ذلك القدر إن أمكن، فإن استغنى
ولدها عن اللبن بالطعام كان له أن يستوفي جميع لبنها.
45

وإن كان ولدها من زوج حر كان حرا عندنا، وكان للسيد أن يمنعها من
إرضاعه لأنها ملكه، وليس يجب عليه إرضاع ولد الغير، وكان على أبيه أن يسترضع
له من يرضعه، فإن أجبرها السيد لإرضاع ولدها الحر كان له ذلك.
إذا أراد السيد أن يخارج عبده فأبى العبد لم يجبر عليه وإن طلب العبد من
سيده المخارجة لم يجبر عليه.
والمخارجة أن يضرب على عبده خراجا في كل يوم شيئا معلوما يطلبه من كسبه
فإن اتفقا عليه نظرت: فإن كان كسبه يفي بقدر النفقة وقدر الخراج مثل أن يكون
كسبه ثلاثة دراهم ونفقته درهما وخراجه درهمين، فإنه جائز بذلك إن أبا طيبة حجم
رسول الله صلى الله عليه وآله فأعطاه أجره وسأل مواليه أن يخففوا عنه خراجه، فثبت أن الخراج
جائز، وما يفضل عن قدر الخراج له أن يتوسع به في النفقة.
فأما إن خارجه ما يتهم به قالوا لا تكلفوا الصغير الكسب، فإنكم متى كلفتموه
الكسب سرق، ولا تكلفوا الأمة غير الصغيرة الكسب فإنكم متى كلفتموها الكسب
كسبت بفرجها، وروي ذلك أيضا عن بعض أصحابه.
46

* (فصل) *
* (في نفقة الدواب) *
إذا ملك بهيمة فعليه نفقتها، سواء كانت مما يؤكل لحمها أو لا يؤكل لحمها، و
الطير وغير الطير سواء، لأن لها حرمة.
روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال اطلعت ليلة أسري بي على النار فرأيت امرأة
تعذب فسألت عنها فقيل إنها ربطت هرة ولم تطعمها ولم تسقها ولم تدعها تأكل من
حشاش الأرض حتى ماتت فعذبها الله بذلك.
قال صلى الله عليه وآله: واطلعت على الجنة فرأيت امرأة مومسة يعني زانية فسألت عنها
فقيل إنها مرت بكلب يلهث من العطش فأرسلت إزارها في بئر فعصرته في حلقه حتى
روي فغفر الله لها.
فإذا ثبت أنه ينفق عليها لم يخل البهيمة من أحد أمرين إما أن يكون في البلد
أو البادية فإن كانت في جوف البلد فعليه إن ينفق عليها بأن يعلفها لأنه ليس في البلد
رعي.
فإن كانت مما يؤكل لحمها فهو مخير بين ثلاثة أشياء بين أن يعلفه أو يذبح أو يبيع
وإن كانت مما لا يؤكل لحمها فهو مخير بين شيئين بين أن يعلف أو يبيع، فإن امتنع
أجبره السلطان على النفقة أو البيع فيبيع منها بقدر علفها، أو يبيع الكل.
فأما إن كانت في الصحراء فإن كان لها من العلف والكلأ ما يقوم بدنها به أطلقها
للرعي وإن أجدبت الأرض فلم يبق فيها معتلف، أو كان بها من المعتلف ما لا يكفيها
فالحكم فيه على ما فصلناه في الأمة إن كان وفق حاجة لم يتعرض للبنها، وإن كان أكثر
كان له أخذ الفضل، وإن استغنى ولدها بالعلف كان له أخذه كله.
47

إذا كان له ولد من كافرة فطلقها فالمسلم أحق به خلافا لبعض الشذاذ، فإن أسلم
الكافر منهما كان كما لو كان في الأصل مسلما على ما مضى وهكذا إذا كان أحد الأبوين
مملوكا فلا حق له في الحضانة، فإن أعتق ثبت حقه، فتكون أمه أحق به صغيرا،
فإن بلغ سبع سنين وكان ذكرا مميزا فالأب أولى به وإن كان أنثى فالأم أولى به إلى
أن تبلغ.
إذا فسقت الأم أو تزوجت سقطت حضانتها باختيارها، أو قالت لست أحضنه
فالأب أولى به عندنا، وكذلك إذا فسقت، وقال قوم الجدة أم الأم أولى.
قد مضى اختلاف الناس في نفقة الزوجة متى يجب؟ فإنه قال بعضهم لا يجب
بالعقد إلا المهر، وهو الصحيح عندنا، وأما النفقة فإنه يجب يوما بيوم في مقابلة
التمكين من الاستمتاع، وقال بعضهم تجب بالعقد مع المهر ويجب تسليمها يوما بيوم
في مقابلة التمكين من الاستمتاع.
وفائدة الخلاف أن من قال تجب بالعقد قال يجوز ضمانه عنه لزوجته عشر سنين
أو ما زاد عليه أو أقل منه، ومن قال تجب يوما بيوم على ما قلناه لم يجز إلا ضمان
نفقة يوم واحد صلاة الغداة، لا أنها الآن وجبت، ولا يصح على هذا أن يضمن نفقة
يومين.
ومن قال تجب بالعقد فإن تسليمها يوما بيوم في مقابلة التمكين، فإن امتنعت
أياما سقطت منها بقدر ما منعت، ومن قال تجب يوما بيوم فوقت وجوبها غداة كل
يوم يجب تسليمها، ويكون وقت الدخول والتسليم واحدا.
وعلى القولين إذا مضى يوم وهي ممكنة من الاستمتاع، فإن كانت استوفت نفقة
هذا اليوم فلا كلام، وإن لم يكن استوفت استقرت في ذمته عندنا وقال بعضهم تسقط
كلما مضى يوم قبل أن تستوفيه إلا أن يفرض القاضي فتستقر في ذمته.
إذا رزقت زوجته وأقامت في يده فينفق عليها الطعام والشراب وأنواع
المأكولات سنين كان ذلك نفقتها، ولا يلزمها فيما بعد شئ سواء كان ذلك مطلقا أو
مقيدا، وقال بعضهم إن أنفقه مطلقا استقرت نفقتها لمضي الوقت ولم تسقط، ولم
48

يكن ما أنفق عليها نفقتها، لأن الذي يجب لها الحب، وما وافقها على أن هذا في
مقابلته، وإن كان الانفاق بشرط أن هذا نفقة عليها بدلا عن الواجب لها، فعلى
هذا هذه معاوضة فاسدة، ولكل واحد منهما على صاحبه ما وجب له عليه: له عليها قيمة
ما أنفقه، ولها عليه ما استقر في ذمته.
إذا تزوج رجل أمة فأحبلها ثم ملكها نظرت فإن كانت حاملا ملكها وعتق حملها
بالملك، ولم تصر هي أم ولد، وإن ملكها بعد الوضع لم تصر أم ولد عندهم، وعندنا
تصير أم ولد، والولد حر على كل حال.
رجل فقير لا مال له، وله زوجة فقيرة، وأولاد صغار لا مال لهم، وله ابن
غني فعلى الغني نفقة والده، ونفقة زوجة والده لأنها من مؤنة والده، ونفقتها
يجب عليه مع إعسار والده وأما ولده الصغار فلا يجب عليه نفقتهم، لأنه لا يجب على
أبيه فيلزمه التحمل ولا عليه ابتداء لأنهم إخوته ونفقة الأخ لا يجب على أخيه.
فإن كانت بحالها، ولم يكن له ابن موسر، لكن له والد موسر، فعلى والده
نفقته لأنه ولده وهو فقير، وعليه نفقة زوجته لأن عليه كفاية ولده ولأنها نفقة
يلزم ولده مع الإعسار، وعليه فطرتها لأنها بمنزلة النفقة، وعليه أن ينفق على ولد
ولده الصغار الفقراء ابتداء لأنه جد وولد ولده فقير، وعلى الجد أن ينفق على ولد
ولده مع إعسار ولده من ابتداء.
رجل طلق زوجته طلقة رجعية ووضعت ثم اختلفا فقالت طلقتني بعد الوضع و
عدتي بالأقراء، ولي النفقة إلى انقضائها، وقال بل قبل الوضع وقد بنيت بالوضع،
وانقضت عدتك به، ولا رجعة لي ولا نفقة، فالقول قولها فيما تعتد به لأنه إقرار
على نفسها، والقول قوله في أنها باين، لأنه إقرار على نفسه في سقوط الرجعة، وأما
النفقة فلها إلى انقضاء الأقراء لأنهما أجمعا على ثبوتها عقيب الطلاق، واختلفا هل هي
مستدامة أم لا، والأصل الدوام حتى تثبت الانقطاع.
إذا أسلف زوجته نفقة شهر ثم مات أو طلقها فلها نفقة يومها، وعليها رد ما زاد
على اليوم، وقال بعضهم إن مات بعد الإقباض لم يكن عليها رد شئ، وإن كان بعد
49

أن حكم الحاكم وقبل الإقباض سقط بوفاته والأول هو الصحيح عندنا.
إذا دفع إلى زوجته الكسوة التي تلبسها إلى مدة لم يكن لها أن يستبدل بها غيرها
لأنها لو أتلفتها كان عليها قيمتها، وقال قوم وهو الصحيح عندنا أن هذا غلط لأنه إذا
أسلم إليها الكسوة فقد ملكتها على الاطلاق تتصرف فيها كيف شاءت، فإن أهلكتها لم
يكن عليه البدل حتى يبلغ الوقت، ومثلها سائر النفقات فإن أهلكتها لم يكن عليها
البدل فيه، ولا يلزمها قيمتها لأنها أتلفت ملكها.
إذا تزوج عبد بحرة فأولدها، كان ولده حرا، ولها الحضانة، وعليها النفقة
دونه، لأن النفقة مع الوجود، وهذا غير واجد، فإن أعتق العبد وأيسر وجب عليه
النفقة
وقد مضى أن الأمة إذا أصابت بزوجها عيبا يفسخ النكاح كان الخيار إليها في الفسخ
دون سيدها فأما إن اعتبر بالنفقة فقد قلنا إنه لا خيار لها عندنا وعندهم أن الخيار
من الفسخ إلى السيد دونها.
والقصد أن العيب نقص يتعلق بحقها، ويؤثر في الاستمتاع، فلهذا كان إليها
دون سيدها، وليس كذلك النفقة والصداق لأنه حق يعود إليه بدليل أنه إذا لم
يخرج الزوج كان على السيد فلهذا كان له الفسخ، فإن بادر السيد فأعتقها صار الحقان
لها معا لا حق لسيدها فيه، ويكون بالخيار بين الفسخ بالإعسار وبين الصبر معه.
50

* (كتاب العتق) *
قال الله تعالى " وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه " (1) قيل في التفسير
نزلت في زيد بن حارثة وكان النبي صلى الله عليه وآله أعتقه وتبنى به فحرم الله التبني، وإنعام
الله تعالى عنى به الاسلام، وإنعام النبي صلى الله عليه وآله العتق، وقال الله تعالى: " ومن قتل
مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة " (2) فذكر التحرير في ثلاثة مواضع في هذه الآية، و
ذكر أيضا في آية الظهار (3)، وكفارة اليمين (4).
وروى عمر بن عبسة أن النبي صلى الله عليه وآله قال من أعتق رقبة مؤمنة كانت فداه من
النار، وروى واثلة بن الأسقع وغيره أن النبي صلى الله عليه وآله قال: من أعتق
رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار ولا خلاف أيضا بين الأمة في
جواز العتق، والفضل فيه.
فإذا أعتق شركا له من عبد لم يخل من أحد أمرين إما أن يكون موسرا أو معسرا.
فإن كان معسرا عتق نصفه، واستقر الرق في نصف شريكه، وروى أصحابنا أنه
إن قصد بذلك الإضرار بشريكه أنه يبطل عتقه، فإن اختار شريكه أن يعتق نصيبه منه
فعل، وإلا أقره على ملكه.
وإن كان موسرا قوم عليه نصيب شريكه، ومتى يعتق نصيب شريكه؟ قيل فيه
ثلاثة أقوال:
أحدها أنه يعتق كله باللفظ وكانت القيمة في ذمته، وعليه تسليمها إلى شريكه.

(1) الأحزاب: 37.
(2) النساء: 92.
(3) المجادلة: 3.
(4) المائدة: 89.
51

والثاني أنه يعتق نصيبه باللفظ ودفع القيمة فإن دفع القيمة إلى شريكه عتق
نصيب شريكه، وإن لم يدفع إليه القيمة لم يعتق.
والثالث أن يكون مراعى، فإن دفع القيمة شريكه، عتق نصيب شريكه
وإن لم يدفع إليه القيمة لم يعتق، فإن أدى إليه تبينا أنه عتق وقت العتق، وإن لم
يؤد تبينا أن العتق في نصيب شريكه لم يقع، وهذا هو الأقوى عندي وفيه اختلاف.
فمن قال يقع بنفس اللفظ قال يعتق أولا نصيبه، فإذا أعتق سرى إلى نصيب شريكه
بلا فصل، ومنهم من قال يعتق كله دفعة واحدة، ولا يعتق منه شئ بعد شئ.
ومتى وقع العتق في جميعه كان الولاء للمعتق، والعتق واقعا عنه، فاستقرت الحرية
وعلى المعتق قيمة نصيب شريكه بمنزلة المتلف، فإن كان موسرا بذلك أخذ منه،
فإن هرب صبرنا حتى يعود، فإن أعسر بعد ذلك أنظر إلى اليسار، ويعتبر القيمة
حين العتق لا حال الاتلاف، فإن اختلفا في قدر قيمته فالقول قول المعتق لأنه غارم.
فإن اختلفا فقال الشريك قد أعتقته فالعبد كله حر ولي عليك قيمة نصيبي منه،
فأنكر ذلك المعتق، فالقول قوله، لأن الأصل أن لا عتق.
فإذا حلف حكمنا بأن نصيبه منه رقيق، ونصيب المدعي حر لأنه قد اعترف
بأنه حر فلا يقبل قوله بعده أنه رقيق، ثم نقول له إن كنت تعلم أنه أعتق نصيبه
منه، فلك قيمة نصيبك عليه في ذمته، فمتى ظفرت بشئ من ماله، كان لك أخذ حقك منه.
ومن قال يعتق بشرطين اللفظ ودفع القيمة فقد وجب على المعتق قيمة نصيب
شريكه بدليل أنه يملك المطالبة به فإن كان موسرا استوفى ذلك منه، فإن هرب أو
فلس أخرناه حتى إذا وجد أدى ما عليه، وعتق العبد بوجود الأداء، فإن جحد
العتق فالقول قوله مع يمينه، وإن حلف أنه ما أعتق نصيبه كان نصيب شريكه على
الرق لأن شرط وقوع العتق ما وجد وإن اختلفا في قدر قيمته - ويفارق الأولى لأنه
الأولى غارم.
فأما إن تصرف الشريك في نصيبه منه قبل أن يأخذ القيمة بأن أعتق أو باع نصيبه
منه، فإن التصرف يكون باطلا، وقال بعضهم ينفذ عتقه، وهو الأقوى عندي، لأن
52

عتقه صادف ملكه.
ومن قال مراعى قال: إن دفع القيمة بان أن العبد عتق باللفظ وكان الحكم فيه
كما إذا قلنا يعتق باللفظ، وقد مضى حكمه، وإن لم يدفع فالحكم فيه كما لو قلنا لا
يعتق إلا باللفظ ودفع القيمة، لأنا تبينا أن العتق لم يعمل في نصيب شريكه وقد مضى.
فرع: إذا أعتق شركا له من عبد وهو موسر، فمات العبد قبل أن يدفع قيمة نصيب
شريكه، فمن قال عتق كله بنفس اللفظ، قال عليه قيمة نصيبه لأن نصيب شريكه قد
نفذ العتق فيه بإعتاقه ووجبت قيمته في ذمته، فلا يسقط بوفاته، ومن قال يعتق باللفظ
ودفع القيمة فهل عليه قيمة نصيب شريكه أم لا؟ قيل فيه وجهان:
قال قوم لا يلزمه، لأن القيمة يجب عليه في مقابلة ما يحصل له من عتق نصيب
شريكه في حقه، وثبوت الولاية عليه، فإذا مات قبل دفع القيمة له لم يسلم ماله فلم
يلزمه ما عليه وقال آخرون يلزمه القيمة لأنها قد وجبت عليه قبل موت العبد والأول
أقوى.
إذا كان العبد بين شريكين فادعى أحدهما على شريكه أنه قد أعتق نصيبه من
العبد، وكان المدعى عليه موسرا، فمعنى هذا الكلام قد أعتقت نصيبك منه، ووجب
عليك قيمة نصيبي منه، فإذا ادعى هذا لم يخل المدعى عليه من أحد أمرين إما أن يقر
أو ينكر:
فإن أنكر لم يخل المدعي من أحد أمرين إما أن يكون معه بينة أو لا بينة معه
فإن كان معه بينة فلا تقبل إلا بشاهدين ذكرين، لأنه إثبات عتق، فإذا شهدا بذلك
حكمنا بأنه أعتق نصيبه وعليه قيمة نصيب شريكه، ومتى أعتق نصيب المدعي؟ على
ما مضى من الأقوال.
وإن لم يكن معه بينة فالقول قول المدعى عليه مع يمينه، لأن الأصل أن
لا عتق، والأصل بقاء الرق، فإذا حلف استقر الرق في نصيبه.
فأما نصيب المدعي فإنه مبني على الأقوال، فمن قال باللفظ فنصيب المدعي
حر لأنه أقر بما يضره ويضر غيره، فيقبل قوله فيما يضره دون ما يضر غيره، فإذا
53

ثبت أن نصيبه حر فإنه لا يقوم عليه نصيب شريكه، لأن العتق في نصيب نفسه بغير
اختياره لا يقوم عليه نصيب شريكه.
فإذا ثبت أن نصيبه حر فإن ولاء هذا القدر موقوف، لأن أحدا لا يدعيه كما
لو شهد نفسان على رجل أنه أعتق عبده فردت شهادتهما ثم ملكا العبد، فإنا نحكم
بأنه حر في حقهما، والولاء موقوف لأن أحدا لا يدعيه.
فإذا ثبت أن الولاء موقوف فإن كان المدعي يعلم أن المدعى عليه أعتق نصيب
نفسه، فقد وجب للمدعى عليه قيمة نصيبه من العبد، لأنه أتلفه عليه، فمتى ظفر بمال
المدعى عليه حل له أن يأخذ منه بقدر قيمة نصيبه منه، لأنه واجب عليه ولا يقدر
على أخذه.
ومن قال لا يعتق إلا باللفظ ودفع القيمة أو قال بدفع القيمة فعلم أن العتق قد
وقع باللفظ، فعلى هذين القولين لم يعتق نصيبه، لأن دفع القيمة ما حصل منه ونصيبه
على الرق، لأنه أقر بحق في مقابلة حق له فإذا لم يسلم له ماله لم يلزمه ما عليه.
هذا إذا أنكر المدعى عليه فأما إن اعترف فقال صدق عتق نصيبه ونصيب المدعي
على الأقوال كلها، وكان ولاء جميعه للمقر فأما إن ادعى كل واحد منهما على صاحبه
أنه أعتق نصيبه وكلاهما موسر فكل واحد منهما مدع ومدعى عليه، يحلف كل
واحد منهما لصاحبه لما مضى.
فإذا حلف بني على الأقوال الثلاثة: فمن قال بنفس اللفظ عتق نصيب كل واحد
منهما منه، فيكون كل العبد حرا لأن كل واحد أقر بما يضره ويضر غيره، فقبلنا
قوله فيما يضره دون ما يضر غيره، فأعتقنا نصيبه منه، ولم نوجب لأحدهما على صاحبه
قيمة نصيبه منه، فالولاء موقوف لأن أحدا لا يدعيه، لأن كل واحد منهما يقول
لصاحبه: ولاء جميعه لك.
ومن قال يعتق بشرطين أو قال مراعى فالعبد رق بحاله لأن نصيب كل واحد
منهما إنما يعتق بدفع القيمة، فإذا لم يسلم له ماله، لم يلزمه ما عليه.
إذا كان العبد بين شريكين موسرين فأعتق أحدهما نصيبه ذكرنا ثلاثة أقوال: سواء
54

كانا مسلمين أو مشركين، أو كان المعتق مسلما، فإن كان المعتق مشركا وشريكه مسلما
كذلك يقوم على الكافر نصيب المسلم، ويعتق عليه لعموم الأخبار.
إذا أعتق شركا له من عبد وكان موسرا فمن قال عتق باللفظ عتق كله، والولاء
للمعتق، ومن قال بشرطين أو مراعى، بدفع القيمة عتق كله، والولاء للمعتق، وكيف
يعتق عليه نصيب شريكه مع الملك أو بعده؟ قيل فيه قولان:
وهكذا إذا اشترى أباه عتق عليه، ومتى يقع؟ على وجهين: أحدهما يقع العتق
والملك معا في زمان واحد، الثاني أن العتق بعد الملك وهو الأقوى عندي، لأن
الولاء له عن عتق، والعتق لا يقع إلا في ملك يحتاج إلى تملك ثم يعتق.
وحد اليسار الذي يقوم العبد لأجله عليه أن يكون للمعتق غير هذا النصيب
قدر قيمة نصيب شريكه في الفاضل عن قوت يوم وليلة لما روي عن النبي صلى الله عليه وآله قال
من أعتق شركا له من عبد وكان له مال يبلغ ثمنه، قوم عليه نصيب شريكه عليه فإن
كان معه أقل من ذلك قوم عليه بقدر ما يملك في الفاضل عن قوت يوم وليلة.
فأما إن كان معسرا فأعتق نصيبه منه أعتق منه ما أعتق، ورق الباقي عندنا، و
قال بعضهم يعتق كله ويكون قيمة نصيب شريكه في ذمته يتبع به إذا أيسر، وقال بعضهم
شريكه بالخيار بين أن يعتق نصيبه وبين أن يستسعيه في قيمته ليؤدي فينعتق وروي
في أخبارنا ذلك.
قد ذكرنا أن العبد إذا كان بين شريكين فأعتق أحدهما نصيبه منه وكان معسرا
عتق نصيبه، واستقر الرق في نصيب شريكه، والكلام في فصلين في حياته وبعد وفاته
فأما في حياته فكسبه ونفقته وزكاة فطرته بينه وبين الذي يملك النفقة، والفطرة عليهما
والكسب لهما.
فإذا اكتسب لم يخل من أحد أمرين إما أن يكون بينهما مهاياة أو لا مهاياة بينهما
فإن لم يكن بينهما مهاياة كان الكسب بينهما وسواء كان نادرا أو معتادا فإن كان بينهما
موايمة أو مشاهدة أو ما يتفقان عليه صح ذلك، ثم ينظر فيه فإن كان الكسب معتادا كالخياط
والنجار والحائك دخل كل الكسب في المهاياة، فما كان في يومه فله، وما كان في
55

يوم سيده فلسيده.
فأما الاكتساب النادر كالصيد واللقطة والكنز والهبات والوصايا، قال قوم
يدخل في المهاياة، وقال آخرون لا يدخل، بل يكون النادر بينهما لأن المهاياة
معاوضة، بدليل أنه يترك حقه اليوم بما يأخذه من حق الغير غدا، فإذا كانت معاوضة
فالنادر مجهول، والأول أقوى لعموم الأخبار.
فإذا ثبت هذا فكل الاكتساب وجهات الملك التي يملك بها كالبيع والشراء
وغير ذلك إلا الميراث، فإنه لا يرث بحال عندهم، لأنه منقوص بالرق، وعندنا
يرث بما فيه من الحرية.
فأما حكمه بعد وفاته فإذا ملك مالا ومات، قال قوم لا يورث، ويكون لسيده
الذي يملك نصفه، لأنه منقوص بالرق، وقال آخرون يورث عنه وهو الصحيح عندنا
وعندهم، فمن قال لا يورث قال ما يخلفه لسيده الذي يملك نصفه، ومن قال يورث
على ما اخترناه قال يورث كما لو كان كله معتقا، فإن لم يكن له وارث مناسب فلمولاه
الذي أعتق نصفه، فإن لم يكن فلبيت المال، وقال بعضهم ما خلف لبيت المال والأول
أصح عندنا.
إذا كان العبد بين ثلاثة: لواحد النصف، ولآخر الثلث، وللآخر السدس،
فأعتق صاحب النصف وصاحب السدس ملكهما معا في زمان واحد أو وكلا وكيلا
فأعتق ملكهما معا سرى إلى نصيب شريكهما ويكون عليهما قيمة الثلث بينهما نصفين
وإن اختلف ملك المعتقين، لما روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال من أعتق شركا له
في عبد وكان له مال بلغ ثمن العبد قوم قيمة العدل فأعطى شركاءه حصصهم، وعتق
العبد، فعلق الضمان بأن أعتق شركا له من عبد وقد اشتركا في هذا المعنى، فكانا سواء
في الضمان.
إذا أعتق شركا له من عبد وهو موسر قوم عليه نصيب شريكه، واعتبار القيمة
حين العتق سواء قيل بنفس اللفظ أو بشرطين، أو مراعى، ثم ينظر فإن اتفقا على القيمة
فلا كلام، وإن اختلفا فإن كان العبد حاضرا عقيب العتق فلا نزاع، لأن قيمته تعرف
56

في الحال.
فأما إذا غاب أو مات أو مضت مدة بين العتق والاختلاف يتغير قيمته فيها،
قال قوم: القول قول المعتق، وقال آخرون القول قول الشريك.
فمن قال يعتق باللفظ قال القول قول المعتق، لأنه غارم ومن قال بشرطين أو قال
مراعى قال القول قول الشريك لأن ملكه ينتزع عنه بعوض كالشفعة إذا اختلفا في قدر
الثمن كان القول قول المشتري لأن الشفيع ينتزع الملك بعوض.
إذا اختلف المعتق والشريك فقال الشريك كان صانعا خبازا أو خياطا أو كاتبا
يريد زيادة قيمته فأنكر المعتق فالقول قول المعتق، فإن الأصل أن لا صنعة، والشريك
يدعيها، وهذا هو الأقوى عندي، وقال قوم على قولين.
هذا إذا كان ميتا أو غايبا فأما إن كان حاضرا نظرت، فإن لم يكن بين العتق
والاختلاف مدة يتعلم الصنعة فيها، فالقول قول الشريك أنه صانع بغير يمين، لأنه يقطع
أنه كان صانعا حين العتق، فإن كان بينهما مدة يتعلم الصنعة في مثلها، فالقول
قول المعتق عندنا، لما مضى، وعندهم على قولين.
إذا اختلفا فيما ينقص به القيمة فقال المعتق كان معيبا آبقا أو سارقا وأنكر
الشريك ذلك، فالقول قول الشريك عندنا، ومنهم من قال على قولين، فإنما قلنا
بالأول لأن الأصل عدم العيب، والمعتق يدعي حدوثه.
العتق في المرض المخوف يعتبر عند أصحابنا من الأصل، وعند الباقين من الثلث
وهو مذهب المخالفين، فإذا ثبت ذلك وأعتق شقصا من عبد نظرت، فإن كان وفق الثلث
نفذ فيه وحده، ولم يقوم عليه نصيب شريكه، وإن كان الشقص أقل من الثلث قوم
عليه تمام الثلث وإن استغرق جميع ثلثه، فأما إذا اعتبرناه من أصل المال فحكمه حكم أن
لو كان صحيحا وقد مضى.
إذا أوصى بعتق شقص له من عبد ثم مات، أعتق عنه ذلك الشقص، ولم يقوم
عليه نصيب شريكه، وإن كان غنيا، لأن ملكه زال عن ماله بالموت، إلا العقد الذي
أثبتناه.
57

إذا أعتق مماليكه في مرضه فلا فصل بين أن يكون ثلاثة أو ستة أو عشرة أو أكثر
من ذلك، فإذا أعتقهم في مرضه المخوف نظرت، فإن كانوا يخرجون من الثلث عتقوا
كلهم فإن لم يكن له مال سواهم جزأهم ثلاثة أجزاء إن كانت القيمة متساوية، وإن
اختلفت القيمة ضممنا قليل القيمة إلى كثيرها، وجعلناهم ثلاثة أجزاء، وأقرع
بينهم.
فإن كان الثلث اثنين أعتقا وأرقنا أربعة وتصح المسألة بأربع شرائط أن يكون
في مرضه المخوف ومات منه، وأن لا يكون له مال سواهم، وأن يكون العتق دفعة
واحدة، وأن لا يموت بعض العبيد قبل وفاة المعتق، فإن اختل واحد من ذلك لم تصح
المسألة.
فإن كان في مرض غير مخوف ثم صار مخوفا ومات عتق الكل وإن كان في
مرض مخوف ثم برئ عتقوا كلهم. وتكون العبيد كلهم ماله، فإن كان ماله أكثر، و
خرجوا من الثلث عتقوا أجمعين، ويكون العتق في صفقة واحدة، فإن كان واحد بعد واحد
عتق الأول بعد الأول.
هذا إذا لم يمت بعضهم قبل وفاة الموصي، فإذا مات قبل وفاته أقرع بين الحي
والميت عندنا، وقال بعضهم يعتق عن كل واحد منهم ثلثه ويستسعى كل واحد في
ثلثي قيمته ليؤدي ويعتق، والكلام في ثلاثة فصول في الاستسعاء عندنا أقرع وعندهم
يستسعى وقد مضى الكلام في الإقراع وكيفيته، وجملته أنه إذا أعتق مماليك يقرع له
من مرضه ولا مال له سواهم، ففيها ستة أقسام:
أحدها إذا كانوا على صفة يمكن تعديلهم أثلاثا بالقيمة والعدل معا، وهو
إذا كانوا ستة قيمة كل واحد ألف فيكون كل العبدين ثلث ماله، فإنا نجزأهم ثلاثة
أجزاء عند كل عبدين جزء فيقرع بينهم بأن يكتب الرقاع وتساهم على ما بيناه في
باب القسمة، ويمكن اخراج الأسماء على الرق والحرية والرق والحرية على
الأسماء.
فإن أردت أن تخرج الأسماء على الرق والحرية كتبت في كل رقعة اسم اثنين
58

فيكون ثلاثة رقاع يقول أخرج رقعة على الحرية فإذا أخرجها قضيت بعتق من اسمه
فيها، ورق الباقون، وقد اكتفيت باخراج الرقعة دفعة واحدة.
فإن قلت أخرج رقعة على الرق، فإذا أخرجها قضيت برق من اسمه فيها، ولا
بد من اخراج أخرى، فيقول أخرج أخرى على الرق، فإذا خرج رق من فيها و
عتق الآخر، فمتى أخرج القرعة على الحرية أجزأه دفعة، ومتى أخرجها على الرق
فلا بد من مرتين.
القسم الثاني أمكن تعديلهم بالعدد والقيمة لكن اختلفت قيمتهم اختلافا لا يمنع
من ذلك، مثل أن كانوا ستة قيمة اثنين ألفان، وقيمة اثنين أربعة آلاف، وقيمة اثنين
ستة آلاف، فتكون التركة اثني عشر ألفا، ويمكن أن يجعل كل عبدين ثلث التركة
بالقيمة، وهو أن يضم من قيمته ألف إلى من قيمته ثلاثة آلاف فيصير كل عبدين بأربعة
آلاف ويقرع بينهم على ما قلناه.
الثالث ما يمكن التعديل بالعدد دون القيمة، أو بالقيمة دون العدد، مثل أن
كانوا ستة قيمة عبد ألف وقيمة عبدين ألف، وقيمة ثلاثة ألف، فإذا اعتبرت القيمة
كانت التركة أثلاثا لكن العدد يختلف، ومتى اعتبرت العدد وجعلت كل عبدين سهما
صح لكن اختلفت القيمة، وما الذي يصنع به؟
قال قوم يعتبر القيمة ويترك العدد، كما أن قيمة الدار إذا لم تمكن بالمساحة
والأجزاء عدلت بالقيمة وقال آخرون اعتبر العدد وترك القيمة فيضم إلى كل من
قيمته ألف واحدا من الثلاثة الذين قيمتهم ألف فيكون عبدان بأكثر من ألف، وعبدان
بأقل من ألف [وعبدان بألف] ظ لأن النبي صلى الله عليه وآله جعل كل عبدين جزءا.
والأول أصح عندنا وإنما اعتبر النبي صلى الله عليه وآله العدد لتساوي القيمة، فعلى
هذا يقرع بينهم على ما مضى.
وعلى قول من قال اعتبر العدد يقرع، فإن خرج قرعة الحرية على اللذين قيمتهما
ألف عتقا ورق الباقون، وإن خرجت قرعة الحرية على اللذين قيمتهما أكثر من ألف
لم يكن عتقهما معا فتعيد القرعة بينهما، فإن خرجت الحرية لمن قيمته ألف عتق ورق
59

الآخر والباقون، وإن خرجت الحرية على من قيمته أقل من ألف عتق، وعتق من
الذي قيمته ألف تمام الثلث ورق بقيته، والباقون.
وأما إن خرجت الحرية على اللذين قيمتهما أقل من ألف عتقا ثم يخرج
القرعة بين الباقين حتى يستوفى الثلث.
القسم الرابع أن يمكن التعديل بالقيمة دون العدد مثل أن كانوا خمسة قيمة
عبد ألف، وقيمة آخرين ألف، وقيمة الآخرين ألف، فالتعديل ههنا بالقيمة، ومن
خالف في الأولى وافق ههنا، لأن التعديل بالعدد لا يمكن، فلا بد من اعتبار
القيمة.
الخامس إذا لم يمكن التعديل لا بالقيمة ولا بالعدد، مثل أن كانوا خمسة قيمة
واحد أربعة ألف، وقيمة اثنين ألفان، وقيمة اثنين ألف قيل فيهما قولان أحدهما لا
يراعى قيمة ولا عدد، لكن يكتب اسم كل واحد في رقعة ويخرج على الرق والحرية
حتى يستوفى الثلث، لأنه إذا لم يمكن واحد منهما استوفينا الثلث على ما يمكن
والقول الثاني يجعل الاثنين سهما والاثنين سهما والخامس سهما لأنه أقرب إلى ما
فعله النبي صلى الله عليه وآله من التعديل بالعدد وسهم بينهم حتى يستوفي من الثلث على ما فصلناه
والقولان معا قريبان.
السادس أن يكون كل ماله عبدين، فإنا نقرع بينهما، فإن خرجت قرعة
الحرية على أحدهما نظرت في قيمته، فإن كانت وفق الثلث عتق ورق الآخر، وإن
كانت أقل من الثلث عتق كله وتمام الثلث من الآخر، وإن كانت أكثر من الثلث عتق
منه بقدر الثلث ورق باقيه وكل الآخر.
إذا أعتق ستة مملوكين له في مرضه المخوف فمات منه، وكان عليه دين لم يخل
من أحد أمرين إما أن يكون ظاهرا أو غير ظاهر فإن كان الدين ظاهرا معروفا لم يخل
من أحد أمرين إما أن يحيط الدين بها أو ببعضها.
فإن كان يحيط بكل التركة فالعتق باطل، لأن العتق وصية يعتبر من الثلث.
والدين مقدم عليها وإن كان الدين محيطا ببعضها نظرت فإن كان نصف التركة أقرعنا
60

بين التركة والدين، فتكتب رقعتين تركة ودين، فإذا خرجت قرعة الدين أفردناه
للدين، فلو كان الدين ثلث التركة كتبنا ثلاث رقاع: رقعة دين، وفي رقعتين تركة،
فإن كان الدين ربع التركة كتبنا أربع رقاع في رقعة دين، وفي ثلاث تركة ويقرع
فنفرد الذي لأجل الدين فيقبض الدين منه، ويكون ما بقي بعد الدين وراثة كل
التركة فيعتق في الباقي قدر الثلث على ما فصلناه إذا لم يكن عليه دين وقد مضى.
وإنما أقرعنا لأن التركة قد تعلق بها ثلاثة حقوق الدين والعتق وحق الورثة
ولو كان العتق وحده متعلقا بالتركة أقرعنا لنميزه عليها.
هذا إذا كان الدين ظاهرا فأما إن كان الدين خفيا فلم يعلم به أحد أقرع بينهم
الحاكم، فأعتق اثنين وأرث أربعة للوارث، فإنه يمكن أن يتصرف الوارث بالقسمة
قبل ظهور الدين، ولو كان الدين ظاهرا لم يمكن ذلك للعلم بالدين.
فإذا ثبت هذا لم يخل الدين من أحد أمرين إما أن يحيط بكل التركة أو
ببعضها، فإن أحاط بكلها بان فساد القسمة، وبطلان القرعة لأن الدين مقدم على
الوصية.
فإن قال الوارث ههنا أنا أمضي ما صنع أبي وما صنعت أنا من القسمة والقرعة
وأقضي الدين من غير التركة، قال قوم لا يصح هذا حتى يكون بعد قضاء الدين،
لأن كل ما وقع فاسدا لم يصح حتى يبتدأ بما يصح، كالراهن إذا أعتق العبد المرهون
قيل لا ينفذ عتقه، وقال آخرون ينفذ وهو الأقوى عندي لأن المنع لأجل الدين وقد
زال المنع، والحكم إذا تعلق بعلة زال بزوالها كالرجل إذا مات وخلف تركة فتصرف
وراثه فيها ثم بان أن الدين كان متعلقا بها هل ينفذ تصرفه على وجهين أحدهما يصح
فعلى هذا ينفذ عتقه، والثاني لا يصح ولا ينفذ عتقه.
وإن كان محيطا ببعضها ففي القرعة والقسمة قولان أحدهما باطل، لأنهم
أقرعوا وأخلوا بحق الثالث فبطلت، كأخوين اقتسما تركة ثم بان آخر، فإن القسمة
تبطل، فعلى هذا يكون الحكم كما لو كان الدين ظاهرا معروفا محيطا بالتركة.
والوجه الثاني يبطل منها بقدر الدين لأن المانع هو الدين، فكان الباطل
61

بقدر قيمة الدين.
فعلى هذا يقال للوارث: الدين محيط بنصف التركة، وفي أيديكم أربعة
أعبد، النصف منهم مشاعا للدين، فيكون الوارث بالخيار بين أن يقضي الدين
من العبيد أو غيرهم وأما الحران فيقال نصفكما حر ونصفكما رق الدين، ولا يمكن
أن يعتق من كل واحد منهما بعضه، لأنا لا نبعض الحرية، فيقرع بينهما فمن خرجت
عليه قرعة الحرية نظرت فإن كانت قيمته ثلث التركة بعد الدين عتق كله، وإن كانت
أقل من الثلث عتق كله، وكملنا بالثلث من الباقي، وإن كانت قيمته أكثر من الثلث
عتق منه بقدر الثلث ورق باقيه وكل الآخر.
إذا أعتق مملوكين له في مرضه ولا مال له في الظاهر غيرهم وأقرعنا بينهم
فأعتقنا اثنين وأرققنا أربعة ثم ظهر له مال سواهم، لم يخل من أحد أمرين إما أن
يبين أنهم يخرجون من الثلث أو لا يخرجون منه.
فإن بان أنهم يخرجون من الثلث، مثل أن كان قيمتهم ستة آلاف، فظهرت
ستة آلاف وكانت التركة اثني عشر ألفا، وقد أعتقنا اثنين، فقد بان أنا نحتاج أن
نعتق آخرين ليكون ثلث التركة فنقول قد أعتقنا عبدين فنقرع بين الأربعة الباقية تركة
وحرية.
فإذا أقرعنا فخرجت قرعة الحرية على الاثنين عتقا مع الأولين، ونكون قد
استوفينا ثلث التركة.
من حكمنا بحريته منهم فإن كسبه له دون سيده من حين لفظ الإعتاق لأن
العتق ينجز حين الإعتاق، فكان كسبه بعد ذاك لنفسه، وإنما قلنا ينجز عتقه
بالإعتاق، لأن المريض في ثلث ماله كالصحيح في كل ماله، وكما نفذ عتق الصحيح في كل
ماله حين العتق، كذلك المريض في ثلثه.
هذا الكلام في كسبه وكذلك تصرفه بين عقود وغيرها نافذة كما ينفذ تصرف
الحر المطلق.
فإن أوصى بعتق عبد يخرج من الثلث ثم مات كان على الوارث أن يعتقه
62

كما لو أوصى بتفرقة ثلثه، فإن فعل الوارث ذلك وإلا أعتقه السلطان، لأنه حق لله
تعلق بماله، فإذا أعتقه السلطان أو الوارث كان حرا من حين الإعتاق لا حين الوفاة.
فإن كان له كسب فكل ما كسبه قبل وفاة الموصي فهو للموصى في حياته، ولورثته
بعد وفاته، وكل ما اكتسبه بعد الوفاة وبعد العتق فهو له، لأنه حر اكتسب مالا، و
كل ما اكتسبه بعد الوفاة وقبل العتق فهو له أيضا لأنه مال اكتسبه بعد استقرار سبب
العتق بالوفاة، وكان أحق به.
فإذا ثبت أنه يرجع إليه فإنما يملكه بعد العتق لأنه قبل العتق رقيق لا يملك
وإنما كان أحق به لما مضى، وأما تصرفه قبل العتق فيما يتعلق بعياله ونحو ذلك،
فإن حكمه حكم العبيد لأنه رقيق.
63

(فصل)
* (في اعتبار قيمة من أعتقه قبل وفاته ومن أوصى بعتقه ووقت) *
* (اعتبار قيمة التركة على الورثة) *
أما قيمة من أعتقه في مرضه فالاعتبار بها حين الإعتاق، لأنه وقت إتلافه، فأما
من أوصى بعتقه فإنه يعتبر قيمته حين الوفاة، لأنه وقت استحقاق العتق، وأما قيمة
التركة فأقل ما كانت من حين الوفاة إلى حين القبض، لأن الوارث ملك التركة بالوفاة
فما زاد فيها فهو زيادة ماله وفائدة ملكه، فلا يقوم عليه، وإن نقص منها شئ فهو تلف
قبل القبض، فلا يعتبر عليه تلف ما لم يحصل في يده، كما لا يحتسب عليه العبد الآبق
والجمل الشارد والمغصوب، لأنه لا نفع له فيه.
فإذا تقرر وقت اعتبار القيمة في الفصول الثلاثة عندنا أن التفريع عليها فإذا أعتق
عبدا في حال مرضه وأوصى بعتق عبد آخر لم يخل من أحد أمرين إما أن يعينهما أو
يبهم، فإن عين العبدين، اعتبرنا قيمة من أعتقه حين الإعتاق، واعتبرنا قيمة من أوصى
بعتقه عقيب الوفاة، واعتبرنا قيمة التركة أقل ما كانت من حين الوفاة إلى حين القبض.
فإذا عرف هذا نظرت فإن خرج العبدان من الثلث عتق من أعتقه مباشرا فأعتقنا
من أوصى بعتقه، وبقية التركة للوارث، وإن خرج أحدهما من الثلث أعتقنا من
أعتقه في حال مرضه دون الذي أوصى بعتقه، لأنها عطية منجزة، وهذه مؤخرة.
ثم ينظر في الذي أعتقه، فإن كان وفق الثلث فلا كلام، وإن كان أقل من الثلث
عتق كله، وعتق من الثاني بقية الثلث، فإن كان أكثر من الثلث عتق منه بقدر الثلث
ورق باقية وكل الثاني.
هذا إذا عين من أعتقه ومن أوصى بعتقه، فأما إن أبهم ذلك فقال: عبد من
عبيدي حر وأعتقوا بعد وفاتي عبدا من عبيدي، فهاهنا لا يمكن اعتبار القيمة قبل الإقراع
لأنك لا تعرف من أعتقه في حياته، ولا من أوصى بعتقه بعد وفاته، فتقوم التركة كلها
64

في الحال ثلثها للعتق وثلثين تركة، فإذا تعين الثلث الذي فيه العتق أقرعت بعد هذا
لتعلم من أعتقه ومن أوصى بعتقه؟
فإذا كان كذلك ألغيت التقويم، وعدت إلى اعتبار قيمة من أعتقه في حال حياته
حين الإعتاق، ومن أوصى بعتقه حين الوفاة؟ فإذا عرف هذا كان ذلك بمنزلة أن لو كان
في الأصل معتقين، إن خرجا من الثلث عتقا، وإلا فعلى ما مضى.
فإن أعتق ثلاث إماء في مرضه ولا مال له غيرهن، أقرعنا بينهن فمن خرجت
قرعة الحرية لها عتقت ورقت الآخرتان، فإذا حكمت بعتقها وكان ههنا حمل نظرت
فإن كان حملت به بعد الإعتاق فهو حر الأصل لا ولاء عليه لأنه حملت به وهي حرة
فإن كانت حاملا حين الإعتاق عتقت، وعتق حملها تبعا لها وكان عليه الولاء، لأنه قد
مسه دم.
إذا أعتق ثلاثة مملوكين له في مرضه لا مال له غيرهم نظرت، فإن عاشوا حتى مات
المعتق أقرعنا بينهم على ما مضى، فإن مات واحد منهم أقرعنا أيضا بين الميت والأحياء
ثم لا يخلوا من ثلاثة أحوال إما أن يموت قبل وفاة المعتق أو بعد وفاته وقبل قبض
الوارث.
فإن مات قبل الوفاة نظرت فإن خرجت قرعة الحرية على أحد الحيين حكمنا
فأن الميت مات رقيقا وأنه هلك من التركة، فكأنه ما كان له إلا هذان العبدان،
فإذا كان القرعة على أحدهما نظرت، فإن كان وفق الثلث عتق ورق الآخر، وإن
كان أقل من الثلث عتق كله، وتمام الثلث من الآخر، وإن كان له أكثر من الثلث
عتق منه قدر الثلث، ورق باقيه وكل الآخر.
وجملته أنه بمنزلة من لم يكن له إلا هذان العبدان.
فأما إن مات بعد وفاة المعتق وبعد قبض الوارث نظرت، فإن خرجت قرعة الحرية
على أحد الحيين حكمنا بأن الميت مات رقيقا من مال الوارث، لا من التركة، لأنه
حصل في قبضته وتصير قيمة الميت أقل الأمرين من حين الوفاة إلى حين القبض.
فإذا عرفت هذا اعتبرت من عتق من ثلث جميع التركة فالميت من التركة لما مضى
65

فإن كان من خرجت قرعة الحرية عليه من الميت أو أحد الحيين قدر الثلث عتق كله
ورق الآخران، وإن كانت قيمته أقل من الثلث عتق كله واستوفينا الثلث من الآخرين
وإن كانت قيمته أكثر من الثلث عتق منه قدر الثلث، ورق باقيه وكل الآخرين،
فجعل الميت منهم بمنزلة الحي لأنه مات بعد قبض الوارث وتفارق إذا مات قبل القبض
لأنه من أصل التركة، وكانت التركة ما عدا الميت.
إذا تصرف المريض في مرضه بالعطايا فقد بينا في كتاب الوصايا، وذكرنا اختلاف
أصحابنا في المنجزة منها فإذا ثبت ذلك فالعطايا ضربان إما أن تكون جنسا واحدا أو
أجناسا.
فإن كان الجنس واحدا لم يخل من أحد أمرين، إما أن يكون منجزة أو مؤخرة
فإن كانت منجزة مثل أن أعتق ثم أعتق أو وهب وأقبض [ثم وهب وأقبض] ظ أو باع
وحابا ثم باع وحابا ونحو هذا فالكل من أصل المال عند بعض أصحابنا وعند الباقين
من الثلث، فإذا اعتبرناه من الثلث، لزم الأول فالأول، لأن المنجزة لازمة في حقه
بكل حال، ولازمة في حق الوارث من الثلث فإذا كان الأول يخرج من الثلث وحده
عتق ورق الباقون فإن كان أقل من الثلث عتق الذي بعده، وإن احتمل الثلث من
ذلك عتق تمام الثلث واحدا بعد واحد أبدا.
وأما إن كانت العطايا مؤخرة أو أوصى بذلك مثل أن أوصى بعتق سالم ثم غانم
أو أوصى بهبة ثم بهبة أو محاباة ثم محاباة فلا يراعى حال الإيصاء، وإنما يراعى حال
الوفاة فإن احتمل ذلك الثلث نفذ كله.
وإن لم يحتمل فعندنا ينفذ الأول فالأول، وبطل الآخر مثل المنجزة سواء
وعند المخالف الكل بالسوية في العتق يقرع بينهم قالوا وإنما اعتبرنا حال الوفاة
لأن حال الوفاة حين الاستحقاق، فلهذا كانوا بالسوية.
هذا إذا كان التصرف جنسا واحدا فأما إذا كانت أجناسا عتقا وهبة ومحاباة لم
يخل من أحد أمرين إما أن تكون منجزة أو مؤخرة، فإن كانت منجزة قدمنا الأول
فالأول مثل الأولى سواء، وقال بعضهم إن كانت فيها محاباة قدمت على غيرها سواء
66

تقدمت أو تأخرت.
وأما إن كانت مؤخرة مثل أن أوصى بكل هذا نظرت، فإن لم يكن فيها عتق
قالوا الكل بالسوية، وإن كان فيها عتق قال بعضهم قدم العتق على غيره وهكذا رواه
أصحابنا، وقال آخرون هو وغيره سواء لأن وقت الاستحقاق واحد.
إذا كان له عبيد فأعتق واحدا منهم نظرت، فإن أبهم فقال عبد من عبيدي حر،
كان عليه أن يعين واحدا منهم وهو إلى إيثاره واختياره،
فإن عينه في واحد منهم عتق ورق الآخر.
فإن عينه في واحد منهم ثم قال لا بل عينته في هذا الآخر، تعين في الأول دون
الثاني، لأن الذي كان عليه تعيين العتق في واحد وقد فعل فلم يبق وتعين عينه فإن لم يعينه
حتى مات قال بعضهم: قام وارثه مقامه في التعيين، ومنهم من قال لا يقوم، وهو
الصحيح عندنا، ويقرع بينهم، لأنه لا يهتدي إلى غرضه.
فأما إن أعتق واحدا منهم فقال أنت حر ثم أشكل عليه في الذي باشره العتق
قلنا له تذكره وانظر فيمن أعتقته منهم، وليس لك أن تعرض بالعتق فيمن ثبت، لأن
العتق قد وقع على معين، ثم اشتبه، فعليك أن تتركه لعلك تذكره.
فإن ذكره وقال هذا هو المعتق، حكمنا بعتقه، ورق الباقون، فإن ادعى عليه
عبد غير هذا أنه هو الذي باشره بالعتق، فالقول قول المعتق، فإن حلف برئ، وإن نكل
حلف العبد وأعتق.
وأما إن قال أعتقت هذا لا بل هذا، أعتق الثاني والأول معا، لأنه
قد أقر بعتق الأول، ورجع عنه، فلا يقبل رجوعه، ثم أقر أن الذي أعتقه هو الثاني
فلزمه إقراره، فلهذا عتقا معا، فإن لم يذكر ذلك لم يجز الإقراع ها هنا، لأنه ربما
تذكر فعرفه بعينه.
فإن مات قبل أن يبينه فإن عرف الوارث عينه قبل قوله فيه، لأنه قد يعرفه
بأن شاهد عتقه أو تقوم البينة عنده، فإن كان عند الوارث علم به فالحكم فيه كالحكم
في المعتق حرفا بحرف، فإن لم يكن عند الوارث علم بذلك أقرع بينهم لأنه لا مزية
67

لبعضهم على بعض عندنا، وقال بعضهم لا يقرع، لأنه يفضي إلى استرقاق الحر، و
إعتاق العبد، بل يوقف حتى ينكشف.
(فصل)
* (فيمن يعتق على من يملكه) *
عندنا أن هذا الحكم يجري مع العمودين الآباء وإن علوا، والأمهات وإن
علون، والمولودين ولد البنين والبنات، وإن سفلوا، سواء كانوا من جهة النسب أو
الرضاع، وكذلك يتعلق بكل من يحرم عليه العقد عليهن بالنسب والرضاع
مثل الأخت وبنتها، وبنت الأخ والعمة والخالة، وقال بعضهم لا يتعلق بغير هذين
العمودين، وفيه خلاف.
وكلما قلنا إذا ملكه عتق عليه بالملك، فإذا ملك بعضه عتق ذلك البعض عليه
لأن المعنى الذي يقتضي عتق الكل اقتضى عتق البعض.
فإذا ثبت أنه يعتق عليه فهل يقوم عليه ما بقي أم لا؟ نظرت، فإن كان معسرا لم
يقوم عليه كما لو باشر عتقه، وإن كان موسرا لم يخل من أحد أمرين، إما أن يكون
ملكه باختياره أو بغير اختياره:
فإن كان ملكه باختياره قوم عليه نصيب شريكه، لأن تمليكه مع العلم بأنه
يعتق عليه بمنزلة مباشرته بالعتق، وسواء ملكه بعوض كالشراء والصلح أو بغير عوض
كالهبة والوصية قومناه على شريكه إزالة الضرر.
فأما إن ملكه بغير اختياره مثل أن ورث بعضه، فإنه لا يقوم عليه باقيه، لأن
القدر الذي عتق عليه لم يعتق عن الميت فإنا نعتبر عتقه بعد وفاته، ولا يقوم على الوارث
ما بقي من الرق، لأنه لا صنع له في عتق ما قد عتق منه.
فإذا أوصى لمن يولى عليه ممن إذا ملكه عتق عليه مثل الصبي والمجنون فوصى
لواحد منهما بأحد آبائه أو أوصى للمجنون بواحد من أولاده، وله ولى كالأب والجد
68

والحاكم والأمين والوصي، فعلى وليه أن يقبل ذلك أم لا؟ لا يخلوا من أحد أمرين:
إما أن يوصى له بكله أو ببعضه، فإن أوصى له بكله نظرت، فإن كان المولى
عليه موسرا فالقبول مبني على النفقة: فإن كان أبوه زمنا كانت نفقته على ولده، وإن
كان صحيحا ولا يكون أبدا إلا فقيرا لأنه مملوك نظرت فإن كان مكتسبا لم يجب نفقته
وإن كان صحيحا غير مكتسب فعلى قولين عندنا [يجب، وعند قوم لا يجب: فكل
موضع قلنا لا يجب نفقته على ولده كما إذا كان المولى عليه معسرا فعلى وليه أن يقبله
له لأن] (1) له به جمالا، وربما كان له به منفعة ولا ضرر عليه، وكل موضع قلنا
يجب نفقته على ولده فليس على وليه أن يقبله له، لأن عليه فيه ضررا وهو إيجاب
النفقة عليه.
هذا إذا أوصى له بكله فإن أوصى له ببعضه فإن كان المولى عليه معسرا كان على وليه
القبول، لأن للمولى عليه جمالا بلا مؤنة، ولا يقوم عليه. وإن كان موسرا فهل على
وليه أن يقبله؟ مبني على النفقة:
فكل موضع قلنا يجب نفقته على ولده، لم يكن لوليه أن يقبله وكل موضع
قلنا لا يجب فهل على وليه أن يقبله قيل فيه قولان أحدهما ليس عليه أن يقبله، لأن
فيه مضرة، وهو أن يقوم عليه نصيب شريكه، وقال آخرون عليه أن يقبله، ولا يقوم
عليه نصيب شريكه، لأنه ملكه إرثا.
وتحقيق القولين هل يقوم عليه نصيب شريكه أم لا؟ وهو على قولين أحدهما
يقوم عليه، فعلى هذا لا يقبله، والثاني لا يقوم عليه فعليه قبوله، ولا ضرر عليه
وهذا أقوى عندي.

(1) ما بين العلامتين ساقط من النسخ أضفناه بالقرينة.
69

{فصل}
* (في الولاء) *
الأصل في ثبوت الولاء بالعتق والإرث به قد مضى في الفرايض، وروي عن النبي
صلى الله عليه وآله أنه نهى عن بيع الولاء، وهذا أقوى عن هبته.
وروي عنه عليه السلام أنه قال الولاء لحمة كلحمة النسب، لا يباع ولا يوهب. وروي
عن عائشة أن بريرة أتتها تستعينها في مال الكتابة، فقالت إن باعوك على أن الولاء
في صببت لهم المال صبا فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم، فأخبرت بذلك النبي صلى الله عليه وآله
فقال: اشتري واشترطي لهم الولاء، ففعلت فصعد النبي صلى الله عليه وآله المنبر فخطب فقال ما بال
أقوام يشترطون شروطا ليس في كتاب الله، كل شرط ليس في كتاب الله باطل، كتاب
الله حق وشرطه أوثق، الولاء لمن أعتق.
إذا أسلم الرجل على يدي رجل فلا ولاء عليه، وأيهما مات لم يرثه الآخر بذلك
إجماعا إلا إسحاق، فإنه قال تثبت له عليه الولاء ويرثه به.
إذا تعاقد الرجلان على التعاضد، ويقول عاقدتك على أن تنصرني وأنصرك، و
تدفع عني وأدفع عنك، وتعقل عني وأعقل عنك، وترثني وأرثك، فإذا فعلا لم
يتعلق بهذا حكم عند بعضهم.
وعندنا إن كان له وارث لم يتعلق به حكم قريبا كان أو بعيدا، وإن لم يكن له
وارث وشرط أن يعقل كل واحد منهما عن صاحبه دون غيره، ثبت بينهما ولاء، وورث
كل واحد منهما عن صاحبه بحكم الولاء.
إذا التقط له لقيطا لم تثبت له عليه الولاء بالالتقاط إجماعا إلا عمر بن الخطاب
فإنه قال يثبت عليه الولاء.
إذا أعتق المسلم عبدا كافرا عتق وثبت له عليه الولاء، ويرثه به في حال كفره،
وعندهم لا يرث وإن أسلم ورثه بلا خلاف فأما إن أعتق الكافر عبدا مسلما يثبت له عليه
70

الولاء، فإن أسلم الكافر فعلى مذهبنا ورثه.
إذا أعتق عبده سائبة ومعناه عتقا لا ولاء لي عليك، فعندنا وعند بعضهم يكون
على ما أعتق، وقال الأكثر سقط قوله سائبة والولاء له.
إن قال لعبده أنت سائبة عندنا لا يكون شيئا، وعند بعضهم يكون كناية في العتق
لقوله لا سبيل لي عليك، فإن نوى العتق عتق، وإن لم يكن له نية لم يتعلق به حكم
وعندنا لا يقع العتق إلا بقوله أنت معتق أو حر، ويقصد ذلك، فأما بغيره فلا يقع به
عتق وإن قصد، وفيه خلاف مضى في كتاب الطلاق.
إذا ملك من يعتق عليه بعوض أو بغير عوض عتق عليه وكان ولاؤه له لعموم الخبر
فأما المكاتب إذا عتق بالأداء أو اشترى العبد نفسه من مولاه وعتق لم يثبت عليه الولاء
عندنا، إلا أن يشترط عليه وعندهم يثبت وأما المدبر فإنه يثبت عليه الولاء بلا خلاف
وكذلك أم الولد.
إذا أعتق عبد نفسه عن الغير لم يخل من أحد أمرين إما أن يكون في حال حياته
أو بعد وفاته فإن كان في حال حياته فإن كان بإذن الغير وقع العتق عن الآذن والولاء
له أيضا، كان بعوض أو بغير عوض، وقال بعضهم إن كان بجعل كما قلنا، فإن كان بغير
جعل كان العتق عن من باشر العتق دون الآذن وقد مضت في الظهار.
فأما إن أعتق عنه بغير أمره فالعتق عن الذي باشره دون المعتق عنه، وقال بعضهم
عن المعتق عنه وهو قوي، والأول أقوى لقوله عليه السلام الولاء لمن أعتق.
فأما إن كان بعد وفاته نظرت، فإن كان بإذنه وقع عن الآذن، وإن كان بغير
إذنه فإن كان تطوعا وقع عن المعتق وإن كان عن كفارة فعندنا يكون سائبة لا ولاء
لأحد عليه، وعندهم يقع عن المعتق عنه.
فأما ثبوت الميراث بالولاء بعد النسب فإن الجد في الولاء مع الأخوة بمنزلة
وإن النساء لا يرثن بالولاء إلا من أعتقن أو أعتق من أعتقن فكل ذلك مضى في الفرائض
والخلاف فيه، وأما المعتق بصفة فعندنا لا يصح على وجه، وعندهم يصح.
71

(كتاب المكاتب)
الكتابة مشتقة من الكتب فالكتب هو الضم والجمع، يقال كتبت البغلة إذا
ضممت أحد شفريها بحلقة أو سير، ويقال كتبت القربة إذا ضممت فاها بعضه إلى بعض
لتوكي عليه، ومنه قيل للجيش والناس المجتمعين كتيبة، وكذلك الكتابة اشتقاقها
من هذا لأنه ضم أجل إلى أجل، وعقد المعاوضة على ذلك.
فإذا ثبت ذلك فدليل جوازها قوله تعالى (والذين يبتغون الكتاب مما ملكت
أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا) (1) فأمر بالكتابة، وروي عن النبي صلى عليه وآله أنه
قال: المكاتب عبد ما بقي عليه من مكاتبته درهم.
وروى سهل بن حنيف أن النبي صلى الله عليه وآله قال: من أعان عاتقا أو غازيا أو مكاتبا
في كتابته أظله الله يوم لا ظل إلا ظله.
وروت أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله إذا كان لإحداكن مكاتب وكان
عنده ما يؤدي فليحتجب عنه.
فإذا ثبت هذا فمتى دعا العبد سيده إلى مكاتبته فالمستحب له أن يجيبه إلى ذلك
وليس بواجب، سواء دعاه إلى ذلك بقيمة مثله أو أقل أو أكثر، وذهب قوم إلى أنها
واجبة:
ولا يجوز للسيد أن يكاتب عبده حتى يكون عاقلا بالغا، فإن كان مجنونا لم
يجز مكاتبته، لقوله تعالى (فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا) والخير الكسب والأمانة
ولأنه قال (والذين يبتغون الكتاب) والمجنون لا ابتغاء له.
فإن خالف السيد وكاتب واحدا منهما لم يكن هناك عقد صحيح ولا فاسد، لأن
الفاسد إذا كان بين المتعاقدين من أهل العقد وعقداه على فساد، لأن قوله كاتبتك

(1) النور: 33.
72

إيجاب عقد، ويفتقر إلى القبول ولا قابل له، ومن أجاز العتق بصفة قال: هذا عتق
بصفة، والصفة قائمة فإن أدى ما شرط عتق، الصفة قد وجدت.
فإن فضل فضل كان لسيده أن يأخذه منه، لأن العبد قبل الأداء كان فيئا، و
ما حصل في يديه كان ملكا لسيده، فلما عتق بالصفة كان ما في يده لسيده كالعبد القن
إذا علق حريته بصفة فحصلت الصفة وليس كذلك الكتابة فإنه متى أدى مال الكتابة
وحصل فضل كان له، لأن الكتابة متى حصلت منعت أن يكون الكسب للسيد
وإنما عليه دين في ذمته فإذا أدى ما عليه عتق، فإذا ثبت أنه يأخذه منه، فإنه لا
تراجع بينهما بحال، والتراجع في الكتابة الفاسدة أن ينظر إلى قيمته وقدر الأداء
فيجمع بينهما ويتراد أن الفضل، وليس ههنا شئ من هذا.
فإذا ثبت أنهما لا يترادان فإن السيد يمسك ما قبضه منه، ولا يرد عليه شيئا
لأنه قبضه من غير مالك، وكان المقبوض ملك نفسه، فلهذا لم يرد عليه شيئا.
قد أمر الله تعالى بمكاتبة العبيد بشرط أن يعلم فيهم خيرا فقال (فكاتبوهم إن علمتم
فيهم خيرا) واختلف في الخير المراد في الآية، فقال ابن عباس هو الثقة والأمانة، و
قال آخرون هو الاكتساب فقط، وقال آخرون هو الأمانة والاكتساب وهو مذهبنا.
فإذا ثبت ذلك فإن وجد الأمران في عبد فالمستحب أن يكاتبه وإن عدم الأمران إن
كانت مكتبته مباحة غير مستحبة ولا مكروهة وقال قوم إن عدم الأمران كرهت مكاتبته
وهو قوي، وقال بعضهم إن كان أمينا غير مكتسب يستحب مكاتبته، فإن لم يكن أمينا
لم يستحب المكاتبة.
ويفارق البيع من وجوه أحدها أن الكتابة لا بد فيها من أجل والبيع لا يفتقر
إليه، ومنها أن المكاتبة يمتد فيها خيار العبد، والبيع لا يمتد فيه خيار الشرط،
ومنها أن البايع يشترط لنفسه الخيار، والسيد لا يشترطه في عقد الكتابة ويتفقان في
أن الأجل منهما لا يكون إلا معلوما ولا يصح كل واحد منهما إلا بعوض معلوم و
عندنا أن المكاتبة لا ينعقد إلا بأجل، ومتى كانت بغير أجل كانت باطلة.
إذا ثبت أن الأجل شرط فأقل ما يجزي فيه أجل واحد عندنا، وعند بعضهم
73

أجلان، ولا يكون الآجال إلا معلومة بلا خلاف والعوض معلوما.
فأما الآجال فإن كثرت وزادت فقال: كاتبتك إلى عشرة آجال كل أجل سنة
جاز، ولو كاتبه إلى أجلين هما سنتان كل أجل سنة، فلا بد أن يكونا معلومين وأن يكون انتهاء كل واحد معلوما فأما إن قال كاتبتك إلى عشر سنين فإنه يصح عندنا، و
إن كان أجلا واحدا، وعند من اعتبر الزيادة لا تصح.
فإن قال يؤدي إلى في هذه العشر سنين قالوا لا يصح لأنه أجل واحد، ولأنه
مجهول لأنه لا يعرف وقت الأداء كما لو قال بعتك بمائة تحل عليك في رجب لم يصح
لأن كل شهر (رجب) ط جعله وقت محله، وهذا غير صحيح عندنا أيضا من حيث
كان مجهولا لا من حيث كان أجلا واحدا.
فأما البدل فلا يصح حتى يكون معلوما بأحد أمرين معاينة أو صفة، والمعاينة
لا تكون ههنا فلا بد أن يكون معلوما بالصفة ثم لا يخلو من أحد أمرين إما أن يكون
من جنس الأثمان أو من غير جنسها.
فإن كانت من غير جنس الأثمان كالحبوب والأدهان والثياب والحيوان
فلا بد أن يصفها بالصفات المعتبرة في السلم، وإن كانت من جنس الأثمان فإن كان للبلد
غالب فقد انصرف الاطلاق إليه، وإن لم يكن له غالب نقد فلا بد من ضبطه ومعرفته.
فإن أطلق البدل ها هنا بطل العقد، لأن بعض النقود ليس بأولى من بعض.
وليس من شرط الآجال الاتفاق في المدة، فلو كان أحدهما إلى سنة والآخر
إلى عشر سنين على ما يقع الاتفاق عليه جاز، هكذا نجم كل أجل يصح التساوي
فيه والتفاضل على ما يتفقان عليه.
إذا كاتبه على مال معلوم وذكر الأجل والنجوم فهو كناية ولا يعتق بالأداء
عند بعضهم حتى يقول: فإذا أديت إلى هذا فأنت حر، وينوي هذا، فإن عدما أو أحدهما
لم يعتق أصلا، وقال آخرون هو صريح فيه، ولا يفتقر إلى نية ولا قول، والذي
يقتضيه مذهبنا أنه لا بد من نية ولا يحتاج إلى قول.
إذا كاتبه على خدمة شهر لا يصح حتى يتصل المدة بالعقد، فيقول من وقتي
74

هذا، فإن قال ودينار بعد الشهر، ويكون الدينار معلوما أو كان مطلقا وكان غالب
نقد البلد صح فإن كانت فيه نقود مختلفة لم يصح، حت يكون الدينار موصوفا، و
يجوز أن يكون محل الدينار عقيب الشهر.
وقال قوم لا بد من أجل معلوم بعده إما يوم أو يومان أو ما يتفقان عليه يحل
بانقضائه، والأول أقوى عندنا، لأنا قد بينا أنا لا نعتبر أجلين فعلى هذا إذا كاتبه
على ذلك فمرض المكاتب شهر الخدمة بطلت الكتابة، وكذلك إذا مرض بعضه.
إذا كاتبه على خدمة شهر عقيب هذا الشهر، ودينار عقيب شهر الخدمة، فالكتابة
باطلة كما لو آجره دابة شهرا عقيب هذا الشهر، فإن قال كاتبتك على خدمة شهر عقيب
هذا الشهر ودينار حال، كان أيضا باطلا لما مضى.
وأما إذا كاتبه على خياطة كذا وكذا ثوبا في الذمة يصفها يحل عليك العمل
حين انقضاء هذا الشهر ودينار عقيب شهر كذا وكذا، صح، لأن المنافع إذا كانت
موصوفة في الذمة صحت حالة ومؤجلة، فإذا قال كاتبتك على أن تخدمني سنة من
وقتي هذا، صح عندنا وعندهم يبطل لأنها على نجم واحد.
وإن قال على أن تخدمني من وقتي هذا ثم شهرا عقيب هذا الشهر بطل عندهم
لأنه شرط التأخير في الشهر الثاني، وهي منفعة معينة، فإن قال على أن تخدمني
شهرا وخياطة كذا وكذا ثوبا عقيب الشهر، صح عندهم وعندي أنه في الموضعين معا
يصح.
إذا اشتملت الصفقة على عقدين مختلفي الأحكام فإن اشتملت على بيع وإجارة
بأن يقول بعتك داري هذه وآجرتك هذا الأخرى شهرا من وقتي هذا جميعا بألف، فهما
عقدان أحكامهما مختلفة، لأن الإجارة لا يدخلها خيار الشرط، والبيع يدخله ذلك
فإذا فعل هذا قال قوم باطل منهما لأنهما عقد أن أحكامهما مختلفة، وقال آخرون يصح
وهو الذي يقوى عندي، لأن اختلاف الأحكام لا يمنع صحة العقد كما لو باعه سيفا
وشقصا فإنه يصح وإن كان حكمهما مختلفا فأما إن باعه دارا وآجره إياها فالعقد
باطل.
75

فأما بيع وصرف فإذا اختلف الأثمان ومع أحدهما سلعة مثل أن يقول بعتك هذا
الثوب وهذا الدرهم بدينار، فهذا بيع وصرف، عندنا يصحان، وقال بعضهم يبطل
العقدان معا.
فإن كان الجنس واحدا فقال بعتك هذا الدينار وهذا الثوب معا بدينارين عندنا
البيع صحيح وقال بعضهم باطل.
فأما بيع ونكاح بأن يقول زوجتك بنتي وبعتك دارها هذه بألف، عندنا يصح
وقال بعضهم لا يصح البيع ويصح النكاح.
فأما بيع وكتابة بأن يقول لعبده بعتك هذا العبد وكاتبتك على الفين إلى شهرين
يحل عليك انقضاء كل شهر ألف فعندنا يصح، وقال بعضهم يبطل البيع، لأن أحكامهما
مختلفة، وفي بطلان الكتابة قولان فإذا قلنا يصح فبكم يكون مكاتبا؟ فعندنا يكون
بحصته من الثمن الذي هو البدل، وقال بعضهم بكل البدل.
إذا قال لعبده كاتبتك على ألفين إلى شهرين يحل عند انقضاء كل شهر ألف، على
أنك إذا أديت الألف الأول فأنت حر، فعندنا يصحان، لأنه كتابة وبيع العبد
من نفسه بقوله (على أنك إذا أديت الألف الأول فأنت حر) وهذا يصح حالا و
مؤجلا فإذا أدى الألف الأول عتق.
وكذلك لو كاتب عبده إلى شهرين على ألفين يحل كل ألف عند انقضاء شهر
صح، فإن قال العبد بعد هذا عجل عتقي الآن على أن أؤدي كل ألف محله صح، ولو
أدى ألفا عند محله ثم قال لسيده عجل عتقي الآن حتى أؤدي الألف الآخر في
محله صح ولا فرق بين أن يبيعه من نفسه في أصل العقد وبين أن يبيعه من نفسه بعد
عقد الكتابة.
إذا كاتب ثلاثة أعبد له صفقة واحدة على نجمين إلى أجلين، وقال إذا أديتم ذلك
فأنتم أحرار، صحت الكتابة، وقال آخرون هي فاسدة.
فإذا ثبت صحة ذلك كان كل واحد منهم مكاتبا بحصة قيمته من المسمى، و
الاعتبار بالقيمة حين عقد الكتابة لأنه الوقت الذي زال ملك السيد عنه، وكان حكم
76

كل واحد كأنه أفرده بعقد الكتابة بهذا القدر من البدل، لا يتعلق حكمه بحكم غيره
فإذا ثبت هذا فأيهم أدى ما يخصه في حقه عتق، لا يتعلق عتقه بأداء غيره، وأيهم
عجز عن ذلك رق وفيه خلاف.
ومتى أدى واحد منهم ما عليه عتق، فإن فضل معه فضل كان له، ولا تراجع بينه
وبين سيده، لأن الذي وجب منها هو المسمى وقد استوفي.
ومن قال الكتابة فاسدة قال فسد البدل، وصفة العتق قائمة بحالها، لأن الكتابة
يشتمل على عقد وصفة، فإذا بطل العقد كانت الصفة بحالها، فمتى وجدت وقع العتق
غير أن للسيد إبطال هذه الصفة ورفعها بأن يقول أبطلتها ورجعت فيها، وإذا قال هذا
بطلت، فهو بالخيار بين رفعها وإقرارها، فإن اختار رفعها وإزالتها فعل، وأشهد على
نفسه به، لأنه أحوط وأقطع للخصومة منه، وأبعد من التهمة.
وإن اختار إقرارها على ما هي عليه نظرت، فإن أرادوا أجمعون ذلك عتقوا، و
جعل التراجع بين كل واحد منهم وبين سيده، فتعتبر قيمته وقدر ما أداه إلى سيده
فإن كانت القيمة والأداء سواء فلا تراجع، وإن كانت القيمة أكثر فعلى العبد لسيده تمام
قيمته.
واعتبار القيمة حين الأداء لا حين عقد الكتابة، لأنه هو الوقت الذي يزول
سلطان سيده عنه، ويفارق الكتابة الصحيحة حيث قلنا اعتبار القيمة بحال الكتابة
لأنه الوقت الذي زال سلطان السيد فيه من عبده.
هذا إذا أدوا أجمعون فأما إن أدى واحد منهم قدر حصته من الألف فهل يعتق
أم لا؟ قال بعضهم يعتق، وقال آخرون لا يعتق، وهو الأقيس عندهم، ومن وافقنا
في صحة الكتابة قال يلزمهم البدل، ويكون كل واحد منهم كفيلا عن صاحبه بما عليه
فإن أدوا وأعتقوا وإن أدى واحد منهم كل مال الكتابة عتق وعتقوا، وكان له الرجوع
على أصحابه بما أدى عنهم.
فإن أدى اثنان منهم لم يعتقا، حتى يؤدي الثالث، ولهما إجباره على الكسب
والأداء ليعتقوا بأدائه، فإن أديا عنه عتق وعتقا وكان لهما الرجوع عليه، والكلام
77

عليه يأتي.
وإذا قلنا يصح على ما تقدم، فمات واحد منهم مات عبدا قنا سواء خلف
وفاء أو لم يخلف، وقال بعضهم يؤدي عنه بعد وفاته ويعتق، وإن لم يخلف وفاء مات
رقيقا، وعندنا إن كانت الكتابة مطلقة أدى عنه ما بقي ويعتق، وإن كان مشروطا
عليه لم يؤد عنه ومات قنا.
إذا كاتب ثلاثة أعبد له صفقة واحدة، فمن قال باطل فلا تفريع، ومن قال صحيحة
على ما اخترناه فإذا أدوا إلى سيدهم مالا ثم اختلفوا فقال من قلت قيمته أدينا على
العدد، وقال من كثرت قيمته أدينا على القيمة: فالخلاف يقع في موضعين، إذا أدوا
جميع ما عليهم، وإذا أدوا أقل من ذلك.
فإذا أدوا الكل وهو ما يعتقون به، ثم اختلفوا فقال من كثرت قيمته أدينا
على القيمة، فكل واحد منا أدى ما عليه، وقال من قلت قيمته بل أدينا على العدد
وأدى كل واحد منا ثلث المال ليكون الفضل الذي أعطيناه وديعة عند سيدنا أو قرضا
عليك لنرجع به عليك.
الخلاف الثاني إذا أدوا بعض ما يعتقون كأنهم أدوا ستين من جمله المائة
التي هي قيمتهم، وقيمة واحد خمسون، وقيمة واحد خمسون، وقيمة كل واحد خمسة وعشرون، فقال من
كثرت قيمته لي منها ثلاثون وهو النصف، ولكل واحد منكما خمسة عشر، وقال
الآخران إن كل واحد منا أدى عشرين، وكان الواجب خمسة عشر فأدينا الفضل،
فقال بعضهم القول قول من كثرت قيمته، لأن الظاهر معه، لأنا إذا قبلنا قوله فقد
أدى كل واحد منهم وفق ما عليه بغير زيادة ولا نقصان، وهذا هو الظاهر، ومن قال
أديت أكثر مما على فقد ادعى خلاف الظاهر.
وقال بعضهم القول قول من قلت قيمته، وأن الأداء على العدد، لأن المال
المؤدي كانت أيديهم عليه بالسوية وكان بينهم بالسوية وهو أقوى عندي من الأول وقال قوم
القول قول من كثرت قيمته إذا كان المؤدي جميع الحق لأن العرف معه، والقول
قول من قلت قيمته إن كان المؤدي أقل من كمال الدين، فإن العرف معه، والقول
78

قوله، وهو مليح.
إذا كاتب عبدين صفقة واحدة أو كاتب كل واحد منهما بعقد مفرد ثم إن أحدهما
أدى عن رفيقه مالا من عنده لم يخل من أحد أمرين إما أن فعل أن أعتق،
أو بعد أن أعتق:
فإن كان قبل أن أعتق، لم يخل السيد فيما قبضه من أحد أمرين: إما
أن يكون عالما بما قبضه أو جاهلا، فإن كان جاهلا كان الأداء باطلا بلا خلاف، لأنه
إن كان أدى عن رفيقه من متبرعا فهو هبة وهبة المكاتب باطلة، وإن كان بإذنه فهو قرض
وقرض المكاتب باطل.
فإذا ثبت أن الأداء باطل نظرت، فإن كان على المؤدي شئ من مال الكتابة
قد حل عليه، صرف الأداء إلى نفسه، وإن لم يحل على شئ فهو بالخيار بين أن يسترده
وبين أن يفرده عند سيده قبل محل الكتابة عليه.
هذا إذا كان سيده جاهلا بذلك فأما إن كان سيده عالما بذلك مثل أن قال لسيده
حين الأداء أؤدي هذا عن رفيقي فقبل السيد ذلك وقبض، قال قوم يصح مثل هبة
المكاتب بإذن سيده شيئا من ماله، وقال آخرون لا يصح، وكذلك قالوا في الهبة، و
الأول هو الصحيح عندي.
فمن قال فاسد، قال له أن يرتجع ذلك من سيده إلا أن يكون حل شئ عليه
من مال الكتابة فيكون عن نفسه، فإن لم يرتجعه منه حتى أدى هذا المؤدي عن نفسه
ما كان عليه، قال قوم لا يرجع به على سيده ويقع صحيحا عن رفيقه، لأنه إنما
ملك أن يرجع ما دام ناقص التصرف باطل الهبة بالرق، فإذا عتق كمل وكمل تصرفه
ومنهم من قال له الرجوع فيه، لأنه وقع في الأصل فاسدا فلا يصح حتى يبدأ بما
يصح.
وإذا قيل الهبة صحيحة على ما اخترناه إذا كانت بإذن سيده، فإن كان هذا بغير
إذن رفيقه فهو هبة وهدية لرفيقه، ولا يرجع فيها، وإن كان بإذن رفيقه فهو قرض على
رفيقه له مطالبة رفيقه به على ما نذكره فيما بعد.
79

هذا إذا كان الأداء عن رفيقه قبل العتق فأما إذا كان بعد العتق فالأداء صحيح
بكل حال، لأنه حر قد أدى عن مكاتب ما عليه من مال مكاتبته، فإذا ثبت أنه
صحيح لم يخل من أحد أمرين إما أن يكون قد أدى عنه ما عتق به أو ما لم يعتق به.
فإن كان قد أدى عنه ما عتق به نظرت، فإن كان أدى عنه بغير إذنه لم يرجع
به، لأنه قد قضى دين غيره بغير أمره فهو هبة لا يرجع بها عليه، وإن كان بإذنه فهو
فرض عليه، فإن كان المؤدى عليه واحدا استوفاه منه فإن كان معسرا أنظره إلى اليسار.
فأما إن كان أدى عنه ما لم يعتق به نظرت فإن كان بغير إذنه فهو هبة لا يرجع
بها عليه، وقد قضى دين غيره بغير إذنه، وإن كان بإذنه فهو قرض له على المكاتب و
على المكاتب أن يؤدي مال الكتابة وعليه أن يقضي القرض.
وإن كان معه ما يقضي به مال الكتابة ويقضي الذي هو القرض فعل وعتق، و
إن لم يكن معه إلا بقدر ما لأحدهما عليه، قلنا لمن له الدين أتسمح أن تؤخر بالقرض
فيؤدي ما عليه بالذي معه ويعتق ويكون القرض عليه حتى يجد، ويؤدي إليك؟
فإن فعل فلا كلام، وإن أبى قلنا للسيد فتصبر أنت عليه حتى يقضي دينه ثم يؤدي
مالك عليه من مال الكتابة، فإن صبر قضى المكاتب دينه، ويكون مال الكتابة عليه
حتى يؤدي ويعتق.
وإن قال كل واحد منهما لا أصبر وأريد حقي عاجلا، قدم الدين على مال
الكتابة لأن في تقديمه حفظا للحقين، حق صاحب الدين باستيفاء، وحق السيد
لأنه إذا عجز عنه كان له فسخ الكتابة ورد المكاتب رقيقا، فكان حفظ الحقين أولى
وأيضا فالدين مستقر في ذمته ومال الكتابة غير مستقر في ذمته، فتقديم المستقر أولى.
هذا إذا كان السيد واحدا فأما إن كانا لسيدين فأدى أحدهما عن رفيقه لم يخل
من أحد أمرين إما أن يكون قبل العتق أو بعده، فإن كان بعد العتق فالأداء صحيح
بكل حال، لأنه حر بتصرف في ماله بغير اعتراض عليه، ثم ينظر فإن كان بغير إذنه
لم يرجع لأنها هبة، وإن كان بإذنه فهو قرض يرجع عليه، والحكم فيه على ما مضى
حرفا بحرف.
80

فإن كان العتق فهو باطل بكل حال، سواء على القابض بذلك أو لم يعلم
لأن القابض ليس سيد الدافع، فلا يكون قبضه منه رضا نم سيد الدافع، فإذا كان
بغير إذن سيده كان باطلا قرضا كان أو هبة وله الرجوع على القابض، فإن لم يفعل
حتى عتق الدافع فهل له الرجوع على القابض بذلك؟ على ما مضى.
إذا كاتب الرجل ثلاثة أعبد له صفقة واحدة فقد قلنا إن الكتابة صحيحة، و
كل واحد منهم مكاتب بحصة قيمته من المسمى، كأنه كاتبه بذلك مفردا دون غيره لا
يتعلق به حكم غيره، فإن أدى ما عليه من مال الكتابة عتق سواء أدى صاحباه وعتقا
أو عجزا وفيه خلاف.
هذا إذا أوقع العقد مطلقا فأما إذا وقع بشرط أن كل واحد منهم كفيل ضامن
عن صاحبه، فإن الشرط باطل، وقال بعضهم صحيح، فإذا ثبت أن الشرط باطل بطلت
الكتابة أيضا وعندي أن الشرط صحيح والكتابة صحيحة.
العتق المعلق بصفة على ثلاثة أضرب صفة محضة، وصفة جمعت معاوضة وصفة و
المغلب حكم العوض [وصفة جمعت معاوضة وصفة والمغلب حكم الصفة] ظ.
فالصفة المحضة كقوله إن دخلت الدار فأنت حر، ومتى أعطيتني ألفا فأنت
حر فالكل فعندنا أنه لا يتعلق به حكم أصلا، وعند المخالف صحيح فعلى هذا
إذا قال إن أعطيتني ألفا فأنت حر فالكلام في ستة أحكام:
أحدهما أن الصفة تقع لازما لا سبيل إلى إبطالها ورفعها، مع بقاء ملك العبد
ولا للعبد أيضا ذلك، وإن اتفقا على إبطالها مع بقاء الملك لم يصح، لأن الصفة
المحضة لا يلحقها الفسخ.
الثاني إن أبرأه السيد عن هذا الألف لم يبرء لأنه لا حق له في ذمته كما لو
قال لزوجته إن أعطيتني ألفا فأنت طالق، ثم قال أبرأتك عن هذا الألف لم يبرأ منه
لأنه لا دين له في ذمتها.
الثالث إذا مات السيد انفسخت الصفة المطلقة لأن الصفة المطلقة تنفسخ وتزول
بموت عاقدها لأنه إذا زالت الحياة زال الملك وإذا زال الملك بطلت الصفة.
81

الرابع ما يكسبه هذا العبد لسيده لا حق للعبد فيه، لأنه لم يحصل بينهما
عقد يمنع رجوع كسبه إليه.
الخامس إذا أدى إلى سيده عتق، لأن الصفة قد وجدت، فإن فضل معه كان
لسيده لا حق له فيه.
السادس لا تراجع بينه وبين سيده، لأنه عتق بصفة محضة ولم يجب قيمته على
نفسه، وإذا لم يجب قيمته على نفسه لم يكن بينهما تراجع، وهذه الفروع كلها تسقط
عنا لما بيناه من أن العتق بصفة لا يصح.
الضرب الثاني صفة جمعت معاوضة وصفة، والمغلب حكم المعاوضة وهي الكتابة
وعندنا لا تأثير للصفة في هذا العقد، بل هو عقد معاوضة محضة، ويتعلق به الأحكام
الستة فالكتابة لازمة من جهة السيد لا يملك فسخها، وجائزة من جهة المكاتب متى
شاء فسخ، كان معه وفاء أو لم يكن، فإن اتفقا على الفسخ صح لأن المغلب حكم
العوض كالبيع.
الثاني إن أبرأه سيده برئ وعتق، لأن ذمته مشغولة بالدين، فلهذا برئت
بالإبراء كالأثمان في البيع.
الثالث إن مات السيد لم ينفسخ الكتابة، لأنه عقد لازم من جهة السيد، فلا
ينفسخ بوفاته كالبيع، فيؤدي إلى وارثه ويعتق.
الرابع كسبه قبل الأداء له، لأن سلطان سيده زال بعقد الكتابة، بدليل أنه
لا يتصرف به وأرش الجناية عليه لا يعود إليه.
الخامس إذا أدى مال كتابته وفضل معه، كان له دون سيده.
السادس لا تراجع بينهما لأنه عتق بالمسمى لم يجب عليه قيمة نفسه.
الضرب الثالث ما تضمن عوضا وصفة المغلب حكم الصفة، وهي الكتابة الفاسدة
فعندنا لا يتعلق به حكم أصلا كالصفة المحضة، وعندهم هذا العقد يجمع عوضا وصفة
فإذا بطل العوض ثبتت الصفة، وتثبت به الأحكام الستة.
فالصفة لا تكون لازمة، والسيد بالخيار إن شاء أبطلها، وإن شاء أقرها مع
82

بقاء ملك العبد، لأن الصفة حق ألزمه نفسه في مقابلة حق له وهو البذل، فإذا لم
يسلم له ماله لم يلزمه ما عليه كالبيع الفاسد، فإنه إذا لم يسلم البايع الثمن له يلزمه
ما عليه من المبيع، وعكسه الكتابة الصحيحة، لما سلم له ماله المسمى لزمه ما عليه
وهو أن لا يملك رفع الصفة.
وإذا ثبت أنه بالخيار نظرت فإن رفعها صح ذلك مع بقاء ملكه، فإن شاء رفعها
بنفسه، وإن شاء بحاكم، فهو كالوكالة له، لأنه جائز من جهته، والأحوط الإشهاد
فإن لم يبطل الصفة كانت بحالها.
الثاني أن أبرأه عن المال لم يبرء، لأنه ما ثبت له في ذمته مال كما لو اشترى
عبدا بألف شراء فاسدا فأبرأه البايع عنه لم يبرء، لأنه ما ثبت له في ذمته شئ، و
عكسه الكتابة الصحيحة لما ثبت له في ذمته المال صح الإبراء.
الثالث متى مات السيد بطلت الصفة، وقال بعضهم لا تبطل الصفة بل يؤدي
المكاتب مال الكتابة إلى الوراث، ويعتق كالكتابة الصحيحة.
الرابع التكسب ها هنا للعبد، لأن الكتابة الفاسدة محمولة على الصحيحة.
الخامس إن فضل فضل بعد الأداء كان له دون سيده كالكتابة الصحيحة.
السادس التراجع ومعناه أنه إذا أدى وعتق لزمته قيمة نفسه في ذمته، لأنه
تلف في يد نفسه عن عقد فاسد، ويكون اعتبار قيمته حين العتق، لأنه هو الوقت الذي
تلف فيه، وتكون من غالب نقد البلد، لأن قيمة المتلفات كذلك.
فإذا ثبت أن لسيده في ذمته قيمته من غالب نقد البلد لم يخل مال الكتابة من
أحد أمرين إما أن يكون من غالب نقد البلد أو من غيره:
فإن كان من غير نقد البلد مثل أن يكاتبه على دراهم ونقد البلد دنانير، أو عكس
ذلك، أو كان مال الكتابة من غير جنس الأثمان كالثوب والحيوان لم يقع القصاص
بينهما كالحوالة، وعلى كل واحد منهما أن يسلم إلى صاحبه ماله في ذمته، والثياب
والحيوان لا مثل له.
وأما إن كان مال الكتابة من غالب نقد البلد فقد وجب لكل منها على صاحبه.
83

من جنس ما لصاحبه عليه، فهل يقع القصاص بينهما أم لا؟ فيه أربعة أقوال أحدها يقع
القصاص بغير تراض منهما وتبرأ ذمة كل واحد منهما عن حق صاحبه، لأنه لا فائدة
في بقاء الحقين، لأن أحدهما ماله على صاحبه، ثم يرده عليه.
والثاني متى رضى بذلك أحدهما برئا معا لأن من عليه دين كان له أن يقضيه
من أي أمواله شاء وليس لمن له الدين أن يتخير عليه جهة القضاء، فإذا رضى أحدهما
أن يقضي دينه من الذي في ذمة صاحبه لم يكن له أن يعترض عليه، فلهذا وقع القصاص.
الثالث لا يقع القصاص إلا بتراضيهما كالحوالة.
الرابع لا يقع القصاص بينهما وإن تراضيا، لأنه دين بدين، وقد نهى رسول
الله عن الدين بالدين.
فأما إذا كان الحقان من جنس واحد من غير الأثمان كالثياب والحيوان لم يقع
القصاص بينهما والفصل بينهما أن القصد غير الأثمان المغابنة والمكاسبة وهذا يختلف
فلهذا كان لكل واحد منهما قبض ماله في ذمة صاحبه، وليس كذلك الأثمان لأنها
إذا كانت من غالب نقد البلد لم يقع المغابنة فيها، فلذا وقع القصاص.
فإذا ثبت هذا نظرت، فإن كان قدر الحقين سواء وقيل يقع القصاص برئا معا
فإن كان مال أحدهما أكثر وقع القصاص بقدر ما تقابلا فيه، ورجع من له الفضل بالفضل
فإن كانت قيمة العبد أكثر من مال الكتابة رجع سيده عليه به، وإن كانت القيمة أقل
رجع هو على سيده بالفضل.
وكل موضع قيل لا يقع القصاص بينهما، فإذا قبض أحدهما ماله في ذمة صاحبه
أجزءه، ولا حاجة به أن يقبض الآخر شيئا من صاحبه، لأنه إذا قبض أحدهما برئت
ذمة المقبوض منه، وكانت ذمة القابض مشغولة بدين المقبوض منه، وكان للقابض أن
يقضي دينه من أين شاء من ماله فإذا كان كذلك، فلا معنى لقبض كل واحد منهما ما
على الآخر، وأيهما تطوع بالإقباض، فإن القابض يقضيه [دينه] على ما يراه.
فإن امتنع كل واحد منهما من الإقباض حبس كل واحد منهما لصاحبه بما له
عليه، فأيهما قضى فالحكم على ما قضى.
84

وحكم مال الكتابة وغيرها من الحقوق واحد، وهو أن القصاص لا يقع في
الجنسين ولا في غير الأثمان فيما لا مثل له، ولا في غير ما في الذمة.
فأما الجنس الواحد من الأثمان وفيما له مثل من غيرها فعلى ما مضى وعندنا
إذا قلنا إن الكتابة الفاسدة لا حكم لها سقطت هذه الفروع، والعبد باق على رقه، و
جميع كسبه لسيده.
فأما الحقوق الباقية فالذي يقتضيه مذهبنا أن الحقين إذا كانا من جنس واحد
من الأثمان، وفيما له مثل من غيرها، يقع القصاص بينهما من غير تراض، وإن كانا من
جنسين أو فيما المثل له من غير الأثمان لا يقع إلا بالتراضي، ومتى كانت الكتابة
فاسدة ومات السيد فقد مضى أنها تبطل الصفة.
فإن لم يمت لكن جن أو حجر عليه لسفه بطلت الصفة أيضا، لأنه عقد جائز
كالوكالة والقراض، فإن كانت الكتابة صحيحة لم تبطل بالجنون، لأنها واجبة لازمة
من جهة السيد.
فإذا ثبت أن الصفة تزول بجنون سيده أو بالحجر عليه، فإن أدى العبد إلى
سيده بعد هذا ما شرط في مال الكتابة، لم يعتق العبد، لأن الصفة زالت، وإن جن
العبد أو خبل فالصفة بحالها لا تبطل بجنونه، لأنه قبل الحقوق محجوز عليه لنقصه
بالرق، وإذا كان ثبوت الحجر لا يمنع عليه ابتداء الكتابة فكذلك لا يمنع استدامتها
مع حدوث ما يوجب الحجر.
ويفارق السيد، لأن ثبوت الحجر عليه يمنع عقد الكتابة، فحدوث الحجر
عليه يزيلها ويرفعها، وهذا سقط عنا لما مضى من القول بفساد تعليق العتق بالصفة.
ومن قال إن الصفة لا تفسخ بجنونه قال إن أدى إلى سيده عتق، وإن كان حال
جنونه، لأن الاعتبار بقبض السيد لا بإقباضه، فإذا عتق فهو عتق في كتابة فاسدة يتراجعان
على ما مضى، ويأتي في المسألة بعدها.
إذا أدى المكاتب في حال جنونه فيها ثلاث مسائل: إحداها كاتبه سيده كتابة
صحيحة ثم جن المكاتب، وأدى مال المكاتب وهو مجنون، عتق لأنه وإن لم يكن
85

من أهل الإقباض كان سيده من أهل القبض، ولا تراجع بينه وبين سيده لأنه عتق
بالمسمى.
الثانية كاتبه كتابة فاسدة والعبد عاقل ثم جن والعبد عاقل ثم جن العبد فأداها في حال جنونه عندنا
لا يتعلق به حكم ولا يعتق لما مضى، وعندهم يعتق لأن الصفة وجدت وكان التراجع
بينه وبين سيده على ما مضى.
الثالثة إذا كاتب السيد عبده والعبد مجنون، فأدى ذلك في حال جنونه فعندنا
لا يعتق به، لأن الكتابة ما صحت، والعتق بصفة لا يقع، وعندهم يعتق، لأن
الصفة قد وجدت، كما لو علق عتقه بدخول الدار فدخلها عتق، وهل بينه وبين سيده
تراجع؟ منهم من قال يرجع، ومنهم؟ من قال لا تراجع بينهما.
إذا مات الرجل وخلف ابنين عندا فادعى العبد أن أباهما كان كاتبه، قيل فيه
مسئلتان:
إحداهما إذا أنكر الابنان ذلك فالقول قولهما لأن الأصل أن لا كتابة وعليهما
اليمن، لجواز أن يكون العبد صادقا ويكون اليمين على العلم (لا نعلم أن أبانا فعل
ذلك).
الثانية إذا أقر أحدهما بذلك وأنكر الآخر، فإن نصيب المقر يكون مكاتبا
لأنه أقر بما يضره.
ثم ينظر فإن كان المقر عدلا ومعه شاهد آخر عدل بما يدعيه العبد حكمنا
له بذلك على المنكر، وإن لم يكن عدلا أو كان عدلا ولم يكن معه غيره، لم يحكم
للعبد بالشاهد واليمين فيما يدعيه، لأنه ليس بمال ولا المقصود منه المال، بل المقصود
منه العتق، فلا يثبت بالشاهد واليمين، كما لو ادعى على سيده أنه دبره، فإن حلف
المنكر استقر الرق في نصيبه وإن لم يحلف رددناها على العبد فإن حلف حكمنا بأن
نصفه مكاتب ونصفه قن للمنكر.
فأما كسبه فكلما اكتسبه في حياة سيده قبل عقد الكتابة فهو ملك لسيده في
حياته ولورثته بعد وفاته، وأما ما يتجدد من كسبه بعد الحكم بأن نصفه مكاتب، فنصفه
86

له ونصف للمنكر، وما بعد هذا فإنه يفرد في كل يوم من كسبه نفقته، وما فضل
كان بينهما، لأن نفقته على نفسه وعلى المنكر، فيكون من كسبه، لأن كسبه له
وللمنكر.
فإن اتفقا على المهاياة مياومة أو مشاهرة كانت على ما اتفقا عليه، فإن طلب المهاياة أحدهما فأبى الآخر لم يجبر الممتنع منهما عليها، وقال بعضهم يجبر.
فإذا ثبت أن الكسب بينهما لم يخل من أحد أمرين إما أن يؤدي ما عليه أو
يعجز عنه، فإن عجز عن الأداء أو امتنع منه مع القدرة كان المقر بالخيار بين إقراره
وبين الفسخ.
فإن أقره عليها فلا كلام، وإن اختار الفسخ ففسخ الكتابة عادا قنا لهما
ويكون ما كان في يده للمقر وحده لا حق للمنكر فيه، لأن المنكر قد استوفى حقه
أولا فأولا، وهذا الذي جمعه في يده بحق الكتابة، فإذا زالت كان المال للمقر كما
لو كاتب كل عبده فعجز ورق فإن ما كان في يده لسيده.
فإن اختلف الابنان في الكسب فقال المقر أكتسبه بعد عقد الكتابة فهو لي وحدي
وقال المنكر قبل الكتابة فهو بينا من تركه والدنا، فالقول قول المقر لأن الأصل أن
لا كسب، فالمنكر يدعي حدوثه قبل الوفاة، فكان القول قول المقر.
هذا إذا عجز ورق فأما إن أدى ما عليه وعتق لم يقوم على المقر نصيب شريكه
لأن التقويم على الشريك بأن يباشر العتق لنصيبه أو يكون سبب عتقه، وليس ههنا
واحد منهما، لأنه إنما حكى عن غيره، فهو كالشاهد ولا يقوم على الميت أيضا وإن
كان هو السبب في عتقه، لأنه عتق بعد زوال ملك السيد عن ماله، ويكون الكلام
بعد هذا في فصلين: الولاء والميراث.
أما الولاء فثابت على نصفه عندنا بالشرط، وعندهم على كل حال، لأنه قد
عتق، ولمن يكون الولاء؟ قال قوم بين الابنين، لأن العتق ثبت بما كان من أبيهما
فكان الولاء لهما.
وقال آخرون إن الولاء كله للمقر وحده، لا حق للمنكر فيه، وهو الأقوى
87

عندي، لأن المقر منهما أقر بأن العبد مكاتب كله، فإنه متى عتق كان ولاء كله بيننا
نصفين، فلما جحد أخوه ذلك وأنكره، فقد رد حق نفسه من الولاء، وكان الباقي
لأخيه، وهذا كمن خلف دينا له به شاهد واحد وخلف ابنين فحلف أحدهما مع الشاهد
استحق الدين وحده دون أخيه، لأنه حلف وأبى أخوه أن يحلف.
فأما الميراث فإذا مات هذا المكاتب وخلف مالا كان ماله بما فيه من الحرية
وعندنا يورث عنه ذلك القدر، وقال قوم لا يورث ويكون لسيده الذي ملك نصفه.
ومتى قلنا إنه يورث فإن كان له مناسب ورثه، فإن لم يكن فلمولاه، ويكون
لمن حكمنا بأن الولاء له، وهو المقر وحده عندنا لما مضى، ومن قال بينهما قال يأخذ
المقر نصف الميراث، والباقي يكون موقوفا لأنا حكمنا بأنه للمنكر، والمكر يجحده
نقف الولاء حتى يعرف أو ينكشف أمر الولاء.
إذا خلف عبدا وابنين فادعى العبد أن أباهما كان كاتبه، فيها ثلاث مسائل: إذا
كذباه معا، وإذا صدقه أحدهما وكذبه الآخر وقد مضيا.
الثالثة إذا صدقاه معا، فالحكم فيه إذا صدقاه وإذا قامت البينة أن أباهما كان
كاتبه فإن الكتابة قد ثبت من الأب، فإذا مات الأب لم ينفسخ الكتابة لأنه عقد لازم
من جهته، فلا ينفسخ بوفاته، وقام وارثه مقامه، والولدان يقومان مقامه، ويرثان
ماله، ويستوفيان حقوقه، وقد خلف مالا في ذمة هذا المكاتب، وكان القبض إليهما
فإن أدى إليهما مال الكتابة عتق.
فإذا عتق كان الولاء للأب لأنه عتق بسبب من جهته، وهو عقد الكتابة ويكون
لوارثه بعده كما لو باشر عتقه، وهكذا لو أبرأه من مال الكتابة أو أعتقاه الباب واحد.
والولاء للأب إذا شرط عندنا، وعندهم على كل حال، ويكون لهما بعده
وحكم الولاء على ما مضى، لأنهما أنفذا ما عقده الأب وأمضياه.
هذا إذا أدى وعتق، وأما إن عجز عن الأداء، كان لهما الفسخ وترك الفسخ
فإن فسخا عقد الكتابة عاد عبدا قنا، فإن كان في يده مال كان لهما كالتركة من أبيهما
لهما وإن لم يختار الفسخ لكنهما أقراه على الكتابة. ورفقا فهي ليؤدي على مهل جاز.
88

فإذا فعلا هذا فإن أراد الأداء إلى أحدهما دون الآخر قدر ما عليه منع منه،
فإن خالف وفعل فهل يعتق نصيب من أدى إليه أم لا؟ قيل فيه وجهان والكلام عليهما
يأتي.
فأما إن أعتق أحدهما نصيبه منه أو أبرأه أحدهما عن جميع ماله في ذمته سواء عنى
الإبراء أو العتق قال قوم يعتق منه نصيبه، وقال آخرون لا يعتق لأنهما قاما مقام الأب
ولو أن الأب أبرأه عن نصف مال الكتابة لم يعتق، كذلك إذا أبرأه غير من نصفه.
والأول أقوى عندي، لأنه أبرأه عن جميع ما استحقه عليه من مال الكتابة
فوجب أن يعتق، كما لو كان كله له فأبرأه عن مال الكتابة، وعكسه الأب لأنه أبرأه
عن نصف ما استحقه عليه فلهذا لم يعتق.
فإذا ثبت أنه يعتق نصيبه وحده فهل يقوم عليه نصيب أخيه؟ قال قوم يقوم عليه
[وقال آخرون لا يقوم] ظ وهو الأقوى عندي، لأن التقويم يكون على من باشر
العتق أو كان سببا فيه، والابن ما باشر العتق ولا كان سببا فيه، وإنما أنفذ ما كان
عقده له أبوه، وكان المعتق هو الأب بدليل أن ولاءه للأب.
ومن قال يقوم عليه قال لأنه استأنف عقدا غير الذي عقده الأب لأنه عجل
ما كان أخره أبوه، فهو غير الأول.
فمن قال لا يقوم عليه على ما اخترناه كان نصيبه منه حرا ونصيبه أخيه مكاتبا
لأخيه، فإن أدى إلى أخيه وعتق كان ولاؤه كله للأب وانتقل منه إليهما، فإن عجز
ورق كان نصفه رقيقا لأخيه، وباقيه حرا، وعلى الحر الولاء، ولمن يكون الولاء؟
قال قوم بينهما نصفين، لأنه عتق بعقد الأب، وقال آخرون وهو الصحيح
عندنا أن ولاءه للذي أعتقه منفرد به دون أخيه، لأنه لما امتنع من إعتاق نصيبه فقد
أسقط حقه من الولاء. ووفرة على أخيه.
ومن قال يقوم عليه نصيب أخيه، فمتى يقوم عليه؟ هذه المسألة مبنية على
مسألة الشريكين بينهما عبد فكاتباه ثم أعتق أحدهما نصيبه منه، عتق وقوم عليه نصيب
شريكه، لأنه أوقع العتق ابتداء في نصيب نفسه وهل يقوم عليه في الحال أو عند عجز
89

المكاتب عن الأداء؟ على قولين أحدهما يقوم في الحال، والثاني يؤخر التقويم إلى
حين العجز عن الأداء.
ثم عدنا إلى مسألة الابنين: منهم من قال يؤخر التقويم في مسألة الابنين قولا
واحدا، ومنهم من قال على قولين كمسألة الشريكين سواء، وهو أصح عندهم.
فإذا قوم في الحال فمتى يعتق نصيب الشريك؟ فيه الأقوال الثلاثة أحدها باللفظ
و الثاني باللفظ ودفع القيمة، والثالث مراعى على ما مضى.
فمن قال باللفظ عتق كله وقوم وهو حر، وأخذ له القيمة. ومن قال باللفظ و
الدفع قوم وهو مكاتب، فأفاد هذا التقويم زوال عقد الكتابة، وعود الرق والعتق
بعد الرق، فإذا عتق كله كان ولاء ما أخذت منه قيمته له وحده، وولاء ما باشر عتقه
على ما مضى من الوجهين أحدهما لهما، والثاني للذي باشر العتق.
ومن قال يؤخر التقويم إلى حين العجز أخره، فإن أدى وعتق عتق كله، و
كان الولاء للأب وانتقل إليهما، وإن عجز عن الأداء قومه.
هذا إذا قيل يعتق باللفظ ودفع القيمة، ولا يجئ بأنه يعتق باللفظ، لأنه لو
عتق باللفظ لم يقع فيه التأخير إلى هذا الوقت، وكل موضع عتق بالأداء كله والابراء
والعتق، فالولاء للأب ينتقل إليهما نصفين، وكل موضع عتق بعضه بالعتق أو الإبراء
وبعضه بالتقويم، فإن ولاء ما أخذت قيمته لمن أخذت القيمة منه وحده، لا يشركه
أخوه فيه، وولاء النصف الآخر الذي عتق بالمباشرة فعلى الوجهين أحدهما بينهما، و
الثاني للمباشر وحده.
إذا كاتب عبده فإن أدى جميع ما عليه عتق جميعه بلا خلاف، وإن أدى البعض
لا يخلو عندنا من أحد أمرين إما أن يكون مشروطا عليه أو مطلقا.
فإن كان مشروطا عليه، بأن قيل له متى عجزت عن الأداء فأنت رد في الرق
فإنه لا ينعتق حتى يؤدي جميع مال الكتابة، وإن كان قد أطلقت الكتابة ولم يشرط
ذلك، فأدى بعضه عتق عندنا بحسب ما أدى، وعند أكثر الفقهاء لا يعتق منه شئ
بحال ولم يفصلوا.
90

وقال قوم من المتقدمين: يعتق بحساب ما أدى ولم يفصلوا، وقد ذكرناها في
الخلاف.
الكتابة لازمة من جهة السيد، جائزة من جهة العبد، ولسنا نريد بقولنا جائزة
من جهته أن له الفسخ كالعامل في القراض، بل نريد أن له الامتناع من أداء ما عليه
مع القدرة عليه.
فإذا امتنع منه كان سيده بالخيار بين البقاء على العقد وبين الفسخ، وقال قوم
هي لازمة من الطرفين معا، فإن كان معه مال أجبرناه على الأداء ليعتق، فإن لم يكن
معه مال قال بعضهم أجبره على الكسب، وقال آخرون لا أجبره
والذي يقتضيه مذهبنا أن الكتابة إن كانت مطلقة فهي لازمة من الطرفين، و
ليس لأحدهما فسخها، وإن كانت مقيدة فهي لازمة من جهة السيد، وجائزة من جهة
العبد، فإن عجز لم يجبره على الاكتساب، فإن لم يعجز وكان معه مال وامتنع أجبر
على الأداء كمن عليه دين وهو موسر.
فإذا ثبت هذا فمات المكاتب بطلت الكتابة عندهم، ويكون ما خلفه لسيده سواء
خلف وفاء أو لم يخلف، وقال بعضهم لا ينفسخ على تفصيل لهم.
وعندنا إن كان مشروطا عليه انفسخت المكاتبة وما خلفه لسيده، وإن كانت مطلقة
وقد أدى بعضه كان لسيده بحساب ما بقي من الرق، وللورثة بحساب ما تحرر منه
وقد روي أنهم يؤدون ما بقي عليه وقد تحرر كله وما يبقى فلهم.
إذا كاتب عبده كتابة صحيحة فحل نجم من نجومها فأتى به إلى سيده فقال له
سيده هذا حرام، أو قال هذا غصبته من فلان، لم يخل السيد من أحد أمرين إما أن
يكون معه بينة أو لا بينة معه.
فإن كان معه بينة أنه غصبه من فلان لم يجب عليه أن يقبله منه، لأنه إنما
يجب عليه أن يقبل منه ما يملكه بقبوله وقبضه وهذا لا يملك بذلك لأنه حرام، و
يقال للمكاتب إما أن تأتيه بمال حلال أو يعجزك فترق.
وإن لم يكن مع السيد بينة فالقول قول المكاتب لأن الظاهر أن ما في يده
91

ملكه حتى يعلم خلافه، ولأن السيد متهم عليه فيما يدعيه، لأنه يقصد أن يعجزه
فيرده في الرق، فلهذا لا يقبل شهادته مع أجنبي بالغصب. فإذا ثبت أن القول قوله
فقوله مع يمينه، لأنه يمكن صدق السيد فيما يدعيه.
فإذا ثبت أن القول قوله لم يخل من أحد أمرين إما أن يحلف أو لا يحلف، فإن
لم يحلف حلف السيد، ويكون الحكم كما لو قامت البينة أنه حرام، وإن حلف
المكاتب قلنا للسيد إما أن تقبل هذا المال أو تبرئه ليعتق، ولا يملك الإضرار به فإن
أبرأه برئ: فإن كان كل مال الكتابة عتق، وإن كان أقل برئ المكاتب عن
هذا القدر.
وإن قبض السيد المال فإن كان قال هذا حرام ولم يقل من المالك أقر المال في
يده حتى يظهر مالكه، فإن قال غصبته من فلان فعليه أن يدفعه إلى فلان برمته، لأنه
أقر له، فإن لم يقبض منه المال ولم يبرئه دفعه المكاتب إلى الحاكم فيأخذه الحاكم
ليحفظه لسيده، ويعتق المكاتب.
وليس للمكاتب أن يتزوج بغير إذن سيده لما روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال
أيما عبد نكح بغير إذن مولاه فهو عاهر فإن أذن له سيده فيه صح لدليل الخبر.
وأما الشرى فللمكاتب أن يتجر في جميع أنواع التجارات، ويشتري الرقيق و
غير ذلك.
فإذا اشترى جارية لم يكن له وطيها بغير إذن سيده لأنه يغرر بها إما بأن تحبل
فتهلك، أو ينقص الثمن، فإن أذن له حل له وطيها عندنا، وقال قوم لا تحل له.
وأما إن كان في يده مال تجب فيه الزكاة فزكاته على سيده وقال بعضهم لا زكاة
فيه أصلا وهو قوي، فإن باعه وله مال عندنا إن شرط المشتري المال كان له وإن لم
يشرط كان للسيد، وقال بعضهم يبطل البيع وقال بعضهم يصح البيع.
وكل موضع قلنا لا يطأها فإن خالف ووطئ فلا حد عليه لشبهة الملك، ولا
مهر عليه لأن المهر إذا وجب كان له، فلا يجب له على نفسه،
فإن حبلت لحق النسب به لسقوط الحد عنه.
92

والولد حكمه عندنا وعندهم مملوك، لأنه بين مملوكين، ولا يعتق عليه، لأنه
ناقص الملك، ولا يجوز له بيعه، لأنه ولده، وهكذا إذا أوصى له بولده فقبله فلا يعتق
عليه ولا يبيعه، والأمة لا تصير أم ولده في الحال، لأنها علقت بمملوك عندهم، و
عندنا تكون أم ولد.
ثم ينظر فإن عجز المكاتب ورق كان هو وولده وأمته ملكا لسيده، فإن أدى
وعتق عتق ولده، لأنه قد تم ملكه عليه، وتصير الأمة أم ولده عند قوم وعند
آخرين لا تصير، وفيها أربع مسائل يتعلق بإحبال الأمة:
إن أحبلها بحر منه في ملكه صارت أم ولده بلا خلاف، وإن أحبلها بمملوك
في غير ملكه ثم ملكها لا تصير أم ولده، وإن أحبلها بحر في غير ملكه ثم ملكها على
قولين عندنا تصير أم ولده، وإن أحبلها بمملوك في ملكه وهو المكاتب إذا أحبلها بشبهة
فعلى قولين عندنا تصير أم ولده.
وأما إذا أحبل الراهن أمته المرهونة فإنه يكون الولد حرا وتكون أم ولده
ويمنع الإحبال من بيعها لعموم الأخبار عندنا، وعندهم على قولين فمن قال يمنع قال
هي أم ولده، ومن قال لا يمنع فإذا بيعت ثم ملكها فهي أم ولده، لأنه أحبلها في
ملكه.
هذا إذا أتت به قبل أن يعتق المكاتب، فأما إن أتت به بعد العتق، فإن أتت به
لأقل من ستة أشهر من حين العتق فالحكم فيه كما لو أتت قبل العتق، لأنا علمنا
أنها علقت به وهو مكاتب.
فإن أتت لشبهة به لستة أشهر فصاعدا من حين العتق، فالولد حر وهي أم ولده
ولا ولاء على الولد، لأنه أحبلها بحر بعد تمام ملكه عليها، وهكذا الحكم إذا وطئها
بإذن سيده وطيا مباحا فهما واحد على ما فصلناه.
الإيتاء واجب عندنا وهو أن يحط السيد عن مكاتبه شيئا من مال الكتابة أو
يؤتيه شيئا يستعين به على الأداء لقوله تعالى " وآتوهم من مال الله الذي آتاكم " و

(1) النور: 33.
93

هذا أمر، وقال قوم هو مستحب وبه قال قوم من أصحابنا.
فإذا تقرر أن الإيتاء واجب فالكلام في ثلاثة فصول: في وقته، وقدره، وجنسه.
فأما وقته فله وقتان: وقت جواز ووقت وجوب فأما وقت الجواز فما بين الكتابة
والعتق، وأما وقت الوجوب فقال قوم هو إذا بقي عليه القدر الذي عليه أن يؤتيه،
فإنه يتعين عليه، لأنه الوقت الذي يتحقق أنه يستعين، وأما قبل هذا فقد يعجز و
يرق.
وقال بعضهم وقت الإيتاء بعد العتق، لأن الإيتاء في الكتابة كالمتعة في النكاح
والأول أقوى لقوله تعالى " وآتوهم " يعني المكاتبين، فإذا أعتق لا يكون مكاتبا.
وأما قدره فعندنا ما يقع عليه الاسم قليلا كان أو كثير، فإن كاتبه على دنانير
فأقل ما يقع عليه الاسم حبة ذهب، وإن كاتبه على دراهم فدرهم أو أقل، وقال قوم
هو على قدر مال الكتابة وبحسبه.
وأما الكلام في جنسه فإن السيد بالخيار بين أن يحط شيئا من ماله في ذمته
وبين أن يدفع إليه مناولة لقوله تعالى " وآتوهم من مال الله " وحقيقة الدفع المناولة
ودليل الحط ما رواه علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله في قوله تعالى " وآتوهم من مال
الله " وحقيقته أن يحط ربع كتابته، والحط أشبه بالشرع وأحوط.
فإن حط فلا كلام وإن اختار الإيتاء ففيه ثلاث مسائل: إما أن يؤتيه من عين
مال الكتابة، أو من غير جنسه، أو من مثل جنسه.
فإن آتاه من عينه وهو عن ما أدى إليه لزمه القبول، لأنه آتاه من المال الذي
أمره الله أن يؤتيه، وإن آتاه من غير جنسه مثل أن كانت عليه دنانير فآتاه دراهم لم
يجب على المكاتب القبول، لأن الله تعالى أوجب حقه في مال الكتابة، فلا يلزمه أن
يقبل من غير جنسه، وأما إن آتاه مثل جنسه فقال قوم لا يجب عليه القبول، ومنهم
من قال يجب عليه، وهو الأقوى عندي.
إذا أدى المكاتب وعتق قبل أن يؤتيه السيد شيئا يتعلق الإيتاء بتركته، لأنه
دين عليه فهو كسائر الديون، فإن كان على السيد دين غير هذا وقد أوصى بوصايا
94

فإن وفت التركة بالكل استوفي منها، وإن فضل فضل كان ميراثا، وإن ضاقت عن
الوصايا ووفت بالدين والايتاء استوفيا منها، فإن ضاقت عنهما ضرب صاحب الدين و
المكاتب في التركة بالحصص.
ليس لولي اليتيم والمولى عليه لسفه أن يكاتب عبدا له، سواء كان الولي هو
الأب أو الجد أو الوصي أو الحاكم أو ولي الحاكم، وقيل: له ذلك لأنه كالبيع و
إذا ثبت هذا وخالفه وكاتبه فالكتابة باطلة، فإن أدى المال كان لسيده ولا يعتق
العبد به.
إذا اختلف السيد والمكاتب في قدر البذل، فقال السيد على ألفين، وقال المكاتب
على ألف، وقد يختلفان في الأجل فيقول السيد إلى سنة، ويقول المكاتب إلى سنتين
وقد يقول السيد إلى سنتين في نجمين ويقول المكاتب إلى سنتين في ثلاثة نجوم: فإذا
اختلفا تحالفا عندهم، لأنه عقد معاوضة كالبيع.
ثم ينظر فإن كان التحالف قبل الأداء وقع الفسخ ثم بماذا يقع؟ قال بعضهم
بالتحالف، وقال آخرون بالتحالف وحكم الحاكم معا كالبيع وإذا وقع الفسخ زال
العقد وكانا بالخيار في تجديد الكتابة وفي ترك التجديد، لأنه عاد عبدا قنا.
فإن كان التحالف بعد العتق فلا يمكن رد ما وقع من العتق، لكن يكون على
المكاتب قيمة نفسه، كالقول في التحالف في البيع وقد تلف المبيع، على المشتري قيمته
كذلك ها هنا، وينظر بين قيمته وما أدى، فإن تساويا تفاضلا وإن تفاضلا ترادا الفضل
فإن كانت القيمة أكثر فعلى المكاتب الفضل وإن كان المؤدى أكثر فعلى السيد رد
الفضل.
وإنما يتصور ذلك إذا اتفقا على أن المؤدى ألفان، فإن العتق وقع واختلفا
فقال السيد ألفان معا مال الكتابة وقال المكاتب ألف منها مال الكتابة وألف وديعة
فاجتمعا على وقوع العتق وعاد الاختلاف إلى أصل العقد.
إذا تزوج مكاتب معتقة لقوم فأولدها ولدا فهو تبع لأمه وعليه الولاء لمولى أمه
لأن عليها الولاء، فإن أدى المكاتب وعتق جر الولاء الذي على ولده لمولى أمه إلى
95

مولى نفسه، وإن عجز ورق استقر الولاء لمولى أمه.
فإن مات المكاتب واختلف مولاه ومولى الأم فقال سيد المكاتب قد أدى وعتق وجر
الولاء الذي على ولده إلى، وقال سيد الأم بل مات عبدا فلم يجر شيئا فالقول قول
مولى الأم لأن الأصل بقاء الولاء، والأصل بقاء الكتابة، والأصل أنه لا عتق في
المكاتب، فلهذا كان القول قول مولى الأم، فأما قبل وفاة المكاتب، فقد اعترف السيد
بعتق المكاتب والأداء، فيجر الولاء ويزول الاختلاف.
إذا كان له مكاتبان كاتبهما بعقد واحد أو بعقدين كل واحد منهما على ألف فأدى
أحدهما ألفا وعتق ثم أشكل عليه عين المؤدى منهما كلف التذكر والتفكر لعله أن
يذكر، وذلك طول حياته، وليس له فرض القبض في أحدهما بل عليه التذكر فقط.
فإن قال قد ذكرت أن هذا هو المؤدي منهما، حكمنا بعتقه وأن الآخر باق على
المكاتبة، فإن صدقه الآخر على هذا فلا كلام، وإن ادعى عليه أنه هو الذي أدى
إليه فالقول قول السيد لأن الأصل أن لا قبض، وعليه اليمين، لأنه صدق المدعي
فيما يدعيه، ويمينه على البت لأنها على فعل نفسه، وإن كانت على النفي.
فإن لم يبين ومات قبل البيان أقرع بينهما عندنا، وقال بعضهم لا يقرع لأن
أحدهما حر قد نجز العتق فيه فلو أقرعنا ربما رق الحر وعتق العبد.
فإذا أقرعنا بينهما فمن خرجت قرعته الحرية أحررناه وكان الآخر على كتابته
يؤدي ويعتق، أو يعجز ويرق، ومن قال لا يقرع بينهما قال تقوم الوارث مقام مورثه
في البيان لا في التعيين.
فإن بين وعين حكمنا بعتقه، وكان الآخر على الكتابة، فإن صدقه فذلك
وإن كذب الوارث فالقول قول الوارث مع يمينه على العلم لا على النفي، لأنها على
فعل الغير.
فإن لم يبين وادعى عدم علمه بعين المؤدى منهما، فالقول قوله مع يمينه لا يعلم
ذلك، فإذا حلف كانا معا على الكتابة يؤدي كل واحد منهما ألفا ويعتق، وإذا قبض
الألفين منهما فهو يقطع أن أحدهما حرام ولا يعرف عينه، فلا يحل له التصرف فيهما
96

ولا في واحد منهما.
الكتابة بالعرض كالثياب والطعام والحيوان جائزة، ولا بد أن يكون معلوما
بضبط صفاته كما يضبط في السلم، وسواء كان على ثوب واحد أو ثوبين عندنا يجوز، و
عندهم لا يجوز على أقل من ثوبين في نجمين، ومتى كاتبه على عرضين إلى أجلين كالثوبين
ونحوهما، فأدى الثوبين عتق المكاتب في الظاهر، وحكمنا بعتقه، لأن الأداء
قد وجد.
ثم ينظر في العرض الذي قبضه، فإن كان سليما من العيوب استقر له ما قبضه
واستقر العتق للمكاتب فإن أصاب السيد فيما قبضه عيبا كان بالخيار بين إمساكه ورده
ثم لا يخلو أن يختار الإمساك أو الرد.
فإن اختار الإمساك استقر القبض وبرئت ذمة المكاتب عن مال الكتابة، فاستقر
له العتق، وإن اختار الرد فرده حكمنا بارتفاع العتق الواقع في الظاهر، لأن العتق
الواقع إنما يستقر باستقرار الأداء، وقد ارتفع فارتفع العتق.
هذا إذا وجده معيبا ولم يحدث عنده فيه عيب يمنع الرد، فأما إن علم بالعيب
وقد نقص العرض عنده بعيب لم يكن له الرد كما لو كان في البيع، واستقر أرش العيب
على المكاتب، وارتفع العتق، لأن ذمته ما برئت من مال الكتابة، فإن كان له ثوب
سليم من العيب وإلا كان لسيده تعجيزه ورده في الرق.
إذا ادعى المكاتب أنه دفع مال نجومه إلى سيده فأنكر السيد لم يخل المكاتب
من أحد أمرين إما أن يكون معه بينة أو لا بينة له به، فإن كان له بينة سمع شاهدان
أو شاهد وامرأتان أو شاهد ويمين، لأنه تأدية مال، وإن كان لا يثبت أصل الكتابة
بشاهد ويمين، لأنه عتق والمقصود منه الحرية وهذا تأدية مال.
إذا اجتمع على المكاتب مع مال الكتابة ديون لقوم، وحل مال الكتابة عليه
فإن كان ما في يده بقدر ما عليه من الدين ومال الكتابة أعطى كل ذي حق حقه
وعتق.
وإن ضاق المال عن ذلك قدم الدين على مال الكتابة، لأن مال الكتابة
97

جائز بدليل أنه لا يجبر على أدائه ولا يصح ضمانه، والدين ثابت مستقر في ذمته
بدليل أنه يجبر على أدائه ويصح ضمانه وإذا كان أقوى منه قدمناه.
ولأن في تقديمه حفظا للحقين لأنا إذا قدمنا الدين وفضل شئ كان للسيد
وإن لم يفضل رجع السيد عن مال الكتابة إلى رقبة العبد، وفي تقديم السيد متى لم
يفضل شئ سقوط حق الغريم أو تأخره، فكان حفظ الحقين أولى من تضييع أحدهما.
وهكذا نقول نحن في الكتابة المشروطة فأما إن كانت مطلقة فهم سواء لا ترجيح
لتقديم أحدهم على صاحبه فعلى الأول إذا قدم الدين كان السيد بالخيار بين المقام
على الكتابة وبين التعجيز والفسخ.
وأما إن مات المكاتب وعليه ديون انفسخت الكتابة لموته، وبرئت ذمته عن مال
الكتابة وكان الدين باقيا في ذمته يتعلق بالمال الذي في يده كالعبد المأذون إذا مات و
عليه دين تعلق بما في يده.
ثم ينظر فإن كان ماله بقدر ما عليه قضى ديونه، فإن فضل فضل كان للسيد بحق
الملك لا بحق الكتابة، لأن الكتابة قد زالت، فإن كان ما في يده دون الدين الذي
عليه قسمنا ماله بين غرمائه بالحصص، ولا يجب على السيد شئ لأن الدين لم يجب
في ذمة السيد وإنما تعلق بذلك المال فقط.
إذا كاتب نصف عبد لم يخل من ثلاثة أحوال إما أن يكون باقيه حرا أو ملكا له
أو ملكا لغيره:
فإن كان باقيه حرا فالكتابة صحيحة، لأنه كوتب على كل ما فيه من الرق
ثم ينظر فإن أدى ما عليه عتق، وإن عجز كان السيد بالخيار بين أن يقره على الكتابة
أو يفسخ.
فأما إذا كان باقيه مملوكا فالصحيح أن الكتابة باطلة، لأن المقصود بالكتابة
وقوع العتق بالأداء والمقصود ههنا مفقود، لأنه لا يتمكن من التصرف، لأن السيد
يمنعه من السفر بما فيه من الرق ولا يأخذ من الصدقات وإذا أخذ اقتضى أن يقاسمه
السيد عليها، وقال بعضهم يصح كما لو كان النصف لغيره فكاتبه بإذنه، والأول أقوى
98

عندي وإن كان هذا أيضا قويا.
فإذا ثبت أنها باطلة نظرت فإن اختار السيد رفعها فعل وزالت الصفة، وإن
تركها بطل العوض، وعندنا الصفة لا اعتبار بها، وعندهم الصفة بحالها، فإن أدى
عتق بوجود الصفة ويكون قد عتق نصفه بأداء عن كتابة فاسدة، فإن كانت قيمة نصفه
وقدر ما أداه سواء تقاصا، وإن كان فضل مع أحدهما ترادا الفضل، فإذا تم عتق
نصفه عتق باقيه، لأن باقيه له، وإذا عتق بعضه بسببه عتق الباقي بالسراية، ولا يجب
للسيد في مقابلة ما عتق بالسراية شئ لأنه ما بذل العوض عن باقيه.
فأما إن كان الباقي لغيره وكاتب نصيبه منه لم يخل من أحد أمرين إما أن يكاتبه
بإذن شريكه أو بغير إذنه، فإن كان بغير إذن شريكه فالكتابة فاسدة عندنا وعند جماعة
وقال بعضهم يصح.
وإنما قلنا لا يصح لأنه يؤدي إلى الإضرار بشريكه، ويفارق البيع لأنه
لا يضر بشريكه، فإذا فسد العوض فسدت الكتابة عندنا، وعندهم يبقى الصفة، و
السيد بالخيار بين المقام على الصفة وبين إبطالها وإن رفعها وأبطلها عاد قنا.
وإن اختار المقام على الصفة فاكتسب المكاتب وأدى لم يخل من أحد أمرين
إما أن يؤدي إلى الذي كاتبه أو بالحصة، فإن أدى إليه بالحصة نصف كسبه إليه و
نصف كسبه إلى من لم يكاتب حتى وفى مال الكتابة عتق نصفه بالأداء لوجود الصفة
ويكون لسيده عليه قيمة نصفه، وله على سيده ما أدى إليه، فإن كان المؤدى وقدر
القيمة سواء تقاصا، وإن كان أحدهما أفضل فإنهما يتردان الفضل على ما قلناه، فإذا
عتق نصيبه سرى إلى نصيب شريكه لأن نصيب شريكه قد رق ونصيب نفسه قد عتق
بسبب كان منه، فإذا عتق نصيب شريكه كان لشريكه أن يرجع عليه بقيمة نصيبه، و
ليس للسيد أن يرجع على المكاتب بقيمة ما عتق منه بالسراية، لأنه ما بذل العوض
عنه.
هذا إذا أدى الكسب إلى كل واحد منهما بالحصة، فأما إن أدى جميع كسبه
إلى سيده الذي كاتب نصفه، وكان قدر مال الكتابة، قال قوم يعتق لأنه أدى إليه
99

بالشرط عليه، وقال آخرون لا يعتق، لأنه علقه بأداء ما يملك السيد ويبرأ ذمة
العبد به، وهذا ما وجد.
فمن قال لا يعتق قال يرجع السيد إلى شريكه فيأخذ منه نصف ما دفعه إليه
العبد، ثم إن أدى العبد ما بقي عليه من مال الكتابة عتق، وإلا فالحكم على ما مضى.
ومن قال يعتق قال يرجع السيد أيضا على شريكه بنصف ما دفع إليه العبد،
لأنه بينهما وقد عتق نصفه عن مكاتبة فاسدة، فعليه نصف قيمته لسيده، فإن كانت
القيمة وقدر ما أدى إليه سواء تقاصا وإلا ترادا الفضل.
فإذا عتق نصفه سرى إلى نصيب شريكه إن كان موسرا ويقوم عليه نصيب شريكه
لأنه عتق بسبب كان منه، فإذا عتق لم يرجع على مكاتبه بشئ لأجل عتق الباقي، لأنه
ما بذل العوض في مقابله.
وأما إن كاتب نصيبه منه بإذن شريكه، فعندنا أنه يصح وعند جماعة، وقال
بعضهم لا يصح، فمن قال لا يصح مضى حكمه إذا كان بغير إذن شريكه، ومن
قال يصح على ما نقوله فيكون نصفه مكاتبا ونصفه قنا.
فإما أن يكون بينه وبين الذي لم يكاتب مهاياة أو لا يكون ويكون الكسب
بينهما بعد نفقته، وأيهما كان فإذا كسب وأدى إلى سيده الذي كاتب نصفه لم يخل
من أحد أمرين إما أن يؤدي إليه ما يخصه من كسبه، أو يجمع الكسب كله ويسلم
إليه.
فإن أعطاه ما يخصه من الكسب عتق ولا تراجع بينه وبين سيده، لأنه مؤد
عن كتابة صحيحة، وسرى العتق إلى نصيب شريكه، لأن نصيب نفسه عتق بسبب كان
منه، ونصيب شريكه قن فسرى العتق إليه، ويرجع الشريك على السيد الذي كاتب
نصيبه بقدر قيمة نصيبه، ولا يرجع السيد على المكاتب بشئ مما ضمنه لشريكه، لأنه
ما بذل العوض عن نصيب الشريك.
فأما إن جمع الكسب كله فأداه إلى الذي كاتب نصفه وكان وفاء ما عليه من الكتابة
فعندنا لا يعتق بهذا الأداء، ومنهم من قال يعتق، وإنما قلنا بالأول لأنه إذا قبض
100

الكل لم يملك منه إلا نصفه ولا تبرأ ذمة المكاتب عن جميع مال الكتابة، فلهذا لم يعتق.
إذا كاتب عبده لم يكن له منعه من أن يسافر، وقال بعضهم له منعه، والأول
أقوى عندنا، لأن في السفر الاكتساب، وإن كان له شقص منه فكاتبه عليه بإذن سيده
الآخر كان لشريكه منعه من السفر لأن نصيبه مملوك.
ومتى كاتباه معا جاز وإن اختلفا في الثمن مثل أن يكاتب أحدهما نصفه بألف
والآخر نصفه بألفين، وقال بعضهم لا يصح والأول أقوى عندي لأنه مثل البيع.
ومن قال بالثاني قال متى تفاضلا في الثمن مع التساوي في الملك بطلت المكاتبة
وهكذا إذا كاتباه إلى أجلين متفقين مع الاختلاف في البذل أو أجلين مختلفين مع
الاتفاق في البذل، فالكل جائز عندنا وفيهم من قال لا يجوز.
إذا كان العبد بينهما نصفين فكاتباه معا على ألف كل واحد منهما على خمس مائة
ثم ادعى أنه دفع إلى كل منهما كمال ما وجب له عليه، فإن صدقاه معا عتق، و
إن كذباه فالقول قولهما مع يمينهما، لأن الأصل أن لا قبض، وإذا حلفا فإن أدى
إليهما عتق، وإن عجز، كان لهما أن يعجزاه ويرجع رقيقا قنا.
فإن صدقه أحدهما وكذبه الآخر عتق نصيب المقر لأنه قد اعترف بقبض مال
الكتابة، ويكون القول قول الآخر مع يمينه، لأن الأصل أن لا قبض ولا تقبل
شهادة المقر على المنكر لأنه متهم بما يأتي ذكره.
فأما إذا لم تقبل شهادته وحلف المنكر، كان له المطالبة بحقه من مال الكتابة
لأنه قد ثبت أنه ما قبض منه شيئا، ويكون بالخيار بين أن يطالب المكاتب بالخمس
مائة، كلها، لأنه قد حلف أنه ما قبض منه شيئا وبين أن يطالبه بمائتين وخمسين و
يطالب شريكه بمائتين وخمسين، لأن على المكاتب أن يؤدي مال الكتابة إلى كل
واحد منهما بالحصة.
فإذا ثبت أن المقر قد قبض منه خمس مائة كان لشريكه نصفها لأنه لا يملك
أن ينفرد بها، وله مطالبة المكاتب بمائتين وخمسين، لأنه إذا كان له مطالبته بالخمس
مائة كلها، فبأن يملك المطالبة بنصفها أولى وأحرى، وإنما قلنا ذلك لأنه كسب
101

لعبديهما، فكان بينهما.
فإذا ثبت أنه بالخيار فإن اختار أن يقبض الخمس مائة من العبد فعل، وإن اختار
أن يقبض منه نصفها ونصفها من شريكه فعل، فإذا قبض ذلك عتق العبد لأن كل
واحد منهما قد استوفى جميع ماله على أي وجه كان، فليس لأحد من المقر والمكاتب
أن يرجع بما غرم على غيره بشئ لأنه إن قبض الكل من المكاتب لم يكن للمكاتب
أن يرجع على المقر بشئ من ذلك، لأنه يقول ظلمني بقبضها مني ثانيا، وإن رجع
على شريكه بمائتين وخمسين لم يكن لشريكه أن يرجع على المكاتب بشئ من ذلك
لأنه يقول ظلمني بذلك، وقد قبض حقه من المكاتب، وهذا المأخوذ مني ظلم.
هذا إذا استوفى المنكر حقه فإن تعذر عليه ذلك مثل أن قبض من شريكه مائتين
وخمسين، ولم يقدر أن يقبض من المكاتب شيئا، أو أراد قبض الكل من المكاتب فلم
يقدر على ذلك، كان له تعجيزه وفسخ الكتابة، لأنه قد تعذر عليه الوصول إلى مال
الكتابة، وكان له الرجوع إلى رقبة العبد.
فإذا فسخ عاد نصيبه قنا ونصيب شريكه حرا، فإن كان في يده مال فهو بين
المكاتب وبين المنكر لا حق للمقر به، وإن اكتسب شيئا بعد هذا فهو بينهما أيضا و
إذا ثبت هذا استقر الرق في نصيب المنكر، والحرية في نصيب المقر، ولم يقدم
نصيب المنكر على المقر.
هذا إذا ادعى على كل واحد منهما أنه أقبضه جميع حقه، فأما إذا ادعى أنه
دفع الألف كله إلى أحدهما، ليدفع منه نصيب الشريك خمس مائة، ويمسك لنفسه
خمس مائة، فأقر المدعى عليه أن جميع ما قبض منه خمس مائة قدر نصيبه، وأنه
إنما دفع الخمس مائة إلى شريكه، حكمنا أن نصيب المقر قد عتق بإقراره أنه قبض
جميع ماله من مال الكتابة، والقول قول المنكر أنه ما قبضه بغير يمين، لأن أحدا
لا يدعي عليه القبض:
لأن المكاتب يقول ما أقبضته أنا شيئا، والقابض لا يقول أنه أقبض المنكر
شيئا، فكان القول قوله بلا يمين، ولا يقبل شهادة المقر على المنكر، لأنه يدفع عن
102

نفسه ضررا وهو رجوع الشريك عليه بمائتين وخمسين، ولأنه لا تقبل شهادته لمن
لا يدعي حقا قبل غيره.
فإذا ثبت أن القول قوله بلا يمين، فله المطالبة بجميع حقه من مال المكاتبة،
وهو خمس مائة، فيكون بالخيار بين أن يرجع بها على المكاتب وبين أن يرجع على
الشريك بمائتين وخمسين وعليه بمائتين وخمسين كما قلنا في التي قبلها.
فإن قبض من المكاتب خمس مائة لم يكن للمكاتب أن يرجع بها على أحد، لأنه
يقول قد قبضها مني بحق لأني وكلت شريكه في إقباضه، فما ثبت إقباضه، وإن رجع
على المقر بمائتين وخمسين لم يرجع المقر بها على أحد، لأنه يقول ظلمني بذلك
ولا يرجع على أحد.
فإذا ثبت هذا نظرت فإن استوفى ماله منهما أو من المكاتب عتق المكاتب، لأن
جميع مال الكتابة قد استوفي منه، فإن لم يستوف لكنه رجع على المقر بمائتين و
خمسين، ورجع على المكاتب ليقبض منه فوجده عاجزا كان له تعجيزه، وفسخ الكتابة
لتعذر مال الكتابة.
فإذا فعل عاد نصيبه قنا ويقوم ههنا على المقر نصيب شريكه، لأن العبد معترف
أنه مسترق بحق لأنه يقول قد قبض أحدهما المال مني، ولم يثبت أنه رجع إلى
شريكه حقه منه، وأنا مملوك، فكان له تقويمه عليه.
ويفارق الأول لأن العبد يقول أنا حر وأنا مغصوب مغلوب على مسترق بغير
حق، فلهذا لم يقوم على المقر نصيب المنكر.
وإذا قال سلمت الألف إلى هذا ليقبض لنفسه خمس مائة، ويدفع إلى شريكه
خمس مائة، فقال المدعى عليه صدقت، قد قبضت ذلك ودفعت إلى شريكي خمس مائة
فأنكر الشريك فقال ما أقبضتني شيئا، فإن نصيب المقر يعتق، لأنه اعترف بقبض.
جميع مال الكتابة، ولا يقبل قوله على شريكه ولا شهادته عليه، لأنه متهم فيما يشهد
به، لأنه يسقطه رجوع شريكه عليه، ولأنه يشهد على فعل نفسه فلا تقبل شهادته
على فعله.
103

فإذا لم تقبل شهادته فالقول قول المنكر مع يمينه، لأن الأصل أن لا قبض، وعلى
المدعى عليه يمين فلهذا حلفناه، فإذا حلف حكمنا بأن نصيبه مكاتب، وكان له أن
يطالب بجميع حقه من شاء من المكاتب والمقر:
أما المكاتب فلأنه يستحق عليه مال الكتابة، وهو يذكر أنه بعث به إليه مع
المقر، وما حصل في يده شئ، وأما رجوعه على شريكه، فلأنه قد اعترف بقبض جميع
مال الكتابة، وأن نصف ذلك لشريكه المنكر، فكان له الرجوع عليه.
فإذا ثبت له الخيار فإن رجع على المكاتب كان له الرجوع بخمس مائة، فإذا
قبض ذلك عتق المكاتب لأنه استوفى مال الكتابة، وللمكاتب أن يرجع على سيده المقر
بخمس مائة سواء اعترف المكاتب بأن المقر دفعها إلى المنكر أو لم يعترف، لأنه و
إن اعترف فعليه الضمان، لأنه كان من سبيله أن يدفع إلى المنكر دفعا تبرأ ذمة المكاتب
به، فإذا لم يفعل كان عليه الضمان.
فإذا رجع بذلك عليه كان له، لأنه قد أدى وعتق، وهذا القدر دفعه إلى
المقر ليؤديه عنه، ويعتق. فلما لم يثبت هذا كان هذا المال فضل مال في يده للمكاتب
يتفرد به.
فأما إن رجع المنكر على شريكه المقر فليس للمقر أن يرجع بما غرمه على أحد
لأنه يقول قد ظلمت بهذا، لأني قد قبضته مرة وقد قبض ثانيا بغير حق، فلا يرجع
به على أحد.
هذا إذا اختار أن يرجع على من شاء منهما، فأما إن قال لا أرجع على غير المكاتب
كان ذلك له، وليس للمكاتب أن يقول أنت تقدر على استيفاء ذلك من المقر لأنه يقول
أنا وإن كنت أقدر فلست أختار أن آخذ حقي إلا ممن لي عليه أصل الحق، وليس
على المكاتب أيضا أن يطالب المقر بماله، لأنه يجري مجرى الإجبار على الكسب
والمكاتب لا يجبر على الكسب.
فإذا ثبت أن له مطالبة المكاتب مع القدرة على أخذ ذلك من الشريك نظرت
فإن امتنع المكاتب من ذلك كان له تعجيزه وفسخ الكتابة، فإذا فعل عاد نصيبه عبدا
104

قنا، ونقومه على المقر، لأن عتقه بسبب كان منه، فيكون له على المقر قيمة نصيبه
من العبد، وله عليه خمس مائة اعترف بقبضها، فلم يثبت إقباضها، لأن هذا مال
مكاتب قد عجز ورق.
فأما إن تمحل المكاتب فأدى الخمس مائة إلى المنكر عتق، فكان له أن يطالب
المقر بخمس مائة قبضها منه، لأنه مال له عنده وقد عتق فكان له فضل ما حصل في يده.
إذا كان العبد بين شريكين فكاتباه صحت الكتابة على ما مضى، فإذا صحت فليس
له أن يخص أحدهما بالأداء دون شريكه بغير إذن شريكه لأنه يفضي إلى أن ينتفع
أحدهما بمال شريكه مدة بغير حق.
وذلك أن المكاتب إذا قدم لأحدهما ربما عجز ورق فيرجعان معا في ماله
نصفين، فيحتاج أن يرجع على القابض بنصف ما قبضه، بعد أن انتفع به في تلك المدة.
هذا إذا كان بغير إذن شريكه، فإن أذن له في ذلك ودفع بإذنه صح عندنا، و
قال بعضهم لا يصح، لأن السيد لا يملك عين مال في يد المكاتب، لأن حقه في ذمته
فإذا أذن له في الإقباض فكأنه أذن له في غير حقه فكان وجوده وعدمه سواء.
ولأنه لو كان أتاهما بألف ليدفع إلى كل واحد منهما خمس مائة فتشاحا في
تقديم أحدهما فقال أحدهما ادفع إلى شريكي خمس مائة ففعل فهلك الخمس مائة
الباقية قبل أن يقبضها الآذن، كان للآذن أن يرجع على القابض بنصف ما قبضه، فلو
كان الإذن صحيحا ما كان له الرجوع عليه بذلك.
والأول أصح عندنا، لأن السيد يملك ماله في ذمة المكاتب، ويملك الحجر
على ما في يديه، بدليل أنه ممنوع من هبته وإقراضه والتغرير به، فإذا كان كالمحجور
عليه فإذا أذن له فيه فقد رفع الحجر بإذنه، فوجب أن يصح الإذن، لأنه كان له
حقان فأسقط أحدهما وبقي الآخر.
وقول المخالف إذا دفع إلى أحدهما خمس مائة ثم هلكت الثانية فالجواب أنه
إنما أذن له في تسليم ذلك إلى شريكه، ليسلم له خمس مائة قائمة في مقابلة ذلك،
فإذا لم يسلم ذلك كان له الرجوع فيما قبضه، وليس كذلك ها هنا لأنه أذن له أن
105

يقبض ما في يده ليبقى حقه في ذمة المكاتب. وذمة المكاتب موجودة بعد الإقباض، فلهذا
تعلق حقه بها.
فإذا تقرر هذا فمن قال القبض لا يصح كما لو دفع إلى القابض بغير إذن الإذن
فينظر فيه، فإن كان مع المكاتب مال يدفع إلى الآذن بقدر ما دفع إلى القابض فعل
وعتق كله، لأنه قد أدى جميع مال الكتابة، وإن لم يكن معه شئ غير الذي قبضه
القابض، كان المقبوض منه للقابض والآذن نصفين، ويكون ما بقي من مال الكتابة
لهما عليه، فإن أداه عتق، وإن عجز فسخا عليه الكتابة ورق.
هذا إذا قيل لا يصح القبض، ومتى قيل يصح القبض عتق نصيب القابض، لأنه
قبض جميع ماله من الكتابة قبضا صحيحا، ويكون له الولاء على قدر ما عتق منه وأما نصيب
الإذن فهو على الكتابة، يقوم على القابض، لأن العتق بسبب كان منه.
وهل يقوم عليه نصيب الآذن في الحال أو عند العجز عن الأداء؟ على ما مضى
من القولين: أحدهما يقوم في الحال نظرا للعبد، والثاني يؤخر التقويم نظرا للآذن
لأنه يرجو أن يحصل له ماله من مال الكتابة، ويستفيد الولاء عليه.
فمن قال يقوم في الحال قال قوم وهو مكاتب، ويتضمن هذا انفساخ الكتابة، و
عود المكاتب إلى الرق، والعتق بعده ويكون ولاء كله للقابض، فإن كان في يده مال
فهو للآذن، لأنه عاد رقيقا، ولا شئ للقابض، لأنه قد استوفى حقه، فإن كان في
يده أكثر مما قبض القابض أخذ الآذن منه بقدر ما قبض القابض، وكان الفضل بين
الآذن والمكاتب، لأن نصفه حر ونصفه عبد.
ومن قال يؤخر تقويمه قال لم يخل من ثلاثة أحوال إما أن يؤدي أو يعجز أو
يموت: فإن أدى عتق، وكان الفاضل في يده له، ويكون ولاؤه بينهما.
وإن عجز قومناه على القابض متى ظهر عجزه سواء فسخ سيده أو لم يفسخ، فإذا
قومناه وهو مكاتب زالت الكتابة بالتقويم، وعاد رقيقا، ثم عتق كله على القابض
فيكون الولاء كله له، فإن كان في يد المكاتب مال كان للآذن نصفه، والباقي للمكاتب
لأنه مال اكتسبه. ونصفه حر ونصفه مكاتب.
106

وإن مات المكاتب قبل أن يقوم انفسخ عقد الكتابة بموته، ومات ونصفه رقيق
فيكون نصف ما في يديه للسيد الآذن، لأن نصفه مكاتب له، والنصف الباقي الذي
هو له بما فيه من الحرية يرثه وارثه عندنا، فإن لم يكن له وارث فلسيده الذي أعتق
نصفه بحق الولاء وقال قوم يكون للسيد الآذن الذي يملك نصفه بحق الملك، وقال
بعضهم ينتقل إلى بيت المال.
إذا كاتب أمته وهي حامل فأتت بولد فإما أن تأتي به من سيدها أو من غيره
فإن أتت به من سيدها فهو حر لأنها علقت به في ملكه، وصارت أم ولده، ويكون
عقد الكتابة قائما بحاله، ويثبت لعتقها عند المخالف سببان الصفة وكونها أم ولد
فأيهما سبق الآخر وقع به العتق.
فإن أدت قبل الوفاة عتقت بالأداء عندنا وعندهم، وإن مات سيدها قبل الأداء
عتقت عندهم بوفاته، وعندنا أن كان لها ولد جعلت من نصيبه، ويعتق، وإن لم يكن
ولد فهي باقية على الكتابة للوارث.
وإن أتت به من غير سيدها من زوج أو زنا فالولد مملوك، لأن ولد المملوك من
زنا مملوك بلا خلاف، ومن زوج حر يكون مملوكا عندهم تابعا لأمه، وعندنا يكون
مملوكا كذلك إذا شرط استرقاقه.
فإذا ثبت أنه مملوك فلا يكون مكاتبا معها بلا خلاف، لأن الكتابة عقد معاوضة
فلا يسرى إلى الولد، وما الذي يكون حكمه؟ قيل فيه قولان: أحدهما يكون موقوفا
معها يعتق بعتقها، لأن الولد يتبع أمه في الحرية، وسبب الحرية، فإن كانت حرة
كان حرا، وإن كان لها سبب الحرية تبعها فيه كأم الولد، ولما ثبت لهذه المكاتبة
سبب الحرية، ثبت لولدها، لأن الولد يتبع أمه في الرق والعتق وسبب العتق
وهذا مذهبنا، والقول الآخر عبد قن لسيدها.
فإذا ثبت هذا فولد الآدميات على أربعة أضرب: ولد الحرة حر، وولد الأمة
القن عبد قن، إذا كان من زوج حر عندنا بشرط، وعندهم على كل حال، وإن كان
من زنا بلا خلاف وولد المدبرة عندنا كامها، وعندهم على قولين كولد المكاتبة، و
107

ولد المعتقة بصفة عندنا مثل ولد الأمة، لأن العتق بالصفة لا يجوز، وعندهم على
قولين:
فمن قال ولدها مملوك سيدها كان للسيد كولد أمته القن يتصرف فيه كيف شاء
لا يتعلق به شئ من أحكام الكتابة، ومن قال موقوف مع أمه على ما اخترناه ووقفناه
فإن عتقت أمة عتق، وإن رقت رق معها.
والكلام بعد هذا في أربعة فصول في قيمته بقتله وفي كسبه والنفقة والعتق.
فأما القتل فمتى قتله قاتل فعليه قيمته، لأنه مملوك، ولمن يكون؟ قيل فيه
قولان أحدهما لسيده لأن أمه لو قتلت كان له قيمتها، فكذلك ولدها، والثاني قيمته
لأمه تستعين بها على مال الكتابة، وهو الأقوى عندي، لأن السيد إنما يملك حقه
في ذمتها ولا يتجاوزها، وهذا العبد غير ما في ذمتها.
وأما الكلام في كسبه وأرش الجناية، قال قوم إنه لأمه لأنه منها كبعض
أجزائها، وقال آخرون هو موقوف، فإن عتق كان كسبه له، وإن رق كان لسيده
وهو الأقوى عندي، لأن الكسب يتبع الذات، بدليل أن كسب الحر له، وكسب
العبد لسيده ومنهم من قال يكون لسيده إذا قال لو قتل كانت قيمته لسيده.
فمن قال كسبه لأمه استوفته يوما بيوم، ومن قال لسيده استوفاه يوما بيوم، و
من قال موقوف على ما اخترناه ووقفناه، فإن أدت أمه وعتقت عتق بعتقها، وكان
ما وقفناه من الكسب له، وإن استرقت أمه على العجز وهم سيدها بالفسخ كان لها أن
تستعين بكسب ولدها على أداء ما عليها عندنا، لأن فيه نظرا للكل وأنها يعتق هي
وهو، ويملكان ما فضل، وإذا لم يفضل رقت ورق، وكان ما في يده لسيده، وكان
الاحتياط هذا.
وقال قوم ليس لها ذلك لأنه لا حق لها فيه، فإن مات هذا الولد قبل أن يعتق
أمه أو يرق فمن قال قيمته لأمه إذا قتل، قال يكون لها، ومن قال قيمته لسيده
إذا قتل فالكسب له.
فأما الكلام في نفقته، فمن قال كسبه لسيده فنفقته على سيده ومن قال موقوف
108

قال نفقته من كسبه، فإن كان قدر كفايته فذاك، فإن لم يكن قدر الكفاية، قال قوم
على سيده، لأنه لو رق كان له، وقال آخرون من بيت المال والأول أقوى.
فأما الكلام في عتقه، فإن أعتقه السيد فمن قال كسبه لسيده أو قال موقوف و
ليس لأمه أن تستعين به عند إشرافها على العجز والرق، قال ينفذ عتقه، لأنه لا
مضرة على أمه، ومن قال كسبه لأمه أو قال موقوف ولها أن تستعين بذلك عند إشرافها
على العجز، قال لا ينفذ عتق سيده فيه، لأن فيه إضرار بأمه.
هذا الكلام في ولدها فأما ولد ولدها قال قوم ولد البنات وولد البنين كالأمهات
وأما ولد بنتها كولدها فقد مضى الكلام في ولدها وأما ولد ابنها فإن كان تزوج بحرة
فولده حر، وإن كانت أمة فولده منها بمنزلتها.
ومن قال ولد المكاتبة من زوج عبد قن لسيدها، قال له أن يتصرف فيه على
الاطلاق كولد أمته القن، فإن كان الولد ابنة كان للسيد وطؤها على الاطلاق، والتصرف
فيها كما يتصرف في الأمة القن سواء ومن قال موقوف مع أمه قال ليس للسيد وطؤها
لأن ملكه ناقص، فإن خالف ووطئ فلا حد عليه لشبهة الملك.
فأما المهر فهو مبني على كسبها فمن قال كسبها لأمها قال المهر لأمها، ومن
قال توقف معها قال يقف معها، ومن قال لسيدها قال لا مهر له، لأنه لا يجب له على
نفسه.
فإن أحبلها لحق بالنسب به، ويكون حرا لأن الحد يسقط عنه لأجل الملك
ولا يجب عليه قيمة الولد، لأن أمه صارت أم ولده، ولا يقوم ولدها عليه وأما
الأمة فقد صارت أم ولد لأنه أحبلها بحر في ملكه، ولا يجب عليه قيمتها لأنها ليست
بملك لأمها.
فأما إن كانت للمكاتب أمة فليس للسيد وطيها، لنقصان الملك، فإن وطئ
فلا حد عليه لشبهة الملك، وعليه المهر لأنه ككسبها وكسبها لمولاتها، فكذلك مهرها
ويفارق هذا إذا وطئ بنت المكاتبة لأنها ليست مملوكة لأمها، فلهذا لم يجب عليه
مهر مثلها.
109

فأن أحبلها فالولد حر لأنها علقت بشبهة الملك، ولا يجب عليه قيمة الولد
أيضا لأنها صارت أم ولده بالإحبال، فلا يقوم عليه ولدها، وصارت أم ولد لأنها
علقت بحر في ملكه، وعليه قيمتها لمولاتها لأنها مملوكة لمولاتها، وقد أتلفها عليها بأن صيرها
أم ولد.
ويفارق هذا إذا وطئ بنت المكاتبة فأحبلها وصارت أم ولده، حيث قلنا لا
يجب عليه قيمتها، لأنها ليس ملكا لأمها.
إذا كانت أمته حرم عليه وطيها لأنه نقص ملكه عنها، فإن خالف ووطئ فلا
حد عليه بحال، وقال شاذ عليه الحد وعليها التعزير، إن كانا عالمين، وإن كانا
جاهلين عذرا، وإن كن أحدهما عالما عزر العالم.
فأما المهر فلها عليه مهر مثلها، لأن المهر كالكسب وكسبها لها، فكذلك المهر
وسواء طاوعته أو أكرهها، لأن الحد يسقط عنهما بسبب الملك.
ويفارق الحرة لأن الحرة إذا طاوعته كان زنا يجب عليها الحد، فيسقط
مهرها، وإن أكرهها يسقط الحد ويجب لها المهر، وسواء وطئها مرة واحدة أو
تكرر منه، المهر واحد، لأن الأصل في إيجاب مهر المثل الشبهة، ولو تكرر وطيها
بالشبهة لم يجب إلا مهر واحد.
اللهم إلا أن يغرم المهر ثم يطأها بعد الغرامة، فحينئذ يجب عليه مهر ثان لأن
غرم المهر قطع حكم الأول، فإذا وطئ كان مستأنفا، فلهذا أوجبنا عليه مهرا ثانيا.
فإذا ثبت وجوب المهر فإنه من غالب نقد البلد، ويكون مهر المثل ويقدر
ذلك الحاكم، فإذا حصل مقدرا في ذمته، فإن كان مال الكتابة ما حل عليها، فلها أن
يستوفيه منه، وإن كان حل عليها نجم فقد وجب له عليها مال، ولها عليه مال، فإن
كانا من جنسين استوفى كل واحد منهما ماله، وإن كانا جنسا واحدا عندنا يقع التقاص
وعندهم على الأقوال التي مضت.
وبقي الكلام في حكمها وحكم ولدها، فإذا أحبلها فالولد حر لأنها علقت منه
في ملكه وإن كانا ناقصا، وتكون أم ولده وكانت الكتابة بحالها، فإذا ثبت هذا
110

فقد حصل لعتقها سببان أداء في الكتابة، وموت سيدها، عندنا بأن تحصل في نصيب
ولدها فتعتق، وعندهم بنفس الموت.
وفيها ثلاث مسائل: إن أدت عتقت بالأداء وما في يدها وإن عجزت زال
عقد الكتابة، وصارت أم ولد مطلقة، له وطيها بكل حال، وما في يديها لسيدها
لأن المكاتب إذا عجز ورق كان ما في يده لسيده.
فأما إن مات سيدها قبل الأداء وقبل العجز، عتقت بموته، وزالت الكتابة
كما لو كان باشر عتقها على ما فصلناه، عندنا بأن تحصل في نصيب ولدها، وعندهم
بنفس الموت، فأما ما في يدها فعندهم لها، كما لو أعتقها في حال حياته، وهكذا يقتضيه
مذهبنا إذا كان عتقها، بأن حصلت في نصيب ولدها.
فأما الكلام في ولدها: إذا أتت به من زوج فهو ولد أم الولد وهو ولد المكاتبة
فيكون ابن أم الولد فإن كان زوجها حرا فالولد حر على كل حال إلا أن يشرط أن
يكون حكم الولد حكمها، فحينئذ عندنا يصح ذلك، ويعتق بعتقها، وعندهم يتبعها
من غير شرط ويعتق بعتقها، ومنهم من قال هو عبد قن لسيدها.
وفيه المسائل الثلاث: إن أدت أمه وعتقت عتق الولد عندنا، ومنهم من قال
لا يعتق، فإن عجز زال عقد الكتابة واسترق ولدها أيضا عندنا، ومنهم من قال لا
يسترق ويعتق بموت سيدها، الثالثة إذا مات السيد قبل الأداء وقبل العجز عندهم
يعتق بموت سيدها وولدها معها، وعندنا بأن تحصل في نصيب ولدها ويعتق ولدها
تابعا لها.
إذا كان للمكاتبة ولد واختلفا في ولدها، فقالت أتيت به بعد الكتابة، فهو موقوف
معي، وقال السيد بل قبل الكتابة فهو رقيق لي، فالقول قول السيد، ومن قال ولدها
رقيق لسيدها على كل حال لم يتصور عنده هذا الاختلاف.
وإنما قلنا القول قول السيد، لأن الأصل أن لا عقد حتى يعلم، ويلزمه
اليمين، لأنه يمكن أن تكون صادقة.
إذا اختلفا في ولد المكاتب فقال السيد ملكي، وقال المكاتب بل ملكي، فالقول
111

قول المكاتب، وصورتها أن يتزوج المكاتب أمة سيده ثم يشتريها من سيدها، فإذا
ملكها زال النكاح فما أتت به في الزوجية ملك لسيده، وما أتت به في ملكه فهو
ملك له، لأنه ابن أمته.
فإذا اختلفا فيه فالقول قول المكاتب ها هنا لأنهما اختلفا في الملك، ويد المكاتب
عليه، كما لو تنازعا بهيمة ويد أحدهما عليها، ويفارق ولد المكاتبة وإن كانت يدها
عليه، لأنها لا تدعي ملكا وإنما تدعي أنه موقوف معها، واليد تدل على الملك ولا
تدل على الوقف.
إذا كاتبا أمة بينهما لم يكن لواحد منهما وطيها، فإن خالفا ووطئا فلا حد عليهما
لشبهة الملك، لكن إن كانا عالمين عزرا، وإن كانا جاهلين عذرا وإن كان أحدهما
عالما والآخر جاهلا عزر العالم وعذر الجاهل.
وأما المهر فواجب على الواطي والمهر لها، لأنه من كسبها، ويكون مهر المثل
من غالب نقد البلد، ثم ينظر فيه فإن لم يكن حل عليها مال الكتابة كان لها أن
يستوفيه من الواطي تستعين به في كتابتها، وإن كان قد حل عليها مال الكتابة وكان
من غير جنسه لم يقع القصاص بينهما، وقبض كل واحد منهما حقه.
وإن كان مال الكتابة من غالب نقد البلد، فإن كان في يدها مال يؤديه بقدر
مهر المثل إلى غير الواطي فعلت، وكان مالها على الواطي من مهر المثل قصاصا بينهما
على ما مضى من الأقوال.
وإن لم يكن في يدها مال كان لها أن يقبض من الواطي نصف مهر المثل، ويدفعه
إلى غير الواطي، ويكون الباقي من ملكها على الواطي قصاصا بينهما على ما مضى
فإن كان ما اقتصت كل مال الكتابة عتقت، وإن كان أقل فقد عجزت ولكل واحد
منهما الفسخ، فإن لم يفسخا حتى أدت وعتقت، كان الفاضل في يدها.
فإن عجزاها ورقت لم يخل من أحد أمرين إما أن يكون قبل أن يقبض من
سيدها المهر أو بعد القبض، فإن كان بعد القبض نظرت، فإن كان المهر تالفا فقد تلف
منهما، وإن كان قائما اقتسما معا كسائر أكسابها.
112

فإن كان هذا قبل القبض نظرت فإن كان في يدها مال بقدر مهر مثلها دفعته إلى
غير الواطي، وبرئت ذمة الواطي عن المهر، لأنه لا يجوز أن يكون لعبده القن مال
في ذمة سيده، فإن لم يكن معها مال بحال برئت ذمة الواطي عن النصف، وغرم لغير
الواطي نصف المهر، كما لو وطئها وهي بينهما أمة قن.
فأما الكلام في الولد فإذا أتت بولد نظرت فإن أتت بعد الاستبراء من وطي السيد
لم يلحق بالسيد، وهو ولد المكاتب من زوج أو زنا على ما مضى حكمه، فإن أتت به
قبل الاستبراء فالنسب لاحق، وهو حر وصار نصيبه منها أم ولد.
فإن كان الواطي معسرا لم يقوم عليه نصيب شريكه، وصار نصفها أم ولد، و
كلها مكاتبة، فإن أدت عتقت بالأداء، وإن عجزت ورقت فنصفها أم ولد، ونصفها
قن فإن مات الواطي عتق نصفها إما بوفاته أو من نصيب ولدها على ما مضى، ولا يقوم
الباقي عليه، ولا على وارثه.
وإن كان الواطي موسرا قوم عليه نصيب شريكه، لأن الإحبال كالعتق، فإذا
قومنا عليه في العتق قومنا في الإحبال.
وقال قوم يقوم في الحال وقال آخرون إذا عجزت عن أداء مال الكتابة، كما
إذا أعتق نصيبه وهو موسرا قوم عليه نصيب شريكه، ومتى تقوم؟ على القولين.
فمن قال يقوم في الحال زالت الكتابة عن نصيب شريكه بالتقويم، وصارت كلها
أم ولد ونصفها مكاتبا، فإن أدت إلى الواطي ماله عليها من مال الكتابة، عتق نصفها
ويسري إلى باقيها فيعتق كلها، كما لو باشر عتق نصفها، وإن لم يؤد حتى مات السيد
الواطي عتق كلها على ما مضى، لأن كلها أم ولد.
فأما من قال عند العجز قال يؤخر التقويم، فإن أدت إليهما عتق كلها، وإن
عجزت قومناها حينئذ وزالت الكتابة عن نصفها بالتقويم، وصار نصفها أم ولد للواطي
ونصفها مكاتب وقد مضى حكمه إذا أدت أو لم تود مفصلا.
وأما الولد فهو حر ونسبه لاحق على ما قلناه وأما قيمته فلا يجب على الواطي
نصف قيمته، لأن نصف الأمة له، وهل يجب عليه لشريكه نصف باقيه؟ لم يخل من
113

أحد أمرين إما أن تضعه قبل التقويم أو بعده فإن وضعته بعد التقويم فلا شئ على الواطي
لأنها وضعته في ملكه، وإن وضعته قبل التقويم فعليه نصف قيمته، لأنه كان من سبيل
هذا النصف أن يكون مملوكا لشريكه، وقد أتلفه على شريكه بفعله، فكان عليه نصف
قيمته.
فأما إذا وطئها كل واحد منهما فإنه لا يجوز لهما ذلك، وإن خالفا ووطئ
كل واحد منهما فلا حد لشبهة الملك، فإن كانا عالمين عزرا، وإن كانا جاهلين عذرا
وإن كان أحدهما عالما عزر وعذر الجاهل.
وأما المهر فإنه واجب على كل واحد منهما، والمهران لها لأنه من كسبها
ثم لا يخلو إما أن تؤدي فتعتق أو تعجز فترق، فإن أدت وعتقت كان الفضل في يدها
بعد الأداء، فإن كانت قبضت المهر وإلا قبضته من كل واحد منهما، وأما إن عجزت
ورقت كان ما في يدها بينهما، لأنها ملكهما، فإن كانت قبضت المهرين فإن كان المال
قائما فهو بينهما، وإن كان تالفا فبينهما، وبرئت ذمة كل واحد منهما من المهر،
لأنها قبضته في وقت كان لها القبض.
وإن كانت ما قبضت المهرين كان لها على كل واحد منهما مهر مثلها وقد رقت
فلا يكون لها في ذمته حق بعد الرق، فإن كان المهران سواء سقط عن كل واحد
منهما نصفه بحقه، وكان لصاحبه عليه مثل ماله عليه فيتقاصان على ما مضى.
وإن كان أحد المهرين أكثر ووجه الفضل في المهر أن يطأها أحدهما وهي بكر
ويطأها الآخر وهي ثيب، وكذلك إن وطئها أحدهما وهي جميلة، ويطأها الآخر
وهي قبيحة أو مريضة، فما تساويا فيه تقاصا، وما فضل على أحدهما بينهما سقط عنه
بقدر ملكه، ويستوفي شريكه منه الباقي، فإن أفضاها أحدهما فعليه كمال قيمتها يسقط
عنه نصف القيمة بحقه منها، ويكون الباقي عليه لشريكه.
فإن ادعى كل واحد منهما على شريكه أنه الذي أفضاها وأنه هو الذي وطئها
دونه، حلف كل واحد منهما لصاحبه، وسقط حكم الوطي والافضاء ولم يجب على
واحد منهما لصاحبه شئ.
114

هذا إذا لم تحمل وأما إن حملت فلا يخلو من أحد أمرين إما أن يكون بعد أن
استبرأها كل واحد منهما، أو قبل أن استبرأها، فإن أتت به لستة أشهر فصاعدا بعد
الاستبراء لم يلحق الولد بواحد منهما لأن بالاستبراء قد زال حكم الوطي، ويكون
هذا ولد مكاتبة، عندنا يتبعها وعند بعضهم يكون رقا لمولاها.
وإن أتت به قبل الاستبراء لم يخل من أربعة أحوال أما أن يكون منتفيا عنهما
أو ملحقا بالأول دون الثاني، أو الثاني دون الأول، أو يمكن أن يكون من كل
واحد منهما.
فإن كان منتفيا عنهما، مثل أن أتت به لأكثر من أقصى مدة الحمل، من حين
وطئها الأول، ولأقل من ستة أشهر من حين وطئها الثاني، لم يلحق بواحد منهما
والحكم فيه كما لو أتت به من زوج أو زنا وقد مضى أنه على قولين.
وأما إن لحق بالأول دون الثاني، هو إن أتت به لستة أشهر فصاعدا إلى تمام
أقصى مدة الحمل من حين وطئها الأول، ولأقل من ستة أشهر من حين وطئها الثاني
فهو من الأول دون الثاني.
ولا يخلو من أحد أمرين إما أن يكون موسرا أو معسرا، فإن كان موسرا قومنا
عليه نصيب الثاني، لأن الإحبال كالعتق، وهل تقوم عليه في الحال أو عند العجز؟
على قولين:
فمن قال تقوم في الحال قومت عليه، وزالت الكتابة عن نصيب الثاني، وصار
كلها أم ولد للأول، ونصفها مكاتبا، والحكم فيما في يدها وفي أدائها وعجزها فقد
مضى.
ومن قال تقوم عند العجز عن أداء مال الكتابة قال يؤخر، فإن أدت عتقت
كلها، وما فضل في يدها لها، وإن عجزت واختار الثاني الفسخ دون الأول وفسخ
قومناها على الأول، وصارت كلها أم ولد، ونصفها مكاتب.
وبقي الكلام فيما لكل واحد منهما على صاحبه أما الثاني فله على الأول
نصف المهر لما مضى، وعليه نصف قيمتها بالتقويم.
115

وأما الولد فكل موضع أتت به بعد أن صارت أم ولد للأول، فلا يجب عليه
قيمة الولد لأنها وضعته في ملكه، وكل موضع أتت به قبل التقويم على الأول فعلى
الأول نصف قيمة الولد لأنه كان سبيله أن يكون نصفه مملوكا للثاني، وقد أتلف عليه
فعليه قيمة للثاني.
وأما ما يجب للأول على الثاني، فينظر في الثاني، فإن كان قد وطئها بعد أن
حكمنا بأنها أم ولد الأول، فعليه كمال مهر مثلها، فإن كان الأول قد فسخ الكتابة
في حق نفسه، فكل المهر له، لأنها أم ولده، وإن كان الأول ما فسخ الكتابة في
حقه فنصف المهر لها، لأن نصفها مكاتب، ونصفه لسيدها، لأن النصف الباقي غير
مكاتب.
وإن كان الثاني وطئها بعد زوال الكتابة في حقه، وقبل الحكم بكونها أم
ولد الأول، فعليه نصف المهر، ويسقط عنه النصف، لأن نصفها قن له، وما يصنع
بهذا النصف الواجب عليه؟ نظرت.
فإن كان الأول فسخ الكتابة في نصيبه، فالنصف كله له، وإن كان ما فسخ
الكتابة في نصيبه، فكل هذا النصف لها، لأن نصفها مكاتب.
وأما إذا كان الأول معسرا فإن نصيبه منها أم ولد، لأنه أحبلها في ملكه، ولا
يقوم عليه نصيب شريكه، لأن التقويم لأخذ القيمة، فإذا كانت معدومة لم يقع التقويم
ويكون نصفها أم ولد، وكلها مكاتبة.
ثم لا يخلو حالها من أحد أمرين إما أن تؤدي فتعتق أو تعجز فترق، فإن أدت
وعتقت فلا كلام، ويكون الفاضل في يدها، فإن كانت قد قبضت المهرين كانا لها، و
إن لم يكن قبضت كان لها قبضهما، لأن المهر كالكسب وكسبها لها، وإن عجزت
فرقت، فإن كان المال قائما في يدها كان لهما، وإن كان تالفا كان منهما.
وإن لم يكن قبضت المهرين برئت ذمة كل واحد منهما عن نصف المهر، لأنها
لا تستحق في ذمة مولاها بعد الرق حقا، ويكون لكل واحد منهما على صاحبه نصف
116

المهر، فإن كان المهر سواء تقاصا، وإن كان أحدهما أكثر ترادا الفضل على ما
فصلناه.
وأما الكلام في الولد فقال قوم حر كله، لأن الإحبال إذا كان في ملكه وكان
الواطي حرا لم ينعقد بعضه حرا وبعضه عبدا، وقال بعضهم نصفه حر ونصفه رق
لأنه لا يمنع أن يحبل من هذه صفته، ألا ترى أن من نصفها حر لو أتت بولد من زوج
أو زنا كان نصفه حرا ونصفه عبدا.
هذا إذا كان للأول دون الثاني، وأما إذا لحق بالثاني دون الأول، مثل أن
أتت به لأكثر من أقصى مدة الحمل من حين وطئ الأول، ولستة أشهر فصاعدا إلى
تمام أقصى مدة الحمل من حين وطئ الثاني، فهو للثاني دون الأول، فإن كان كذلك
كان حكم الثاني كحكم الأول، وحكم الأول كحكم الثاني في الفصل الذي قبله
حرفا بحرف، وإنما يختلفان في فصل نذكره فنقول:
لا يخلوا الثاني من أحد أمرين إما أن يكون موسرا أو معسرا، فإن كان موسرا
قومنا عليه نصيب شريكه، وهل تقوم في الحال أو عند العجز؟ على قولين:
فمن قال يقوم في الحال قوم ههنا، وصارت كلها أم ولد للثاني، ونصفها مكاتب.
ومن قال يقوم عند العجز نظرت، فإن رضي الثاني بالمقام على الكتابة قوم عليه نصيب
الأول، وصار كلها أم ولد الثاني، ونصفها مكاتب، وإن اختار الثاني الفسخ فسخ
وقوم عليه، وصارت كلها أم ولد الثاني، وبماذا يرجع كل واحد منهما على
صاحبه؟
أما رجوع الأول على الثاني فنصف المهر، ونصف القيمة، ونصف قيمة الولد
على ما فصلناه، وأما رجوع الثاني على الأول فنصف المهر على كل حال، لأنه إذا
كان هو الواطي أولا، فلا يمكن أن يكون وطيها صادف أم ولد الثاني، فلهذا لم يجب
للثاني على الأول إلا نصف المهر، ويفارق التي قبلها، لأنه يمكن أن يكون الثاني
وطئها بعد أن صارت أم ولد الأول، فلهذا كان على الثاني للأول كمال مهر
مثلها.
117

هذا إذا كان الثاني موسرا، فأما إن كان معسرا فعلى ما مضى، والحكم في الولد
على ما مضى من الوجهين، وإنما ذكرنا الثاني إذا كان موسرا ليتبين موضع الفصل بين
المسألتين.
وأما إن أمكن أن يكون من كل واحد منهما مثل أن أتت به لستة أشهر فصاعدا
من وطي كل واحد منهما، وتمام أقصى مدة الحمل من وطي الأول، فإذا أمكن ذلك
أقرعنا بينهما، فمن خرج اسمه ألحقناه به وعند بعضهم يرى القافة.
ومتى لحق بالأول دون الثاني، فقد مضى حكمه، وإن لحق بالثاني دون
الأول فقد مضى حكمه، ولا يتقدر عندنا أن يلحق بكل واحد منهما.
ومن قال بالقافة قال إن لحقوه بكل واحد منهما أو أشكل الأمر قال قدرنا
عليهما نفقته إلى أن يبلغ وينتسب إلى أحدهما فنلحقه به كما لو ألحقته القافة، وهل
يرجع بما أنفق على الآخر؟ على قولين، فإذا كان موسرا قوم عليه نصيب شريكه، وهل
يقوم عليه في الحال أو عند العجز على ما مضى من القولين.
وعلى مذهبنا إذا خرج اسم أحدهما والحق به قوم عليه نصيب شريكه منها
إن كان موسرا، وإن كان معسرا لم يقوم عليه، ويكون على ما كانت من الكتابة، والحكم
على ما مضى، ومتى قومت عليه صارت كلها أم ولده، ونصفها مكاتب، والحكم فيه
على ما مضى.
إذا ادعى على سيده أنه قد أعتقه فإن أقر له السيد، فلا كلام، وإن أنكر
فعلى العبد البينة شاهدان، فإن أقامهما وقبلهما الحاكم، حكم بعتقه، فإن ردهما
لفسق أو لغيره فالعبد على ملك سيده، ويكون الكلام في أربعة فصول في بيعه من
الشاهدين وفي عتقه إذا باعه منهما، وفي الولاء والميراث.
فأما البيع فإن باعه من غير الشاهدين كان بيعا في الطرفين، فإن باعه منهما كان
بيعا من جهته، واستنقاذا من جهتهما كما يستنقذان الأسير من يد المشركين.
وأما العتق فإنا نحكم بأنه عتق عليهما، لأن الحق صار إليهما، كما لو قال
رجل لعبد في يد زيد أنه حر وإنما استرقه ظلما، لم يقبل قوله على زيد، فإن ملكه
118

المقر عتق.
وأما الولاء فعليه الولاء، لأن العتق لا ينفك من الولاء لكنه ولاء موقوف
فإن المشتري لا يدعيه، والبايع لا يدعيه، فيقف الولاء.
وأما الميراث، فإذا مات هذا العبد فقد مات بعد الحكم بحريته، فإذا كان له
وارث مناسب كان له تركته، وإن لم يكن هناك مناسب قيل للبايع ما قولك في هذا العبد؟
فإن قال: صدق الشاهدان كنت أعتقته ثم بعته، وهو حر، قلنا له: البيع باطل، لأن
المشتري معترف بذلك، وعليك رد الثمن، ولك الميراث بالولاء، لأنك جحدت
سبب الإرث ثم اعترفت.
وإن قال البايع كذب الشاهدان ما بعت إلا عبدا قلنا للشاهدين ما تقولان أنتما؟
فإن قالا صدق البايع ما كان أعتقه، وما باع إلا عبدا ولا اشترينا إلا عبدا، قلنا فهو
رقيق لكما في الباطن، وهو حر في الظاهر، و التركة لكما بحق الملك في الباطن و
حق الولاء في الظاهر.
وإن قالا كذب البايع ما باع إلا حرا، وما اشترينا عبدا، وإنما استنقذناه
من الرق، وخلصناه من الظلم، قلنا فأحد لا يدعي الولاء: قال قوم يوقف الميراث، و
قال آخرون لا يوقف.
وللمشتري أقل الأمرين من التركة أو الثمن، فإن كان التركة أقل من الثمن
الذي استنقذاه به، فله التركة كلها، وإن كان الثمن هو الأقل فللمشتري منها قدر
الثمن، وما بعده موقوف، لأنه إن كذب الشاهدان فالعبد لهما في الباطن، والولاء
لهما في الظاهر فكل التركة لهما، وإن صدق الشاهدان فالتركة للبايع، وقد أخذ
منهما ثمن الحر ظلما، وقد وجدا له مالا فيأخذان قدره من التركة قدر الثمن، ويقف
الباقي، وهذا هو الأقوى عندي.
إذا قال لعبده إن ضمنت لي ألفا فأنت حر، فقد علق عتقه بضمانه، فإذا ضمن و
وجد الشرط، عندنا لا يقع العتق، لأن العتق لا يقع بشرط عندنا، وعندهم يقع، و
يلزمه المال.
119

وإن قال له أنت حر على ألف أو على أن عليك ألفا أو بألف فالحكم فيه كمال لو
قال إن ضمنت لي ألفا فأنت حر، فإن قال إن أعطيتني ألفا فأنت حر فقد علق العتق
بالعطية، فإذا وجدت وقع العتق عندهم، وعندنا لا يقع لما مضى.
وسواء كان الشرط ضمانا أو عطية، فمن شأنها أن يكون على الفور عقيب
الإيجاب عندهم، كالبيع، وإن تراخى عن الجواب بطل الإيجاب.
فإن قال أنت حر وعليك ألف عتق ولا شئ لسيده لأنه لم يجعل الألف عطية
ولا ضمانا وإنما أخبر أن له عليه ألفا بعد العتق، وهكذا الحكم في الطلاق في جميع
ما حكمناه.
فإن قال العبد لسيده قد علقت عتقي بضمان ألف، وقد ضمنتها وهي على وأنا
حر، فالقول قول السيد مع يمينه، فإذا حلف فالعبد على الرق.
فأما إن باع السيد عبده من نفسه بألف، فقال بعتك نفسك بألف، فقال قبلت
صح كالكتابة، وقد قال بعضهم لا يصح بألف، لأن الثمن إن كان عينا فالعبد لا يملك
وإن كان في الذمة فالسيد لا يملك في ذمة عبده دينا، والأول أقوى عندنا، لأنه
إنما يملك إذا لم يتعلق بعتقه فأما إذا تعلق بعتقه فإنه يملك كالكتابة.
فمن قال لا يصح فلا كلام، ومن قال يصح فإن وقع البيع مطلقا كان الثمن
حالا، ويعتق العبد والولاء لمولاه، فإذا وجد طالبه به، ويليق بمذهبنا أن يكون
ولاؤه للإمام، وأنه سائبة لا ولاء لمولاه عليه، إلا أن يشترط ذلك كالكتابة عندنا، و
إن كان الثمن إلى أجل كان على ما وقع عليه العقد.
فإن ادعى السيد أنه باع عبده من نفسه بألف وقبل العبد ولزمه الثمن، فإن
أقر العبد بذلك فهو حر، وولاؤه لمولاه، وعليه الألف، فإن كذبه فالقول ما قال
العبد أنه ما قبل ذلك، فإذا حلف سقط دعوى السيد من الثمن، والعبد حر لأن
السيد أقر بزوال ملكه عنه، وتلفه بعد الزوال، فلم يعد إليه كقوله بعتك يا زيد عبدي
بألف وقد أعتقته فإذا حلف زيد برئ من الثمن، والعبد حر لا يعود إلى البايع، لأنه
120

أقر بزوال ملكه وتلفه بعد الزوال.
إذا كاتب رجل عبدا على مال إلى أجلين إن المكاتب عجل للسيد المال قبل
محله، فإنه ينظر، فإن كان من الأشياء التي لا يبقى على الدوام، ويتلف كالطعام
والرطب وما أشبهه، لم يجب عليه قبوله بلا خلاف، لأنه ربما كان له غرض في
حصول المال في الوقت المؤجل.
وهكذا إن كان من الأشياء التي تبقى لكن يلزم على حفظه مؤنة كالطعام الكثير
والخشب الثقيل، فإنه لا يجبر على قبوله، لأن عليه في حفظه إلى ذلك الوقت ضررا
وإن كان مما قد يتلف ويلزم عليه مؤنة لم يجب عليه قبوله لأمرين كل واحد منهما
يمنع الإجبار.
وإن كان مما لا يتلف ولا يلزم على حفظه مؤنة كالدراهم والدنانير والصفر و
النحاس والرصاص نظر فإن كان في البلد فتنة، وكان حين عقد العقد البلد مستقيما لم
يجبر على قبوله، لأن عليه فيه ضرر الخطر، وإن كان وقت العقد مفتنا، قال قوم لا
يجبر عليه، وقال آخرون يجبر عليه، والأول مذهبنا.
وأما إن كان البلد مستقيم الحال، فعندنا لا يجبر على قبوله، وعندهم يجبر
فإن امتنع أخذه الحاكم له، وبرئت ذمة العبد، لأن الأجل حق من عليه الحق
فإذا أسقط حقه وعجل الدين الذي عليه، أجبر من له الدين على قبوله، وعندنا
لا يجبر في الدين أيضا.
فإذا ثبت هذا فإن قبض السيد المال صح قبضه، وعتق العبد، لأن ذمته برئت
من مال الكتابة.
إذا كاتب عبده على ألف درهم إلى أجلين فجاءه بخمس مائة قبل الأجل، وقال
خذ هذه على أن تبرئني من الباقي لم يصح فإنه مضارع لربا الجاهلية، لأنه ينقص
من الحق لينقصه من الأجل، وربا الجاهلية كان يزيده في الحق ليزيده في الأجل
فإن قبض المال لم يصح قبضه، لأنه إنما دفعه بشرط أن يبرئ من مال الكتابة.
فأما إذا قال له خذ هذه الخمس مائة وأبرئني من الباقي إن شئت، ففعل ذلك
121

وأبرأه، صح القبض، وصح الإبراء، لأنه دفع مطلقا عن شرط.
وإن قال للعبد عجز نفسك وادفع إلى خمس مائة حتى أعتقك لم يصح ذلك
لأنه ربما أخذ الخمس مائة ولا يعتقه.
وإن قال إذا عجزت نفسك وأعطيتني خمس مائة فأنت حر، تعلق العتق بصفة
التعجيز ودفع الخمس مائة، عندنا لا يصح، لأنه عتق بصفة، وعندهم يصح ومتى
دفع الخمس مائة عتق، وثبت بينه وبين السيد التراجع، فيحتسب له بما دفعه، و
يحتسب عليه بقيمته، ويتراجعان الفضل، لأنه جعل بدل العتق الخمس مائة، والتعجيز
لا يصح أن يكون بدلا عن العتق، فكأنه أوقع العتق على بدل فاسد، فيسقط البدل
المسمى ويثبت بينهما التراجع.
122

* (فصل) *
* (في بيع المكاتب وشرائه وبيع كتابته ورقبته) *
المكاتب يصح بيعه وشراؤه من سيده وغيره، لأن المقصود من الكتابة حصول
العتق وإنما يحصل العتق بالأداء والاكتساب والتصرف، فوجب أن يمكن من الاكتساب
فإن بيع شقص في شركته كان له أخذه بالشفعة، لأنه قد يكون له حظ في الأخذ
بالشفعة، ويجوز أن يأخذه من سيده بالشفعة، ولا يأخذ السيد منه بالشفعة، لأن
السيد ممنوع من التصرف في المال الذي في يده، كمال الأجنبي.
وليس للمكاتب أن يهب شيئا من ماله ولا أن يبيعه بالمحاباة، ولا أن يقرضه بغير
إذن سيده، لأن في هذه الأمور إتلاف المال، ولاحظ له فيها.
فإن فعل ذلك بإذن سيده أو اختلعت من زوجها بإذن سيدها على عوض بذلته
فعندنا يصح جميع ذلك، ومنهم من قال لا يصح جميع ذلك، والأول أصح لأن المال
لا يخلو من بين السيد والعبد، فإذا وهب أحدهما وأذن الآخر صحت الهبة كالشريكين
في المال إذا وهب أحدهما بإذن صاحبه.
إذا وجبت على المكاتب كفارة في قتل أو ظهار أو جماع ففرضه الصوم بلا خلاف
فإن كفر بالمال بغير إذن سيده لم يصح لأنه مستغن عن التكفير بالمال، لأنه يمكنه
التكفير بالصوم.
فإن أذن له السيد في ذلك، فإن أراد أن يكفر بالعتق لم يجز بلا خلاف
عندنا، لأنه فعل ما لم يجب عليه، وعندهم لأن العتق يتضمن ثبوت الولاء وليس
المكاتب من أهل الولاء، وأما إن أراد أن يكفر بالإطعام أو الكسوة فعندنا لا يجزيه
لأنه فعل ما لم يجب عليه، ومنهم من قال يجزيه.
ومتى باع المكاتب فلم يفترقا حتى مات المكاتب ووجب البيع، فقد مضت في
البيوع، ومنهم من قال لا يجب البيع.
123

ولا يجوز أن يبيع شيئا بثمن مؤجل لأن فيه تغريرا بالمال، وإن كان بأضعاف ثمنه.
وكذلك ليس له أن يبيع بثمن مؤجل على أن يأخذ رهنا أو ضمينا لأن الرهن
قد يتلف، والغريم قد يجحد، ويفلس، ويموت فلا يخلف شيئا، وإن كان في يد
المكاتب شئ تساوى مائة فيبيعه بمائة وعشرين ويقبض المائة، ويبقى العشرين إلى
أجل صح لأنه لا غرر فيه.
فأما إن ابتاع المكاتب بدين فإنه جايز لأنه ليس فيه تغرير عليه، بل التغرير
على البايع، وهكذا أن يستسلف في ذمته، لأن فيه حظا له إلا أنه ليس له أن يدفع
بذلك رهنا لأن الرهن أمانة في يد المرتهن، فربما يتلف في يده فيكون من ضمان
المكاتب، ويبقى الدين في ذمته على حالته.
وليس له أن يدفع مالا قراضا إلى غيره، وإن كان أمينا لأنه ربما أفلس أو جحد
أو خان، وليس له أن يهب بغير إذن سيده، سواء كان بثواب أو بغير ثواب لأن العوض
فيها غير مقصود، ولأجل هذا لا يكون لولي الطفل أن يهب مال الطفل لا بشرط
ولا بغيره.
وإذا وهب شيئا لسيده فقبله صحت الهبة عندنا، لأن الهبة بإذن سيده عندنا
جايزة، وكان هذا بمنزلة إذنه فأما من قال هبته بإذن سيده لا يصح قال لا يصح هذه
الهبة.
إذا كان للمكاتب على سيده مال وحل للسيد شئ من النجوم فليس يخلو إما
أن يكون الحقان من جنس واحد أو من جنسين، فإن كانا من جنس واحد من النقود
ففيه أربعة أقاويل مضت، أصحها عندنا أن يصير قصاصا.
وإن كان أحدهما من غير جنس الآخر أو كانا من غير النقود، فأن أحدهما لا
يصير قصاصا عن الآخر بلا خلاف، ولا يخلو حال الحقين من ثلاثة أحوال:
إما أن يكونا نقدين أو عرضين أو نقد وعرض، فإن كانا نقدين فلا يحتاج إلى
قبض الحقين معا، بل يقبض أحدهما ما عليه من صاحبه ثم يرده عوضا عما له في ذمته
لأن دفع العرض عن الدراهم والدنانير في الذمة يجوز.
124

وإن كانا عرضين فلا بد أن يقبض كل واحد منهما ماله على صاحبه، ولا يجوز
أن يقبض أحدهما ثم يرد ما قبضه على الآخر عوضا عما له عليه، لأن هذا العرض
الذي في الذمة ثابت في أحد الحقين عن سلم، فإن المكاتب لا يجوز له أن يعوض ما
في يده من المال، وأخذ المال عن العوض الثابت في الذمة عن كتابة أو سلم غير جايز.
فأما إذا كان أحدهما نقدا والآخر عرضا فإنه إن قبض صاحب النقد حقه لم
يجز أن يدفعه عوضا عن العرض الذي في ذمته، بل عليه تسليمه وإقباضه، وإن قبض
صاحب العرض حقه جاز أن يدفعه بدلا عن النقد وعوضا عنه، لما ذكرناه من التعليل.
وإذا حل على المكاتب دين سيده وكان للمكاتب على انسان دين فقال له السيد
بعني ما لك في ذمة فلان بمالي في ذمتك، ففعل لم يصح البيع، لأنه بيع دين بدين
وإنما يجوز أن يحيله بالدين على ذلك الغير، فيكون حوالة دين بدين.
إذا كاتب عبدا ثم اشترى المكاتب عبدا وأعتقه بغير إذن سيده فالعتق لا ينفذ
لأن ذلك إتلاف مال وهكذا إن كاتبه بغير إذن السيد لم يصح الكتابة، لأنها تجري
مجرى العتق.
فأما إن أعتق عبدا بإذن سيده أو كاتبه بإذنه فعندنا يصح، وقال بعضهم لا يصح
فمن قال لا يصح قال العتق لا ينفذ، فالكتابة باطلة والعبد باق على ملكه، فإن أدى
المال إليه لم يعتق، ومن قال العتق ينفذ والكتابة يصح على ما اخترناه، قال إن أدى
مال الكتابة عتق.
وأما الولاء فعندنا أنه يكون سائبة، وقال بعضهم هو للسيد، وقال آخرون
هو موقوف، فمن قال الولاء للسيد قال استقر الولاء له، سواء عجز المكاتب نفسه أو
أدى فعتق فإن الولاء لا ينفك عن السيد.
إذا مات العبد كان المال للسيد، ومن قال الولاء موقوف قال إن أدى المكاتب عتق
واستقر الولاء له، فإن عجز المكاتب نفسه استرقه السيد فأخذ ماله وكان الولاء له
وإن مات قبل أن يعجز أو يؤدي فلمن يكون ماله؟ فيه قولان أحدهما يكون موقوفا
على ما بين من أمر المكاتب كالولاء سواء، الثاني أنه للسيد.
125

والفرق بينه وبين الولاء، أنه لما جاز أن ينتقل الولاء من شخص إلى شخص
جاز أن يكون موقوفا، والميراث لا يجوز أن ينتقل من شخص إلى شخص، فلم يجز أن
يقف.
إذا كاتب عبدا على مال ثم إن السيد باع المال الذي في ذمة المكاتب، قال قوم
البيع صحيح، وقال آخرون لا يصح، وهو الأقوى عندي، لما روي عن النبي صلى الله عليه وآله
أنه نهى عن بيع ما لم يقبض وهذا بيع ما لم يقبض.
فإذا بطل البيع لم يملك المشتري مطالبة المكاتب بشئ، لأنه ما ملك عليه شيئا
فيطالبه، ولا يجوز للمكاتب أن يدفع إليه شيئا، فإن جمع مالا ودفعه إلى المشتري فلا
يعتق به عندنا.
وقال بعضهم يعتق، لأن السيد لما باع المال من المشتري أذن له في قبضه و
سلطه عليه، فصار كالوكيل له في قبض المال.
والأول أصح، لأن المشتري لم يقبض المال للسيد، وإنما قبضه لنفسه، و
قبضه لنفسه ما صح، فإنه ما استحق شيئا، فإذا لم يصح قبضه لنفسه، صار وجود ذلك
القبض منه كعدمه، فلم يبرأ ذمة المكاتب بذلك الدفع، كما لو دفعه إلى أجنبي.
ومن قال يعتق، قال: إن ذمته تبرأ من مال الكتابة لأنه ما عتق إلا بعد براءة
ذمته من المال وتبقى المنازعة بين السيد وبين المبتاع في المال الذي قبضه من المكاتب
وفي النجم الذي دفعه المبتاع إليه، فإن كان المال الذي قبضه المشتري، والثمن الذي
دفعه المبتاع إليه باقيين، رجع المشتري بما دفع، واسترجع منه ما أخذ، فإن كانا
تالفين حصل التقابض بينهما فيما تساويا فيه، ورجع أحدهما على صاحبه بالفضل الذي
بقي له.
ومن قال إن المكاتب لا يعتق، فإن ذمته لا تبرأ من مال الكتابة، فيستحق
السيد أن يطالبه بمال الكتابة، ويستحق هو أن يطالب المشتري بما دفعه إليه، و
استحق المشتري مطالبة السيد بالثمن الذي دفعه إليه.
إذا كان لرجل في ذمة رجل حر دين عن غير سلم، فباعه من انسان بعوض إما
126

ثوب أو غيره قال قوم إنه يصح لأنه لما جاز أن يبتاع بدين في ذمة نفسه جاز أن يبتاع
بدين له في ذمة غيره، لأن كل واحد من الدينين مملوك.
وقال آخرون إنه لا يصح لأن الدين الذي له في ذمة الغير ليس بمقدور على
تسليمه، فإنه ربما منعه من هو عليه، وربما جحده، وربما أفلس، ومن ابتاع ما
لا يقدر على تسليمه بطل بيعه، كما لو ابتاع بعبد مغصوب أو آبق، والأول رواية أصحابنا
وقالوا إنما يصح لأنه مضمون.
إذا اشترى المكاتب من يعتق عليه بحق القرابة كالآباء والأمهات وغيرهم،
فإن اشتراه بغير إذن سيده بطل الشراء، وقال بعضهم يصح الشراء، ولا يصح التصرف
فيه استحسانا، والأول أصح عندنا، لأن في ابتياعهم إتلاف المال، فإنه يخرج من
يده شيئا ينتفع به ويمكنه التصرف فيه، ويستبدل مكانه مالا ينتفع به ولا يمكنه
التصرف فيه، فهو إتلاف في الحقيقة، فأما إذا اشتراهم بإذنه، فعندنا أنه يصح، وقال
بعضهم لا يصح.
فأما إذا أوصى له به وأراد أن يقبل الوصية، فإنه ينظر، فإن كان ممن يجب
عليه نفقته، بأن يكون زمنا أو شيخا كبيرا أو طفلا صغيرا لم يجز قبول الوصية فيه
لأنه يستضر بوجوب النفقة عليه، وإن كان جلدا مكتسبا تقوم نفقته بكسبه، فله
أن يقبل الوصية منه، بل هو مندوب إليه، لأنه إذا ملكه لا يستضر.
فإذا ثبت هذا، وقبل الوصية، ملكه ولم يجز له التصرف فيه، لأن الابن لا
يجوز أن يتصرف في أبيه، لكنه يقف معه، فإن أدى وعتق عتق هو أيضا ويكون
ولاؤه له، فإن عجز عن نفسه واسترقه السيد، استرق الابن معه، وحصلا مملوكين.
وإن جنى هذا العبد جناية يتعلق أرشها برقبته لم يكن للسيد أن يفديه، لأنه
يخرج عن عبده عوضا ينتفع به ويتصرف فيه، ويستبقي مالا ينتفع به ولا يتصرف
فيه، فلم يجز له ذلك.
لا يجوز [بيع] رقبة المكاتب عندنا وقال بعضهم صح وفيه خلاف ذكرناه [في
الخلاف].
127

* (فصل) *
* (في كتابة الذمي) *
يجوز كتابة النصراني بما يجوز به كتابة المسلم لعموم الآية، والخبر، وإنما
تصح كتابته على الوجه الذي يصح عليه كتابة المسلم، وترد على الوجه الذي ترد
عليه كتابة المسلم.
فإذا كاتب عبدا ثم ترافعا إلى حاكم المسلمين حكم بينهما بحكم الاسلام، فإن
كانت الكتابة تجوز بين المسلمين أمضاها، وإن كانت لا تجوز ردها، لأن الحاكم إنما
يجوز له أن يحكم بما يسوغ في ذمته.
فإذا حكم بينهما نظر في الكتابة، فإن كانت صحيحة أقرهما عليها وأمضاها، و
إن كانت فاسدة بأن يكونا عقداها على خمر أو خنزير أو شرط فاسد ففيه ثلاث مسايل:
إحداها أن يتعاقدا الكتابة في حال الشرك، ويتقابضا العوض، ثم أسلما وترافعا
فالحاكم يقرهما على ذلك، لا لمعنى أنه يحكم بصحته، لكن لا يتعرض له كما نقول
إذا تزوجها على مهر فاسد وتقابضا العوض ثم أسلما.
الثانية أن يعقد العقد في الشرك على خمر أو خنزير ثم أسلما وتقابضا العوض بعد
الاسلام فالحاكم يبطل ذلك ويرده لأن قبض الخمر والخنزير لا يصح في حال الاسلام.
ويصح العتق بوجود الصفة عندهم، ويثبت بين السيد والعبد التراجع، فإن
كان ما دفعه إلى السيد لا قيمة له لم يحتسب له بشئ، وحسبت عليه قيمة رقبته، و
يترادان الفضل والذي يقتضيه مذهبنا أنه يلزمه قيمة ما وقع عليه العقد عند مستحليه
لا قيمة رقبته، ولا يقع العتق إلا بعد توفيته.
المسألة الثالثة إن تعاقدا العقد في حال الكفر ثم أسلما وترافعا قبل التقابض أو
بعد قبض البعض وبقاء البعض، فيحكم الحاكم بفسخ الكتابة وإبطالها عندهم، ويقتضي
128

مذهبنا ما قلناه في المسألة أن عليه قيمة ما وقع عليه العقد سواء كان الكل أو البعض
ولا تبطل الكتابة.
الكافر إذا اشترى عبدا مسلما فالبيع باطل عندنا، وقال بعضهم صحيح، وإنما
قلنا بالأول لقوله تعالى " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا (1) ".
فمن قال صحيح قال يملكه، ويكون الحكم فيه وفي أنه أسلم العبد تحت يده
أو ملكه بالإرث واحد، وزال ملكه منه فلا يقر عليه، فإن أعتقه أو باعه أو وهب جاز
فإن كاتبه قال بعضهم يصح وقال آخرون لا يصح، لأن سلطانه باق عليه، لأنه يمنعه
من السفر، وكمال التصرف.
فمن قال الكتابة صحيحة أقره عليها، فإن أدى مال الكتابة عتق، وإن عجز
نفسه استرقه السيد وأزيل ملكه عنه ببيع أو غيره، ومن قال الكتابة فاسدة قال يباع
عليه، فإن بادر العبد قبل أن يباع عليه فأدى المال عتق بوجود الصفة، ويراد الفضل
لأنه عتق بكتابة فاسدة، وهذا يسقط عنا لما قلناه.
إذا كان للكافر عبد فكاتبه ثم أسلم فإنه لا يباع عليه، لأن القصد إزالة سلطانه
وقد حصل، فأما إن أسلم ثم كاتبه فعندنا لا يصح وقال بعضهم يصح.
أهل الحرب عندنا لهم أملاك تامة صحيحة بدليل قوله " وأورثكم أرضهم و
ديارهم (2) " فأضاف ذلك إليهم وحقيقة الإضافة تفيد الملك، فعلى هذا إذا كاتب الحربي
عبدا له صحت كتابته، لأنه عقد معاوضة، والحربي والمسلم فيه سواء.
فإذا كاتب في دار الحرب ثم دخلا في دار الاسلام مستأمنين، أو بأمان ثم كاتبه
فإنهما ما لم يترافعا إلى الحاكم ويتحاكما إليه فلا يتعرض لهما، بل يقرهما على ما
فعلاه.
فإن ترافعا إليه فإنه يحكم بينهما بحكم الاسلام، وينظر في الكتابة، فإن كانت
صحيحة في شرعنا أعلمهم صحتها، وأقرهما عليها، وإن كانت فاسدة أعلمهم فسادها،

(1) النساء: 141.
(2) الأحزاب: 27.
129

فإنه لا يجوز الاقرار عليها.
فإن قهر سيده على نفسه في دار الحرب، ثم دخل دار الاسلام بأمان ومعه السيد
فقد ملك السيد، وانفسخت الكتابة فيه، وملك سيده بقهره إياه، ويقر على ذلك
لأن دار الحرب دار قهر وغلبة، من قهر فيها على شئ وغلبه ملكه.
فأما إذا دخلا دار الاسلام ثم قهر سيده على نفسه، فإنه لا يقر على ذلك
لأن دار الاسلام ليس بدار قهر وغلبة، بل هي دار حق وإنصاف.
المسلم إذا كان له عبد كافر فكاتبه يقوى عندي أنه لا يصح الكتابة لقوله تعالى
" فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا " وهذا لا خير فيه، ولقوله تعالى " وآتوهم من مال
الله الذي آتاكم " وهذا ليس من أهله، لأن ذلك من الصدقة، وليس الكافر من أهلها
وعند المخالف يصح الكتابة كما يصح إعتاقه.
فإذا أدى المال عتق، ويثبت للمسلم عليه الولاء، ثم يقال له إلى الآن كنت
تابعا لسيدك، وقد صرت حرا فإن شئت فاعقد لنفسك عقد الذمة، وإن شئت فالحق
بدار الحرب، فتكون حربا لنا.
فإن لحق بدار الحرب فظهر المسلمون على الدار وأسروه لم يجز استرقاقه لأنه
قد ثبت للمسلم عليه ولاء في استرقاقه إبطال ذلك الولاء، ولو قلنا إن الكتابة صحيحة
لكان يصح استرقاقه، لأن عندنا لا ولاء للسيد إلا بالشرط، فإن كان شرط لم يصح
حينئذ استرقاقه.
الكافر الحربي إذا كاتب عبده ثم دخل دار الاسلام بأمان أو دخلا دار الاسلام
ثم كاتبه، فقد انقطع سلطانه عنه، فإن أراد العبد الرجوع إلى دار الحرب لم يكن
للسيد منعه من ذلك، لأن تصرفه قد انقطع عنه، وإنما بقي له في ذمته دين، فلم
يكن له منعه من السفر، ولا إجباره عليه.
فيقال له إن اخترت أن تقيم في دار الاسلام حتى تقبض المال منه، فافعل واعقد
لنفسك عقد الذمة، وإن اخترت فالحق بدار الحرب، ووكل من يقبض لك المال،
فإن لحق السيد بدار الحرب ووكل فأدى المكاتب إلى الوكيل عتق ويكون هذا المال
130

للسيد، والأمان ثابت له، فإذا لحق السيد بدار الحرب انتقض أمانه في نفسه، ولا
ينتقض في ماله، كما لو عقد له الأمان مفردا، فما دام السيد حيا فالأمان باق للمال
فإذا مات انتقل المال إلى ورثته وهل يكون الأمان باقيا أو يجوز استينافه؟ على قولين
مضيا في السير (1).
إذا خرج السيد إلى قتال المسلمين، فسبي ووقع في الأسر فالإمام فيه مخير
بين أن يقتله أو يسترقه أو يمن عليه أو يفاديه بمال أو رجال، فإن قتله فهو كما لو
مات على ما ذكرناه، وإن أطلقه أو فأداه برجال أو بمال، فالمال على حالته، فإن
ملكه ثابت على أمواله لم يتغير شئ منه بنفس الأسر، وإنما يتغير ذلك بالقتل و
الاسترقاق، فإن استرقه فبالاسترقاق يزول ملكه عن ماله.
فلا يخلو إما أن يكون المكاتب قد أدى المال إلى وكيله أو لم يؤد، فإن كان
قد أدى فقد عتق، وحصل المال للسيد، والولاء له، فإن استرق فإن ماله لا ينتقل
إلى ورثته بلا خلاف، لأنه في ولاء يورث، لكن ما حكمه؟ يبنى على القولين في الموت.
فمن قال هناك إن ماله لا يغنم، فهيهنا أولى، لأن بالموت يزول ملكه عنه
زوالا لا يرجى عوده، وهيهنا يزول زوالا يرجى عوده، ومن قال إن ماله يغنم هناك
على ما يختاره قالوا ههنا قولين أحدهما يغنم، لأن ملكه يزول بالاسترقاق كزواله
بالموت، والثاني لا يغنم بل يكون موقوفا، والأول عندي أقوى.
فمن قال يغنم فإنه ينقل إلى بيت المال ويستقر حكمه فسواء أعتق بعد ذلك
أو مات أو قتل، فإنه لا يورث، ومن قال إنه موقوف قال ينظر في ماله، فإن عتق عاد
الملك إليه، لأنه زال المغني الذي زال الملك لأجله، فحكم بعوده.
وإن قتل أو مات وهو رقيق فلا يمكن أن يورث، فيكون بمنزلة الذمي إذا
مات ولم يعرف له وارث، فينقل ماله إلى بيت المال فهذا حكم المال.
فأما الولاء فقال بعضهم الولاء كالمال فإذا قيل المال مال المسلمين، فالولاء لهم، و
إذا قيل إنه موقوف فالولاء موقوف، وفيهم من قال الولاء يسقط، ولا يثبت لأحد لا

(1) يعني كتاب الجهاد.
131

للمسلمين ولا للمناسبين، وهو مذهبنا، لأن ولاء المكاتب عندنا لا يثبت إلا بالشرط
وما يثبت بالشرط لا ينتقل إلى ورثته، لأنه إنما ثبت بتضمين الجريرة وقد مضى.
فهذا الحكم في المكاتب إذا كان قد أدى المال قبل أن يسترق السيد، فأما إن
استرق قبل أن يؤدي فإنه ينظر، فإن أعتق السيد فقد عاد ملكه على المال الذي في
ذمة المكاتب، وإذا أداه إليه عتق وثبت له الولاء عليه، وإن مات السيد أو قتل وهو
رقيق فقد انقطع ملكه، وحصل المال الذي في ذمته للمسلمين يؤديه إلى الإمام، ويعتق
وفي الولاء وجهان، على ما مضى عندنا للإمام.
ومتى قال المكاتب - قبل أن يعتق السيد أو يموت - للحاكم: أقم لي أمينا
أؤدي له المال وأعتق، فعل ذلك، فإذا أدا إليه المال عتق.
إذا كاتب المسلم عبدا ثم ظهر المشركون على الدار فأسروا المكاتب وحملوه إلى
دار الحرب فإنهم لا يملكونه بذلك، لأن حق المسلم قد تعلق به، فإن انفلت المكاتب
منهم أو ظهر المسلمون على الدار فأخذوه فهو على كتابته.
وهكذا إن دخل الكافر دار الاسلام بأمان فكاتب عبدا له، ثم ظهر المشركون
على الدار فقهروا المكاتب على نفسه وأخذوه إلى دار الحرب ثم انفلت منهم، أو غلبهم
المسلمون عليه، فإنه يكون على كتابته.
وهل يجب عليه أن يخليه مثل تلك المدة التي حبسه فيها المشركون ليكتسب
فيها أم لا؟ قيل فيه قولان أحدهما يجب، والآخر لا يجب، والأول أقوى.
وهكذا لو كاتب عبده ثم حبسه مدة من الزمان، قال قوم يجب عليه أن يتركه
مدة مثل تلك المدة، وهو الأقوى عندي، وقال آخرون لا يجب، غير أنه يلزمه
ضمان مثل أجرة تلك المدة وهو قوي أيضا.
وإذا أسره المشركون فلا يلزم السيد الضمان بلا خلاف، وإذا ثبت هذا فمن
قال لا يلزم تخلية المكاتب مثل المدة التي حبسه فيها المشركون، نظر، فإن كان حل
عليه مال الكتابة طالبه، وإلا كان له أن يعجزه، وإن لم يكن حل عليه المال انتظر
إلى وقت حلوله، فإن أدى وإلا كان له أن يعجزه.
132

ومن قال عليه تخليته، لزمه أن ينتظر إلى مثل تلك المدة، ثم يطالبه بالمال
فإن أداه وإلا كان له أن يعجزه، فهذا الحكم فيه إذا انفلت المكاتب من المشركين وعاد
إلى دار الاسلام.
فأما إذا كان في بلاد الشرك على حكم الأسر، فحل عليه مال الكتابة فأراد
السيد تعجيزه فمن قال يلزمه تأجيله قال لم يكن تعجيزه، لأنه متى انفلت من المشركين
كان عليه أن يخليه مثل تلك المدة ثم يتحقق عجزه، فلم يكن له الفسخ قبل مضي
تلك المدة، ومن قال لا يلزمه تخليته، قال له أن يفسخ في الحال لأنه قد تعذر عليه
حصول مال الكتابة مع استحقاقه له.
لكن هل يتولى الفسخ بنفسه أو يرجع إلى الحاكم حتى يفسخ؟ قيل فيه وجهان
قال بعضهم له أن يتولاه بنفسه، كما لو كان حاضرا فتعذر عليه المال، وقال آخرون
يرفعه إلى الحاكم حتى يفسخ، لأنه ما تحقق عجزه، لجواز أن يكون له مال لا
يعلم به.
فإذا فسخ السيد الكتابة إما بنفسه أو فسخها الحاكم، فإن لم يدع لنفسه مالا
فقد تحقق عجزه، واستقر حكم الفسخ، وإن ادعى أن له مالا وأقام البينة على
أنه كان موجودا حال الفسخ فسخنا ما كنا حكمنا به من العجز، ويدفع المال إلى
السيد ويعتق، لأنه إنما حكم بعجزه في الظاهر، فإذا بان له مال بان الخطأ فيما
عمل، وجعل له أن يؤدي ويعتق.
ولو كاتب في بلاد الحرب ثم خرج المكاتب إلينا نظر فإن دخل بإذن سيده إما
في تجارة أو حاجة فهو على حكم الكتابة، وتحت يد السيد، وإن خرج بغير أذن
السيد على وجه القهر له على نفسه، فإنه ملك نفسه وينفسخ الكتابة، ويعتق، لأن
الدار دار قهر وغلبة، ثم يقال له أنت بالخيار بين أن تقيم وتعقد لنفسك ذمة أو تلحق
بدار الحرب، فتصير حربا لنا.
133

* (فصل) *
* (في كتابة المرتد) *
إذا ارتد رجل ثم كاتب عبدا قال قوم إنها باطلة، وقال آخرون صحيحة، و
منهم من قال إنها موقوفة مراعا مثل التدبير، والأول أقوى عندي.
فإذا ثبت هذا فمتى أدى المكاتب المال نظر، فإن أداه قبل أن يحجر على المرتد
فمن قال الكتابة صحيحة، فإنه يعتق بالأداء، ويكون المال والولاء لسيده، لأن
ملكه ثابت على ماله، ومن قال إنها باطلة قال إذا أدى لم يعتق، لأنه محكوم
بزوال ملكه عن ماله، ولو أعتق عبدا ابتداء لم ينفذ عتقه، كذلك لم يعتق عليه العبد
بالأداء.
ومن قال إنها موقوفة نظر فإن أسلم السيد كانت الكتابة صحيحة، ويصح
الأداء ويعتق، ويكون الولاء للسيد، وإن قتل أو مات على الردة علم أنها باطلة
وأن الأداء لم يصح، فيكون العبد فيئا للمسلمين، وكذلك ما في يده من المال.
وأما إذا أدى بعد ما حجر الإمام على المرتد في ماله، فمن قال الكتابة
باطلة وليس بينهما عقد، فالعبد باق على الرق، وأداؤه كلا أداء، ومن قال إنها
صحيحة أو قال موقوفة فلا يجوز أن يؤدي المال إلى السيد، لأنه محجور عليه لا
يصح منه القبض، فإن دفع المال إليه لم يصح الدفع، ولا يعتق، وللحاكم، مطالبته
بالمال.
فإن كان ما دفعه باقيا بحاله دفعه إلى الإمام وعتق بالدفع، وإن كان تالفا فقد
هلك من ضمانه، فإن كان معه شئ آخر يدفعه إلى الحاكم وإلا كان له تعجيزه.
فإن أسلم السيد كان عليه أن يحسب له بما دفعه، ويعتق عليه، لأنه إنما
لم يصح قبضه لحق المسلمين، فإذا زال حقهم فصار الحق له، صح قبضه ووقع
العتق.
134

إذا كان للمسلم عبد فارتد العبد، ثم كاتبه السيد بعد ردته صح لأنه عقد
معاوضة، والمرتد يصح منه ذلك، ثم ينظر فإذا أدى المال إلى سيده عتق وصار حرا
مرتدا يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وإن عجز نفسه استرقه السيد وأعاده إلى ملكه
فإن أسلم وإلا قتل، ويكون ماله لسيده، وإن قتل على الردة قبل أن يؤدي وقبل
أن يعجز انفسخت الكتابة، ويكون ما في يده من المال لسيده، لأنه عاد إلى ملكه
لما انفسخت الكتابة.
135

* (فصل) *
* (في جناية المكاتب على سيده وعلى أجنبي) *
لا يخلو حال المكاتب إذا جنى من أحد أمرين إما أن يجني على سيده أو على
أجنبي، فإن جنى على سيده لم يخل إما أن يجني على طرفه أو على نفسه:
فإن جنى على طرفه فالخصم فيه السيد، فإن كانت الجناية عمدا كان له أن يقتص
وإن كانت خطأ فله أخذ الدية،
وإن جنا على نفسه فالخصم فيه وارثه، فإن كانت
الجناية عمدا فلهم المطالبة بالقصاص، وإن كانت خطأ فلهم الدية.
فإن كانت الجناية عمدا واختار المطالبة بالقصاص واقتص إما في النفس أو في الطرف،
فقد استوفى الحق، وإن كانت خطأ أو عمدا فعفا عن القود فيها ووجب الأرش فإنه يتعلق
برقبته، كالعبد القن إذا جنى ووجب الأرش، فإنه يتعلق برقبته.
وللمكاتب أن يفدي نفسه، لأن ذلك يتعلق بمصلحته، وبكم يفدي؟ قيل فيه
قولان أحدهما بأقل الأمرين من الأرش أو القيمة، والثاني بالأرش بالغا ما بلغ،
أو يسلم نفسه للبيع، فربما رغب فيه راغب فزاد في ثمنه.
فإن اختار الفداء وكان في يده مال كان له الدفع منه، لأن ذلك من مصلحته،
وله صرف المال الذي في يده فيما يتعلق بمصلحته، فإذا أخذ السيد أو وليه منه أرش
الجناية نظر، فإن بقي معه ما يؤديه في مال الكتابة أداه وعتق، وإن لم يبق معه
شئ كان له أن يعجزه.
وأما إذا لم يكن في يده مال فقد اجتمع عليه حقان: أرش الجناية ومال
الكتابة، فإن كان في يده ما يتم لهما دفعه وعتق وإن لم يكن في يده ما يتم لهما كان
للسيد تعجيزه، فإذا فعل انفسخت الكتابة، وعاد إلى ملكه، ويسقط الحقان معه
لأنه لا يثبت للسيد على عبده مال.
فأما إذا جنى على أجنبي فإنه إن جنى عليه عمدا وجب القصاص، فإن عفا
136

فالدية، وإن جنى خطأ وجب الأرش، ثم ينظر، فإن اختار القصاص كان له ذلك
وإن عفا تعلق الأرش برقبته، والحكم في ذلك وفي جناية الخطأ واحد.
وله أن يفدي نفسه من الجناية، لكنه يفدي بأقل الأرش من قيمته أو أرش الجناية
لا يزيد على ذلك بحال، لأنه في الحقيقة يبتاع نفسه، ولا يجوز ابتياعها بأكثر
ما يساوي.
ويفارق هذا إذا كان ذلك مع السيد حيث أمرنا له بالزيادة، لأن ذلك يكون
هبة من السيد، وهو يملك أن يهب من السيد، ويكون ها هنا هبة من أجنبي وهو
لا يملك ذلك إلا بإذن سيده، فإن أذن له جاز.
ثم ينظر فإن دفع الأرش إلى الأجنبي برئت ذمته وبقي عليه مال الكتابة فإن
كان معه ما يدفعه وإلا كان للسيد تعجيزه، وإن لم يكن معه ما يدفع إليه فللأجنبي
أن يعجزه ويبيعه في الجناية، لأنه قد تعلق له حق برقبته فكان له بيع الرقبة في الجناية
إلا أن يختار السيد أن يفديه ويقره على الكتابة، فله ذلك وبكم يفديه؟ على ما
ذكرناه.
إذا اشترى المكاتب عبدا للتجارة، فجنى العبد على أجنبي إما حر أو عبد، فإن
كانت الجناية عمدا فعليه القصاص، فإن عفا عنه فعليه الدية، وإن كانت خطأ فعليه
الأرش، فإن أراد السيد أن يفديه كان له ذلك، وبكم يفديه؟
فمن قال في العبد القن أنه يفديه بأقل الأمرين، قال للمكاتب أن يفدي ذلك
لأنه لا يزيد عن ثمن المثل، ومن قال إن العبد القن يفدي بأرش الجناية بالغا ما
بلغ أو يسلم للبيع، نظر في الأرش، فإن كان أقل من قدر قيمته كان له أن يفديه به
وإن كان أكثر من قيمته لم يكن له أن يفديه، لأنه لا يملك ابتياع هذا العبد بأكثر
من ثمن مثله، كذلك الفدية وهذا أقوى.
إذا كاتب عبدا واجتمعت عليه حقوق من دين اقترضه ومن ثمن مبيع ابتاعه و
أرش جناية على نفس أو على طرف، فليس يخلو إما أن يكون في يده مال أو لا يكون
فإن كان في يده مال لم يخل إما أن يكون قد حجر عليه أو لم يحجر عليه، فإن لم يكن
137

حجر عليه لم يخل إما أن يكون الحقوق كلها حالة أو بعضها حال وبعضها مؤجل.
فإن كان جميعها حالا فله أن يقدم ما شاء منها لأنه مطلق التصرف، فكان له
أن يفعل ما شاء، وإن كان بعضها حالا وبعضها مؤجلا، كأرش الجناية لا يكون
إلا حالا، ومال الكتابة قد يكون حالا وقد يكون مؤجلا، وكذلك ثمن المبيع
فإن بدء بقضاء الدين الحال جاز ويبقى عليه المؤجل.
فإن أراد تعجيل المؤجل نظر فإن أراد تعجيل دين الأجنبي لم يكن له ذلك
لأن تعجيل الدين المؤجل يجري مجرى الزيادة فيه، فهو كالهبة فليس يملك الهبة
من الأجنبي، وإن أراد تعجيل مال الكتابة فهذا هبة من سيده، فيكون كالهبة بإذنه
فعندنا يصح، وقال بعضهم لا يصح.
وأما إذا كان قد حجر على المكاتب، فإن كان المال الذي في يده يعجز عن ديونه
فاجتمع غرماؤه وسألوا الحاكم الحجر عليه، فإن تصرفه ينقطع بذلك، ويكون
الأمر إلى الحاكم ويقسط ماله على ما قدر عليه من الحقوق، فيدفع إلى كل واحد
بقسط ما تضمنه.
هذا إذا رضوا فإن تشاحوا قال بعضهم يقدم صاحب الدين على المجني عليه
وعلى السيد، لأن حقه يختص بالمال الذي في يده، فإذا لم يدفع إليه حقه منه
لم يرجع منه إلى شئ آخر، والسيد والمجني عليه يرجعان من حقهما إلى
الرقبة.
فإذا دفع إلى صاحب الدين حقه نظر، فإن بقي معه شئ دفع إلى المجني عليه
وقدم على السيد، لأنه يأخذ دينه بحق الجناية، والسيد يأخذ حقه بالملك، و
حق الجناية مقدم على حق الملك، فإذا قضى حق المجني عليه ثم بقي شئ دفعه
إلى السيد، فإن لم يبق شئ كان له تعجيزه واسترقاقه.
فأما إذا لم يبق مع الكتابة بعد قضاء الدين شئ، فلكل واحد من السيد
والمجني عليه تعجيزه، لأن حق كل واحد منهما يتعلق بالرقبة، وقد تعذر
ذلك.
138

ثم ينظر فإن اختار التعجيز انفسخت الكتابة، وبرئت ذمة المكاتب مما عليه
من المال، وبقي حق المجني عليه متعلقا برقبته، وله بيعه في الجناية إلا أن يفديه السيد
وبكم يفديه؟ على قولين كالعبد القن سواء.
فإن لم يختر السيد تعجيزه واختار المجني عليه ذلك، قيل للسيد لك الخيار
أن تفديه، فإن اختار ذلك جاز، ويكون باقيا على الكتابة، وبكم يفديه؟ على قولين
فإن لم يفده كان للأجنبي أن يرجع إلى الحاكم حتى يفسخ الكتابة ويبيعه في الجناية
فإذا حصل معه شئ نظر، فإن كان قدر الأرش أقل دفعه إلى المجني عليه، وإن كان
أكثر منه كان الفضل للسيد.
إذا مات المكاتب وفي يده مال لا يفي بالحقوق التي عليه، فإن الكتابة تنفسخ
بموته، وتسقط حق السيد من المال، وتعود رقبته إلى ملكه، وحق المجني عليه
من الأرش يسقط أيضا، لأنه كان متعلقا بالرقبة وقد ماتت، فيبقى الدين للقرض
والبائع، فيدفع ذلك من المال الذي كان في يده، فإن فضل شئ كان للسيد لأنه كسب
عبده.
هذا إذا كان في يده مال، فإن لم يكن في يده مال بحال، فلا يخلو إما أن ينظره
أصحاب الحقوق بحقوقهم، أو لا ينظرونه، فإن أنظروه حتى يكتسب ويدفع إليهم
جاز، إلا أن هذا الإنظار لا يلزمهم، بل لهم الرجوع فيه متى شاؤوا، وفيه
خلاف.
فأما إذا لم ينظروه بل طالبوه بحقوقهم فصاحب الدين ليس له تعجيزه، لأنه قبل
التعجيز حقه ثابت في ذمته وبعد التعجيز يثبت في ذمته أيضا، فلم يكن له في تعجيزه
فائدة.
فأما السيد والمجني عليه فلهما أن يعجزاه لأنهما يستفيدان بذلك فائدة،
وهو أن المجني عليه يبيع الرقبة في حقه، والسيد يستردها إلى ملكه، ثم ينظر
فإن عجزاه انفسخت الكتابة ويباع في الجناية، ويقدم حق المجني عليه على حق
السيد حسب ما ذكرناه، وأما الدين فإنه ثابت في ذمته على ما كان، لا يتعلق برقبته
139

وقال بعضهم يتعلق بالرقبة وكذلك الخلاف في العبد المأذون له في التجارة إذا ركبته ديون
فهل يتعلق برقبته أو بذمته؟ فعندنا أن كان مأذونا له في الاستدانة، تعلق بذمة سيده
وإن كان مأذونا له في التجارة دون الاستدانة تعلق بكسبه وإن لم يكن مأذونا له في التجارة
تعلق بذمته وفيه خلاف.
إذا جنى المكاتب جنايات على جماعة فلزمه بها أرش فليس يخلو إما أن يكون في
يده مال أو لم يكن، فإن كان في يده مال يفي بالأرش دفع الأرش منه، ويبقى الحكم
بينه وبين السيد: إن أدى إليه مال الكتابة عتق، وإن لم يؤد كان له استرقاقه.
فإن لم يكن في يده مال، فللمجني عليهم أن يعجزوه، ويفسخوا الكتابة ليعيدوه
إلى الرق ويباع في حقوقهم، فإن كان ثمنه يفي بحقوقهم دفع إلى كل واحد قدر ما
يصيبه منه، سواء كان قد جنى على جماعتهم دفعة أو على بعضهم بعد البعض أو بعضهم
قبل التعجيز وبعضهم بعده، لأن محل هذه كلها الرقبة، فإن تعلق أرش الجناية
بالرقبة لا يمنع تعلق أرش آخر بها.
فإذا تساوت الحقوق في محلها واستحقاقها سوى بين جميعها وإن أبرأه [بعضهم] عما وجب
له من الأرش رجع حقه إلى الباقين، ويقسط عليهم ويتوفر ذلك في حقوقهم لأن
المزاحمة قد سقطت، فإن اختار السيد أن يفديه ويبقيه على الكتابة كان له ذلك، و
بكم يفديه؟ على ما ذكرناه فيما تقدم. هذا عندنا إذا كانت جناية لا يستغرق جميع
رقبته، فأما إذا كانت الجناية ما يوجب القصاص في النفس، فمتى جنى عليهم دفعة واحدة
كان مثل ذلك، وإن جنى على واحد بعد واحد، كان للأخير.
إذا قطع المكاتب يد سيده عمدا وجب عليه القصاص، فإن اختار ذلك كان له
استيفاؤه في الحال وإن عفا على أرش أو كانت الجناية خطأ فوجب بها أرش في الأصل فهل
له أن يطالبه بالأرش في الحال، أو ينتظر إلى حالة الاندمال؟ قيل فيه قولان،
مثل الحر.
فمن قال له المطالبة في الحال نظر، فإن كان معه قدر الأرش دفعه إليه، ثم
إن كان معه وفى مال الكتابة، فإذا فعل ذلك عتق وإن لم يكن معه وعجزه السيد كان
140

له، فإذا فعل ذلك عاد إلى ملكه، وسقط مال الكتابة وأرش الجناية.
ومن قال ليس له المطالبة بالأرش إلى حال اندمال الجرح وهو منصوص أصحابنا
نظر فإن اندمل قبل أداء مال الكتابة والعتق فله المطالبة بالأرش، والحكم فيه كما
لو قلنا إن له المطالبة في الحال يطالب، وإن أدى وعتق قبل الاندمال، فإنه يؤدي
الأرش في حال الحرية، ويلزمه أرش الطرف وهو نصف الدية، وقال بعضهم يلزمه
أقل الأمرين من أرش الجناية أو نصف قيمته.
فهذا الحكم فيه إذا أدى المكاتب المال وعتق، فأما إذا أعتقه السيد قبل اندمال
الجرح ثم اندمل فإنه ينظر، فإن لم يكن في يده مال سقط حقه من الأرش بكل حال
لأنه ليس هناك مال يستوفي منه، والرقبة فقد أتلفها باختياره بالإعتاق.
وإن كان في يده مال فهل له أن يستوفي الأرش؟ قيل فيه وجهان أحدهما له
ذلك، لأنه لما كان له الاستيفاء قبل العتق، كان له الاستيفاء بعده، فإن العتق ليس
بإبراء عن المال، والثاني ليس له لأن الأصل في محل الأرش هي الرقبة، والمال تابع
لها، فإذا تلفت الرقبة باختياره سقط حقه بذلك.
الرجل إذا كاتب عبيدا له في عقد واحد، فإن كل واحد منهم يكون مكاتبا
على ما يخصه من العوض، ولا يتحمل بعضهم ما يلزم البعض وفيه خلاف.
فإذا جنى بعضهم لزمه حكم جنايته، ولا يلزم غيره شئ من ذلك، وقال بعضهم
يلزم بعضهم جناية البعض، لأن كل واحد منهم كفيل عن صاحبه، والأول أصح
عندنا.
إذا كان للمكاتب ولد وهو يملكه أو أوصى له به فقبل أو اشترى أمة فوطئها
فأتت بولد ثم جنى ذلك الولد على انسان جناية وجب بها أرش لم يكن للمكاتب أن
يفديه، لأنه يخرج من يده ما يمكنه التصرف فيه، ويستبقي ما لا يمكنه التصرف
فيه.
ثم ينظر فإن كان للولد كسب يمكن دفع الأرش منه فعل ذلك، وإن لم يكن
له كسب يمكن دفع الأرش منه بيع في الجناية، فإذا بيع نظر في ثمنه، فإن كان بقدر
141

الأرش أخذه المجني عليه، وإن كان أكثر فإن أمكن أن يباع منه بقدر الأرش و
يكون الباقي على حكم الكتابة فعل، وإن لم يمكن، بيع جميعه ليدفع إلى المجني عليه
قدر الأرش، ويكون الباقي للمكاتب، لأنه ثمن عبده.
وهكذا الحكم في المكاتبة إذا أتت بولد وقيل إنه يكون موقوفا معها، فلا يجوز
لها أن يفديه، فإن كان للولد كسب دفع الأرش منه، وإن لم يكن كسب سلم للبيع
في الجناية، وفيه ثلاث مسايل على ما ذكرناه في ولد المكاتب.
إذا كان له عبيد فجنى بعضهم على بعض نظر في الجناية، فإن كانت موجبة للمال
بأن تكون خطأ محضا أو شبه عمد فإنها تهدر، وإن كانت موجبة للقصاص فله أن يقتص
من الجاني، لأن في ذلك مصلحة لملكه، وهو أن [لا] يتوثب بعض عبيده على البعض
ثم ينظر فإن اقتص جاز، وإن عفا سقط القصاص، لكن لا يجب له مال، فإن السيد
لا يستحق على عبده مالا.
فإن كان في عبيد المكاتب أب للمكاتب فقتل واحدا من عبيده، لم يكن له أن
يقتص منه لأنه لو قتل المكاتب لم يقتل به فإذا قتل عبده كان أولى أن لا يقتص منه
فأما إن كان فيهم ابن له فقتل عبدا له فإنه يقتص منه، لأنه لو قتل السيد لاقتص
منه.
وإن كان للعبد أب وابن فقتل أحدهما الآخر عمدا فإنه إن قتل الأب الابن
لم يقتص منه لأن الأب لا يقتل بابنه.
إذا كاتب عبدا ثم جنى المكاتب جناية خطأ وجناية عمدا وعفا عن القصاص فيها
فإن الأرش يتعلق برقبته، لأنه بمنزلة العبد القن في حكم الجناية.
فإن كان في يده مال جاز أن يدفع منه الأرش الذي عليه، ويفدي نفسه لأن
ذلك مرصد لمصلحته، ومن أعظم المصلحة أن يفدي نفسه، إلا أنه لا يجوز أن يفدي
إلا بأقل الأمرين من أرش الجناية أو القيمة، ولا يجوز أن يزيد على ذلك، لأن
الافتداء يجري مجرى الابتياع بأكثر من ثمن المثل.
فإن أعتقه سيده نفذ عتقه، ولزمه ضمان أرش الجناية، لأنه أتلف محل
142

الأرش، ومنع بيعه من الجناية، فلزمه ضمان الأرش كما لو قتلة، وإن بادر العبد
فأدى مال الكتابة وعتق فعليه ضمان الأرش، لأنه أوقع العتق باختياره وإيثاره،
فإنه كان يتمكن من تعجيز نفسه، والامتناع من الأداء، ويلزم أقل الأمرين من
أرش الجناية أو القيمة.
إذا جنى جنايات تعلق أرشها برقبته، ثم أعتقه السيد فلزمه ضمان تلك
الجنايات، أو أدى المكاتب المال فعتق فلزمه ضمانها، فكم القدر الذي يضمن؟ قيل فيه
قولان:
أحدهما أنه يضمن أقل الأمرين من أرش كل الجناية أو القيمة والثاني وهو
الأصح أنه يلزمه الأقل من أروش الجنايات كلها أو القيمة، لأن الأروش كلها
تعلقت برقبته، فلما أعتقه السيد منع من بيعه في الجنايات كلها بالإعتاق الذي وجد
منه، وذلك أن الإعتاق حصل دفعة واحدة، فكان عليه الأقل من أرش الجنايات
كلها أو القيمة، كما لو كان عبد فجنى جنايات كثيرة ثم أعتقه السيد أو قتله فإنه
يلزمه الأقل من أروش الجنايات كلها أو قيمة واحدة.
إذا جنى المكاتب جنايات خطأ فعجزه السيد ورده في الرق، فهو بمنزلة العبد
القن، فالسيد بالخيار بين أن يسلمه ليباع في الجنايات، أو يفديه، فإن اختار الفداء
فبكم يفدى؟ قال قوم يفديه بالأقل من قيمته أو أرش الجناية، والثاني يفديه بأرش
الجناية بالغا ما بلغ، أو يسلمه للبيع كالعبد القن سواء، والأول أصح عندي.
فأما إذا جنى جنايات وهو مكاتب فاختار أن يفدي نفسه، فإنه يفدي نفسه بأقل
الأمرين، من أرش كل جناية أو القيمة، وقال آخرون يفديه بأقل الأمرين أرش
جميع الجنايات أو القيمة مثل المسألة الأولى وهو الأقوى عندي.
إذا اشترى المكاتب عبدا للتجارة فجنى ذلك العبد على المكاتب جناية خطأ أو
عمدا وعفا عن القصاص، فإن الجناية تهدر، ولا يجب له على العبد الأرش، لأن العبد
ملكه، والسيد لا يستحق في رقبة مملوكه مالا بحال كالحر إذا كان له عبد وأتلف
عليه مالا فإنه لا يثبت ضمانه في ذمته.
143

إذا أوصى له بمن يعتق عنه، فقبل الوصية ثم جنى عليه واحد منهم جناية
خطأ أو عمدا وأراد العفو على مال، فهل يتعلق الأرش برقبته ويملك بيعه في الجناية؟
قيل فيه وجهان أحدهما له ذلك، لأنه لما لم يملك بيعه من غير صاحبه ملك بيعه في
الجناية، والوجه الثاني وهو الصحيح أنه لا يملك لأن هذا العبد مملوك للسيد، فلا
يجوز أن يثبت له مال على ملكه.
إذا أوصى للمكاتب بابنه فقبل الوصية ثم إن الابن جنى على أبيه جناية عمدا
فللأب أن يقتص منه وإن كان سيده، لأن الأب قد ثبت له حكم الحرية، ألا ترى
أنه لا يجوز للابن بيعه، والابن قد ثبت له حكم الحرية بعقد الكتابة، فهما كالمتساويين
في الحرية فصار بمنزلة الابن الحر إذا جنى على أبيه، فإن لأبيه أن يقتص منه.
إذا كان للمكاتب عبيد ففعل بعضهم شيئا يستحق به التعزير فله أن يعزره لأنه
مملوك له، فإن فعل شيئا يجب فيه الحد روى أصحابنا أن له إقامة الحد عليه، وقال
المخالف ليس له، لأن طريقه الولاية، وليس هو من أهل الولايات.
144

* (فصل) *
* (فيما جنى على المكاتب) *
إذا جني على المكاتب فلا يخلو إما أن يجني على نفسه أو على طرفه، فإن جنى
على نفسه فقد انفسخت الكتابة، سواء قتله سيده، أو أجنبي كما لو مات.
ثم ينظر فإن كان القاتل أجنبيا فعليه القيمة للسيد، والكفارة لله تعالى،
وإن كان السيد فلا قيمة له عليه، لأنه قد عاد إلى ملكه بانفساخ الكتابة، لكن يجب
عليه الكفارة، ويكون ما في يده من مال لسيده في الموضعين معا لأنه ملكه، فكان ماله له
بحق الملك لا للإرث.
وأما إذا جنى على طرفه فإن كان الجاني السيد فلا تقاص عليه لأن له عليه
ملكا، وإن كان ضعيفا، لكن يلزمه الأرش، وإن كان الجاني أجنبيا فإن كان حرا
لم يلزمه القصاص، لأن الحر لا يقتل بالعبد، وإن كان عبدا لزمه القصاص.
فإذا وجب الأرش في جناية الخطأ أو في جناية العمد إذا عفا عن القصاص فيها
فإن الأرش يكون للمكاتب، لأنه من جملة الكسب والكسب له، وهل له أن يطالب
به قبل اندمال الجرح؟ فيه قولان مضيا.
فمن قال لا يملك المطالبة به إلا بعد الاندمال نظر، فإن سرت الجناية إلى نفسه
انفسخت الكتابة، ويعود إلى ملك السيد وما في يده من مال له، ثم ينظر في الجاني
فإن كان أجنبيا لزمه قيمة العبد للسيد، والكفارة لله تعالى، وإن كان السيد فلا
قيمة عليه، ويلزمه الكفارة.
وأما إذا اندمل الجرح فله المطالبة بأرشه،
ويفرض المسألة فيه إذا كان قد قطع
يده فوجب فيه نصف القيمة، فإن كان الجاني أجنبيا فإن المكاتب يأخذ منه الأرش
ويتصرف فيه أو يؤدي مال الكتابة، وإن كان السيد فإنه يستحق عليه أرش الطرف
والسيد يستحق عليه مال الكتابة، ويجب الأرش من غالب نقد البلد لأنه بدل عن
متلف.
145

ثم ينظر فإن كان أحد الحقين من غير جنس الآخر لم يصر أحدهما قصاصا عن
الآخر، بل يطالب كل واحد منهما بحقه، ويستوفيه، وإن كانا من جنس واحد،
نظر فإن كان قد حل مال الكتابة فقد تساوى الحقان في الحلول وفي الجنس، فهل
يصير أحدهما قصاصا عن الآخر؟ فيه أربعة أقوال:
فمن قال لا يصير قصاصا استوفى كل واحد منهما حقه من صاحبه، ومن قال يصير
قصاصا إما بتراضيهما أو بغير تراضيهما أو رضا أحدهما، فإن تساوى الحقان برئت ذمة
كل واحد منهما مما عليه، وإن كان الأرش أكثر من مال الكتابة برئت ذمة المكاتب
من مال الكتابة وعتق، ويكون له مطالبة السيد بفاضل الأرش، وإن كان مال
الكتابة أكثر برئت ذمة المكاتب من قدر الأرش، ويبقى عليه الباقي، فإن أداه وإلا
للسيد تعجيزه.
وأما إذا لم يكن قد حل على المكاتب مال الكتابة فإنه لا يجبر على أن يجعل ما عليه
قصاصا مما له إلا أن يختار ذلك، فيصير كما لو عجل مال الكتابة.
هذا إذا قيل ليس له المطالبة بالأرش قبل اندمال الجرح، فأما إذا قيل له ذلك
فالحكم فيه كما إذا اندمل ويطالب به على ما ذكرناه في المقاصة وغيرها.
إلا أنه ينظر في الأرش، فإن كان مثل ديته أو أقل منها كان له المطالبة بجميعه
وإن كان أكثر لم يكن له أن يأخذ أكثر من الدية، لأنه لما سرت الجناية إلى نفسه
يعود الواجب إلى قدر الدية، فإذا أخذ المكاتب من السيد الأرش فأداه وعتق أو تقاصا
وعتق، لم يخل إما أن يندمل الجناية أو تسري إلى النفس:
فإن اندملت استقر حكم ما أخذه من الأرش إلا أن يكون الأرش زائدا على
قدر الدية، فيقتص منه، فيكون للمكاتب أن يرجع عليه فيطالبه بتمامه.
وإن سرت الجناية إلى نفسه فقد مات حرا وصار الواجب فيه الدية، فإن كان
أخذ من السيد قدر الدية فقد استوفى حقه، وإن كان أقل وجب على السيد تمامه
ويكون الفضل موروثا عن المكاتب، لأنه مات حرا: فإن كان له مناسب استحق ذلك
وإن لم يكن له مناسب نقل المال إلى بيت المال، ولا يورث السيد شيئا لأنه قاتل
146

إذا كاتب عبدا كتابة صحيحة، ثم جنى عبد السيد على المكاتب عمدا فقطع طرفا
من أطرافه، فإن القصاص يجب عليهما لتساويهما في الرق فإن أراد المكاتب أن يقتص
ومنعه السيد وأراد إجباره على العفو على مال، لم يكن له ذلك، وقال بعضهم لا
يملك الاقتصاص إلا بإذن السيد وهو الأقوى عندي.
فإن أراد المكاتب أن يعفو على مال فمنعه السيد، وأراد إجباره على الاقتصاص
لم يكن له ذلك، لأن هذا بمنزلة الاكتساب وليس له منعه من الكسب، ثم ينظر
فإن اقتص فقد استوفى، وإن عفا ففيه ثلاث مسائل:
إحداها أن يقول عفوت عن القصاص على مال، فسقط القصاص ووجب المال.
الثانية أن يقول عفوت عن القصاص ويطلق، فمن قال إن قتل العمد يوجب
القول لا غير، قال لا يجب المال لأن وجوب هذا المال يفتقر إلى اختيار الدية ولم
يوجد ذلك، ومن قال يجب أحد الأمرين إما القصاص أو الدية، قال بنفس العفو
عن القصاص تجب الدية وتتعين، والأول مذهبنا.
الثالثة أن يقول عفوت على غير مال، فهو كما لو عفا مطلقا، فمن قال
الواجب الدية فحسب قال الدية لا يجب لأن اختيارها لم يوجد، ومن قال أحد أمرين
قال على هذا يجب الدية فإذا قال على غير مال فهو إبراء والمكاتب لا يملك الإبراء عن
المال فتجب الدية، ولا تسقط بعفوه.
وهكذا إذا صالح عن القود على نصف الأرش، يبنى على قولين، فمن قال
الواجب هو القود فحسب قال الدية لا يجب، لأن الاختيار ما وجد إلا النصف،
فيجب النصف، ويسقط النصف، ومن قال الواجب أحد أمرين فقد وجب الأرش
لقوله عفوت، وقوله نصف الأرش إبراء عن النصف الآخر فلا يصح.
147

* (فصل) *
* (في عتق السيد المكاتب في مرض وغيره) *
إذ كاتب عبدا في صحته كتابة صحيحة ثم مرض السيد فأعتق المكاتب أو أبرأه.
عن مال الكتابة، أو قال وضعت عنك مال كتابتك، فالحكم واحد، نظر فإن برأ من
مرضه لزمه ذلك من رأس المال، فيعتق المكاتب ويبرأ ذمته مما عليه، كما لو وهب
في مرضه ثم برئ.
وإن مات فمن قال من أصحابنا إن عطية المريض المنجز من أصل المال، قال
مثل ما لو برأ، ومن قال من الثلث، قال أعتق ذلك في حق ورثته من الثلث، لأنه
وصية يعتبر خروجها من الثلث.
ثم ينظر في قيمة العبد وفي قدر المال الذي كاتب عليه فإن كان كل واحد منهما
يخرج من الثلث إذا عتق على الانفراد مثل أن كانت قيمته مائة والمال مائة وخمسون
فالثلث أكثر من مائة وخمسين، فإنه يحكم بعتق العبد، وتبرأ ذمته من مال الكتابة
لأنه أيهما اعتبر خرج من الثلث.
وإن كان أحد الأمرين يخرج من الثلث والآخر لا يخرج، فإنه يعتبر أقلهما
فيعتق به ويلغى حكم الآخر:
فإن كان المال الذي كوتب عليه مائة درهم وقيمته مائة وخمسون وثلثه مائة،
اعتبر المال الذي كاتبه عليه فيخرج من الثلث ويعتق، ولا يعتبر القيمة، لأن السيد
إنما يملك في ذمة مكاتبه المال الذي عليه، ولا حق له في الرقبة فهو إنما أوصى بالمال
الذي له فحسب، فلم يعتبر حكم غيره.
وإن كانت قيمته مائة والمال الذي عليه مائة وخمسين وثلثه مائة، فإنه يعتبر
خروج قيمته، فيعتق ويلغى حكم المال لأن المكاتب له أن يعجز نفسه متى شاء فليس
يملك السيد على المال الذي عليه مستقرا وإنما جعله مستقرا في الرقبة، فاعتبرت
قيمتها، وأطرح حكم المال.
148

وأما إذا كان كل واحد من قيمة المكاتب والمال الذي عليه لا يخرج من الثلث
فإن كانت قيمته مائة وخمسين، والمال مائة، والثلث خمسين، فإنه يعتبر أقلهما
فتنفذ الوصية فيه، لأن في ذلك مصلحة للعبد، وحظا له، والمطلوب بالكتابة حظه
فالمال أقل من القيمة، فتنفذ الوصية فيما يحتمله الثلث منه، وهو قدر نصفه، ويبقى
النصف، فإن أداه إلى الورثة عتق، وإن عجز كان لهم استرقاقه.
وإنما اعتبرنا الأقل منهما لأنه لو كان اعتبر كل واحد منهما بكماله كان
الاعتبار بخروج أقلهما من الثلث، كذلك إذا اعتبر خروج البعض منهما وجب أن يعتبر
الأقل.
إذا كاتب عبدا في صحته ثم أوصى بعتقه أو أوصى بأن يبرأ من الكتابة أو يوضع
عنه مال الكتابة، فإنه إذا مات يعتبر: فإن كان الثلث يحتمل قدر قيمته ويحتمل المال
الذي وجب عليه، على الورثة تنفيذ الوصية.
وإن كان الثلث يحتمل أحدهما دون الآخر اعتبر الأقل منهما، ويعتق به،
ويلغى حكم الأكثر، وإن كان الثلث لا يحتمل واحدا منهما اعتبر الأقل منهما،
فنفذت الوصية فيما يحتمله الثلث منه كما قلنا في المسألة قبلها سواء إلا أن في تلك
المسألة إذا احتمل الثلث أحدهما حكم بنفوذ الوصية بفعل الموصي، في هذا الموضع
لا بد أن تنفذ الورثة ذلك.
فإذا ثبت ذلك فإنه إذا احتمل ثلث المال الذي عليه، فإن ذمته تبرأ من ذلك
القدر، ويبقى عليه ثلثا المال ثم لا يخلو إما أن يكون قد حل مال الكتابة أو لم يحل.
فإن كان قد حل عتق ثلثه ويبقى ثلثاه مكاتبا، فإن كان معه مال يؤدي عنه عتق
وإن لم يكن معه شئ كان للورثة أن يعجزوا ثلثيه، ويسترقوه.
وإن لم يكن قد حل عليه مال الكتابة فقال قوم إن العتق ينجز للمكاتب في
ثلثه، ويبقى الكتابة في ثلثيه إلى وقت حؤول الحول، وقال بعضهم لا يعتق منه شئ
حتى يؤدي إلى الورثة مال الكتابة، ثم يعتق ثلثه، لأن الوصية لا تتنجز
للموصى له إلا بعد أن يحصل للورثة مثلاها، فلو قلنا إنه يعتق ثلثه قبل أن يؤدي
149

باقي المال إلى الورثة كنا قد عجلنا الوصية في الثلث من غير أن يحصل للورثة شئ
في مقابلة ذلك.
والأول أصح عندي، لأنه لا يجوز أن يعجل للموصى له حقه إذا كان لا
يتحقق حصول الثلثين للورثة كالمال الغائب، فإنه ربما سلم وربما تلف، فأما ههنا
فإنه يتحقق حصول الثلثين للورثة لأن المكاتب إذا أدى حصل لهم المال، وإن عجز
حصل لهم ثلثا الرقبة فوجب أن ينفذ العتق.
المريض إذا كان له عبد فكاتبه صحت كتابته، لأنه ملكه، ثم ينظر فإن برئ
من مرضه لزمته الكتابة في جميع العبد لأن الكتابة تصرف منجز، فإذا تصرف فيه
المريض ثم برئ لزمته وكذلك الهبة المقبوضة.
وإن مات من مرضه فمن قال من أصحابنا إن عطيته المنجزة من أصل المال
اعتبرها من أصل التركة، ومن قال من الثلث اعتبرها من الثلث لأنها هبة في الحقيقة
لأن الرقبة ملك السيد والكسب له، فإذا كاتبه فإنه يبيع ماله بماله وصار كما لو وهبه.
ثم ينظر فإن احتمل ثلثه قيمة جميع العبد نفذت الكتابة في جميعه فإذا أدى المال
إلى الورثة عتق. وإن لم يحتمل الثلث جميعه: فإن لم يخلف الميت شيئا غيره، فإن
الكتابة يلزم في ثلثه، ويبقى ثلثاه موقوفا على إجازة الورثة، فإن أجازوه نفذت الكتابة
في جميعه، فإن ردوه بطلت ثلثيه وبقيت في الثلث، فإذا أدى إليهم ثلث المال عتق.
إذا كاتب عبدا في صحته ثم مرض وأقر أنه قبض مال كتابته صح إقراره و
عتق العبد، لأن المريض يملك القبض، ويملك الاقرار به كالصحيح.
إذا كاتب عبدا له على دراهم ثم أبرأه على دنانير أو كاتبه على دنانير ثم أبرأه على
دراهم لم يصح الإبراء بهذا الاطلاق، لأن الذي يستحق عليه الدراهم، فإذا أبرأه
عن دنانير فقد أبرأه عما لا يستحق عليه فصار كما لو كان له حق على عمرو فأبرأ زيدا منه.
فأما إذا أبرأه عن ألف درهم وله عليه دنانير ثم قال أردت بذلك دنانير قيمتها
ألف درهم قبل ذلك وبرئت ذمته عن القدر الذي أراده، لأنه إبراء عما يستحقه فصح
الإبراء كما قلنا فيه أنه إذا قال لفلان ألف درهم إلا قفيز حنطة ثم قال أردت إلا دراهم
150

بقيمة قفيز حنطة، فإن ذلك يقبل، ويكون مستثنيا لقيمة القفيز من الألف.
فأما إذا أبرأه عن الدراهم وله عليه دنانير، ثم اختلفا فقال السيد أردت به
الدراهم على الاطلاق، وقال المكاتب بل أردت به عن قيمة الدراهم من الدنانير، فالقول
قول السيد لأنه اختلاف في نيته وإرادته، وهو أعلم بذلك، وهكذا إذا مات السيد
فاختلف المكاتب وورثته فيما ذكرناه، فالقول قول الورثة لأنهم يقومون مقامه.
إذا قال السيد استوفيت أجر كتابة هذا العبد، فإن المكاتب لا يبرأ بهذا الاقرار
على الاطلاق، لأنه يحتمل استوفيت أجر ما بقي من مال الكتابة، ويحتمل أجر ما
حل عليه، ويحتمل أجر نجومه، فإذا كان محتملا لم يقع البراءة بالشك، لكن يرجع
إلى السيد فيقال ما أردت؟ فبأي شئ فسره قبل منه.
فإن اختلف السيد والمكاتب فقال السيد أردت أنني استوفيت أجر ما حل عليك
وقال المكاتب بل أجر مال الكتابة، فالقول قول السيد، لأنه أعلم بما نواه، وهكذا
إن مات السيد واختلف المكاتب وورثته فالقول قول الورثة.
فأما إذا قال قد استوفيت أجر كتابتك إن شاء الله، فلا يلزمه بهذا الاقرار شئ
لأنه أوقفه بالاستثناء، وهو يدخل في الطلاق والعتاق والإقرار وغيرها.
فأما إذا قال قد استوفيت أجر كتابتك إن شاء زيد، فليس هذا بإقرار ولا يتعلق به
حكم، لأنه علقه بصفة والإقرار لا يتعلق بالصفات كما لو قال لفلان على ألف درهم
إن شاء زيد، فإنه لا يتعلق به حكم.
151

* (فصل) *
* (في الوصية للعبد أن يكاتب) *
إذا أوصى رجل بكتابة عبد له فالوصية تصح لأنها تتضمن قربة، وهي العتق
ويعتبر قيمة العبد الموصى بكتابته من الثلث، لأن الكتابة تجري مجرى الهبة، فإنها
اخراج الرقبة بغير عوض على ما بيناه.
ثم ينظر فإن لم يكن أوصى إلا بالكتابة وحدها فالثلث مصروف إليها، وإن
كان أوصى بالكتابة وبأشياء أخر من هبة ووصية بمال ومحاباة، فهل تقدم الكتابة على
غيرها أو يسوى بين الجميع؟ فهذه المسألة مبنية على أنه إذا أوصى بوصايا في جملتها
عتق فهل يسوى بين الكل أو يقدم العتق، فعندنا أن العتق يقدم وقال بعضهم
يسوى.
فأما إذا أوصى بالكتابة وغيرها فعندنا أنها تقدم، وقال بعضهم يسوى، لأن
الكتابة معاوضة فجرت مجرى المعاوضات، ولو أوصى ببيع فيه محاباة تسوى بينه وبين
غيره، كذلك الكتابة، ويفارق العتق لأن له فدية وهي السراية فلهذا قدم والكتابة
لا تسري.
فإذا ثبت هذا فإنه إذا أوصى بالكتابة وحدها أو بها وبغيرها وقلنا إنها تقدم
فإن الثلث كله يتوفر على الكتابة، فإن احتمل قيمة العبد كوتب ويجبر الورثة على
ذلك، ثم ينظر في العبد فإن لم يختر الكتابة لم يجبر عليها، فإن رجع فطلب الكتابة
لم يجب إليها، لأن حقه قد سقط بامتناعه.
وإن اختار الكتابة وطلبها فبكم يكاتب؟ لا يخلو إما أن يكون الموصي أطلق
الوصية ولم يقدر ما يكاتب عليه أو قدر ذلك، فإن أطلق فإنه يكاتبه على ما جرت
به العادة بكتابة مثله عليه وإن قدر ما يكاتبه عليه كوتب على ذلك القدر، ولا يزاد
عليه.
152

فإذا كوتب وأدى المال لا يحتسب من جملة التركة، بل يكون حقا خالصا
للورثة لأن ذلك نماء الرقبة ليس بملك للموصي، إنما كان ملكه على الرقبة فحسب
فكان ذلك للورثة خالصا كما لو أوصى بنخل فأثمرت أو ماشية فنتجت.
ثم ينظر فإن لم يؤد تمام المال وعجز نفسه، فإن الورثة يسترقونه وإن
أدى وعتق وثبت الولاء عليه لسيد المكاتب، ينتقل إلى العصبات من ورثته، لأنه
عتق بسبب كان منه وهو وصيته بكتابته.
فهذا الحكم فيه إذا كان قيمة العبد يخرج من الثلث فأما إذا لم يخرج من الثلث
فإنه يكاتب القدر الذي يحتمله الثلث كما إذا أوصى بعتق عبد، فإن الثلث إن احتمل
جميعه عتق، وإن لم يحتمل إلا بعضه عتق ما يحتمله الثلث.
إذا أوصى وقال كاتبوا عبدا من عبيدي، فإن الورثة يكاتبون أي عبد من عبيده
شاؤوا، ولا يجوز أن يكاتبوا أمة لأن اسم العبد لا يقع عليها، وكذلك إن قال كاتبوا
أمة من إمائي فلهم أن يكاتبوا أي أمة شاؤوا، ولا يجوز أن يكاتبوا عبدا لأن الاسم
لا يقع عليه، والأقوى عندي أن يستعمل القرعة في ذلك.
إذا قال كاتبوا عبدا من عبيدي، وكان له خنثى قد حكم بأنه رجل أو قال كاتبوا
أمة من إمائي وكان له خنثى بان أنها امرأة، فهل يجوز كتابته؟ قال قوم يجوز، و
هو الصحيح عندنا، لأنه محكوم بأنه عبد، وقال آخرون لا يجوز، لأن إطلاق
اسم العبد لا ينصرف إلى الخنثى.
فأما إن قال كاتبوا أحد رقيقي، فيجوز أن يكاتبوا عبدا أو أمة، وهل يجوز أن
يكاتبوا خنثى مشكلا؟ قال بعضهم يجوز، وهو الأقوى عندي، وقال قوم لا يجوز.
153

* (فصل) *
* (في موت السيد) *
إذا كاتب عبدا وكان له بنت فزوجها منه برضاهما وإنما يتصور هذا في البالغة
التي يعتبر رضاها، ويجوز أن تزوج من غير كفو برضا منها.
فأما إذا كانت صغيرة فإنه لا يعتبر رضاها عندنا ويجوز تزويجها عندنا من عبد
أو مكاتب.
فإذا زوجها ثم مات لم ينفسخ الكتابة بموته، لأنه عقد لازم من جهته. ثم
ينظر في البنت، فإن لم ترث أباها بأن كان بينهما اختلاف دين أو كانت قاتلة، فالنكاح
على حالته، لأنها لم تملك من زوجها شيئا، وإنما انتقل ملكه من مالك إلى مالك. فلم يؤثر
ذلك في النكاح، فإن ورثته فإنها تملك جزءا منه فينفسخ النكاح بينهما، وقال بعضهم
لا ينفسخ، والأول أقوى عندنا.
إذا كاتب عبدا ثم مات السيد فكانت الكتابة غير منفسخة بموته لأنها لازمة
من جهته ثم لا يخلو إما أن يكون المال الذي على المكاتب ينصرف إلى وارث أو موصى له
أو إلى الغرماء، فإن كان منصرفا إلى الورثة، فإنهم إن كانوا رشيدين عقلاء بالغين
فالمال لهم.
ثم ينظر فإن كان الوارث واحدا دفع المكاتب إليه المال، وإن كانوا جماعة دفع
إلى كل واحد حقه، فإن دفع إلى بعض وأخل بالبعض لم يعتق، كما إذا كان العبد
بين شريكين فكاتباه ثم دفع المال إلى أحدهما، فإنه لا يعتق ولا يجوز في هذا الموضع
أن يوصي السيد بالنظر في مال ولده، ولا بقبض مال الكتابة، فإن فعل ذلك لم تصح
الوصية، وإن دفع المكاتب المال إلى الوصي لم يعتق، لأن الورثة ذو رشد لا يولى
عليهم، ولا تصح الوصية في حقهم.
وأما إذا كانت الورثة غير رشيدين أو كانوا أطفالا أو مجانين، فإنه إن كان لهم
154

جد فهو الناظر في أمورهم ولا تصح الوصية معه، فإذا دفع المال إليه عتق، فإن لم
يكن له جد ووصى الأب إلى من ينظر في أمورهم صحت، ويجب على المكاتب الدفع
إلى الوصي.
فإن كان واحدا دفع إليه، وإن كانا اثنين نظر فإن أوصى إليهما أو إلى كل واحد
منهما على الانفراد كان للمكاتب أن يدفع إليهما وإلى كل واحد منهما، فإذا أوصى
إليهما ولم يوص إلى كل واحد منهما على الانفراد، لم يجز أن يدفع إلى أحد منهما
بل يجب الدفع إليهما، فإن دفع إلى أحدهما لم يعتق، لأن الموصي إنما رضى باجتهادهما
ولم يرض باجتهاد أحدهما وحده، فلم يجز إفراده بالدفع إليه.
وإذا لم يكن الميت قد وصى بالنظر في مال الأولاد فإن الناظر في أمورهم الحاكم
فيرفع المكاتب الأمر إليه لينصب أمينا فيدفع المال إليه ويعتق، فإن كان بعض الورثة
صغارا وبعضهم كبارا فالكبار يقبضون حقوقهم، والحكم في حقوق الصغار على ما ذكرناه
إذا كان الميت قد وصى أو لم يوص.
فأما إذا كان مال الكتابة ينصرف إلى موصى له به، فإنه إن أوصى به لواحد
بعينه فالحق له وللموصي، فإن دفعه إليه جاز، وإن دفعه إلى الموصي ليدفعه إليه
جاز أيضا.
وإن كان أوصى به لأقوام غير معينين كالفقراء والمساكين، فلا يجوز للمكاتب
أن يوصل المال إليهم بنفسه، بل عليه أن يدفعه إلى الوصي، لأن الميت لم يرض
باجتهاد المكاتب، وإنما رضى باجتهاد الوصي.
فأما إذا كان مال الكتابة ينصرف إلى الغرماء وقضاء الديون فإنه ينظر فإن كان السيد
وصى بأن يقضي من مال الكتابة ديونه فالحكم فيه كما لو أوصى لرجل بعينه فيجوز
للمكاتب دفعه إلى أصحاب الديون، ويجوز أن يدفعه إلى الوصي وليس للورثة ها هنا
حق، وإن لم يكن وصى، فالحق للورثة والوصي معا، فلا يجوز للمكاتب أن يدفعه
إلا بحضرتهما ورضاهما، لأن للورثة في ذلك حقا وهو أن لهم أن يأخذوا المال إليهم
ويقضوا الديون من عندهم.
155

* (فصل) *
* (في عجز المكاتب) *
إذا كاتب عبدا على مال وكان مشروطا عليه عندنا، ثم أراد السيد فسخ الكتابة
نظر، فإن لم يكن قد حل على المكاتب نجم لم يكن له الفسخ، وكذلك إذا كان
قد حل عليه نجم وكان معه ما يؤدي ولم يمتنع من الأداء، لأنه لا ضرر على
السيد، ولا يتعذر عليه حقه.
وأما إذا كان قد حل عليه المال وليس معه ما يؤدي، أو كان معه لكن امتنع من
الأداء، للسيد أن يفسخ لأن الكتابة عقد معاوضة، فإذا تعذر العوض فيها كان للعاقد
الفسخ كالبيع، ولا فرق بين أن يتعذر عليه جميع المال أو بعضه فإن للسيد أن يفسخ.
ثم ينظر فإن كان العبد حاضرا فللسيد أن يفسخ الكتابة بنفسه، لأن هذا فسخ
مجمع عليه، وإن كان العبد غايبا فليس للسيد أن يفسخ الكتابة بنفسه، بل يحتاج
إلى حاكم يرفعه إليه ويثبت عنده أن له على المكاتب مالا وأنه قد تعذر عليه الأداء
فإذا فعل ذلك استحلفه الحاكم مع البينة، وقضى له بالفسخ، ويكون هذا قضاء على
الغائب.
إذا كاتب عبدا فحل عليه نجم من كتابته فأظهر أنه عاجز عن أدائه، فأنظره
السيد بما عليه، فإن الإنظار يصح ولا يجبر على اختيار الفسخ،
فإن رجع بعد ذلك
فطالب بالمال صح رجوعه، ولا يلزمه التأجيل الذي بذله، لأن من كان عليه حق
معجل فأجله، لم يلزمه ذلك، وقال بعضهم يلزمه والأول أقوى عندي، لأنه لا دليل
على لزومه.
ثم لا يخلو حال العبد من أحد أمرين إما أن يكون حاضرا أو غائبا فإن كان
حاضرا عند رجوع السيد في التأجيل، والمطالبة بالمال، فإنه ينظر فإن أظهر العجز
وقال ليس لي مال كان للسيد أن يفسخ الكتابة ويرده إلى الرق وإن كان معه المال
فأداه إلى السيد عتق.
156

فإن قال: لي مال أحضره من البيت، أو من موضع قريب لا يمضي في الذهاب إليه
زمان كثير أجبر السيد على إنظاره حتى يمضي ويجئ بالمال، وهكذا إن كان معه
مال من غير الجنس الذي عليه، فإنه ينظر إلى أن يفعل ذلك.
فإذا كان المال على موضع بعيد وكان يمضي في الذهاب إليه مدة طويلة فإن
السيد لا يجبر على تأخيره إلى ذلك الوقت، لأن عليه ضررا كثيرا فيه.
وأما إذا كان العبد غايبا فليس للسيد أن يعجزه بفسخ في الحال، بل يرفع الأمر
إلى الحاكم ويثبت عنده الكتابة، وحلول المال على المكاتب، وأنه لم يؤد إليه شيئا
ويحلفه الحاكم على ذلك، فإن هذا قضاء على الغائب فاحتاج إلى اليمين، فإذا فعل
الحاكم هذا [كتب إلى حاكم بلد المكاتب حتى يطالبه بمال الكتابة، فإن عجز نفسه] ظ
يكتب إلى حاكم ذلك البلد حتى يخبر السيد بعجز المكاتب، فيفسخ الكتابة.
فإن ذكر أن له مالا فإن لم يكن له وكيل، فإن الحاكم يكلف المكاتب أن
يوصل المال إلى السيد إما بنفسه أو ينفذه مع أمين له، فإذا فعل ذلك ووصل المال إلى
السيد عتق فإن أخر الانفاذ حتى مضت مدة لو أنفذ المال لكان قد وصله كان للسيد
أن يفسخ الكتابة.
وإن كان للسيد وكيل بذلك البلد كلفه الحاكم دفع المال إليه، فإذا فعل عتق
العبد. فإن لم يفعل كان للسيد أن يفسخ في الحال، وكذلك الوكيل إذا كان السيد
قد جعل إليه الفسخ، فله أن يفسخ في الحال.
إذا كاتب عبدا ثم جن المكاتب فإن الكتابة لا تنفسخ بجنونه لأنها عقد لازم
من أحد الطرفين، فلم ينفسخ الكتابة بالجنون، كالرهن، ويفارق الشركة وغيرها
من العقود الجايزة لأنها جايزة من الطرفين معا فلذلك انفسخت بالجنون.
فأما إذا ثبت أنها لا ينفسخ، فالسيد لا يمكنه أن يطالب العبد بمال الكتابة
لأن الدفع متعذر من جهته، لكن يرفع الأمر إلى الحاكم، ويثبت عنده الكتابة
والعجز عن أداء المال، ويستحلفه على ذلك، لأنه قضاء على من لا يعبر عن نفسه،
فافتقر إلى الاستحلاف.
157

فإذا فعل ذلك فإنه يبحث عن مال المكاتب، فإن وجد له مال دفعه إلى السيد
وعتق، فإن لم يجد له مالا فقد ثبت عجزه، وللسيد أن يفسخ، فإذا فسخ عاد العبد
إلى ملكه، ويجبر على الانفاق عليه.
فإذا ظهر له مال بعد ذلك دفعه الحاكم إلى السيد، ونقض ما كان منه من الحكم
برقه، وعتق، لأنه بان بخلاف ما ظنه كالحاكم إذا اجتهد في شئ ثم بان أنه أخطأ
النص، ويرجع السيد بما أنفقه على المكاتب، لأنه إنما أنفق عليه بشرط أنه عبده
فإذا بأن أنه ليس بعبد استحق الرجوع، فإن لم يكن هكذا لكن أفاق المجنون وأقام
البينة بأنه أدى المال إلى السيد قبل جنونه وعتق، فإنه يحكم بعتقه، ولا يرجع
السيد بما أنفقه لأنه تطوع بما أنفقه مع علمه بحريته، فلم يستحق الرجوع.
المكاتب إذا ادعى على سيده أنه أدى إليه مال الكتابة، وأنكر السيد ذلك
فشهد للمكاتب شاهد واحد، فإنه يحلفه معه، ويقضي له بتأدية المال، لأن الذي يثبت
بهذه الشهادة قضاء المال، ودفعه ذلك يثبت بشاهد ويمين.
فإن قيل: أليس يثبت بهذا الأداء، والعتق لا يثبت بشاهد؟
قيل ليس يمتنع أن يقبل البينة في شئ إذا ثبت جر ثبوته ما لا تقبل البينة
فيه، ألا ترى أن شهادة النساء لا يقبل على إثبات النسب منفردات ثم لو شهدن بالولادة
قبل، وإن كانت الولادة إذا ثبتت جرت ثبوت النسب.
إذا ادعى المكاتب على سيده الأداء وقال: لي بينة أقيمها فانتظروا، أنظر يومين
وثلاثة أيام، لا يزاد على ذلك، لأن الثلاثة أول حد الكثرة، وآخر حد القلة،
وهكذا إذا جاء بشاهد واحد ولم يثبت عدالته، فقال لي شاهد آخر، فانتظروا على
حتى أجئ به، أنتظر عليه ثلاثة أيام ولا يزاد عليها.
إذا كاتب عبده على عرض صحت الكتابة، لأن العرض يصح أن يكون في
الذمة عن سلم فصح أن يكون ثمنا، ثم ينظر فإن أدى العرض على الصفة التي شرط
عليه وقع العتق في الظاهر، ثم ينظر فإن استحق العرض السيد، استقر العتق للعبد
وإن خرج العرض مستحقا سلم إلى صاحبه، ويرتفع العتق، لأن الكتابة عقد معاوضة
158

فإذا دفع عرضا مستحقا كان ذلك الدفع كلا دفع كالبيع.
ثم يقال للمكاتب أن جئت بعرض آخر على الصفة التي شرط عليك عتقت، وإلا
فقد ظهر عجزك، فللسيد أن يفسخ الكتابة ويردك إلى ملكه.
وأما إذا قال لعبده إذا أعطيتني ثوبا من صفته كذا وكذا فأنت حر فدفع إليه
ثوبا على تلك الصفة إلا أنه كان مستحقا فإنه لا يعتق لأن تقدير قوله إن أعطيتني
ثوبا من صفته كذا وكذا، يعني ثوبا أملكه وأنتفع به، والمستحق لا يملكه ولا ينتفع
به، وكذلك إن قال: إن أعطيتني هذا الثوب فأنت حر فغصبه وأعطاه، فإنه لا يعتق لمثل
ذلك، و عندنا لا يعتق في المسألتين لما مضى ولأنه تعليق العتق بصفة، وعندنا لا يصح
ذلك.
إذا دفع المكاتب عرضا وكان مستحقا فقال له السيد أنت حر ثم بان أن العرض
كان مستحقا لم يقع العتق ولم يتعلق بقوله أنت حر حكم، لأن قوله أنت حر الظاهر أنه
أخبر به عن الحرية التي وقعت بالأداء، وتلك الحرية قد ارتفعت و بطل حكمها.
فإن اختلف السيد والمكاتب، فقال المكاتب أردت بقولك أنت حر ابتداء عتق
وقال السيد بل أردت الإخبار عن الحرية الواقعة بالأداء، فالقول قول السيد، لأنه
اختلاف في نيته فأما إذا قال السيد للمكاتب أنت حر قبل أن أدى العرض أو بعد ما
علم أنه مستحق فإنه يكون ذلك ابتداء عتق بلا خلاف، لأنه لا يمكن أن يكون
إخبارا عن العتق الواقع بالأداء، غير أنه لا بد فيه من النية عندنا خاصة.
159

* (فصل) *
* (في الوصية بالمكاتب والوصية له) *
إذا كاتب عبدا كتابة صحيحة وأوصى برقبته، فإن الوصية لا تصح لأن السيد
وإن كان يملك المكاتب، فإنه يملكه ملكا ناقصا فإنه يحول بينه وبين التصرف في
رقبته، فهو كعبد غيره،
اللهم إلا أن يقول إذا عجز المكاتب فقد أوصيت لك برقبته، فيضيف
الوصية إلى حال العجز وعوده إلى ملكه، فحينئذ يصح الوصية.
إذا كاتب عبدا كتابة صحيحة ثم أوصى بالمال الذي في ذمته فالوصية تصح لأنه
مالك لذلك المال، فهو كما لو أوصى بدين له في ذمة غيره.
فأما إذا مات الموصي لم تبطل الوصية بموته ثم ينظر في المكاتب فإن أدى المال
إلى الموصى له عتق وثبت عليه الولاء للموصي، عندنا بالشرط، وعندهم من غير شرط
لأنه عتق بسبب كان منه وينتقل إلى العصبات من ورثته، وإن أظهر العجز فللورثة
أن يعجزوه وتبطل الوصية.
فإن قال الموصى له أنا أنظره بالمال، فإذا أراد الورثة تعجيزه لم يكن له منعهم
لأنه قد تعلق لهم حق برقبته ثبت بالتعجيز، فلم يكن له منعهم من حقهم.
وإذا أوصى لرجل بما في ذمة مكاتبه، ولآخر برقبته إذا عجز صحت الوصيتان
معا. ثم ينظر في العبد، فإن أدى مال الكتابة عتق، ويكون ذلك المال للموصى
له به وتبطل وصية الآخر، وإن عجز نفسه واسترق سلمت الرقبة إلى الموصى له
بها، وبطلت وصية الآخر بالمال.
إذا قال لرجل أوصيت لك بما يعجله مكاتبي من مال الكتابة صحت الوصية
ثم ينظر فإن عجل شيئا مما عليه دفع ذلك إلى الموصى له، وإن لم يعجل بل أدى
المال كرة بطلت الوصية.
إذا كاتب العبد كتابة فاسدة ثم أوصى بما في ذمته بطلت الوصية، لأنه لا يملك
160

في ذمته شيئا، فإذا قال: إذا قبضت مال الكتابة فقد أوصيت لك به، صحت الوصية،
لأنه إذا قبض المال كله ملكه وإن كان قبضه عن كتابة فاسدة، لأنه أضاف الوصية
إلى ملكه، وعندنا أنه يصح هذه الوصية، لأنا قد بينا أن الكتابة الفاسدة لا يصح
بها عتق، لكن ما يأخذه يملكه لأنه كسب عبده.
إذا كاتب عبدا كتابة فاسدة ثم أوصى برقبته، قال قوم يصح الوصية، وهو الأصح
عندي، لأن ملكه لم يزل عن رقبة العبد بالكتابة الفاسدة، وقال الآخرون الوصية
باطلة، لأنه وإن كان ملكه لم يزل، فإنه يعتقد أنه قد زال وصار محالا بينه وبينه
فلا يصح.
وأما إذا باع بيعا فاسدا ثم باع الآخر صح البيع الثاني، سواء علم فساد الأول
أو لم يعلم، وقال بعضهم إن علم كما قلناه وإن لم يعلم فإن البيع يبطل.
إذا أوصى رجل فقال ضعوا عن مكاتبي أكثر ما بقي عليه من مال الكتابة، فقد
أوصى بأن يضع عنه نصف ما عليه وزيادة، لأن أكثر الشئ ما زاد على نصفه، فيضع
عنه الورثة نصف مال الكتابة، وزيادة عليها ما شاؤوا، من غير تحديد ومقدار.
وإذا قال ضعوا عنه أكثر ما بقي عليه من مال الكتابة ومثل نصفها، فقد أوصى
بأن يوضع عنه ثلاثة أرباع مال الكتابة وزيادة عليه، لأن أكثر ما بقي عليه هو النصف
وزيادة عليه، فنصف ذلك يكون الربع وزيادة.
فإذا قال ضعوا عنه أكثر ما بقي عليه ومثله، فقد أوصى بأن توضع عنه زيادة على مال
الكتابة، لأن أكثر ما بقي هو النصف وزيادة، وزيادة مثل ذلك نصف وزيادة، فيكون
الجميع أكثر من مال الكتابة فتصح الوصية بمال الكتابة وتبطل في الزيادة لأنها وصية
بما لا يملك.
إذا قال ضعوا عن مكاتبي ما شاء قال قوم لا يجوز أن يشاء جميع ما عليه، بل يبقي
منه جزءا وقال بعضهم لو شاء الكل يوضع عنه، والأول أقوى عندي، لأنه لو أراد
وضع جميع مال الكتابة لكأن يقول ضعوا عنه مال الكتابة، فلما قال ضعوا عنه ما شاء
كان معناه ما شاء من كتابته، فحمل ذلك عليه.
161

فأما إن قال ضعوا عنه من كتابته ما شاء، فشاء كلها لم يوضع حتى يبقى منها
شيئا بلا خلاف، لأن " من " تقتضي التبعيض.
إذا قال ضعوا عنه نجما من نجومه، كان للورثة أن يضعوا عنه أي نجم شاؤوا
قليلا كان أو كثيرا، لأن اسم النجم يقع على الكثير والقليل، وهكذا إذا قال ضعوا عنه
أي نجم شئتم، فإن المشية إلى الورثة يضعون عنه ما شاؤوا.
وأما إذا قال ضعوا عنه أي نجم شاء فالمشية ههنا للعبد، فأي نجم شاء وضع
عنه ومثل هذه المسائل في الوصية سواء.
إذا قال ضعوا عنه أوسط نجومه فالأوسط يقع على أوسط في العدد، وأوسط في
الأجل، وأوسط في القدر: فالأوسط في العدد أن يكون النجم ثلاثا يكون الثاني
أوسطها وفي الأجل أن يكاتبه على نجم إلى شهر ونجم إلى شهرين ونجم إلى ثلاثة
فيكون الذي إلى شهرين أوسطها، والأوسط في القدر أن يكاتبه على نجم إلى مائة،
ونجم إلى مائتين، ونجم إلى ثلاثمائة، فالذي إلى مائتين أوسطها.
فإذا ثبت هذا فإنه ينظر، فإن كان في نجومه أوسط في القدر، وأوسط في الأجل
وأوسط في العدد، كان الخيار إلى الورثة، يدفعون إليه ما شاءوا من ذلك، وإن قلنا
تستعمل القرعة على مذهبنا كان قويا، وإن لم يكن له أوسط في القدر ولا في الأجل
بل كانت الآجال متساوية، والقدر متساويا، فإنه يعتبر الأوسط في العدد، فإن كانت
النجوم ثلاثة فالثاني هو الأوسط، وإن كانت خمسة فالثالث هو الأوسط، وعلى هذا
أبدا.
فأما إذا كانت أربعة فالثاني والثالث هو الأوسط، وإن كان ستة فالثالث والرابع
هو الأوسط، وعلى هذا أبدا.
ولو قال ضعوا عنه أكثر نجومه، وضعوا عنه أكثر النجوم قدرا، لأن الأكثر في
النجوم لا يكون إلا من ناحية القدر، أما في الأجل فإنه يقول أطول النجوم وأقصرها
فحمل الكلام على الأول.
162

ولو قال: ضعوا عنه ما خف أو ما ثقل أو ما قل أو ما كثر، فإن ذلك يتحدد
بتحديد الورثة أن يضعوا عنه ما شاءوا، لأن كل نجم بإضافته إلى ما دونه ثقيل، و
بإضافته إلى ما فوقه خفيف، وكذلك الأقل والأكثر.
ولو قال للمكاتب إذا عجزت بعد موتي فأنت حر، كان تعليقا لعتقه بصفة توجد
بعد الموت، وعندنا لا يصح تعليق العتق بصفة، وعندهم يصح، سواء كان صفة في حال
الحياة، أو بعد الموت.
فإذا ثبت هذا فإن السيد إذا مات نظر في العبد، فإن أدى المال إلى الورثة
عتق بالأداء، وبطل حكم الصفة، وإن أظهر العجز ففيه ثلاث مسائل:
إحداها أن لا يكون قد حل عليه شئ من مال الكتابة، فيقول قد عجزت ولا يعتق
لأنه إنما يعجز عن المال بعد حلوله عليه، فإذا أظهر العجز قبل الحلول علم كذبه
في ذلك.
الثانية أن يحل المال عليه، وكان في يده ما يؤدي، فأظهر، العجز، فلا يعتق
أيضا لأنه إنما يكون عاجزا إذا لم يكن معه ما يؤدي، فإذا أظهر ذلك ومعه ما
يؤدي علم كذبه فلا يعتق.
الثالثة أن لا يكون في يده مال فأظهر العجز وادعى الورثة عليه أن معه مالا
فالقول قوله فيحلف بالله الذي لا إله إلا هو أنه عاجز ويعتق، لأن هذا اختلاف في
أمر يتعلق به وهو أعلم به من غيره، فيرجع إليه في ذلك.
فقد بينا فيما مضى أن الكتابة عندنا على ضربين: مطلقة ومشروطة عليه،
فالمشروطة عليه أن يقول في عقد الكتابة: متى عجزت عن أداء نجم أو النجوم فأنت رد
في الرق، ولي جميع مالك، فإنه يثبت الشرط، ومتى عجز رد في الرق، وكان له
جميع ما أخذه منه، وجميع ما تقدم من الفروع ففرعه على هذا، لأن هذا حقيقة
الكتابة عند المخالف من غير شرط.
والمطلقة هو أن يكاتبه على نجوم مخصوصة في أوقات مخصوصة ويطلق، فمتى
163

أدى شيئا من النجوم عتق بحسابه، ولا سبيل إلى رده في الرق بحال.
فإن عجز فيما بعد عن مال الكتابة، كان على الإمام أن يؤدي ما بقي عليه من
سهم الرقاب، فإن لم يكن أو كان ما هو أهم منه كان لسيده منه بقدر ما بقي، وله
من نفسه بمقدار ما تحرر منه فإن كان بينهما مهاياة صح: فما يكسبه في يومه يكون
له، وما يكسبه في أيام سيده يكون لسيده.
ومتى مات هذا المكاتب وترك مالا وترك أولادا ورثه مولاه بقدر ما بقي من
العبودية، وكان الباقي لولده إذا كانوا أحرارا فإن كان المكاتب رزق الولد بعد الكتابة
من أمة له كان حكم ولده حكمه في أنه يسترقه مولى أبيه بقدر ما بقي على أبيه.
فإن أدى الابن ما كان بقي على أبيه صار حرا لا سبيل لمولاه عليه، وإن لم يكن
له مال استسعاه مولى الأب فيما بقي على أبيه فمتى أداه صار حرا، وهذا المكاتب إذا
أدى بعض مال الكتابة يرث ويورث بحساب ما عتق منه، ويمنع الميراث بقدر ما بقي
من الرق وكذلك إن أوصى له كانت الوصية ماضية له بقدر ما عتق، ويحرم بقدر ما
بقي من رقه.
فإذا أتى هذا المكاتب ما يجب عليه فيه الحد أقيم عليه بقدر ما عتق حد الحرية
وما بقي منه رقا حد العبودية
ومتى جنا على غيره جناية عمدا فإن كان المجني عليه حرا اقتص منه على كل
حال، وإن كان عبدا لا يقتص منه، لأن بعضه حر ولا قصاص بين الحر والعبد.
وإن كان مكاتبا مثله فإن كان تحرر منه مثل ما تحرر من هذا أو أكثر فإنه
[يقتص منه، وإن كان تحرر منه أقل مما تحرر منه] ظ لا يقتص منه لما ذكرناه،
وإن كانت الجناية خطأ فإنه يتعلق الأرش بمقدار ما تحرر منه بذمته إن كان المجني
عليه حرا أو عبدا وبمقدار ما بقي منه رقا يتعلق برقبته، ولمولاه أن يفديه على ما تقدم
وسواءا كانت الجناية في النفس أو الطرف، فإن الحكم على ما قلناه.
ومتى جني على هذا المكاتب، فإن كانت الجناية عمدا فلا يخلو الجاني من أن
164

يكون حرا أو عبدا، فإن كان حرا فإنه لا يقتص منه، لأن بعضه رق ولا يقتص لعبد
من حر، وإن كان الجاني عبدا اقتص منه على كل حال.
وإن كان مكاتبا مثله، فإن كان تحرر منه مثل ما تحرر من هذا أو دونه اقتص
منه، وإن كان قد تحرر من الجاني أكثر من ذلك، فإنه لا يقتص منه لما ذكرناه.
ومتى كانت الجناية خطأ وجب فيها الأرش بمقدار ما تحرر منه من دية الحر
و بمقدار ما بقي رقا دية العبد، فإن كان الجاني حرا لزمه ذلك أو عاقلته، وإن كان
عبدا تعلق ذلك برقبته، ولمولاه أن يفديه على ما تقدم ذكره
وإن كان مكاتبا قد تحرر بعضه تعلق بذمته مقدار ما تحرر منه وبمقدار ما
بقي رقا يتعلق برقبته، ولمولاه أن يفديه.
وكل موضع قلنا يتعلق بذمته فإن كان في جناية عمد، فإنه يكون في ذمته
يطالب من كسبه الذي نصيبه، وإن كان عن جناية خطأ فإنه يجب على الإمام ذلك
لأنه عاقلته، اللهم إلا أن يكون شرط عليه سيده أن يكون ولاؤه له، فيلزم السيد
حينئذ ما يتعلق بذمته.
ومتى وصى هذا المكاتب كانت وصيته نافذة بمقدار ما تحرر منه في ثلثه، وباقي
ذلك لورثته، ومردودة بمقدار ما بقي منه رقا، ومتى ركبه دين فإنه يتعلق بذمته
بمقدار ما تحرر منه يطالب به إذا عتق، أو من الذي يكسبه في اليوم الذي يخصه
بمقدار ما تحرر منه.
وأما مقدار ما بقي منه رقا فإن كان استدانه بإذن مولاه، فعلى مولاه قضاؤه عنه
وله أن يقضيه من كسبه الذي نصيبه بمقدار الرق، وإن كان استدانه بغير إذن مولاه
فإنه يتعلق بكسبه جميعه ويقضى منه دين الغرماء، وما يبقى فيكون بينه وبين السيد
على حساب الحرية والرق.
ومتى كاتب مكاتبة وتحرر منها بعضها لم يجز لمولاها وطؤها، فإن وطئها لزمه
الحد بمقدار ما تحرر منها، وادرئ عنه بمقدار ما بقي، ويجب عليها مثل ذلك ما لم
165

يستكرهها، فإن استكرهها لم يكن عليها شئ وكان عليه على ما قلناه.
وهذا المكاتب لا يلزم مولاه فطرته وإن كان مشروطا عليه لزمته.
والمكاتبة إذا تحرر منها البعض لم يجز لها أن يتزوج إلا بإذن مولاها، فإن
تزوجت بغير إذنه كان نكاحها باطلا، وإن كان نكاحها بإذن مولاها وقد أدت بعض
مكاتبتها، ورزقت أولادا، فإن حكم أولادها حكمها، يسترق منهم بحساب ما بقي
من ثمنها، ويعتق بحساب ما انعتق إذا كان تزويجها بعبد مملوك أو حر شرط عليه استرقاق
الولد، وإن كان تزويجها بحر كان الولد أحرارا.
والحكم في المهر على ما تقدم بيانه، ولا يجوز له أن يتصرف في نفسه بالتزويج
ولا بهبة المال ولا بالعتق، وإنما يجوز له التصرف في ماله بالبيع والشراء، فسحب.
166

* (كتاب التدبير (1)) *
التدبير هو أن يعلق عبده بوفاته، فيقول متى مت أو إذا مت فأنت حر، وسمي
مدبرا لأن العتق عن دبر حياة سيده يقال دابر الرجل يدابر مدابرة إذا مات ودبر
عبده يدبره تدبيرا إذا علق عتقه بوفاته.
فالتدبير ضربان: مطلق ومقيد، فالمطلق أن يعلقه بموت مطلق، فيقول إذا مت
فأنت حر، والمقيد أن يقيد الموت بشئ يخرج به عن الاطلاق فيقول إن مت من
مرضي هذا أو في سفري هذا فأنت حر، وأي التدبير كان فإذا مات السيد نظرت، فإن
احتمله الثلث عتق كله وإن لم يكن له عبد سواه عتق ثلثه، فإن كان عليه دين بيع في
الدين وبطل التدبير.
وصريح التدبير أن يقول إذا مت فأنت حر أو محرر أو عتيق أو معتق غير أنه
لا بد من النية عندنا، فأما إن قال أنت مدبر فقال بعضهم هو كناية، وكذلك القول
إذا قال كاتبتك على كذا قال قوم هو صريح وقال آخرون هو كناية والأول أقوى و
إن كان عندنا يحتاج إلى نية.
ولو قال ولدك ولد مدبر، لم يكن هذا تدبيرا، وقال بعضهم إن كان أراد به
التدبير كان تدبيرا.
والتدبير لا يعلق عندنا بصفة، ولا العتق، وعندهم يعلق، وإطلاق الصفة إذا
علق العتق بها اقتضى أن يتعلق الحكم بها إذا وجدت حال حياة العاقد، فإن مات العاقد
قبل وجودها بطلت، فإن قيدها وكان علق العتق بها إذا وجدت بعد وفاته كانت على
ما قيد.
بيانه إذا قال لعبده إن دخلت الدار فأنت حر نظرت، فإن دخل قبل وفاة سيده
عتق، وإن مات سيده قبل دخوله بطلت الصفة،
وإن قال إن دخلت الدار بعد موتي

(1) كتاب المدبر خ.
167

فأنت حر، فإن دخلها في حياة سيده لم يعتق، وإن دخلها بعد وفاة سيده عتق:
فإن قال لعبده إن دخلت الدار فأنت مدبر أو فأنت حر بعد وفاتي، فقد علق
تدبيره بالصفة فإن وجدت الصفة قبل وفاة سيده كان مدبرا، وإن مات سيده قبل وجودها
بطلت ولم يتعلق بها حكم.
فإن قال لعبده إذا دخلت الدار بعد وفاتي فأنت حر لم يكن مدبرا لأن التدبير
أن يعلق عتقه بموته.
فإن قال لعبده إذا قرأت القرآن فأنت مدبر أو فأنت حر بعد وفاتي أو فأنت
حر متى مت نظرت فإن قرأ القرآن كله قبل وفاة سيده صار مدبرا، وإن قرأ بعضه لم
يكن مدبرا.
فإن قال إن قرأت قرآنا فأنت مدبر، فإن قرأ شيئا من القرآن ما يقع عليه الاسم
صار مدبرا.
فإن قال له أنت مدبر أو لست بمدبر؟ لم يكن مدبرا، وكذلك لو قال أنت
مدبر أو لا؟ لأن معناه أنت مدبر أو غير مدبر؟ وكذلك إذا قال لزوجته أنت طالق
أو لا؟ لا يكون طالقا لأن معناه أنت بين مطلقة وغير مطلقة.
فإن قال أنت مدبر إن شئت فإن شاء جوابا لكلامه صار مدبرا، وإن شاء قبل
أن يفترقا ولكن لم يكن المشية جوابا لكلامه، فهل تصح المشية أم لا؟ قال بعضهم
لا تصح، ولا يكون جوابا لكلامه، وقال آخرون وقت المشية ما لم يتفرقا، وإن
تراخت عن الجواب.
فأما إن قال أنت مدبر متى شئت، أو أي وقت شئت، أو أي زمان شئت،
فالمشية على التراخي، أي وقت شاء صار مدبرا ما دام سيده حيا، وهذا أصل يحال
ما يأتي من المسائل عليه.
فإذا قال لعبده أنت حر بعد وفاتي إن شئت، أو أنت حر إن شئت بعد وفاتي
سواء قدم المشية على الوفاة أو أخرها عن الوفاة، فالحكم فيهما سواء إذا ابتدأ بذكر
168

الحرية، ويكون تعليق تدبير بمشية عبده حال حياته، فإن شاء العبد ذلك في حال
حياة سيده فالحكم في وقت المشية قد مضى: إن كانت المشية جوابا لكلامه صار مدبرا
وإن كانت بعد التفرق لم يتعلق بها حكم، وإن كانت قبل التفرق فعلى ما فصلناه من
الوجهين.
وعندنا أن جميع هذه المسائل لا تصح، لأنها تعليق التدبير بالصفة، وقد بينا
أن ذك لا يصح عندنا كالعتق.
إذا قال أنت حر متى شئت بعد وفاتي أو أنت حر بعد وفاتي متى شئت، فالحكم
على ما مضى، من أنه تعليق تدبير بصفة في حال الحياة، والمشية ههنا على التراخي
على ما فصلناه.
فإن قال إن شئت فأنت حر متى مت كان كقوله أنت حر إن شئت بعد وفاتي
وقد مضى.
هذا إذا قدم الحرية على الوفاة فأما إن قدم الوفاة وابتدأ بها، فقال إذا مت
فشئت فأنت حر، أو إذا مت فأنت حر إن شئت، فليس هذا تدبيرا، بل تعليق عتق بصفة
توجد بعد الوفاة، فإن شاء العبد ذلك عقيب وفاته عتق، وإن شاء بعد أن قام من مجلسه
حين بلغته وفاته فعلى الوجهين.
إذا قال إذا مت فأنت حر متى شئت، فالحكم أنه تعليق عتق بصفة بعد الوفاة
غير أن المشية على التراخي، فإن قال متى شاء فلان وفلان فأنت مدبر أو فأنت حر
بعد وفاتي، فإن شاءا معا صار مدبرا، وإن شاء أحدهما لم يكن مدبرا.
فإن قال لعبده متى دخلت الدار فأنت مدبر أو فأنت حر متى مت، فذهب عقل
سيده ثم دخل العبد الدار صار مدبرا، ومتى مات سيده عتق سواء مات قبل إفاقته
أو بعد الإفاقة.
فإن قال السيد هذا وهو زائل العقل فدخل العبد الدار وقد رجع عقل سيده
لم يصر مدبرا، إنما ينظر إلى حال العقد لا إلى حال وجود الصفة.
169

فإن قال متى مت فأنت حر إن شاء ابني فلان، فإن شاء ابنه فلان فهو حر، و
إن لم يشأ فليس بحر فإن مات ابنه أو جن أو خرس لم يكن حرا، فإن برئ من
جنونه أو زال خرسه فشاء صار حرا من الثلث.
فإن قال إن مت من مرضي هذا أو في سفري هذا أو إن مت وأنا بمكة فأنت حر
فإن وجدت الصفة عتق بوفاته، وإن مات في غير ذلك المرض أو بغير مكة أو في غير ذلك
السفر لم يعتق بوفاته، لأن الشرط لم يوجد.
وأصل هذا أنه إذا أعتقه على شرط أو اثنين أو أكثر لم يعتق إلا بأن يكمل
الشروط التي أعتقه عليها، أو الصفات التي علق عتقه بها، وقد بينا أن هذه المسائل
يسقط عندنا لما مضى.
وإن قال: عبد من عبيدي حر بعد وفاتي، فإذا مات قبل التعيين أقرعنا بينهم،
فأيهم خرج سهمه أعتقناه.
170

* (فصل) *
* (في الرجوع في التدبير) *
إذا دبر عبده كان له الرجوع باخراجه عن ملكه ببيع أو هبة وإقباض أو وقف
أو عتق، وسواء كان عليه دين أو لا دين عليه، فإن أراد الرجوع فيه بقول لا يزول به
الملك، كقوله رجعت في تدبيرك أو رفعته أو أزلته أو فسخته صح ذلك، وقال قوم لا
يصح الرجوع بذلك، والأول مذهبنا، لأن التدبير عندنا وصية وليس بعتق بصفة
ومن منع منه قال لأنه عتق بصفة.
ومتى دبره ثم قال إن أديت إلى وارثي بعد وفاتي كذا وكذا فأنت حر، و
قصد بذلك الرجوع من التدبير، صح عندنا، ولم ينعقد تعليق العتق بالصفة لما مضى.
فمن قال هو وصية قال هذا رجوع عنها، وتعليق للعتق بصفة هي الأداء إلى
وارثه، ومن قال التدبير تعليق عتق بصفة، قال ههنا علق عتقه بصفتين الأداء والوفاة
غير أنه لا يضر وجود الصفة الثانية في عتقه، لأنه إن خرج من الثلث عتق بالصفة
الأولى التي هي الوفاة، وإن لم يخرج من الثلث لم يعتق بالوفاة، فلا يتصور وجود
الصفة الثانية، لأنه إنما علق عتقه بصفتين يعتق بكل واحد منهما، والموت سابق أبدا.
فإن دبره ثم وهبه وأقبضه كان رجوعا وإن لم يقبضه قال قوم يكون رجوعا
لأنه شرع فيما يزول به الملك، وفيهم من قال لا يكون رجوعا، والأول أقوى
عندنا.
فإن دبره ثم أوصى به لرجل قال قوم يكون رجوعا وهو مذهبنا، ومن قال عتق
بصفة قال لا يكون رجوعا، فمن قال لا يكون رجوعا فلا كلام، ومن قال يكون رجوعا
كان رجوعا سواء رد الموصى له الوصية أو لم يردها.
ولو دبر عبده وهو ناطق ثم خرس فرجع في التدبير نظرت، فإن كان مفهوم
الإشارة صح رجوعه، وإن لم يكن مفهوم الإشارة لم يصح رجوعه، ومتى مات عتق
بوفاته.
171

وله الرجوع في بعضه كما له الرجوع في كله، فإن رجع في تدبير نصفه أو ثلثه
بطل التدبير فيما رجع فيه، وكان الباقي مدبرا يعتق بوفاته، ولا يقوم باقيه عليه ولا
على وارثه، ولا يفتقر رجوعه فيه إلى إذن المدبر، فإن قال المدبر قد رددت التدبير
لم يتعلق بكلامه حكم سواء رد التدبير في حياة سيده أو بعد وفاته.
إذا جنى المدبر تعلق أرش الجناية برقبته، كالعبد القن سواء، ويكون سيده
بالخيار بين أن يسلمه أو يفديه، فإن اختار أن يفديه فبكم يفديه؟ قال قوم بأقل الأمرين
من قيمته أو أرش الجناية، وقال آخرون يفديه بأرش الجناية بالغا ما بلغ أو يسلمه للبيع.
فإن فداه فالتدبير بحاله، وإن اختار بيعه نظرت، فإن كان الأرش يستغرق قيمته
بيع فيها وبطل التدبير، وإن كان الأرش لا يستغرق قيمته نظرت، فإن لم يمكن بيع
بعضه، بيع كله ودفع من ثمنه أرش الجناية، وما فضل كان لسيده، وإن لم يمكن
بيع بعضه فالسيد بالخيار بين بيع كله أو بيع بعضه.
فإن باع الكل كان الفضل لسيده، وإن باع بعضه كان الباقي مدبرا، وكل
موضع زال ملكه عنه زال التدبير.
وروى أصحابنا أن التدبير باق وإذا مات السيد يعتق في ملك المشتري وينبغي
أن يبيعه بهذا الشرط.
ومتى عاد إليه ملكه بعد ذلك بميراث أو غيره فهل يعود حكم التدبير أو لا؟ قال
قوم يعود، وقال آخرون لا يعود.
والذي نقوله إن كان حين باعه نقض تدبيره، فإنه لا يعود تدبيره، وإن كان
لم ينقض تدبيره فالتدبير باق، لأن عندنا يصح بيع خدمته دون رقبته مدة حياته، و
متى مات السيد قبل أن يفديه فهل يعتق بوفاته أم لا؟ قيل فيه قولان أحدهما يعتق، و
الآخر لا يعتق.
فمن قال يعتق بوفاته وهو الأقوى عندنا، قال تعلق أرش جنايته بالتركة لكن
يتعلق بها أقل الأمرين من قيمته أو أرش جنايته، لأنه لا يمكن تسليمه للبيع، ومن
قال لا يعتق كان وارثه بمنزلة سيده، على ما فصلناه حرفا بحرف.
172

هذا الكلام في جنايته فأما الكلام في الجناية عليه، فإن كانت دون النفس مثل
أن قطعت يده أو رجله، كان أرشها لسيده، والتدبير بحاله، وإن قتل بطل التدبير
فكانت قيمته لسيده، ولا يشتري بها عبدا يكون مدبرا مكانه، وإن أخذ بقيمته عبدا
لم يكن العبد مدبرا مكان المقتول، لأن العبد بدل القيمة لا بدل المدبر.
إذا ارتد المدبر فالتدبير بحاله، فإن مات أو قتل بطل التدبير، وإن لحق بدار
الحرب بطل تدبيره عندنا، لما رواه أصحابنا من أن إباق المدبر يبطل تدبيره.
ثم لم يخل من أحد أمرين إما أن يلحق بها قبل وفاة سيده أو بعد وفاته، فإن
لحق قبل وفاة سيده لم يملكه أهل الحرب، فإن سبي هذا المدبر كان لسيده بكل
حال، ويكون على تدبيره عندنا، فإن كان قبل القسمة أخذه سيده، وإن كان بعد
القسمة نظرت:
فإن لم يكن في بيت المال مال أخذه سيده ونقضت القسمة، واستونفت، وإن
كان في بيت المال مال دفع قيمته إلى من حصل في سهمه، ورد العبد على سيده والقسمة
بحالها، وإن مات السيد أو لا عتق وهو حر مدبر، عليه الولاء فإذا لحق بدار الحرب
لم يسترق لأن عليه ولاء المسلمين.
فإن كان المدبر ذميا دبر ذميا ثم مات، وعتق العبد ولحق بدار الحرب، فإنه
يسبى ويسترق لأنه لما جاز أن يسبى مولاه ويسترق فكذلك المعتق، وإذا كان مسلما
لم يجز أن يسبى مولاه لما لم يجز أن يسبى ويسترق.
فأما إن دبر عبده ثم ارتد مولاه ومات، قال قوم يعتق، ومنهم من قال لا يعتق
لأن العتق وصية فلا ينفذ منها شئ حتى يحصل للوارث مثلاه، وما حصل للوارث.
ومنهم من قال على قولين إذا قيل إن ملكه زال بالردة أو قيل مراعا حتى إذا مات
أو قتل بأنه إن زال بالردة لم يعتق، وإن قيل إن ملكه ثابت عتق بوفاته، وهذا
أقوى عندي.
فأما إن ارتد أو لا ثم دبر عبده، فالكلام أولا في ملكه ثم في تصرفه وفيهما
ثلاثة أقوال: أحدها باطل، والثاني صحيح، والثالث مراعي، ويقوى في نفسي أن ملكه
173

باق، لأنه لا دليل على زواله، وأما تصرفه فإنه باطل، لأنه محجور عليه بالردة
فعلى هذا تدبيره باطل.
يعتبر المدبر من الثلث فإن احتمله الثلث عتق، وإن لم يكن له مال سواه عتق
ثلثه ورق باقيه، ولا يقوم عليه ولا على وارثه، وإن كان عليه دين فإن أبرأه صاحب
الدين عتق كله، وإن امتنع من ذلك بيع في الدين ويبطل التدبير.
إذا مات سيده فأفاد المدبر مالا بعد موت سيده، فإن خرج المدبر من الثلث
سلم إليه، وإن لم يخرج من الثلث سلم إليه من ماله الذي اكتسبه بعد موت سيده
بمقدار ما خرج من الثلث، وسلمت البقية إلى الورثة.
فإن كان لسيده مال غائب مثل أن كانت قيمة المدبر مائة، والغائب مائتان،
لا مال له غير ذلك، لم يعتق المدبر كله، ويعتق ثلثه، وقال بعضهم لا يعتق منه شئ
والأقوى الأول عندي، لأن ثلثه حر بكل حال سواء سلم الغائب أو هلك.
ثم ينظر فإن عاد المال عتق كله، وإن هلك عتق ثلثه، وإن عاد منه مائة عتق
ثلث آخر من العبد، فيكون ثلثاه حرا، وينظر في المائة الباقية، فإن عادت عتق كله
وإن هلكت فقد عتق الثلثان.
إذا ادعى على سيده أنه قد دبره فأنكر السيد ذلك، فهل يكون إنكاره رجوعا
في التدبير أو لا؟ فمن قال هو عتق بصفة، قال لا يكون رجوعا، وكان القول قول السيد
مع يمينه، فإذا حلف سقطت الدعوى، فإن نكل حلف العبد وحكم بأنه مدبر، فإن كان
مع العبد بينة لم يقبل إلا ما يقبل في العتق والكتابة، لأن المقصود ليس بمال، وتطلع
عليه الرجال.
ومن قال التدبير هو وصيه على ما نذهب إليه، هل يكون الانكار رجوعا أم لا؟
قال بعضهم يكون رجوعا، وقال آخرون لا يكون رجوعا، وهذا هو الأقوى.
ويقال له إن شئت فارجع وأسقط عن نفسك اليمين، فإن رجع أسقط اليمين
عن نفسه، وإن لم يرجع حلف وكان له الرجوع بعد يمينه.
فإن مات السيد قبل التداعي، فادعى العبد على وليه أن أباه كان دبره، فالقول
174

قول الوارث، سواء قيل هو وصية أو عتق بصفة، لأن الوارث لا يملك الرجوع، فإن
حلف أسقط الدعوى، واليمين على العلم لأنها على النفي على فعل الغير، وإن لم
يحلف حلف العبد وعتق من الثلث، وإن كان مع العبد بينة لم تقبل إلا من ذكرناه.
فإن ادعى على الوارث أنه مدبر فاعترف الوارث بذلك له أو أقام العبد بذلك بينة
فادعى الوارث أن أباه كان رجع في التدبير قبل الوفاة، فالقول قول المدبر، فإن أقام
الوارث بينة على الرجوع لم يقبل إلا ذكرين.
إذا كاتب الرجل عبده ثم دبره صح التدبير، والكتابة بحالها، ويكون مكاتبا
مدبرا: فإن أدى ما عليه عتق بالأداء، وبطل التدبير، وإن مات قبل الأداء عتق من
الثلث، فإن خرج من الثلث عتق كله وبطلت كتابته، وإن خرج بعضه من الثلث عتق
منه بقدر الثلث، وسقط من مال الكتابة بقدره، وكان الباقي منه مكاتبا فإن أدى ما
عليه عتق، وإن عجز رق باقية للوارث.
وإن دبره أولا ثم كاتبه فمن قال التدبير وصية قال يكون رجوعا فيه، لأنه
وصية فهو كما لو أوصى بعبده ثم كاتبه، ومن قال هو عتق بصفة قال يصير مكاتبا مدبرا
والحكم فيه كما لو كاتبه أولا ثم دبره، وقد مضى حرفا بحرف.
للسيد وطي مدبرته كالأمة القن، فإن لم تحبل فهي على التدبير، وإن حبلت
بطل التدبير بينهم، لأن سبب عتقها أقوى من سبب عتق المدبرة، وعندنا أنه لا تبطل
التدبير لأنها مملوكة بعد، ولا سبب للعتق فيها، فإذا مات سيدها عتقت بوفاته من الثلث
بالتدبير، وعندهم من صلب ماله.
فإن دبرها ثم أتت بولد من زوج أو زنا فإنه يكون الولد مدبرا عندنا معها
وقال بعضهم هو عبد قن، فمن قال عبد قن فلا كلام، ومن قال مدبر على ما قلناه:
فإنه يكون له حكم نفسه، فإن ماتت الأم أو رجع في تدبيرها أو باعها كان تدبير ولدها
بحاله، متى مات السيد عتق الولد من الثلث وجملته أنه يكون كأنه دبر كل واحد
منهما بلفظ مفرد.
فأما ولد المعتقة بصفة عند من قال به، فلا يكون معتقا بالصفة، فإذا قال لأمته
175

إن دخلت الدار فأنت حرة، فأتت بعد هذا بولد لم يتعلق عتقه بدخول الدار دون أمه
ولكن هل يكون تبعا لأمه في العتق أم لا؟ على قولين أحدهما لا يتبعها وهو عبد قن
والثاني يتبعها.
فإن دخلت الدار عتقت وهل يعتق ولدها أم لا؟ على قولين وإن دخل الدار ولدها
لم يعتق الولد، وهذا هو الفرق بين ولدها وولد المدبرة، وهكذا ولد المكاتبة لا يكون
مكاتبا كأمه ولكن هل يعتق بعتق أمه أم لا؟ على قولين.
وسواء ولدت ذكرا أو أنثى، فإن ولدت ذكرا أو أنثى فولد الأنثى بمنزلة ولد
المدبرة، وقد مضى حرفا بحرف، وولد الذكر تابع لأمه إن كانت حرة فهو حر و
إن كانت أمة قنا فهي أمة قن لسيد أمها، فإن دبر أمه ثم رجع في تدبيرها بالقول
حكمنا بأنها أمة قن.
فإن أتت بولد بعد الرجوع لأقل من ستة أشهر فإنه يكون عندنا مدبرا، و
فيهم من قال لا يكون كذلك، وعلى ما قلناه يكون هي والولد مدبرين، فإذا رجع
في الأم لم يصح رجوعه في الولد، وإن ولدت لستة أشهر فصاعدا من حين الرجوع
فالولد مملوك، لأنا علمنا أنه ما كان الحمل موجودا حين الرجوع في تدبيرها.
هذا إذا دبرها حائلا فأتت بولد، فأما إن دبرها وهي حامل بولد مملوك، فهي
مدبرة وحملها مدبرة معها عند المخالف، وروى أصحابنا أن الولد لا يكون مدبرا.
ومن قال هما مدبران قال كان له المقام على تدبيرهما، وله الرجوع فيهما وله
أن يرجع في أحدهما دون الآخر، كالمنفصل منها،
فإن رجع فيها كان حملها مدبرا
دونها، وإن رجع في حملها كانت مدبرة دون حملها، وكذلك قالوا في المسألة الأولى
إن له الرجوع في تدبيرها دون ولدها وهذا أصل عندهم إن دبرها كان حملها مدبرا
معها تبعا لها، فإن رجع في تدبيرها لم يكن حملها تبعا لها في الرجوع منه تغليبا
للحرية، فإن دبرها ومات عنها عتقت بوفاته.
وإن كان لها ولد فقالت قد عتق بعتقي لأني حملت به وأنا مدبرة، فمن قال لا
يكون ولدها مدبرا معها، قال لا يلتفت إلى هذا القول منها.
176

ومن قال يكون مدبرا معها نظرت في الوارث، فإن صدقها فالولد مدبر معها
وقد عتق بالوفاة، وإن كذبها فالقول قول الوارث، لأن الأصل الملك حتى يعلم
زواله.
إذا دبر الرجل عبده ثم ملكه أمة فوطئها العبد فلا حد عليه، فإن أتت بولد
فهو مملوك تبعا لأمه، ويكون مدبرا كأمه عندنا.
ومن قال المملوك إذا ملك ملك، قال الولد ولده، وهو مملوك له وإن كان ولده
ولا يعتق عليه لنقصان الملك.
وهل يكون الولد مدبرا تبعا لأبيه أم لا؟ على وجهين: أحدهما عبد قن تبعا
لأمه، والثاني مدبر تبع لأبيه لأنه أحبلها في ملكه، فكان حكم ولده حكمه كالحر
إذا أحبل أمة بملك اليمين.
إذا قال لأمته أنت حر بعد سنة إذا مت، عندنا لا يتعلق به حكم، لأنه علق
تدبيرها بصفة، وذلك لا تصح عندنا، وعندهم يصح، فإذا أتت سنة صارت مدبرة فإن
أتت بولد قبل السنة لم يكن مدبرا لأنها ليست مدبرة، وإن أتت بعد سنة فعلى
القولين.
فإن قال لها أنت حرة بعد وفاتي بسنة، عندنا لا يتعلق به حكم لما مضى، و
عندهم يصح، ويكون علق عتقها بشرطين: الوفاة وانقضاء المدة.
فإذا مات: فإن خرجت من الثلث بقي الشرط الآخر، وهو مضي المدة، فإن
كسبت مالا قبل انقضاء المدة فهو للوارث، وإن أتت بولد قبل انقضاء المدة كان مدبرا
وفيهم من قال لا يكون، وهذا يسقط عنا لما قلناه.
177

* (فصل) *
* (في تدبير الحمل) *
إذا دبر حمل جارية صح ويكون مدبرا دون أمه، ولو دبرها كانت مدبرة هي
وولدها عندهم، فالولد يتبعها ولا تتبع ولدها، كالعتق إذا أعتقها عتقا مع، وإن
أعتق الحمل وحده عتق دونها، وقد بينا أن عندنا في الطرفين على حد واحد لا
يتبعها ولا تتبعه.
فإذا ثبت أنه مدبر فله الرجوع في التدبير، وله المقام عليه، فإن أقام عليه
حتى مات عتق من الثلث وأمه قن، وإن رجع فيه صح وعاد قنا.
ومن قال لا يصح الرجوع إلا بالفعل وهو الإخراج من الملك، فلا يمكنه
اخراجه من ملكه إلا بالبيع وحده والوجه أن يبيع الأم فإذا باعها مطلقا زال ملكه
عنها وعن حملها وزال التدبير.
ومتى باعها فإن قصد بالبيع الرجوع في التدبير صح البيع، وإن لم يقصد بطل
البيع، عند بعضهم، وقال بعضهم لا يبطل، وعندنا إن شرط أنه يبيع مدبرا صح
فإذا مات السيد عتق وإن باعه عبدا قنا ولم يقصد الرجوع بطل البيع.
ولو دبر حملها فأتت بولد لأقل من ستة أشهر من حين التدبير فالولد مدبر
وإن أتت به لستة أشهر فصاعدا من حين التدبير، لم يكن مدبرا لجواز حدوثه بعد
التدبير والأصل أن لا حمل:
فإن ولدت ولدين أحدهما لأقل من ستة والآخر لأكثر من ستة أشهر، ولم
يكن بينهما ستة أشهر، فالحمل واحد، وهما معا مدبران، ولو دبر ما في بطنها
أو أعتقه ثم باعها فولدت قبل ستة أشهر من حين التدبير، فالبيع باطل، والولد حر
أو مدبر، وإن ولدت بعد ستة أشهر ففيها قولان أحدهما البيع مردود لأنه باع في
وقت هو ممنوع من بيعها فيه ليعرف حال الحمل، فوقع باطلا، والثاني جايز، و
الأول أصح عندنا.
178

* (فصل) *
* (في العبد بين الشريكين) *
إذا كان العبد بين شريكين فقال كل واحد منهما له: إذا متنا فأنت حر، لم يكن
مدبرا، لأن كل واحد منهما علق عتق نصيبه منه بموته وموت شريكه، فإن ماتا معا
عتق العبد كله من الثلث، فإن مات أحدهما لم يعتق نصيبه منه وصار عتق نصيبه منه
معتقا بصفة، تلك الصفة موت شريكه، وصار نصيب الثاني منها مدبرا لأنه قد تعلق
عتق نصيبه منه بموته وحده، فنصف هذا العبد بعد موت الأول، وقبل موت الثاني
مملوك لوارث الأول، وكسبه له، فإن قتل قبل موت الثاني كانت قيمته بين وارث الأول
وبين السيد الثاني.
والذي يقوى في نفسي أن هذا التدبير صحيح، ويكون كل واحد منهما دبر
نصيبه، فإن ماتا معا عتق كله من ثلثهما، وإن مات أحدهما عتق نصيبه من ثلثه، ويبقى
النصف الآخر مدبرا إلى أن يموت الثاني، فإذا مات الثاني تكامل الحرية فيه، وما
بكسبه بعد موت الأول يكون نصفه للثاني إلى أن يموت.
فإن كان العبد بين شريكين فقال كل واحد منهما: أنت حبيس على آخرنا موتا
فالحكم في هذه وفي التي قبلها عندهم سواء إلا في فصل: وهو أن ما اكتسبه بعد موت
الأول وقبل موت الثاني يكون للثاني دون وارث الأول لأن كل واحد منهما قد
أوصى بنصيبه فيه لشريكه ثم يكون حرا بعد وفاة شريكه، فيكون قد عبر عن الوصية
بالتحبيس، فيكون الوصية من الثلث، والعتق بموت الآخر منهما، وعندنا أن هذه
لا تصح لأنها تعليق عتق بصفة لا غير.
فإن كان بين شريكين فدبراه معا وهو أن علق كل واحد منهما عتق نصيبه بموت
نفسه، فقال: إذا مت فنصيبي حر، صار مدبرا، فإن رجعا في التدبير عاد عبدا قنا
وإن أقاما عليه نظرت:
179

فإن ماتا معا عتق نصيب كل واحد منهما منه من الثلث، وإن أعتق أحدهما
نصيبه قال قوم يسري إلى نصيب شريكه، ويقوم عليه ويكون الكل حرا، وقال
بعضهم لا يقوم عليه لأن لنصيب شريكه جهة يعتق بها.
فمن قال يقوم عليه فلا كلام، ومن قال لا يقوم عليه فنصفه حر ونصفه مدبر
فإن مات سيد المدبر منه عتق من الثلث، فإن لم يخرج من الثلث عتق منه بقدر
الثلث.
وإن كان العبد بين شريكين فدبر أحدهما نصيبه منه، حكمنا بأنه مدبر
وهل يسري التدبير إلى نصيب شريكه فيصير كله مدبرا؟ قال قوم إنه لا يسري إلى
نصيبه، وقال آخرون يقوم عليه نصيب شريكه، ويصير كله مدبرا.
فمن قال يقوم عليه ويصير الكل مدبرا فالحكم فيه كما لو كان كله له فدبره
وقد مضى حكمه ومن قال لا يقوم فنصفه مدبر ونصفه قن.
فإن أعتق سيد المدبر نصيبه منه قوم عليه نصيب شريكه لأن نصيب شريكه
قن وإن أعتق سيد القن نصيبه فيه، قال قوم يقوم عليه النصف الذي هو مدبر، وقال
آخرون لا يقوم، وهو الأقوى عندي.
فإن مات سيد المدبر منه عتق نصيبه من الثلث، ولا يقوم عليه الباقي، ولا على
وارثه. وإن كان العبد كله له، فدبر نصفه صح التدبير فيه، وقال قوم لا يسري إلى
باقيه، وقال آخرون يسري، والأول أقوى عندي لأنه لا دليل عليه.
فمن قال يسري قال: الكل مدبر وإن رجع فيه عاد عبدا قنا وإن لم يرجع
حتى مات عتق من الثلث، ومن قال نصفه مدبر ونصفه قن، فإن دبر الباقي فالكل
مدبر، وإن لم يدبر الباقي كان نصفه قنا ونصفه مدبرا. فإن مات مولاه عتق منه ما كان
مدبرا من الثلث، فإن خرج من الثلث عتق كل النصف، وإن لم يخرج عتق منه
بقدر الثلث، والباقي رقيق لا يقوم على الوارث، لأنه ما أعتقه ولا على المورث لأنه
لا مال له بعد وفاته، فإن دبر العبد كله فرجع في بعضه كان ما رجع فيه عبدا قنا، و
الباقي مدبر.
180

* (فصل) *
* (في مال المدبر) *
كل مال اكتسبه المدبر قبل وفاة سيده فهو ملك لسيده في حياته، ولورثته بعد
وفاته، لا شئ للمدبر فيه، سواء اكتسبه بغير إذن منه أو إذن منه أو أرش جناية أو أي
وجه من وجوه المكاسب كان، فالكل واحد، فإذا مات سيده وعتق بوفاته، فكل ما
اكتسبه بعد هذا فهو له لا حق لغيره فيه.
فإن مات السيد ووجد في يد المدبر مال لا يعرف سببه، فاختلف هو ووارث
سيده: فقال الوارث اكتسبته قبل الوفاة فهو لي، وقال المدبر بعد الوفاة فهو لي
قال قوم القول قول المدبر.
وسواء اختلفوا بعد وفاة سيده بساعة أو بسنة، لأنه قد يستفاد المال الكثير في
الزمان القليل، ولا يستفاد القليل في الزمان الطويل فإن أقام كل واحد منهما بينة
بما يدعيه فالبينة بينة المدبر لأنها بينة الداخل، ويقتضي مذهبنا أن البينة بينة
الوارث لأنها بينة الخارج، وهو مذهبنا.
فإن كان مع الوارث بينة أنه قد كان في يده وسيده حي، فقال المدبر كان في
يدي لغيري وأنا ملكته بعد وفاة سيدي، فالقول قول المدبر مع يمينه، ولا يخرج
من يده حتى يقول الشهود كان في يده بملكه، فإذا شهدوا على هذا حكم به للوارث.
181

* (فصل) *
* (في تدبير الرقيق بعضهم على بعض) *
إذا دبر الرجل في صحته رقيقا في دفعة واحدة، أو بعضهم قبل بعض، وفي
مرضه آخرين كذلك، وأوصى بعتق آخرين بأعيانهم، فالذي يقتضيه مذهبنا أنه
يحكم بصحة الوصية إلى أن يستوفي الثلث، فإن نسي أو اشتبه الأمر فيه استخرج
بالقرعة.
وقال المخالف لا يبدأ بواحد منهم قبل واحد كما لو أوصى بوصية صحيحا والآخر
مريضا لم يقدم إحداهما على الأخرى، لأن وقت الاستحقاق واحد، فإن خرجوا
من الثلث عتقوا كلهم، وإن لم يخرجوا من الثلث، أقرع بينهم على ما مضى في القرعة
بين العبيد إذا أعتقهم في مرضه.
* (فصل) *
* (في تدبير المشركين غير المرتدين) *
تدبير الكفار جايز ذميا كان السيد أو حربيا كتابيا كان أو وثنيا، فإذا دبره
فهو بالخيار بين المقام على التدبير أو الرجوع منه، كالمسلم سواء فإن كان رجوعه
باخراجه من ملكه كان رجوعا، وإن كان بقول لا يخرج به من ملكه كقوله أبطلت
التدبير أو رجعت فيه، فعلى قولين: عندنا يصح.
فإن رجع في التدبير فهو عبد قن، وإن أقام على ذلك حتى مات عتق من الثلث
فإن احتمله الثلث عتق كله، وإلا عتق منه قدر الثلث، ورق الباقي للوارث.
فإن دخل حربي إلينا بأمان ومعه مدبر له أو معه عبد قن فدبره عندنا، أو
اشترى من عندنا عبدا فدبره، ثم أراد اخراج المدبر إلى دار الحرب كان له، لأنه
182

مطلق التصرف، ويفارق هذا إذا كاتبه، لأنه عقد عليه عقدا يمنع من بيعه وتصرفه
فيه، فلهذا لم يكن له اخراجه والمدبر بخلافه.
فإن دبر الكافر عبده ثم أسلم المدبر نظرت، فإن رجع السيد في تدبيره بعناه
عليه، وإن أقام على التدبير، قال قوم يباع عليه، وهو الصحيح عندنا وقال آخرون
لا يباع.
فمن قال يباع عليه، بيع ولا كلام، ومن قال لا يباع عليه، قال أزيلت يده
عنه، ومنع منه، ويكون على يدي عدل ينفق عليه من كسبه، فإن فضل فهو لسيده
وإن كان هناك عجز فعلى سيده.
وإن اختار أن يخارجه: وهو أن يوافقه على ما يؤديه بعد نفقته يوما بيوم
فعل، فإذا فعل هذا نظرت فإن رجع فيه بعناه عليه، وإن مات قبل الرجوع فإن احتمله
الثلث عتق كله، وإن لم يكن له سواه عتق ثلثه، ورق الباقي لوارثه، ويباع الباقي
على الوارث، لأنه عاد رقيقا لا يتوقع له جهة يعتق بها، وهو مسلم في يد كافر
وهكذا يحول بينه وبين أم ولده ومكاتبه إذا أسلما، يفرق بينه وبينهما والحكم
على ما مضى.
183

* (فصل) *
* (في تدبير الصبي والسفيه) *
إذا دبر الصبي عبده نظرت، فإن كان مميزا عاقلا قال قوم يصح، وقال آخرون
لا يصح، وروى أصحابنا إن كان له عشر سنين فصاعدا، كان عتقه وتدبيره صحيحين
وإن كان دون ذلك كان باطلا، وإن كان الصبي غير مميز كان التدبير باطلا وتدبير
المحجور عليه لسفه جايز على كل حال.
فمن قال التدبير باطل فلا كلام، ومن قال صحيح نظرت، فإن مات عتق من
الثلث وإن لم يمت فأراد الرجوع فيه صح رجوعه عندنا سواء كان بالقول أو بالفعل
وعندهم لا يصح إلا بالفعل، فمن قال لا يصح إلا بالفعل: وهو اخراجه من ملكه
أمر وليه أن يخرجه عن ملكه بعوض ليزول التدبير.
إذا دبر عبده ثم قال له إخدم فلانا ثلاث سنين وأنت حر، فقد علق عتقه بشرطين
يعتق بهما ولا يعتق بواحد منهما، فإن غاب المدبر أو خرس أو ذهب عقله قبل ذلك
لم يعتق العبد أبدا، إلا أن يموت السيد ويخرج المدبر من الثلث، ويخدم فلانا ثلاث سنين.
فإن مات فلان قبل موت السيد أو بعده ولم يخدمه ثلاث سنين لم يعتق أبدا
عندهم، لأنه أعتقه بشرطين فبطل أحدهما، وعندنا يعتق بموت السيد على كل
حال، وإن سئل السيد فقال أردت إبطال التدبير وأن يخدم فلانا ثلاث سنين، ثم هو
حر، فالتدبير باطل، فإن خدم فلانا ثلاث سنين فهو حر عندهم، وعندنا لا يكون
لأنه عتق بصفة.
وإن مات فلان قبل أن يخدمه أو لم يخدمه العبد لم يعتق أبدا، فإذا أراد
السيد الرجوع في الإخدام رجع فيه، ولم يكن العبد حرا، ومن قال إن التدبير
تعليق عتق بصفة أو وصية لا يصح الرجوع فيها بالقول، لم يكن هذا رجوعا عنده.
ولو دبر عبده ثم قاطعه على شئ وتعجل له العتق، فليس هذا بنقض التدبير و
المقاطعة على ما تقاطعا عليه، فإن أداه عتق، وإن مات السيد قبل أن يؤديه المدبر عتق بالتدبير.
184

* (كتاب) *
* (أمهات الأولاد) *
إذا وطئ الرجل أمة فأتت منه بولد، فإن الولد يكون حرا لأنها علقت به
في ملكه، وتسرى حرية الولد إلى الأم عندهم، وعندنا لا تسري وهي أم ولد
ما دامت حاملا، فلا يجوز بيعها عندنا، وإن ولدت فما دام ولدها باقيا لا يجوز بيعها
إلا في ثمنها إذا كان دينا على مولاها ولم يكن له غيرها، وإذا مات الولد جاز بيعها
وهبتها والتصرف فيها بساير أنواع التصرف.
وقال المخالف لا يجوز بيعها ولا التصرف في رقبتها بشئ من أنواع التصرف
لكن يجوز التصرف في منافعها بالوطي والاستخدام، فإذا مات السيد عتقت عندهم
بموته، وعندنا تجعل من نصيب ولدها وتنعتق عليه، فإن لم يكن هناك غيرها انعتق
نصيب ولدها واستسعيت في الباقي، وإن كان لولدها مال أدى بقية ثمنها منه، فإن
لم يكن ولدها باقيا جاز للورثة بيعها، وفيها خلاف ذكرناه في الخلاف.
وفي الاستيلاد ثلاث مسائل إحداها أن تعلق الجارية بولد في ملك الواطي فتصير
أم ولده بلا خلاف، فأما إذا رهن جارية ثم وطئها الراهن وأحبلها فإن الولد يكون
حرا ويصير الجارية أم ولد في حق الراهن بلا خلاف، ولا يجوز عندهم له التصرف
فيها، وعندنا يجوز على ما مضى، وهل تصير أم ولد في حق المرتهن؟ حين يخرج
من الرهن أو لا تصير أم ولد في حقه فتباع في الرهن. على قولين عندهم.
المسألة الثانية أن تعلق بمملوك في غير ملكه بأن تزوج أمة فأحبلها فأتت بولد
فإنه مملوك عندنا بشرط، وعندهم بلا شرط، ولا يثبت للأم حكم الحرية لا في الحال
ولا إذا ملكها فيما بعد، سواء ملكها بعد انفصال الولد أو قبله عندنا وعند جماعة
وفيها خلاف.
وليس على أصله أنها تعلق بمملوك فيثبت لها حكم الإحبال إلا في مسألة واحدة
185

وهو المكاتب إذا اشترى أمة للتجارة فأحبلها فالولد مملوك، ويكون موقوفا معه وفي
الأم قولان أحدهما يكون مملوكة يتصرف فيها كيف يشاء، والثاني يكون معه
موقوفة على حكمه إن عتق عتقت وإن رق رقت كالولد.
المسألة الثالثة أن تعلق الأمة بحر في غير ملكه بأن يطأ أمة غيره بشبهة فتعلق
منه بولد حر، فلا تصير أم ولد في الحال، فإن ملكها قال قوم لا تصير أم ولده، وقال
بعضهم تصير أم ولده وهو الأقوى عندي.
فأما بيان الحالة التي تصير بها أم ولد ففيه أربع مسائل إحداها أن يأتي بولد
تام الخلقة إما حيا أو ميتا، فيتعلق بولادته أربعة أحكام تصير به أم ولد، وإذا ضرب
ضارب بطنها فألقت الجنين ميتا وجب فيه الغرة إما عبد أو أمة إن كان حرا أو عشر
قيمة أمه إن كان عبدا وتجب فيه الكفارة، وينقضي بوضعه العدة، وهذا لا خلاف فيه.
المسألة الثانية أن تضع شيئا من خلقة آدمي أما يدا أو رجلا أو جسدا قد بان
فيه شئ من خلقة الآدمي فتتعلق به الأحكام التي ذكرناها لأنه محكوم بأنه ولد.
الثالثة أن تضع جسدا ليس فيه تخطيط ظاهر، لكن قال القوابل إن فيه تخطيطا
باطنا خفيا فيتعلق به الأحكام أيضا لأن المرجع في ذلك إلى القوابل الذين هم أهل
الخبرة والمعرفة، وقد شهدن بأنه ولد.
الرابعة أن يلقى جسدا ليس فيه تخطيط لا ظاهر ولا باطن، لكن قال القوابل
إن هذا مبتدأ خلق آدمي، وأنه لو بقي لتخلق وتصور، قال قوم لا تصير أم ولد، و
قال قوم تصير أم ولد، وهو مذهبنا، ويتعلق به الأحكام على ما مضى، ومن قال لا
يصير أم ولد لم يعلق عليه الأحكام، وفيهم من قال تنقضي العدة به على كل حال.
إذا أتت أم الولد بولد فلا يخلو إما أن يأتي به من سيدها أو من غيره، فإن
أتت به من سيدها فإنه حر مثل الولد الأول بلا خلاف، فإذا ثبت هذا فإنه ينظر:
فإن مات السيد عتقت عندنا من نصيب ولدها إما جميعها أو بعضها، فإن لم يكن
ولدها باقيا كانت مملوكة للوارث، وعندهم يعتق على كل حال من رأس المال، وإن
ماتت الأم في حياة السيد وبقي الولد، كان حرا بلا خلاف.
186

ولو تزوج أمة وهي حائل فأولدها ولد، فإن الولد يكون مملوكا لسيد الأمة
عندنا بالشرط، وعندهم مع عدمه، فإن ملك الزوج زوجته وولدها فالولد يعتق
عليه، والأم تصير عندنا أم ولد، لأن الاشتقاق يقتضي ذلك، وعندهم لا تصير أم
ولد، بل يكون مملوكة على ما كانت يتصرف فيها كيف شاء، سواء ملكها قبل انفصال
الولد أو بعده وفيه خلاف.
المكاتب إذا اشترى أمة للتجارة فوطئها وأحبلها فأتت بولد، فإن الولد يكون مملوكا له
لأنه من أمته، لكن لا يجوز له التصرف فيه، وأما الأم فقال قوم لا يثبت لها حكم
الاستيلاد، بل تكون أمته يتصرف فيها كيف شاء، وقال آخرون يثبت لها حرمة
الاستيلاد، فتكون موقوفة كالولد، وعندنا يكون أم ولد.
ولو أوصى لأم ولده أو لمدبرة يخرج من الثلث فهي جايزة أما أم الولد فالوصية
لها تصح، لأن الوصية لأم الولد بعد الموت وهي حرة في تلك الحال، فتصح فيها
تلك الوصية، وعندنا أيضا يصح لأنها إن عتقت على ولدها أعطيت ما وصى لها به
وإن لم يكن ولد احتسب بما أوصى لها من قيمتها وتنعتق.
وأما المدبرة فإنه يعتبر قيمتها وقيمة ما أوصى لها به من الثلث، فإن احتمل
الثلث جميع ذلك نفذت الوصية، وإن لم يحتمل الثلث بدئ باعتبار قيمة المدبرة
فإذا خرجت نظر حينئذ فيما أوصى له به، فإن بقي من الثلث شئ نفذت بقدره، وإلا
بطلت، وإن لم يحتمل الثلث جميع قيمة المدبرة عتق منه قدر ما يحتمله الثلث، و
بطلت الوصية؟
أم الولد إذا جنت جناية وجب بها أرش، فإن الأرش يتعلق برقبتها بلا خلاف
وهو بالخيار بين أن يفديها أو يبيعها عندنا، وعندهم على السيد أن يفديها ويخلصها
من الجناية، لأنه منع من بيعها بإحباله، ولم يبلغ بها حالة يتعلق الأرش بذمتها
فصار كالمتلف لمحل الأرش فلزمه ضمان الجناية كما لو كان له عبد فجنا فقتله.
ويفارق إذا كان له عبد فأعتقه ثم جنى، حيث لم يلزمه ضمان ذلك، لأن
هناك بلغ به حالة يتعلق الأرش بذمته.
187

ويضمن أقل الأمرين من أرش الجناية أو قيمتها لا يفاد على ذلك، وكذلك
عندنا إذا أراد أن يفديها لأنه إن كان الأرش أقل فالذي يستحقه المجني عليه الأرش
فحسب، فلم يضمن أكثر منه، وإن كانت القيمة أقل فهو إنما يفدي رقبة أم الولد فلم
يلزمه أكثر من قيمة الرقبة.
فأما إذا جنت ففداها السيد ثم جنت دفعة ثانية، فهل يلزمه أن يفديها ثانيا
كما فداها أولا، ولا يشرك المجني عليها في الفداء الأول؟ فيه قولان أحدهما أنه
يلزمه أن يفديها ثانيا، والثاني لا يلزمه.
فمن قال يلزمه فوجهه هو أنه إنما فداها في الدفعة الأولى لأمر منع من
بيعها، ولم تبلغ بها حالة يتعلق الأرش بذمتها، وهذا موجود في الدفعة الثانية و
الثالثة، فلزمته الفدية.
فمن قال يلزمه الفداء كل دفعة، قال بأنه يفديها في الدفعة الثانية والثالثة كما
فداها في الأولة، وإن قلنا لا يلزمه أكثر من فدية واحدة، فإنه ينظر فإن دفع المجني
عليه قدر أم الولد، فليس يجب عليه شئ آخر، لكن يرجع الثاني على الأول و
يشاركه فيما حصل معه، ويقتسمانه على قدر جنايتها، وإن كان قد دفع إليه أقل من
قيمة أم الولد، فإنه يلزمه أن يرجع تمام القيمة، ثم يضم ذلك إلى ما حصل الأول
ليشترك هو والثاني فيه.
على هذا إذا جنت دفعة ثانية وثالثة ورابعة فالذي يقتضيه مذهبنا أنه إذا جنت جناية
بعد جناية أن مولاه بالخيار بين أن يسلمها إليهم فيبيعونها بأجمعهم، ويقتسمون الثمن على
قدر الجنايات بينهم، وبين أن يفدي الجنايات من أقل أروشها أو ثمنها لا يلزمه أكثر
من ذلك، فأيهما اختار كان له ذلك، لأنها مملوكة عندنا.
إذا كان لذمي أم ولد منه، فأسلمت فإنها لا تعتق عليه، وتباع عندنا، لأنها
مملوكة، وعندهم لا تباع ولا يستعار، لكن يحال بينها وبينة ويجعل في يد امرأة ثقة
تنفق عليها من كسبها، فإن فضل شئ من كسبها كان لسيدها، وإن عجز عن نفقتها كان
على السيد تمامه، وقال بعضهم يعتق بإسلامها ولا يلزمها شئ.
188

وقال آخرون تستسعي في قدر قيمتها، فإذا أدت عتقت، وقال بعضهم تعتق ثم
تستسعى في قيمتها، وقال آخرون تعتق ويلزمها نصف قيمتها.
إذا كان لرجل أم ولد فمات عنها، أو أعتقها في حال حياته، فإنه لا يجب عليها
أن يعتد لكن يجب عليها الاستبراء.
فإن كانت من ذوات الأقراء استبرأت بثلاثة أقراء عند أصحابنا إذا أعتقها، و
أربعة أشهر وعشر عن الوفاة، وقال المخالف بقرء واحد، وقال بعضهم بقرئين، وقال
بعضهم بثلاثة أقراء كالحرة المطلقة.
وأما إذا كانت من ذوات الشهور فعندنا بثلاثة أشهر من العتق، وأربعة أشهر و
عشر من الوفاة، وقال بعضهم يستبرأ بشهر واحد، لأن كل شهر في مقابلة قرء، وقال
آخرون إنها تستبرأ بثلاثة أشهر، لأن براءة الرحم لا تعلم في أقل من ذلك.
إذا كان له أم ولد فأراد تزويجها فإنه يملك إجبارها على ذلك، لأنها مملوكته
عندنا، وقال بعضهم يملك تزويجها برضاها، ولا يملك إجبارها على النكاح، لأنه
ثبت لها سبب الحرية، وقال قوم إنه لا يملك تزويجها بحال، وإن رضيت، لأن
ملك السيد عليها ناقص، وهي بنفسها ناقصة، فلم يصح للتزويج وإن اتفقا عليه.
فعلى هذا هل يجوز للحاكم تزويجها؟ فيه وجهان أحدهما أنه يملك ذلك و
يزوجها حكما لا بولاية كما يزوج الكافر حكما لا بولاية والوجه الثاني أنه لا يملك
تزويجها لأن الحاكم يقوم مقامهما، فلما ثبت أنهما إذا اتفقا على التزويج لم يصح
فالذي يقوم مقامهما أولى أن لا يملك ذلك.
فكل موضع قيل إن النكاح جايز برضاها أو بغير رضاها أو زوجها الحاكم،
فإن حكم السيد يزول عن استمتاعها، ويحرم عليه وطؤها، وعلى ذلك الزوج [نفقتها] ظ و
يلزمه المهر المسمى، ويكون ذلك للسيد لأنه من جملة الكسب وكسبها له.
إذا ملك أمه أو أخته من الرضاع أو عمته من النسب لم يحل له وطؤها
بلا خلاف، فإذا وطئها لم يخل إما أن يكون عالما بالتحريم أو جاهلا فإن كان جاهلا
فلا حد عليه للشبهة، ويلحقه النسب وتصير الجارية أم ولد، لأنها علقت بحر في
189

ملكه، وعندنا لا يلحقه النسب لأن هؤلاء لا ينعتقن عليه، فإذا وطئهن فقد وطئ
أجنبية ولا يلحق به النسب.
وإن كان عالما بالتحريم وجب عليه الحد عندنا، وقال بعضهم لا يجب لشبهة
الملك، فمن قال عليه الحد فلا تعزير، ومن قال لا حد قال عليه التعزير، وألحقوا
الولد به على كل حال، وتصير الجارية أم ولده، وليس على أصله وطي يجب
به الحد وتصير الجارية أم ولد، غير هذا الوطي.
وهكذا الحكم في الكافر إذا ملك مسلمة بأن يرثها أو كانت كافرة فأسلمت، فلا
يجوز له وطيها، ولا يقر على ملكه، بل يزال ملكه عنها، فإن بادر ووطئها فهل
يجب عليه الحد؟ فيه قولان، وهكذا كل وطي محرم صادف ملكا، وهل يجب
به الحد؟ على قولين أصحهما عندنا أنه لا حد عليه للشبهة وسواء قيل إن الكافر
يلزمه الحد أو لا يلزمه، فإن النسب يلحقه، وتصير الجارية أم ولده، لأنها
علقت بحر في ملكه، كالمسلم سواء إلا أن الكافر يخالف المسلم في أن أم ولده تقر
تحت يده والكافر لا تقر تحت يده المسلمة بل تسلم إلى امرأة ثقة مسلمة تكون في
يدها ويلزمه الانفاق عليها.
190

* (كتاب الأيمان) *
قال الله تعالى " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم
الأيمان " (1) فأخبر أنه لا يؤاخذ بلغو اليمين، ولغو اليمين أن يسبق لسانه بغير عقيدة
بقلبه، كأنه أراد أن يقول لا والله، فقال بلى والله، وأخبر أنه يؤاخذ بما اعتقده
وحلف به معتقدا له.
وقال تعالى " إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق
لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيمة ولا يزكيهم ولهم عذاب
أليم " (2) فتواعد من اشترى بيمينه ثمنا قليلا.
وروي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله قال والله لأغزون قريشا، والله لأغزون
قريشا، والله لأغزون قريشا وفي بعضها ثم قال إن شاء الله.
وروي أنه عليه السلام كان كثيرا ما يحلف بهذه اليمين: لا ومقلب القلوب.
وروى أبو سعيد الخدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا اجتهد في اليمين قال:
لا والذي نفس أبي القاسم بيده، وفي بعضها نفس محمد بيده.
وروى أبو أمامة المازني واسمه أبان بن ثعلبة أن النبي عليه السلام قال من
اقتطع مال امرئ مسلم بيمينه حرم عليه الجنة، وأوجب له النار، قيل وإن كان شيئا
يسيرا؟ قال وإن كان سواكا.
تكره اليمين بغير الله كاليمين بالمخلوقات: النبي والكعبة ونحوها وكذلك
بالآباء كقوله وحق أبي وحق آبائي ونحو ذلك كل ذلك مكروه.
وروي أن النبي صلى الله عليه وآله قال لا تحلفوا بآبائكم ولا بالأنداد، ولا تحلفوا إلا
بالله ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون.
وروي أن النبي صلى الله عليه وآله سمع عمر بن الخطاب يحلف بأبيه، فقال النبي صلى الله عليه وآله

(1) المائدة: 89.
(2) آل عمران: 77.
191

إن الله ينهكم أن تحلفوا بآبائكم قال عمر فوالله ما حلفت بها بعد ذاكرا ولا آثرا يعني
ولا رواية عن غيري ولا حكاية عنه.
وروي أن النبي صلى الله عليه وآله قال، من حلف بغير الله فقد أشرك وفي بعضها فقد
كفر بالله.
وقيل في قوله " فقد أشرك " تأويلان أحدهما الشرك الحقيقي، وهو أن يعتقد
تعظيم ما يحلف به، ويعتقده لازما كاليمين بالله، فمن اعتقد هذا فقد كفر والتأويل
الثاني لا يكفر به، وهو أن يشارك في اليمين فيحلف بغير الله كما يحلف بالله.
وقوله فقد كفر لا تأويل له غير الكفر الحقيقي، وهو أن يعتقد تعظيم ما يحلف
به كما يعتقده في الله تعالى ذكره.
فإذا ثبت هذا فمتى خالف وحلف بها وحنث فلا كفارة عليه بلا خلاف.
وفي اليمين مكروه وغير مكروه بلا خلاف، وروي عن بعضهم كراهتها كلها:
فإذا ثبت هذا، فاليمين على المستقبل على خمسة أقسام يمين عقدها طاعة والمقام
عليها طاعة وحلها معصية، وهي اليمين على الواجبات، واجتناب المعاصي، كما
لو حلف ليصلين الخمس ويزكين ماله ويصومن شهر رمضان، ويحجن البيت، ولا
يسرق ولا يزني ولا يقتل ولا يغصب فكل هذا طاعة والمقام عليها طاعة وحلها
معصية، وكذلك لا هجرت أبوي ولا هجرت المسلمين.
الثانية عقدها معصية والمقام عليها معصية وحلها طاعة، وهو ضد الأول يحلف
لا صليت الفرض، ولا صمت رمضان ولأقتلن ولأشربن الخمر، ولأهجرن الوالدين
والمسلمين، فكل هذه معصية والمقام عليها معصية وحلها طاعة.
الثالث يمين عقدها طاعة والمقام عليها طاعة وحلها مكروه، وهو أن يحلف
ليفعلن النوافل والطاعات ولأصلين النوافل والحج تطوعا، والصدقة ولأبرن
الوالدين.
الرابع بالضد من هذا وهو أن يكون عقدها مكروها والمقام عليها مكروها و
حلها طاعة، وهو أن يحلف لا صليت النوافل ولا صمت تطوعا ولا حججت تطوعا
192

ولا بررت الوالدين، فالعقد مكروه والمقام عليه مكروه وحلها طاعة، ومن هذا
الضرب إذا حلف: لا آكل الطيب، ولا ألبس الناعم، فعقدها مكروه والمقام عليها
مكروه وحلها طاعة وقال بعضهم هذا مباح والأول أصح لقوله تعالى: " قل من حرم
زينة الله التي أخرج لعباده (1) " وقال بعضهم المقام عليها طاعة ولازم.
الخامس يمين عقدها مباح والمقام عليها مباح وفي حلها خلاف، وهو أن
يحلف لا دخلت بلدا فيه من يجور على الناس ويظلمهم، ولا سلكت طريقا مخوفا، كل
هذا مباح، وإذا حلف قال قوم المقام عليها أفضل لقوله " لا تنقضوا الأيمان بعد
توكيدها " (2) ولقوله " واحفظوا أيمانكم " (3) والثاني حلها مباح والأول أصح للآية.
فأما الأيمان على الماضي فعلى ضربين محرمة ومباحة، فالمحرمة المحظورة
أن يكون فيها كاذبا وهو أن يحلف ما فعلت وقد فعل، أو فعلت وما فعل، والمباحة
أن يكون صادقا فيما يحلف، وأن كانت عند الحاكم.
إذا ادعى عليه دعوى فأنكرها وكان صادقا فالأفضل أن لا يحلف وإن كان مباحا
وروي أن ابن عمر ادعى على عثمان مالا فوزنه عثمان ولم يحلف، فقال له عمر لم
لم تحلف؟ والله أن هذه أرض، والله إن هذه سماء ما ضرت يمين برت. فقال عثمان
خشيت أن يصادف بلاء قدر فيقال بيمينه وروي مثل ذلك عن أبي جعفر الباقر عليه السلام
أنه وزن ما ادعى عليه ولم يحلف، وقال مثل ذلك.
فإذا تقررت أقسامها فمتى حلف وحنث فلا يلزمه في جميع ذلك كفارة عندنا
إلا ما كان يمينا على مستقبل، ويكون فعله وتركه سواء، فحينئذ تلزمه كفارة ولا
كفارة فيما عداها، وما كان حله طاعة وعبادة أوله مصلحة يستضر بتركها فإنه يحلها
ولا كفارة عليه، وإن كان حلها معصية فمتى حلها فعليه الكفارة، وعند المخالف
يلزمه بحنث جميع ذلك كفارة.

(1) الأعراف: 32.
(2) النحل: 91.
(3) المائدة: 89.
193

إذا قال: أنا يهودي أو نصراني أو مجوسي أو برئت من الله أو من القرآن أو من
الاسلام لو فعلت كذا ففعل لم يكن يمينا ولا يحنث بخلافه، ولا يلزمه كفارة و
فيه خلاف.
الأيمان ضربان على مستقبل وعلى ماض، فإن كانت على مستقبل انقسمت
قسمين نفيا وإثباتا، فالنفي والله لا فعلت كذا، لا أكلت لا شربت لا كلمت زيدا، و
الإثبات والله لأفعلن كذا لآكلن لأشربن لأكلمن اليوم زيدا.
فإذا حلف على نفي أو على إثبات نظرت فإن أقام على يمينه فلا كلام، وإن
خالف فإن كان عالما بذلك فعليه الكفارة، وإن كان ناسيا فلا كفارة عليه عندنا، وقال
بعضهم تلزمه.
وإن كانت على ماض فعلى ضربين أيضا على نفي وإثبات فالنفي يحلف ما فعلت
كذا ما أكلت ما شربت ما لبست، والإثبات أن يحلف لقد فعلت كذا أو أكلت أو
شربت أو لبست نظر فيه، فإن كان صادقا بما حلف فهو بار فيها ولا شئ عليه وإن
كان كاذبا فإن كان مع العلم بحاله أثم، ولا كفارة عندنا عليه، وقال بعضهم تلزمه
الكفارة، وإن كان ناسيا فكذلك عندنا لا كفارة عليه ولا إثم أيضا، وقال بعضهم
عليه الكفارة.
قالوا: ولا فصل بين الماضي والمستقبل إلا في فصل واحد، وهو أنها إذا كانت.
على المستقبل انعقدت على بر أو حنث وإن كانت على ماض عقدها ولم تنعقد، فإن
كان صادقا لم يحنث وإن كاذبا عالما بذلك قارن الحنث العقد، وعليه الكفارة وفيه
خلاف.
إذا قال والله لأصعدن السماء أو لأقتلن زيدا، وزيد مات، لم يحنث عندنا
ولا كفارة عليه، وعندهم يحنث وتلزمه الكفارة.
الكافر يصح يمينه بالله في حال كفره، فإن حنث فعليه الكفارة سواء حنث في
حال كفره أو بعد أن يسلم، وقال بعضهم لا تنعقد يمينه بالله، ولا تجب عليه الكفارة
ولا يصح منه التكفير، والأقوى عندي الأول، إلا أنه لا تصح منه الكفارة في حال
194

كفره لأنها يحتاج إلى نية القربة، وهي لا تصح من كافر لأنه غير عارف بالله.
إذا حلف لم يخل من ثلاثة أحوال إما أن يحلف بالله أو بأسمائه أو بصفاته، فإن
حلف به كان يمينا بكل حال، والحلف به أن يقول " ومقلب القلوب " لما تقدم من
الخبر، وكقوله والذي نفسي بيده للخبر أيضا وروي عن علي عليه السلام أنه قال " والذي
فلق الحبة وبرأ النسمة ونودي بالعظمة " ونحو ذلك كقوله والذي أحج له وأصلي له، كان هذا يمينا به بلا خلاف، ومتى حنث وجبت عليه الكفارة.
وأما الحلف بأسمائه، فأسماؤه على ثلاثة أضرب، اسم لا يشركه غيره فيه، و
اسم يشاركه فيه غيره لكن إطلاقه ينصرف إليه، واسم يشاركه فيه غيره وإطلاقه لا
ينصرف إليه.
فأما ما لا يشاركه غيره فيه فإنه يكون يمينا بكل حال كقوله، والله، فإنه
يبدأ به ويعطف عليه غيره، فيقول والله الرحمن الرحيم الطالب الغالب، وكذلك
الرحمن له خاصة، وهكذا الأول الذي ليس قبله شئ، والآخر الذي ليس بعده
شئ، والواحد الذي ليس كمثله شئ، كل هذا لا يصلح لغيره بوجه، والحكم فيه
كما لو حلف به وقد مضى.
والثاني ما يشاركه فيه غيره وإطلاقه ينصرف إليه كالرب والرازق والخالق
فيه يقال رب العالمين ورب الدار لغيره ورازق الخلق ورازق الجند لغيره وخالق
الأشياء له وخالق الإفك لغيره.
وما كان من هذا وإطلاقه ينصرف إليه فإن أطلق وأراد يمينا كان يمينا، وإن
لم يرد يمينا فقيد بالنية أو بالنطق وأراد غير الله بذلك، لم يكن يمينا.
الثالث ما يشاركه فيه غيره وإطلاقه لا ينصرف إليه كالموجود والحي والناطق
ونحو هذا، كل هذا لا يكون يمينا بوجه، وإن أرادها وقصدها، لأنه مشترك لا
ينصرف إطلاقه إليه، فإذا كان كذلك لم يكن له في نفسه حرمة.
فأما الكلام في صفاته فصفاته ضربان صفات ذات وصفات فعل فصفات ذاته مثل
قوله وعظمة الله، وجلال الله، ونوره، وعلم الله، وكبرياء الله، وعزة الله، وقال
195

قوم إذا قال وعلم الله وقدرة الله لا يكون يمينا لأن الله عالم لذاته، فإذا قال وعلم
الله كان معناه ومعلوم الله، فلا يكون يمينا بالله، والذي نقوله أنه إن قصد به المعنى
الذي يكون به عالما وقادرا على ما يذهب إليه الأشعري لم يكن يمينا بالله، وإن قصد
به كونه عالما وقادرا كان يمينا، فإن ذلك قد يعبر به عن كونه عالما وقادرا.
إن حلف بالقرآن أو سورة منه أو بآية منه لم يكن عندنا يمينا، ولا يكفر، و
قال بعضهم يكون يمينا وفيه خلاف.
وأما صفات فعله كقوله وخلق الله، ورزق الله، ومعلوم الله، كل هذا وما في
معناه ليس بيمين بحال.
إذا قال أقسمت بالله احتمل أمرين أحدهما يمينا في الحال والآخر إخبارا عن
يمين ماضية، وكذلك قوله أقسم بالله احتمل أمرين يمينا في الحال ووعدا بها أنه
سيحلف بها في المستقبل، ولا خلاف أنها سواء في الاحتمال.
فمتى قال أقسمت بالله أو أقسم بالله نظرت، فإن أطلق، ولا نية له، عندنا لا
تكون يمينا وعندهم تكون يمينا لأنها لفظة ثبت لها العرفان معا: عرف العادة و
عرف الشرع، فعرف الشرع قوله " وقاسمهما أني لكما من الناصحين " (1) وقوله
" أقسموا ليصرمنها مصبحين " (2) وقوله " فيقسمان بالله " (3) وأما عرف العادة وهو عرف
سائر الناس فإنهم يقولون أقسمت بالله وأقسمت عليك وهو مشهور في اللغة.
فإذا ثبت العرفان كان يمينا مع الاطلاق، وإن أراد بها اليمين كانت النية
تأكيدا عندهم وعندنا بها تصير يمينا لأن اليمين عندنا لا تنعقد إلا بالنية في سائر
الألفاظ.
فأما إن لم يرد يمينا وقال أردت بقولي أقسمت إخبارا عن يمين قديمة، و
أقسم بالله أني سأحلف به، فعندنا يقبل قوله، وقال بعضهم لا يقبل. فمن قال بهذا قبله

(1) الأعراف: 21.
(2) القلم: 17.
(3) المائدة: 106 و 107.
196

فيما بينه وبين الله لا في الظاهر، لأنه محتمل، وهو أعرف بما أراد.
إذا قال أقسم لا فعلت كذا لا كلمت زيدا، ولم ينطق بما حلف به، لم يكن يمينا
أرادها أو لم يردها عندنا وعند كثير منهم وفيه خلاف.
إذا قال لعمر والله روى أصحابنا أنه يكون يمينا وبه قال جماعة غير أنهم لم
يشترطوا النية وقال بعضهم لا يكون يمينا إذا أطلق أو لم يرد يمينا، وإن أراد يمينا
كان يمينا وهذا هو مذهبنا بعينه.
وإذا قال وحق الله كانت يمينا إذا أراد يمينا، وإن لم يرد لم تكن يمينا و
قال بعضهم وإن أطلق أيضا يكون يمينا وفيه خلاف، فأما إن قال لم أرد يمينا لم تكن
يمينا بلا خلاف.
وقوله وقدرة الله كقوله وحق الله وكذلك قوله وعلم الله إن قصد به ما ذكرناه
وقصد به اليمين كان يمينا، وعندهم إن قصد اليمين أو أطلق كان يمينا فإن لم يرد
يمينا فليست يمينا بلا خلاف.
فأما قوله وعظمة الله وجلال الله وكبرياء الله فكلها يمين إذا نوى بها اليمين
عندنا، وعندهم يمين على كل حال إذا أطلق وإذا قصد، وإن قال لم أرد يمينا قبل
عندنا منه، وعندهم لا يقبل لأنها من صفات ذاته.
وأما إذا قال تالله فإن قصد يمينا كان يمينا، وإن لم يقصد لم يكن يمينا
وعندهم مثل قوله وحق الله إن أطلق أو أراد يمينا كان كذلك، وإن لم يرد لم يكن يمينا.
لا فرق بين قوله بالله وتالله في أنه إذا قصد به اليمين كان يمينا في كل موضع
في الإيلاء والقسامة وغيرهما، وفيهم من فرق.
إذا قال الله لأفعلن كذا وكذا، فإن أطلق أو لم يرد يمينا لم يكن يمينا عندنا
وعندهم: عندنا لأن اليمين يحتاج إلى نية، وعندهم لأن حرف القسم ليس فيه
وقال بعضهم يكون يمينا.
إذا قال أشهد بالله، إن أراد يمينا كان يمينا وإن أطلق أو لم يرد يمينا لم يكن
يمينا وفيه خلاف.
197

إذا قال أعزم بالله لم يكن يمينا إذا أطلق أو لم يرد يمينا بلا خلاف، وإن أراد
يمينا كان يمينا عند بعضهم، ويقوى في نفسي أنه لا يكون يمينا لأنه ليس من ألفاظ
اليمين.
إذا قال أسئلك بالله، لم يكن يمينا بحال عندنا، وعندهم إذا أطلق أو لم يرد
يمينا لم يكن يمينا لأنه يحتمل غير اليمين، فيكون معناه أتوسل إليك بالله.
فأما إذا قال: أقسم عليك بالله لتفعلن لم يكن عندنا يمينا بحال، وعندهم هو كقوله
أسئلك بالله، لأنه يحتمل أقسم بمعنى سأقسم أو أقسم عليك بمعنى أستقسمك بالله أي
احلف أنت واقسم.
ويحتمل يمينا من جهته على فعل الغير بمعنى أقسم أنا بالله لتفعلن كذا، فإن
أراد يمينا فهي يمين ويكون معناه والله لتفعلن كذا وكذا، فتعقد على فعل غيره كما
يعقدها على فعل نفسه، وعندنا لا تنعقد اليمين على فعل الغير، وعندهم إذا انعقدت
على فعل الغير فإن أقام الغير عليها لم يحنث الحالف، فإن خالف الغير حنث فلزمته
الكفارة، دون الذي حنثه، وقال بعضهم الكفارة على الذي حنثه دون الحالف، لأنه
وقع الحنث بفعله، وعلى ما قلناه لا يتعلق به كفارة لا الحالف ولا غيره.
إذا قال عهد الله على وميثاقه وكفالته وأمانته، فعندنا لا تكون يمينا بحال
وعلى وجه إلا ما رواه أصحابنا في العهد، فإنه ينعقد به النذر، فأما اليمين فلا، وفيهم
من قال إذا أطلق ولم يرد يمينا لم يكن يمينا وقال بعضهم يكون يمينا بإطلاقه يمينا
للعرف ومتى أراد يمينا فهي يمين عندهم بكل حال.
فكل موضع أراد يمينا فحنث، فإن كان حلفه بواحدة منها فعليه كفارة واحدة
بلا خلاف، وإن حلف بها كلها فقال عهد الله على وميثاقه وكفالته وأمانته لأفعلن
كذا ثم حنث، قال بعضهم يلزمه كفارة واحدة، وقال آخرون بكل لفظة كفارة.
وإن قال أستعين بالله أو أعتصم بالله أو أتوكل على الله لم يكن يمينا بحال، أرادها
أو لم يردها بلا خلاف، لأنها لا تصلح للأيمان، ولا تثبت بها عرف.
وعقد الباب في هذا أن الألفاظ التي يحلف بها على ثلاثة أضرب فما ثبتت له
198

العرفان معا كقوله " والله " فإنها تكون يمينا عندنا إذا نوى فحسب، وعندهم على كل
حال في ثلاث جهات: مع الإرادة، ومع الاطلاق، وإن لم يرد يمينا. فإنها تكون
يمينا ولا يقبل قوله عندهم، وعندنا يقبل.
وفي هذا المعنى ما لم يثبت فيه عرف شرع ولا عادة لكنه لا يصلح لغير الحلف
وهو إذا قال والذي نفسي بيده أو بأسمائه كقوله والرحمن أو بصفات ذاته الخاصة كقوله
وعزة الله، وجلال الله، وعظمة الله، وكبرياء الله، لأن هذه الألفاظ لا تصلح إلا
لليمين.
الثاني ما يثبت له أحد العرفين عرف الشرع كقوله بالله وتالله وأقسم بالله و
أحلف بالله وأولى بالله ولعمرو الله، وما ثبت له عرف العادة كقوله وحق الله، وعهد
الله عند بعضهم، فكل هذا يكون يمينا إذا نوى، وإن لم ينو لم يكن يمينا، وعندهم
يكون يمينا مع النية ومع الاطلاق، ولا يكون يمينا إذا لم يردها.
الثالث ما لم يثبت له عرف بحال فهذا على ضربين: أحدهما ما يصلح لليمين وغيرها
كقوله أعزم بالله لأفعلن، وكذلك عهد الله وميثاقه وأمانته وكفالته، كل هذا لا
يكون يمينا عندنا بحال وعندهم إذا أراد بها اليمين كانت يمينا فأما إذا أطلق أو أراد
غير اليمين فلا يكون يمينا، وما لا يصلح لليمين فلا يكون يمينا بحال بلا خلاف، كقوله
أعتصم بالله، أستعين بالله، أتوكل على الله.
إذا حلف لا تحلى ولا لبس الحلي، فلبس الخاتم حنث، وقال بعضهم لا يحنث
وإذا حلفت المرأة لا لبست حليا فلبست الجوهر وحده حنثت، وقال بعضهم لا تحنث
وعندنا تحنث في الموضعين لقوله تعالى " وتستخرجون حلية تلبسونها " (1).
الاستثناء في اليمين بالله يصح، نفيا كانت أو إثباتا، فالنفي أن يقول والله لا كلمت
زيدا إن شاء الله، والإثبات والله لأكلمن زيدا اليوم إن شاء الله، فإذا استثنى يسقط
حكمها ولم يحنث بالمخالفة، ولسنا نقول الاستثناء ترفع ما حلف به، لكنها قد رفعت
ومنع من الانعقاد.

(1) فاطر: 12.
199

وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال من حلف على يمين فقال إن شاء الله فقد استثنى
وروي عنه عليه السلام أنه قال من حلف على يمين فقال إن شاء الله لم يحنث، وتدخل في
الطلاق كقوله أنت طالق إن شاء الله وكذلك في اليمين بالعتق والطلاق عند المخالف
ويدخل أيضا في العتق والنذر وفي الاقرار عندنا وعند الأكثر وقال بعضهم لا تدخل
في غير اليمين بالله.
فإذا ثبت أنها تدخل في كل هذا فهو غير واجب، بل هو بالخيار إن شاء استثنى
وإن شاء ترك عندنا وعند الأكثر، وقال بعض الشواذ هو واجب لقوله " ولا تقولن
لشئ إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله " (1).
فإذا ثبت ذلك فإن ترك فلا كلام، وإن استثنى فإنما يعمل إذا كان موصولا
ولا يعمل مفصولا، وينبغي أن يأتي به نسقا من غير قطع الكلام، أو يأتي به في معنى
الموصول، وهو أن يكون الكلام انقطع لانقطاع صوت أو نفس أوعى أو تذكر فمتى
أتى به على هذا صح، وإن فصل بينه وبين اليمين فصلا طويلا ثم استثنى أو حين
فرغ من اليمين تشاغل بحديث آخر، يسقط الاستثناء، وفيه خلاف.
فإذا ثبت أنها لا تصح إلا موصولا، فإنما يصح قولا ونطقا، ولا تصح اعتقادا
ونية وإذا أتى به نطقا فإنما يصح إذا قصد به الاستثناء ونواه واعتقده، فإذا لم يكن
كذلك فلا يصح، مثل أن يقول والله لا دخلت الدار إن شاء الله، يعني أنا على هذا و
أن الامتناع من دخولي لمشية الله.
وإذا حلف ليدخلن الدار اليوم إلا أن يشاء فلان، فقد ألزم نفسه دخولها اليوم
وجعل الاستثناء مشية فلان، ومشية فلان أن يقول قد شئت أن لا تدخل، فإذا قال
هذا صح الاستثناء، وزالت اليمين، لأن الاستثناء ضد المستثنى منه، فلما كانت
اليمين إيجابا كان الاستثناء نفيا.
فإذا تقررت الصورة فإنه يتخلص منها بأحد أمرين: البر وهو الدخول، أو
وجود الاستثناء (2) فإذا لم يوجد واحد منهما حنث في يمينه، فإن قال فلان قد شئت أن تدخل

(1) الكهف: 23.
(2) وهو أن يشاء فلان أن لا يدخل.
200

أو قال أنا لا أشاء أن لا تدخل، لم يوجد الاستثناء لأنه لم يأت بمشية هي ضد ما
حلف به، فإن خالف ولم يدخل أو غاب عنا حتى مضى الوقت حنث.
وجملته إذا حلف لا دخلت الدار إلا أن يشاء فلان، فقد منع نفسه من الدخول
وجعل الاستثناء مشية فلان، والمشية التي يقع الاستثناء أن يشاء أن يدخل، فإذا
ثبت هذا فإنه يتخلص منها بأحد أمرين البر وهو أن يدخل أو الاستثناء وهو أن
يشاء فلان أن يدخل، فمتى وجد أحدهما سقط حكم اليمين.
فإن قال فلان قد شئت أن لا يدخلها، أو قال أنا لا أشاء أن تدخل، لم يوجد
الاستثناء لأنه ما أتى بالمشية التي هي ضد اليمين، فإن دخل الدار وخالف فخفي علينا
خبر فلان فلم تعلم شاء أم لم يشأ لم يحنث من قبل أن يكون فلان شاء، وعندي أنه لا
فرق بين المسألتين، وهو أنه متى خالف حنث، ومتى شك في حصول المشية فإنه لا
يحنث لأن الأصل براءة الذمة وفيها خلاف.
فأما إذا حلف ليضربنه مائة فأخذ عرجونا فيه مائة شمراخ فضربه ضربة واحدة
فقد روى أصحابنا أنه يبر في يمينه وفي الناس من قال لا يبر إلا إذا قطع أنه قد وصل
إليه المائة بأجمعها، ومتى لم يعلم ذلك فإنه يحنث.
إذا حلف لا أدخل الدار إن شاء فلان، فليس هذا من الاستثناء بل علق انعقاد
يمينه بشرط مشية فلان، فالشرط ما كان في وفق يمينه، فإذا قال قد شئت أن لا يفعل
انعقدت يمينه، لأن شرط الانعقاد قد وجد، فإذا انعقدت فلا يخلصه منها غير البر.
فإن قال فلان قد شئت أن تدخلها لم يوجد الشرط، لأنه في ضد اليمين، و
كذلك لو قال لا أشاء أن لا تدخل لم يوجد الشرط، لأن الشرط أن يشاء أن لا يدخلها
وما شاء هذا، فلا ينعقد يمينه، فإن غاب فلان ولم يعلم هل شاء أم لا؟ لم ينعقد يمينه
لأنه لا يعلم الشرط، والأصل أن لا يمين.
201

* (فصل) *
* (في لغو اليمين) *
لغو اليمين أن يسبق اليمين إلى لسانه لم يعقدها بقلبه، كأنه أراد أن يقول
بلى والله، فسبق لسانه لا والله، ثم استدرك فقال بلى والله، فالأول لغو ولا كفارة و
فيه خلاف.
فإذا ثبت هذا فالأيمان ضربان: لغو وغير لغو، فإن وقعت لغوا نظرت، فإن
كانت بالله قبل منه، لأنه من حقوق الله يقبل منه فيما بينه وبين الله، لأنه لا مطالب
بموجبها، وأن كانت بالطلاق أو العتاق فعندنا لا تنعقد اليمين بهما أصلا، وإن قصد
وعندهم تقبل فيما بينه وبين الله ولم تقبل منه في الحكم، لأن الظاهر أنها معقودة
فلا تقبل منه في الحكم.
وأما المعقودة فعلى ضربين على مستقبل وعلى ماض، فإن كانت على مستقبل فقد
تكون نفيا كقوله والله لا دخلت في الدار، وتكون إثباتا كقوله والله لأدخلن الدار
اليوم، فإن خالف نظرت، فإن كان عامدا حنث وعليه الكفارة، وإن كان ناسيا فعندنا
لا كفارة عليه، وقال بعضهم عليه الكفارة.
وإن كانت على ماض فقد يكون أيضا نفيا كقولهم ما فعلت، وتكون إثباتا كقوله
والله فعلت فتنظر فيه فإن كان صادقا فيما حلف عليه فقد بر فيها، وإن كان كاذبا لم تلزمه
كفارة، سواء كان عامدا أو ناسيا عندنا، وقال بعضهم إن كان عامدا فهي بمنزلة الغموس
وعليه الكفارة، وإن كان ناسيا أو على ظنه، وبان خلافه فعلى قولين.
202

* (فصل) *
* (في الكفارة في الحنث) *
كفارة اليمين لا يتعلق عندنا إلا بالحنث ولا يجوز تقديمها على الحنث فإن قدمها
ثم حنث لم يجزه، وعليه إعادتها، وقال بعضهم يتعلق الكفارة بشيئين عقد وحنث
فإن كانت على ماض وجد العقد وقارنه الحنث فلم يسبق العقد ويتأخر الحنث، وإن
كان على مستقبل وجد العقد وتأخر عنه الحنث.
فإذا ثبت ذلك فيجوز عندهم تقديمها بعد وجود العقد وقبل الحنث، والمستحب
أن يؤخرها حتى يحنث ثم يكفر ليخرج من الخلاف،
ولا يخلو الحنث عندهم من
أحد أمرين إما أن يكون غير معصية أو يكون معصية فإن كان غير معصية جاز تقديمها
وقد يكون غير المعصية طاعة كقوله: والله لا صليت، ويكون ندبا كقوله: والله لا سلمت
على فلان، ويكون مباحا كقوله والله لا أكلت الخبز الطيب، فإذا كان كذلك جاز
تقديمها.
وقد بينا أن عندنا أن اليمين بهذه الأشياء لا يتعلق بها كفارة، وإنما يتعلق
بما يتساوى فعله وتركه على واحد، أو يكون قد حلف على أن يفعل طاعة أو يترك
قبيحا ثم خالفه، فإنه يجب عليه الكفارة.
وعلى جميع الأحوال فلا يجوز تقديم الكفارة عندنا على الحنث وإن كان الحنث
معصية، كما لو حلف لا شربت الخمر، ولأصلين الفرض، فهذا يمين صحيحة عندنا
ويحنث بمخالفتها، ويلزمه كفارة، ولا يجوز تقديمها على الحنث، وفيهم من قال
مثل ذلك قال: لأنه يستبيح بالكفارة محظورا ويستعين بها عليه، وقال بعضهم إنه
يجوز تقديمها، لأنه لا يستبيح بالتكفير محظورا بحال، فإن اليمين لا تغير حكمها
فإنه إذا كفر لا تحل له شرب الخمر، ولا ترك الصلاة، ولكنه يفعل معصية سواء
كفر أو لم يكفر.
203

فأما كفارة الظهار فإنها يجب بظهار وعود، والعود هو أن يعزم على وطيها
بعد الظهار عندنا، وقد مضى الخلاف فيه،
وهيهنا يصح تقديم الكفارة قبل الوطي بل هو
الواجب عندنا، لأنه لو وطئ قبل أن يكفر [لزمته كفارتان، وكلما وطئ لزمته كفارة.
ولا يجوز تقديم] ظ كفارة القتل، فإن فعل ثم سرت الجراحة إلى النفس فلا
يجزي عندنا، وقال بعضهم يجزي، وكذلك إذا جرح صيدا فأخرج الجزاء قبل موته
لم يجزه عندنا، وإنما يجزيه كفارة الجراح فقط وقال بعضهم يجزيه.
اليمين بالطلاق عندنا باطلة وغير منعقدة بحال فعلى هذا يسقط عنا جميع الفروع
التي تتفرع على من أجاز ذلك، لكنا نذكرها لأنها ربما تعلق بذلك نذر فإن الحكم
يجري عليه على ما يقولونه في اليمين بها سواء.
إذا قال لزوجته أنت طالق إن تزوجت عليك، فقد علق طلاق زوجته بصفة أن
يتزوج عليها، فإن تزوج نظرت، فإن لم تكن مطلقة طلقت عندهم لوجود الصفة وإن
كانت مطلقة رجعية فكمثل، لأنها في معاني الزوجات، وإن كانت باينا لم يقع، لأنها
باين لا يلحقها الطلاق.
وهل تنحل اليمين أم لا؟ قال بعضهم تنحل للصفة كما لو قال إن كلمت زيدا
فأنت طالق فأبانها ثم كلمه انحلت الصفة وقال بعضهم هذا غلط فإن الصفة لا تنحل لأنه
قال إن تزوجت عليك، والتزويج عليها أنما يكون إذا كانت زوجة فأما إذا بانت فلا
يكون تزوج عليها، بلى إن قال إن تزوجت فأنت طالق فتزوج بعد أن أبانها انحلت
اليمين لأنه طلقها، ولم يقل عليك.
وعندنا إن علق بذلك نذرا بأن يقول إن تزوجت عليك فلله على كذا فتزوج
عليها قبل أن يطلقها أو في طلاق رجعي قبل الخروج من العدة لزمه، وإن تزوج بعد
البينونة فلا يلزمه بحال، وإن أطلق فقال إن تزوجت ولم يقل عليك لزمه متى تزوج ما نذر.
إذا قال لزوجته إن لم أتزوج عليك فأنت طالق، فقد علق طلاقها بصفة، وهو
ترك التزوج عليها، وهذه ضد التي قبلها، فإنه علق طلاقها في هذه بترك التزوج،
وفي التي قبلها بفعل التزوج.
204

فإذا ثبت هذا وعلق طلاقها بترك التزوج عليها لم يخل من أحد أمرين إما أن
يقيده بوقت أو يطلق، فإن قيده بوقت فقال إن لم أتزوج عليك في هذا اليوم أو في هذا
الشهر أو في هذا العام فأنت طالق، كان له فسخه في هذا المدة، لأن معناه إن فاتني
ذلك في هذه المدة، فأنت طالق.
فإذا ثبت هذا فعلقه بيوم نظرت فإن تزوج قبل الغروب فقد بر في يمينه، لأنه
ما فاته، وإن لم يفعل حتى غربت الشمس طلقت قبل الغروب في وقت الفوات، ووقت
الفوات إذا بقي من النهار ما لا يتسع لعقد النكاح، وهذا يبين فيما بعد.
وأما إن أطلق ولم يقيده بزمان فهو على التراخي ووقت التزويج واسع، ما لم
يموتا أو يموت أحدهما، لأن معنى إن لم أفعل - إن فاتني هذا الفعل - فأنت طالق، و
ما دام حيا فما فاته.
فإن قيل أليس لو قال إذا لم أتزوج عليك فأنت طالق كانت على الفور؟ هلا قلتم
إن إن لم كذلك، قيل الفصل بينهما أن إذا لم أفعل للزمان معناها أي زمان لم أفعل فأنت
طالق، فإذا مضى من الزمان ما أمكنه الفعل فلم يفعل حنث، وليس كذلك إن لم أفعل
لأنها تفيد أن فاتني الفعل، فهذا كانت على التراخي.
فإذا ثبت أنها على التراخي لم يخل الزوج من أحد أمرين إما أن يتزوج عليها
أو لا يفعل، فإن تزوج عليها بر في يمينه سواء تزوج بنظيرها أو بمن فوقها أو دونها
وقال بعضهم إن تزوج بمثلها أو فوقها بر في يمينه، وإن تزوج بمن هو دونها في المنزلة
والوحشة لم يبر في يمينه، لأنه قصد مغايظتها بذلك، وأنما يغتاظ بالنظر إلى من
فوقها أو مثلها، فأما من هو دونها فهذه شماتة، والأول أصح على هذا المذهب.
والبر يقع بنفس العقد، دخل بها أو لم يدخل، وقال بعضهم إن دخل بها بر
وإن لم يدخل لم يبر، لأن النكاح يقع على العقد والوطي في الشرع معا، فوجب
حمله عليهما.
فإذا ثبت هذا نظرت فإن تزوج فقد بر، وإن لم يتزوج بها حتى ماتا أو أحدهما
طلقت قبل وفاته في الزمان الذي فات فيه التزويج عليها، وهو إذا بقي منه ما لا يتسع
205

الزمان لعقد النكاح فيه، لأن الفوات فيه وقع.
فإذا وقع الطلاق فإن كانت رجعية ورث أحدهما صاحبه، سواء مات هو أو هي
وإن كانت باينا فإن ماتت هي لم يرثها، لأنه لا يتهم على نفسه في أسقاط إرثه منها
وإن مات هو قالوا على القولين كالمبتوتة في حال المرض، لأنه إذا أبانها وهو مريض
كان متهما عليها في اسقاط إرثها، فكانت على قولين فكذلك إذا أخر البر ها هنا كان
متهما فكانت على قولين.
وهذه المسألة مثل الأولى في أنها تسقط على مذهبنا من حيث لا نقول بجواز
اليمين بالطلاق، فأما إن علق به نذرا بأن يقول إن لم أتزوج عليك فلله على كذا
فإنه ينعقد النذر، فإن كان قيده بوقت فمتى فاته التزويج في ذلك الوقت لزمه ما
نذره، ويكون زمان الفوات على ما مضى شرحه.
وإن كان مطلقا فلا يفوت إلا بالموت منهما أو من أحدهما على ما مضى، وإن
قلنا إنه على الفور كان قويا بدليل الاحتياط، وإن قلنا بالتراخي فهو أقوى، لأن
الأصل براءة الذمة.
206

* (فصل) *
* (في الكفارات) *
الكفارات على ثلاثة أضرب: مرتبة من غير تخيير، ومخير فيها من غير ترتيب
وما فيها ترتيب وتخيير.
فالتي على الترتيب كفارة الظهار بلا خلاف وكفارة الجماع على الخلاف وكفارة
القتل بلا حلاف.
فأما الظهار فعليه رقبة فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين
مسكينا، وكذلك الجماع في رمضان إذا قلنا إنه مرتب، وأما كفارة القتل فعتق رقبة
فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا عندنا، وعندهم
على قولين.
والتي على التخيير بكل حال فدية الأذى ما يختار من ذبح الشاة أو صيام ثلاثة
أيام أو إطعام ثلاثة أصواع على ستة مساكين، وكذلك كفارات الحج كلها على التخيير
وقد روي في أخبارنا ما يدل على أنها مرتبة.
والتي تجمع الأمرين كفارة الأيمان على ما فصلناه، مثله كفارة النذور، و
قوله أنت على حرام عند المخالف، وأما عندنا فإن كفارة النذور مثل كفارة إفطار
شهر رمضان سواء.
ومتى أراد التكفير بالإطعام فعليه أن يطعم عشرة مساكين لكل مسكين مدين
وروي مد، والمد رطلان وربع بالعراقي، وقال بعضهم مد وهو رطل وثلث، و
كذلك في سائر الكفارات: الظهار، والوطي، والقتل، وفداء الأذى وفيه خلاف.
وعندنا يجوز أن يخرج حبا ودقيقا وخبزا وعند بعضهم لا يجوز إلا الحب، و
يخرج من غالب قوت أهل بلده، وروى أصحابنا أن أرفعه الخبز واللحم وأوسطه
الخبز والزيت وأدونه الخبز والملح فإن كان في موضع قوت البلد اللبن أو الأقط أو اللحم
أخرج منه وفيه خلاف.
207

كل من تلزمه نفقته لا يجوز صرف الكفارة إليه ومن لا يلزمه نفقته يجوز صرف
الكفارة إليه وقد مضى ذكرهم في النفقات، وأما الزوجة فلها صرف كفارتها إلى زوجها
وفيه خلاف، والزوج لا يجوز له صرف كفارته إليها سواء كانت غنية أو معسرة.
وجملته أن كل من يجوز صرف زكاة الفطرة إليه يجوز صرف الكفارة إليه، و
من لا يجوز هناك لا يجوز هاهنا، ومن يأخذ الزكاة مع الغنى والفقر مثل الغازي
والغارم وابن السبيل، فلا يجوز عندنا صرف الكفارة إليه إلا مع الفقر وفيه خلاف.
ولا يجوز صرف الكفارة إلى العبد لأنه غني بسيده، والمدبر مثل ذلك، و
المعتق بصفة وأم الولد مثل ذلك سواء، والمكاتب مثل ذلك.
ولا يجوز صرفها إلى كافر وقال بعضهم يجوز صرف الكفارة إليهم، ولا خلاف في
زكاة المال، فإن صرفها إلى واحد من هؤلاء مع العلم بحاله لم يجزه عندنا وعليه إعادته
وإن أعطاه مع الجهل بحاله لم يخل المعطي من أحد أمرين إما أن يكون إماما أو غير
إمام:
فإن كان غير إمام فأعطى كفارة نفسه نظرت، فإن أخطأ في الكفر والحرية مثل
أن أعطى من ظاهره الاسلام فبان كافرا أو من ظاهره الحرية فبان عبدا فعليه الإعادة عندهم
ويقوى في نفسي أن لا إعادة عليه، وهكذا إن أعطى من ظاهره أنه أجنبي منه، فبان
ممن يجب عليه نفقته، فعليه الإعادة عندهم لأنه فرط، وعندي مثل الأول.
وإن كان أخطأ في الفقر مثل أن أعطى من ظاهره الفقر فبان غنيا، قال قوم عليه
القضاء وقال آخرون لا قضاء عليه وهو الأقوى عندي، لأنه لا يمكنه الاحتراز منه.
وإن كان الدافع الإمام نظرت، فإن كان الخطأ في الفقر فلا إعادة عليه، وإن كان في
الكفر والرق فعلى قولين، ويقوى في نفسي أن لا ضمان عليه.
وعليه أن يعطي عشرة مساكين يعتبر العدد فيهم، فإن لم يجد العدد كرر عليهم
حتى يستوفي العدد: عندنا يوما بعد يوم حتى يستوفي العدد، وفيهم من قال لا يجزيه.
إن أطعم خمسا وكسا خمسا لم يجزه عندنا، وقال بعضم يجزي لأنه لو أطعمهم
أجزأه، ولو كساهم أجزأه، وقال بعضهم إن أطعم خمسا وكسا خمسا بقيمة إطعام خمسة
208

خمسة لم يجزه، وإن كسا خمسة وأطعم خمسة بقدر كسوة خمسة أجزأه، فأجاز اخراج قيمة
الكسوة طعاما ولم يجز اخراج قيمة الطعام كسوة، والأول أقوى، لأن ما عداه
خلاف الظاهر.
إذا اجتمع عليه كفارات لم يخل من أحد أمرين إما أن يكون جنسا واحدا أو
أجناسا، فإن كانت جنسا واحدا مثل أن يكون يمينا أو ظهارا أو قتلا فنفرضها في كفارة
الأيمان فإنه أوضح، فإذا كان عليه كفارات عن يمين: فإن أطعم عن الكل، أو
كسا عن الكل أو أعتق عن الكل أجزأه، وإن أطعم عشرة وكسا عشرة وأعتق رقبة
أجزأه عن الثلاث، فإذا ثبت أنه جايز نظرت، فإن أبهم النية ولم يعين، بل نوى
كفارة مطلقة أجزأه لقوله " فكفارته إطعام عشرة مساكين " ولم يفرق.
فإذا ثبت هذا نظرت، فإن عين حين التكفير أجزأه، وإن أبهم من غير تعيين
أجزأه، فإن عين بعد الإبهام فقال العتق عن الحنث الفلاني، والكسوة عن الفلاني
والطعام عن الفلاني أجزأه.
هذا إذا كان الجنس واحدا فأما إن كانت أجناسا مثل أن حنث وقتل وظاهر عن
زوجته ووطئ في رمضان، فالحكم فيها كلها كما لو كان الجنس واحدا، وأنه لا يفتقر
إلى تعيين النية، وقال بعضهم التعيين شرط، والأول أقوى عندنا.
إذا ثبت أن النية شرط، فالكلام في وقت النية، فعندنا لا يجزيه حتى تكون
النية مع التكفير، وقال بعضهم يجوز أن تكون قبله.
إذا كانت عليه كفارة فكفر عنه غيره لم يخل من أحد أمرين: إما أن يكفر عنه
في حال حياته أو بعد وفاته، فإن أعتق عنه في حال حياته، فإن كان بإذنه صح ذلك،
سواء كان بجعل أو بغير جعل، واجبا كان العتق أو تطوعا، وقال بعضهم لا يجوز ذلك
بحال، وقال بعضهم إن كان بجعل جاز، وإن كان بغير جعل لم يجز، والأول أصح
عندنا.
فإذا ثبت هذا وقع العتق عن المعتق عنه، والولاء له دون المباشر، وعندنا
يكون سائبة، وإن كفر عنه بغير أمره لم تقع عمن نواها، لأنها تحتاج إلى نية من
209

تجب عليه، ويقع العتق عن المباشر له والولاء له.
وإن أعتق عنه بعد وفاته، فإن كان بإذنه بأن أوصى إليه صح سواء كان العتق
واجبا أو تطوعا وإن أعتق عنه بغير إذنه بأن مات من غير وصية، فإن أعتق عنه تطوعا
لم يقع عن المعتق عنه، لأن العتق عنه إحداث إلحاق ولائه بعد وفاته، والولاء لحمة
كلحمة النسب لقوله عليه السلام، فلما لم يجز إلحاق نسب به كذلك الولاء.
وإن كانت الكفارة واجبة لم يخل من أحد أمرين: إما أن تكون على الترتيب
أو على التخيير:
فإن كانت على الترتيب نظرت، فإن خلف تركة تعلقت بتركته كالدين يعتق عنه
منها، ويلحقه الولاء، وإن لم يكن له تركة سقط العتق عنه، كما لو مات وعليه دين
ولا تركة له، فإن اختار ولي الميت أن يعتق عنه كمال الواجب عليه أجزأ عنه، لأنه
يقوم مقام مورثه في قضاء ديونه وغير ذلك.
وإن لم يكن على الترتيب مثل كفارة اليمين نظرت، فإن كفر عنه وليه بالكسوة
أو الإطعام صح عمن أخرجه عنه، وإن أعتق عنه قال بعضهم أجزأ عنه، وعند بعضهم
لا يجزي، والأول أصح عندنا لأن الثلاثة عندنا واجبة مخير فيها، وليس الواجب
واحدا لا بعينه.
لا يجوز النيابة في الصيام في حال الحياة بحال، وإن مات وعليه الصيام وجب
على وليه أن يصوم عنه عندنا، وقال بعضهم لا يصام عنه وفيه خلاف.
إذا أعطى مسكينا من كفارته أو زكاة ماله أو فطرته فالمستحب أن لا يشتري ذلك
ممن أعطاه، وقال بعضهم لا يصح الشراء والأول أقوى عندنا.
إذا كان له خادم يخدمه ومسكن يسكنه وهو مسكن مثله وخادم مثله، كان
كالغارم له في جواز أخذ الزكاة والكفارة، وإن كان فيهما فضل مثل أن كانت الدار
تساوي أكثر من دار مثله، وخادم ثمين يبتاع ببعض ثمنه خادم يكفيه كان الفضل في هذا
مانعا من جواز أخذ الصدقة.
قد ذكرنا في الكفارات المرتبة أنه إذا قدر على العتق لم يجز له الصيام فإن
210

لم يجد رقبة صام، والاعتبار بحال الإخراج أو الوجوب، قال قوم يعتبر حال الوجوب
فعلى هذا إذا كان موسرا حال الوجوب فوجب عليه العتق ثم أعسر، لم يجز له الصوم
وإن كان معسرا ففرضه الصوم وإن أيسر كان فرضه الصوم.
وقال قوم يعتبر حال الإخراج فإن كان في هذه الحال موسرا وجب عليه العتق
وإن كان معسرا فعليه الصيام، ولا اعتبار بما تقدم وهو الأقوى عندي.
الناس ضربان من تحل له الكفارة، ومن لا تحل له:
فمن تحل له الكفارة فالزكاة تحل له من سهم الفقراء والمساكين، ومن لا تحل
له الكفارة لا تحل له الزكاة، ومن كان في الكفارات من أهل الصيام لا يجب عليه أن
يكفر بالمال لأنه إنما يصوم الفقير الذي لا يجد، وهذا لا يجد.
وأما من لا تحل له ذلك لم يخل من أحد أمرين إما أن يكون له فضل عن كفايته
على الدوام أو وفق الكفاية، فإن كان له فضل لم يكن من أهل الصيام، لأنه واجد
وإن كان له وفق كفاية على الدوام لا يزيد عليه شيئا كان فرضه الصيام.
الحقوق على ثلاثة أضرب ما يفوت بتأخره، وما لا يفوت به ولا ضرر عليه بتأخره
وما لا يفوت وعليه ضرر بتأخره:
فما يفوت بتأخره كالصلاة لعدم الماء، وهو قادر على ثمنه في بلده فلا يجوز
تأخيره، وكذلك المتمتع إذا لم يجد الهدى صام ثلاثة أيام في الحج، ولم يؤخر إلى
أن يصل ماله إليه لأنه يفوت بتأخره.
وأما ما لا يفوت ولا ضرر في تأخره، فعليه تأخيره حتى يجد المال فيكفر به
وهو كفارة الأيمان والقتل والوطي.
وأما ما لا يفوت بتأخره وفي تأخره ضرر كفارة الظهار فهل له الصيام أم لا؟
قال قوم لا يجوز لأنه لا يفوت بتأخره ككفارة القتل، وقال آخرون يجوز لأن عليه
ضررا في تأخره، فإنه لا يقدر على الجماع حتى يكفر وهو الأقوى عندي.
إذا اختار أن يكفر بكسوة فعليه أن يكسو عشرة مساكين، وأقل الكسوة ثوب
واحد، وقد روى أصحابنا ثوبين، فمن قال ثوب واحد قال للرجل منديل أو قميص أو سراويل
211

أو ميزر، والمرأة كذلك مقنعة أو قميص أو سراويل أو ميزر، وقال بعضهم السراويل
لا يجزي.
وقال بعضهم: لا يجزي المرأة غير ما يجوز لها الصلاة فيه من ثوبين قميص ومقنعة
وهو ما رواه أصحابنا مع الاختيار، فإن لم يجد فثوب واحد على ما ذكرناه.
ومتى أعطى قلنسوة أو خفا قال بعضهم يجزي لتناول الاسم له، وقال آخرون
لا يجزي وهو الأظهر عندنا، لأن اسم الكسوة لا يقع على هذا.
وأما صفته فالمستحب أن يكون جديدا فإن لم يكن فغسيلا قد بقيت منافعه أو
معظمها، فإن لم يفعل وأعطى سحيقا لم يجزه، لأن منافعها قد بطلت.
لا يعتبر الإيمان في العتق في جميع أنواع الكفارات إلا في كفارة القتل خاصة
وجوبا، وما عداه جاز أن يعتق من ليس بمؤمن وإن كان المؤمن أفضل وقال بعضهم
يعتبر الإيمان في جميعها.
والإيمان أن يصف الشهادتين فيقول لا إله إلا الله، محمد رسول الله، سواء قال
بالعربية أو بالعجمية، أو بأي لغة كان، فإن كانت صغيرة ولو ابن يوم أجزأه للآية
وأما ولد الزنا فيجزي للآية وغيره أفضل.
والمعيبة على ضربين عيب يضر بالعمل الضرر البين، فهذا لا يجزي، وإن كان
عيبا لا يضر بالعمل الضرر البين أجزأه، فمن ذلك الأعمى والمقعد، فإن عندنا لا يجزي
لأنهما ينعتقان بهذه الآفات.
وأما الأعور فإنه يجزي، وإن كان أصم لا يسمع لكنه ينطق ويتكلم جاز
وإن كان أخرس فإنه يجزي عندنا وقال بعضهم لا يجزي، وإن كان مريضا فإن كان
مرضا يسيرا كالصداع والحمى الخفيفة وغيره يجزي، وإن كان مدنفا قال قوم لا يجزي
ويقوى في نفسي أنه يجزي للآية.
وأما الأعرج فإنه يجزي عندنا، وقال بعضهم إن كان عرجا خفيفا يجزي، و
إن كان ثقيلا يضعفه عن العمل لا يجزي.
وأما الأقطع فإن كان أقطع اليدين أو أحدهما أو أقطع الرجلين أو أحدهما لم
212

يجزه عند قوم، ولو قلنا إنه يجزي للآية لكان قويا.
وإن كان مقطوع الأصابع.
فإن كان مقطوع الإبهام أو السبابة أو الوسطى قال قوم لا يجزي، وإن كان مقطوع
الخنصر والبنصر، فإن كان هذا من يد واحدة قد قطعا معا لم يجز، وإن كان من
اليدين أجزأه.
وأما الأنامل فإن كان المقطوع أحدا من الأنملتين من الإبهام لم يجزه، وإن
ذهبت أنملة من غير الإبهام أجزأه، ويقوى في نفسي أن جميع ذلك يجزي للآية.
وأما المجبوب فإنه يجزي بلا خلاف لأنه أكثر ثمنا وأكثر عملا.
وإن اشترى من يعتق عليه بنية الكفارة لم يجزه عندنا، وقال بعضهم يجزيه.
إذا اشترى عبدا بشرط العتق فالشراء صحيح عندنا وهو منصوص لنا وقال بعضهم
الشراء باطل، فإذا ثبت أنه صحيح فإن أعتق صح. العتق، وإن امتنع منه فهل يجبر
عليه أم لا؟ قال قوم يجبر عليه، فعلى هذا لا خيار للبايع، والثاني لا يجبر عليه فعلى
هذا البايع بالخيار، والأول أقوى، وأي الأحوال كان فمتى أعتقه عن كفارته لم
يجزه لأنه إن قلنا يجبر عليه فقد وجب العتق عن غير الكفارة فلا يجزيه، وإن قلنا
للبايع الخيار لم يجزه أيضا لأنه عتق مستحق بسبب متقدم.
وأما المدبر والمعتق بصفة فإنه يجزي بلا خلاف لأنه عبد قن وأم الولد
يجزي عندنا وعندهم لا يجزي، لأن [عندنا مملوكة يجوز بيعها و] عندهم تستحق
بحرمة الولادة (1) ولا يجزي المكاتب عندنا بحال، وقال قوم إن أدى من مكاتبته شيئا
لم يجزه، وإن لم يكن أدى أجزأ.
قد ذكرنا أن كفارة اليمين يجمع تخييرا وترتيبا، وأن التخيير في أولها بين
ثلاثة: إطعام وكسوة وعتق، فإن لم يقدر على واحد منها انتقل إلى الصيام وهو ثلاثة
أيام ومن شرط الصيام التتابع عندنا وقال بعضهم يجوز التفريق.
إذا تلبس بصوم التتابع في الشهرين ثم أفطر فإن كان من عذر من قبل الله مثل

(1) بجهة الولادة خ.
213

المرض والحيض فإنه يبني على كل حال، وإن كان لغير عذر أو عذر يرجع إليه من
سفر وغيره، فإن كان في الشهر الأول أعاد، وإن كان في الشهر الثاني قبل أن يصوم منه
شيئا فمثل ذلك وإن كان صام من الثاني ولو يوما واحدا أخطأ لكن يجوز له البناء.
وإن كان الصوم شهرا فإن أفطر قبل خمسة عشر يوما أعاد، وإن كان بعدها بني
وإن كان صوم ثلاثة أيام وصام يومين بني، وإن صام يوما أعاد، وإن اعترض الصيام
زمان لا يصح فيه الصيام أفطر وكان حكمه حكم من أفطر من غير عذر على ما بيناه
من التفصيل وكذلك لو تلبس به في شعبان ثم أهل شهر رمضان قبل الفراغ منه ترك
الصيام للكفارة، وكان حكمه ما قلناه من التفصيل.
وقال المخالف: متى أفطر في جميع ذلك لغير عذر أعاد على كل حال وإن كان
لعذر هو حيض بنت في الشهرين المتتابعين وتعيد في صوم الثلاثة الأيام، وإن كان العذر
مرضا فعلى قولين وإن كان العذر سفرا فعلى قولين في جميع ذلك وإن اعترض زمان لا
يصح فيه الصيام أفطر واستأنف، وكذلك لو دخل عليه في خلال ذلك شهر رمضان قطع
الكفارة واستأنف.
وأما صوم يوم الفطر فلا يتخلل ذلك لأن ما قبله ليس منه وأيام التشريق لا
يتخلل أيضا فيه لأن قبلها يوم النحر فلا يصل الفطر إليها، لأنه قد أفطر قبلها لكن
إن اتفق هذه الأيام في الشهر الأول أعاد لما تقدم عندنا وإن اتفق في الشهر الثاني
بعد أن صام يوما أفطر يوم النحر ويجوز له أن يصوم أيام التشريق في البلاد وإنما
لا يصومها من كان بمنى، ومن تصوم الثلاثة أيام بدلا من الهدي وإن أفطرها جاز له
البناء لما تقدم وفيه خلاف.
إذا كان عليه حق هو مال لم يخل من أحد أمرين إما أن يكون لله أو للآدميين:
فإن كان للآدميين وهي الديون ونحوها لم يسقط بوفاته، بل كانت في ذمته على
ما كانت عليه في حال حياته، وتعلقت بتركته بعد وفاته.
وإن كانت حقوق الله وحده كالزكاة والكفارات والنذور ونحوها، فالحكم كذلك
أيضا لا تسقط بوفاته، بل يكون في ذمته ويتعلق بالتركة عندنا، وقال بعضهم يسقط بوفاته.
214

فإذا تقرر أنها لا تسقط بوفاته، فإنها من صلب ماله لقوله تعالى " أو دين " فإن
كانت التركة وفقا لما عليه من الدين والحق، قسمت في الحقوق والديون، وإن كانت
التركة أكثر كان الفاضل للوارث، وإن كانت التركة دون الحقوق لم تخل الحقوق من
ثلاثة أحوال إما أن يكون للآدميين أو لله أو لهما، فإن كانت للآدميين وحدهم لم تخل
من ثلاثة أحوال إما أن يكون كلها في الذمة أو متعلقة بالعين أو في الذمة والعين.
فإن كانت كلها في الذمة أخذوا التركة بالحصص، وإن كانت كلها متعلقة بالعين
مثل أن خلف عبيدا قد جنوا، أو كانت التركة كلها رهنا كانت لهم أيضا يستوفي كل
واحد حقه من العين التي تعلق حقه بها فإن فضل فضل يوفر على غيره وإن كان بعضها
في الذمة وبعضها في العين قدمنا حق العين لاختصاصه بها.
هذا إذا كانت للآدميين وحدهم، فأما إن كانت لله وحده نظرت أيضا فإن كانت
كلها في الذمة انقسمت التركة عليها فإن كانت هناك حج أفرد له حصته فإن وفت حصته
بأن يحج بها عنه، وإلا سقط وتوفر على الباقين، وإن كانت كلها متعلقة بالعين فكذلك
أيضا وإن كانت بعضها بالعين وبعضها في الذمة قدمنا حق العين لاختصاصه بها.
وأما إن كانت للآدميين ولله نظرت، فإن كان بعضها في الذمة وبعضها متعلقا
بالعين كان المتعلق بالعين مقدما سواء كان لله أو للآدميين، وسواء كان الباقي لله
أو للآدميين لاختصاصه بالعين.
وأما إن كانت كلها في الذمة أو كلها متعلقة بالعين، قيل فيه ثلاثة أقوال أحدها
حق الله مقدم لقوله عليه السلام " دين الله أحق " والثاني حقوق الآدميين مقدمة و
الثالث هما سواء، وهو الأقوى عندي لفقد الترجيح.
إذا مات وعليه كفارة لم يخل من أحد أمرين: إما أن يكون على الترتيب
أو على التخيير: فإن كانت على الترتيب مثل كفارة الظهار وغيرها لم يخل من أحد
أمرين إما أن يموت عن وصية أو غير وصية فإن مات من غير وصية تعلقت بتركته و
كانت من صلب ماله يعتق عنه أقل رقبة يجزي عنه.
وإن أوصى بها فلا يخلو أن يقول من صلب مالي أو من الثلث أو يطلق فإن قال من صلب
215

مالي كانت الوصية تأكيدا لأنه لو مات من غير وصية كانت من صلب ماله وإن قال من
الثلث كانت من الثلث فإن وفى بها الثلث وإلا تممت من صلب المال، وإن أطلق فعلى
وجهين أحدهما من صلب ماله، والثاني من الثلث، فإن وفى بها وإلا كملت من صلب
ماله والأول أقوى عندي.
وإن كانت الكفارة على التخيير مثل كفارة الأيمان وغيرها نظرت فإن مات
من غير وصية فالواجب الإطعام لأنه أقل ما يكفر به عن نفسه حال حياته فإن أطعموا
أو كسوا جاز.
وإن أرادوا العتق قال قوم لا يجوز لأنها ما وجبت عليه، والثاني يصح وهو
الصحيح عندي، لأنها واجب مخير فيها.
وأما إن مات عن وصية فلا فصل بين أن يقول أعتقوا من صلب مالي أو من الثلث أو
يطلق، فإنها من الثلث، لأن الواجب الإطعام، فإذا عدل إلى غيره علم أنه أراد أن
يكون من الثلث: فإن خرجت من الثلث أعتق عنه، وإن كان الثلث لا يفي أفرد من
التركة قدر الإطعام وأخرج ثلث ما بقي، وضم الثلث إلى قيمة الإطعام ونظرت فإن لم
يف ذلك برقبة يجزي عنه سقطت الرقبة وأطعم عنه، وإن كان يفي برقبة تجزي عنه
قال قوم يعتق عنه الرقبة، وقال بعضهم الوصية تسقط ويطعم عنه والأول أصح عندي (1).

(1) قد مر في ج 5 ذيل كتاب الظهار ص 158 - 180 ما يتعلق بهذا الفصل راجعه.
216

* (فصل) *
* (في كفارة يمين العبد) *
فرض العبد في الكفارات الصوم، سواء كانت الكفارة مرتبة مثل كفارة الظهار
والوطي والقتل، أو كانت مخيرة ككفارة اليمين: لأن العبد لا يملك فهو غير واجد
فإن أراد أن يكفر بالمال نظرت، فإن كفر بغير إذن سيده لم يكن له، لأنه لا ملك
له، ولا إذن منه،
وإن ملكه سيده مالا فأراد التكفير بالمال فالكلام في فصلين في العتق وغير العتق.
فأما غير العتق من الإطعام والكسوة فعندنا إن أذن له فكفر عن نفسه أو كفر
عنه سيده فإنه يجزيه، وقال بعضهم لا يجزيه في الحالين وهو قوي، لأنه وإن ملكه
مولاه لا يملك عندنا، والأول أظهر في رواياتنا. وعلى ذلك إذا اشترى العبد بإذن
مولاه عندنا يصح فأما المال الذي ملكه فلا زكاة على أحد فيه، لا المولى ولا المملوك.
فأما التكفير بالعتق فإن أذن له المولى فيه وملكه ذلك أو أعتق عنه سيده بإذنه
صح، وقال قوم لا يصح بحال، لأن العتق يقتضي الولاء والولاء يقتضي الولاية و
الإرث، وليس العبد من أهل الولاية ولا الإرث، وعندنا أن ذلك يصح لأنه لا يقتضي
الولاء لأنا قد بينا أن العتق في الكفارات والواجبات لا ولاء لأحد عليه بسبب العتق
بل هو سائبة.
فإذا ثبت أن العبد من أهل الصوم فأراد الصوم، فهل لسيده منعه أم لا؟ نظرت
فإن حلف وحنث بإذن سيده لم يكن له منعه منه، لأنه صوم لزمه بإذنه فهو كما لو
أذن في النكاح فنكح، كان له الانفاق من كسبه بغير إذنه، لأن سبب وجوبه عليه بإذنه
وإن كان الحلف بغير إذنه والحنث بإذنه فكذلك أيضا لأن التكفير بالحنث والوجوب
عقيب الحنث.
وإن كان العقد والحنث معا بغير إذنه لم يكن له الصيام بغير إذنه لأنه ألزم
نفسه صوما بغير إذنه، وأما إن كان العقد بإذنه والحنث بغير إذنه قال قوم له الصيام
217

لأن سبب الوجوب كان بإذنه، وقال آخرون وهو الصحيح عندنا أنه ليس له الصيام بغير
إذنه، لأنه إذا أذن في اليمين فقد منعه من الحنث بها.
وكل موضع قلنا له منعه منه، فإن أراد أن يصوم في وقت يضعف فيه في بدنه
وعمله وهو نهار الصيف كان له منعه منه، فإن خالفه وصام وقع موقعه ويقوى في
نفسي أنه لا يقع موقعه، وكذلك نقول إذا حج بغير إذنه لا يقع موقعها.
وإن كان الزمان معتدلا لا يضر به الصيام كزمان الشتاء وما جاوره فليس له
منعه منه، لأنه لا ضرر على سيده فيه، قال قوم: وعلى هذا لو صام العبد تطوعا في
هذه الأوقات لم يكن لمولاه منعه، لأنه لا ضرر عليه وعموم أخبارنا يمنع منه.
إذا حلف العبد لم يخل من أحد أمرين إما أن يحنث وهو حر أو يحنث وهو
عبد: فإن حنث وهو حر فإن أعتقه سيده بعد عقد اليمين وقبل الحنث ثم خالف و
حنث فهو في الكفارة كالحر، وإن حنث وهو عبد ففرضه الصيام، فإن أعتق نظرت
فإن كان بعد أن كفر بالصيام فلا كلام، وإن كان قبل أن يكفر بالصيام، فهو حين
الوجوب عبد وحين الأداء حر بنينا على الأقوال:
فمن قال الاعتبار بحال الأداء فهو حال الأداء حر فإن كان موسرا كفر بالمال، وإن كان
معسرا كان فرضه الصيام، ومن قال الاعتبار بأغلظ الأحوال اعتبر أغلظ الأحوال من
حين العتق إلى حين الأداء، ولا يعتبر من حال الوجوب إلى حين العتق لأنه قبل العتق
لا يملك.
ومن قال: الاعتبار بحال الوجوب ففرضه الصيام، فإن أراد أن يكفر بالمال
فالصحيح أن ذلك له إن شاء كفر بالعتق أو بالكسوة أو بالإطعام كالحر المعسر حين
الوجوب فرضه الصيام، فإن كفر بالمال فقد عدل إلى ما هو أولى.
ومن الناس من قال إن أراد أن يكفر بالعتق لم يكن له، وإن أراد أن يكفر
بالكسوة أو الإطعام فعلى قولين اعتبارا بحال الوجوب وحين الإخراج، وقد قلنا في ما
تقدم أن المراعى عندنا حال الإخراج، فعلى هذا يعتبر حال الإخراج فإن كان موسرا
فعليه التكفير بالمال، وإن كان معسرا فعليه الصيام.
218

إذا حلف وحنث من نصفه حر ونصفه عبد، لم يخل من أحد أمرين إما أن
يكون موسرا بما فيه من الحرية أو معسرا، فإن كان معسرا ففرضه الصيام، لأنه أسوء
حالا من الحر المعسر، وإن كان موسرا بما فيه من الحرية صح منه العتق عندنا،
لأنه لا يقتضي الولاء عندنا، وعندهم لا يصح لأنه يقتضي الولاء، وأما الإطعام و
الكسوة فإنهما يصحان منه، ولا يصح منه الصيام بلا خلاف، وقال بعض الشواذ
فرضه الصيام.
* * *
كل من منع نفسه فعلا من الأفعال بعقد يمين فاستدام ذلك الفعل فهل يحنث
باستدامته، اعتبرت ذلك بمدة من الزمان، فإن صح أضافة ذلك الفعل إلى جميعها
كانت الاستدامة كالابتداء، كما لو حلف لا لبست، لا ركبت هذه الدابة، لا سكنت
هذه الدار لا أقمت فيها، لا ساكنت فلانا، فإنه يحنث بالاستدامة كما يحنث بالابتداء
لأنه يصح أن يقول لا لبستها شهرا ولا ركبتها شهرا وكذلك السكنى والمساكنة والإقامة.
وإن لم يصح إضافته إلى جميع المدة بل يصح إضافته إلى ابتدائها تعلق الحنث
بالابتداء دون الاستدامة كقوله لا تزوجت، ولا تطهرت، ولا بعته هذا الثوب ولا
وهبت له هذه الناقة، لا يصح إضافته إلى جميع المدة فلا يقال تزوجتها شهرا، ولا
تطهرت شهرا، ولا بعته هذا الثوب شهرا، بل يقال بعته منذ شهر وتطهرت منذ الغداة.
وأما إذا حلف فقال والله لا دخلت هذه الدار، وهو في جوفها، فاستدام الكون
فيها، فإنه لا يحنث فيه وقال بعضهم يحنث.
إذا كان ساكنا في دار فحلف لا سكن فيها فمتى استدام السكنى حنث لأن السكنى
يقع على الابتداء والاستدامة، ألا ترى أنه يقول سكنتها شهرا ولم يرد قد ابتدأت
سكناها شهرا، وإنما أراد ابتدأت بالسكنى واستدمته شهرا.
فإذا تقرر هذا نظرت فإن كان فيها فأقام عقيب يمينه مدة يمكنه الخروج منها
فلم يفعل، حنث عند بعضهم وقال قوم، إن أقام يوما وليلة حنث وإن أقام أقل من
ذلك لم يحنث، والأول أقوى. فأما إن خرج عقيب يمينه من غير وقفة لم يحنث في
219

جميعه بلا خلاف إلا شاذا منهم، فإنه قال يحنث ولا سبيل له إلى البر، لأنه يحنث
باستدامة السكنى، وخروجه منها عقيب يمينه سكون فيها، فوجب أن يحنث، و
الأول أصح.
فإذا ثبت أنه لا يحنث، فإن عاد بعد أن خرج منها لنقل رحله أو عيادة مريض
أو لغير سكنى لم يحنث، لأن اليمين قد انقطعت بالخروج فإذا عاد إليها لم يحنث.
هذا إذا أقام عقيب يمينه للسكنى أو لم يقم، فأما إن أقام عقيب يمينه لا للسكنى
ولكن لنقل الرحل والمال، قال بعضهم يحنث، وقال آخرون إن أقام عقيب يمينه
لجمع الرحل والمال ونقل العيال لم يحنث: بناه على أصله أن السكنى ما كان بالبدن
والمال والعيال معا، فإذا أقام لنقل هذا لم يكن ساكنا، وهو الذي يقوى في نفسي.
فإذا ثبت أنه لا يحنث بترك السكنى ويحنث به، فالكلام في ثبات السكنى
ما هو؟ فقال قوم السكنى بالبدن دون المال والعيال، فمن سكن ببدنه حنث وإن
نقل العيال والمال، وإن انتقل بنفسه بر في يمينه وإن لم ينقل العيال والمال.
وقال بعضهم: السكنى بنفسه وبالعيال دون المال، وقال آخرون ببدنه وبالعيال
والمال، وقال بعضهم إن بقي من ماله ما يمكن سكنى الدار معه فما نقل المال، وإن
بقي ما لا يمكن سكنى الدار معه فقد نقل المال وبر في يمينه فكأنه فسر المذهب و
الأول أقوى عندي.
إذا كان مساكنا لغيره في مسكن فحلف وهما في المسكن لا ساكنته، فإن أقام بعد
يمينه بمدة يمكنه الخروج فلم يفعل حنث، لأن الاستدامة كالابتداء، وإن خرجا
أو خرج أحدهما عقيب يمينه من غير فصل لم يحنث، لأنه بالخروج قد ترك المساكنة
ولا فرق بين السكنى والمساكنة أكثر من أنه إذا حلف لا سكنت تعلق اليمين بفعله
وحده، وإذا حلف لا ساكنته تعلق به وبمن ساكنه.
إذا حلف لا ساكنته وكان مساكنا له في مكان واحد قال بعضهم إن حصل بينهما
حاجز من جدار ونحوه لم يحنث، هذا إذا خرج عقيب اليمين وبنى بينهما حاجز ثم
سكناها فأما إن أقام في الموضع حتى يبني بينهما حاجز، فإنه يحنث.
220

فإذا ثبت هذا فالكلام في بيان ما هو موضع المساكنة وما ليس بموضع لها، و
جملته إذا كانا في حجرتين لكل واحدة منهما باب مفرد، والحجرتان في درب واحد
نافذ أو غير نافذ، أو كانتا في دار كبيرة لكل واحدة منهما باب مفرد أو كانا في بيتين في
هذه الخانات المعدة للمساكين فكل هذا ليس بمساكنة، لأنه لا يقال مسكنهما ولكنه
يقال مسكن كل واحد منهما في الخان ولا يقال هو مساكنه في الخان وهكذا لو كان
كل واحد منهما في بيت مفرد له باب مغلق في دار كبيرة فالحكم فيه كالخان.
فأما إن كانا في بيت واحد أو في بيتين لا باب لواحد منهما أو في صفتين أو كانا في
حجرة صغيرة كل واحد منهما في بيت له باب مفرد يغلق، فكل هذا مساكنة لأن
الحجرة الصغيرة إنما يبنى لواحد ومسكن يتفرد به أحدهما، ويفارق الخان الصغير
لأنها وإن صغرت فإنها تبنى مساكن، فهذا كله مساكنة على ما فصلناه.
إذا حلف لا دخلت هذه الدار فإن دخلها أو بيتا منها أو غرفة منها حنث، سواء
دخل من الباب أو نزل من السطح لأنه يقال دخلها، فأما إن رقا على سطحها لم يحنث
سواء كانت محجرة أو غير محجرة، وقال بعضهم يحنث بكل حال، وقال آخرون
إن كانت محجرة حنث، وإن لم تكن محجرة لم يحنث، والأول أقوى عندي فأما إذا
وقف على بدن الحايط فإنه لا يحنث بلا خلاف.
ولو حلف لا دخل بيتا فدخل غرفة فوق البيت لم يحنث بلا خلاف فإن حلف لا
دخلتها فقعد في سفينة أو على شئ فحمله الماء فأدخله إليها أو طرح نفسه في الماء فحمله
الماء فأدخله إليها حنث لأنه دخلها باختياره فهو كما لو ركب فدخلها راكبا أو محمولا
فإن كان فيها شجرة عالية عن سورها فتعلق بغصن منها من خارج الدار وحصل في الشجرة
نظرت، فإن كان أعلا من السطح لم يحنث بلا خلاف، لأنه لا يحيط به سورها لأن
هواء الدار ليس فيها، وإن حصل بحيث يحيط به سور الدار حنث، لأنه في جوف
الدار، وإن حصل بحيث يكون موازيا لأرض السطح فالحكم فيه كما لو كان واقفا
على نفس السطح وقد مضى.
إذا حلف لا لبس ثوبا فالاسم يقع على الابتداء والاستدامة معا وكذلك إذا حلف
221

لا ركبت، فالاسم يقع على الابتداء والاستدامة معا، وإن حلف لا ركبت وهو راكب
فإن نزل عقيب يمينه وإلا حنث كما لو كان نازلا فحلف لا ركبت فركب، وكذلك
اللباس مثله سواء، وكذلك السكنى والمساكنة، فهذه الأربعة الحكم فيها واحد، و
هو أن الاسم يتعلق بالابتداء والاستدامة على ما فصلناه.
فأما الطهارة والطيب والنكاح، فهذه الثلاثة متى حلف لا فعل واحدا منها حنث
بالابتداء دون الاستدامة، والفصل بينهما وبين الأربع من وجهين:
أحدهما الاسم في تلك الأربع يطلق على الابتداء والاستدامة، بدليل أنه يقول
سكنت وساكنت ولبست وركبت شهرا وليس كذلك الطيب والطهارة والنكاح لأن
الاسم يقع على الابتداء دون الاستدامة بدليل أنه يقول تطيبت منذ أمس، ونكحت
منذ سنة، وتطهرت منذ صلاة الغداة، ولا يقول: تطهرت شهرا وكذلك الطيب و
النكاح.
والثاني أن الشرع قد جعل استدامة اللباس كابتدائه، ولم يجعل استدامة الطيب
والنكاح كابتدائه، بدليل أنه لو أحرم لابسا فاستدامه فعليه الفدية كما لو ابتدأه بعد
إحرامه، ولو أحرم متطيبا أو متزوجا فلا شئ عليه، وهو ممنوع من الابتداء به وهو
محرم، وعندنا في الإحرام مثل ذلك غير أنه يجب عليه إزالة الطيب عنه.
فأما إذا حلف لا دخلت هذه الدار، فإن كان خارجا عنها فابتدء فدخلها حنث
ولو كان فيها فاستدام لم يحنث عندنا، وقال قوم يحنث.
إذا حلف لا دخلت بيتا فدخل بيتا من شعر أو أدم أو وبر أو من حجر أو طين أو
مدر، قال قوم يحنث على كل حال بدويا كان أو قرويا إذا كان يعرف عادة البادية و
الحاضرة، وقال قوم إن كان بدويا لا يعرف بيوت الحاضرة، فمتى دخل بيوت الحاضرة
لا يحنث، وإن كان قرويا لا يعرف بيوت البادية فمتى دخل بيوت البادية من الشعر
فإنه لا يحنث.
والذي يقوى في نفسي أن يرجع في ذلك إلى العادة، فإن كان بدويا حنث سواء
دخل بيت البادية أو الحاضرة، وإن كان قرويا فدخل بيوت البلدان حنث، وإن
222

دخل بيوت البادية فإن كان يعرفها حنث بدخولها، وإن لم يعرفها لا يحنث.
إذا حلف لا يأكل من طعام اشتراه زيد، فاشترى زيد وعمرو طعاما صفقة واحدة
فأكل منه لم يحنث. وقال قوم يحنث وجميعا قويان.
فإذا ثبت أنه لا يحنث إذا كان مشاعا بينهما، فإن اقتسماه وأفرد كل واحد
منهما نصيبه منه فإن أكل من نصيب زيد أو نصيب عمرو لم يحنث أيضا، وقال بعضهم
إن أكل من نصيب زيد حنث، وإن أكل من نصيب عمرو لم يحنث، وهما قويان.
فإن حلف لا يأكل من طعام اشتراه زيد فاشترى زيد طعاما وحده، واشترى
عمرو طعاما وخلطاه معا فأكل الحالف منه، قال قوم إذا أكل النصف فما دونه لم يحنث
وإن زاد على النصف حنث لأنه لا يقطع أنه أكل من طعام انفرد زيد بشرائه حتى
يزيد على النصف، وإذا لم يتحقق لم يحنث.
فإن حلف لا يأكل هذه التمرة، فوقعت في تمر ولم يعلم عينها، فأكله إلا تمرة
لم يحنث، لأنه لا يقطع على أكل التي حلف عليها، وقال بعضهم لا يحنث وإن
أكله كله لأنه إذا اختلط فليس هناك حبة يشار إليها أنها من شراء زيد أو عمرو
فهو كما لو اشترياه معا.
وقال بعضهم إن أكل منه الحبة والحبتين ونحو هذا لم يحنث وإن أكل منه
كفا حنث، لأن الطعامين إذا اختلطا فلا يكاد كف ينفرد من أحدهما، فيعلم قطعا
أنه قد أكل منهما فإذا أكل منهما فقد أكل من طعام انفرد زيد بشرائه، ويفارق التمرة
إذا وقعت في تمر، لأنه متى بقيت واحدة لم يقطع أنه أكل التي حلف عليها، لجواز
أن تكون هذه الباقية فلهذا لم يحنث، والأول أقوى عندي ثم الثالث، فأما الثاني
فبعيد جدا.
إذا حلف لا دخلت دار زيد هذه، أو لا كلمت عبد عمرو هذا، أو لا كلمت زوجة
زيد هذه، تعلقت اليمين بعين ما علق اليمين به، فإن دخلها وملكها لزيد حنث بلا خلاف
وإن زال ملك زيد عنها فدخلها بعد ذلك حنث عند بعضهم، ولا تنحل اليمين بزوال
المضاف إليه، وقال بعضهم إذا زال ملكه عنها انحلت اليمين، فإن دخلها بعد ذلك لم
223

يحنث، وهذا الذي يدل عليه أخبار أصحابنا والأول أقوى.
فإذا تقرر هذا فالتفريع عليها: إذا حلف لا دخل دار زيد ولم يعينها، فإن دخل
دارا ملكها لزيد حنث وإن كان له دار فزال ملكه عنها ثم دخلها لم يحنث، لأنها
صفة علقت بمبهم غير معين، فكانت الصفة شرطا فتنحل اليمين بزوالها لعدم الصفة، و
ليس كذلك إذا قال دار زيد هذه، لأن الصفة تعلقت بشئ بعينه، فلهذا لم تنحل
اليمين به عند من قال به. وفرق بين صفة العين ونفس العين ألا ترى أنه لو قال أسلمت إليه في ثوب
هروي، كانت الصفة شرطا، ولو قال بعتك الثوب الهروي فبان مرويا لم يبطل، و
صح العقد مع عدم الصفة، لأن الشراء تعلق بشئ بعينه، فلم يضر زوال الصفة عنه
كذلك في اليمين مثله.
إذا حلف لا دخلت هذه الدار، فانهدمت حتى صارت طريقا وبراحا فسلك
عرصتها لم يحنث عندنا، وقال قوم يحنث، ووافقوا إذا أطلق فقال لا دخلت دارا، فسلك
براحا كان دارا في أنه لا يحنث.
إذا حلف لا دخلت هذه الدار، ففيها ثلاث مسائل:
إحداها حلف لا يدخلها مطلقا، فمتى حصل فيها فقد دخلها، سواء دخلها من بابها
هذا أو من باب غيره، أو نزل إليها من السطح، أو عبر إليها من الطريق كيف كان حنث.
الثانية حلف لا دخلها من هذا الباب، فإن دخلها منه حنث، وإن حول هذا
الباب فدخلها من الباب المحدث لم يحنث لأنه غير الباب.
فرع: قال بعضهم فإن دخلها من الأول والباب المنصوب باق بحاله حنث وإن
حول المنصوب إلى مكان آخر فدخلها من الأول لم يحنث لأن هذا غير الباب الذي
حلف عليه، وهذا غلط عندي لأن الدخول إليها إنما هو في هذا الباب الذي هو فتح
موجود وعقد معقود، فأما الخشب فليس بباب، ألا تراه لا يدخل في الخشب، وإنما
الخشب الذي هو الباب المنصوب للمنع من دخولها إذا أغلق، فبطل أن يدخل في الباب
المنصوب.
الثالثة إذا حلف لا دخلت هذه الدار من بابها فإن دخل من هذا الباب الموجود
224

حين اليمين حنث، وإن حول هذا وفتح بابا آخر غيره فدخلها من المحدث، قال قوم
لا يحنث، لأنه أضافه، والإضافة يقتضي التعيين، فكأنه قال من هذا الباب ولو عين
لم يحنث.
وقال قوم وهو الصحيح أنه يحنث، لأن هذا المحدث بابها، فوجب أن يحنث
بدخولها منه، وإن لم يكن موجودا حين اليمين كما لو حلف لا دخلت دار زيد فمتى
دخل دارا لزيد حنث، وإن لم يكن داره حين عقد اليمين.
إذا كان الثوب رداء فحلف لا يلبسه نظرت، فإن حلف لا لبسته وهو رداء، فإن
لبسه على صورته حنث، وإن غيره ثم لبسه لم يحنث بلا خلاف، وإن حلف لا لبست
هذا الثوب، ولا يقول وهو رداء، فإن لبسه على صورته حنث، وإن غيره عن صورته
ولبسه قال قوم يحنث، وهو الأقوى عندي، وقال آخرون لا يحنث.
إذا حلف لا لبست ثوبا من به عليه فلان، فوهب له فلان ثوبا فإن لبسه حنث
وإن استبدل به فباعه أو بادله فلبس لم يحنث، وهكذا لو حلف لا لبس من غزل
امرأته فإن لبس منه حنث، وإن باعه واشترى بثمنه ثوبا أو اشترى به ثوبا فلبسه لم
يحنث.
وهكذا لو جعل يذكر أياديه عليه فقال أحسنت إليك، وأعتقتك بمالي، و
وهبت كذا وأعطيت كذا فقال جوابا لهذا والله لا شربت لك ماء من عطش، تعلق الحكم
بشرب مائه من عطش، فإن انتفع بغير الماء من ماله فأكل طعامه ولبس ثيابه وركب
دوابه لم يحنث، لأنه إنما ينظر إلى مخرج اليمين ويحنث صاحبها ويبر على
مخرجها دون أسبابها.
وقال بعضهم يحنث بكل حال فإن لبس بدل ذلك الثوب أو بدل ذلك الغزل أو
انتفع بماله بغير شرب الماء حنث، والأول أقوى عندي، لأن الأصل براءة الذمة
والثاني قوي لفحوى الخطاب.
إذا حلف لا دخلت دار زيد نظرت، فإن دخل دارا هي ملك لزيد حنث بلا
خلاف وإن دخل دارا يسكنها بأجرة لم يحنث وقال قوم حنث لقوله " لا تخرجوهن
225

من بيوتهن ولا يخرجن " (1) يعني بيوت أزواجهن، والأول أقوى عندي، لأن
حقيقة الإضافة الملك وما عداه مجاز.
هذا إذا أطلق فأما إن نوى بدار زيد مسكنه بأجرة، كان على ما نواه، لأنه
يعدل عن ظاهره بالنية.
إذا حلف لا دخلت مسكن زيد، فدخل دارا يسكنها زيد بأجرة أو عارية أو
ملكا حنث لأن السكنى يقع على ما هو ملك وغير ملك لأنه لا يصح نفيه عنه، فلهذا
حنث، وليس كذلك دار زيد لأنه ينطبق على ما هو ملك لزيد.
إذا حلف لا دخلت دار زيد ففيها ثلاث مسايل:
إحداها دخلها باختياره ماشيا أو راكبا أو محمولا بأمره، فإنه يحنث بكل هذا
لأنه يقال دخلها.
الثانية دخلها ناسيا لليمين أو مكرها ماشيا، قال قوم يحنث، وقال آخرون لا
يحنث وهو الأقوى عندي.
الثالثة أدخل مكروها محمولا فالصحيح أنه لا يحنث عندنا وفي الناس من
قال يحنث.
226 - 225
إذا حلف لا دخلت هذه الدار هل يقتضى باطلاقه التأبيد؟
إذا حلف لا دخلت هذا الدار اقتضى التأبيد، فإن قال نويت شهرا بر فيما بينه
وبين الله سواء كانت اليمين بالله أو بالطلاق أو العتاق وعندنا لا ينعقد يمينه إلا بالله.
ومتى كانت في حق آدمي كاليمين بالطلاق أو العتاق أو بالله في الإيلاء لم يقبل
منه في الظاهر، لأنه يدعي خلافه، وإن كانت اليمين بالله لا في حق آدمي مثل أن
حلف لا دخلت هذه الدار، ثم قال نويت شهرا قبلنا منه في الحكم لأن حقوق الله وحدة
موكولة إلى أمانته.
إذا حلف لا دخل على زيد بيتا، فدخل على عمرو بيتا وزيد في ذلك البيت لم
يخل من ثلاثة أحوال إما أن يدخل مع العلم بحالته أو مع الجهل به أو مع العلم بحاله
واستثناه بقلبه.

(1) الطلاق: 1
226

فإن دخل مع العلم بحاله حنث، لأن المخالفة وجدت عامدا، وإن كان مع
الجهل بحاله مثل أن دخل وهو لا يعلم أن زيدا هناك فإذا هو هناك، قال قوم يحنث
وقال آخرون لا يحنث، وهو الأقوى عندي.
فإن علمه هناك فدخله واستثناه بقلبه فدخله معتقدا أنه داخل على عمرو دون
زيد فهل يحنث أم لا؟ مبنية على أصل.
وهو إذا حلف لا كلم زيدا فسلم على قوم فيهم زيد فإن كان مع العلم بحاله من
غير استثناء حنث، وإن كان جاهلا أو ناسيا فعلى قولين أصحهما عندنا أنه لا يحنث
وإن كان عالما فاستثناه بقلبه واعتقد أن السلام عليهم دونه، فهل يصح هذا الاستثناء
فلا يحنث قال قوم يصح، وهو الأقوى عندي، ومنهم من قال لا يصح.
فأما إذا كان الحالف في بيت فدخل زيد عليه فيه، فإن خرج الحالف من البيت
من غير وقفة لم يحنث، وإن استدام المقام فيه فلا يكون مع زيد فهل يحنث أم لا؟
مبنية على أن استدامة اللبث فيها هذا هل يكون كابتداء الدخول، وهي على قولين
وقد مضى، والأقوى عندي ها هنا أنه لا يحنث بالاستدامة.
فأما إذا حلف لا دخلت هذا الدار وهو فيها، فاستدام المقام هل يحنث أم لا؟
قال قوم يحنث، وقال آخرون لا يحنث وهو الأقوى عندي، وكذلك ها هنا إذا لم
يخرج الحالف واستدام الكون معه، هل يحنث أم لا؟ على قولين أصحهما عندي أنه
لا يحنث.
فإن دخل على زيد وهو في المسجد قال قوم لا يحنث وهو الأقوى عندي لأن
إطلاق البيت يقتضي بيتا يسكن فيه، فأما المسجد وبيت الله الحرام فليس بيت يسكن
فيه.
ومتى حلف الرجل لا دخلت هذه الدار، فدخلها مكرها أو ناسيا أو جاهلا
بأنها التي حلف عليها هل يحنث أم لا؟ على قولين أصحهما عندي أنه لا يحنث، و
هكذا في الكلام إذا حلف لا كلمت زيدا فكلمه ناسيا أو جاهلا بأنه زيد أو مكرها
فهل يحنث أم لا؟ قال قوم يحنث وقال آخرون لا يحنث، وهو الأصح عندي لقوله
227

تعالى " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " (1).
إذا حلف ليأكلن هذا الطعام غدا، فقد جعل وقت البر زمانا بعينه وهو غدا
وجعل كل وقت من غد وقتا للبر فإذا ثبت هذا ففيه ست مسائل:
إن أكله غدا بر، وإن لم يأكله حتى غربت الشمس غدا حنث، وإن أكله اليوم
حنث، وقال بعضهم لا يحنث، لأن معناه لا يؤخر أكله غدا وما تأخر، والأول
أصح لأن معناه يؤخر أكله غدا والأكل في غد، فإن أكل بعضه اليوم وبعضه غدا
حنث، لأنه ما أكله في غد، وإن هلك اليوم بغير اختياره، فقد فاته أكله غدا مكرها
فعندنا لا يحنث وقال بعضهم يحنث.
السادسة هلك في غد بعد أن قدر على أكله، منهم من قال يحنث لأنه ترك
البر مع القدرة عليه، ومنهم من قال لا يحنث كما لو هلك اليوم، لأنه فاته البر
بغير اختياره وهو الأقوى عندي.
فأما إن حلف ليأكلنه اليوم ففيها ست مسائل أيضا إن أكل اليوم بر، وإن لم
يأكل حتى غربت الشمس حنث، وإن أتلفه قبل أن يأكله حنث، وإن أكل بعضه ولم
يأكل البعض حتى غربت الشمس حنث، وإن هلك قبل القدرة على أكله فعلى قولين
أصحهما أنه لا يحنث، وإن هلك بعد القدرة على أكله فعلى قولين أيضا أصحهما
أنه يحنث، والثاني لا يحنث وهو قوي.
إذا حلف ليقضينه حقه غدا فيه ثلاث مسائل:
الأولى إذا حلف ليقضينه حقه غدا ففيه المسائل الست: إن قضاه غدا بر، و
إن لم يقضه حتى غربت الشمس حنث، وإن قضاه اليوم حنث، وإن قضى بعضه اليوم
وبعضه غدا حنث، وإن مات من له الدين اليوم فهل يحنث الحالف أم لا؟ على قولين
لأنه مكره على ترك القضاء في غد وإن مات في الغد بعد القدرة على القضاء منهم من
قال يحنث، ومنهم من قال لا يحنث وهو الأقوى على ما مضى.
الثانية إذا حلف لأقضين حقك غدا إلا أن تشاء أنت، فقد عقد اليمين وجعل

(1) البقرة: 225
228

المخلص لنفسه فيها بشيئين: أحدهما البر في غد، والثاني الاستثناء وهو أن يشاء صاحب
الحق التأخير، فإذا قال قد شئت التأخير انحلت اليمين، وإن فرضت عليه إلا أن أشاء أنا
التأخير فالباب واحد غير أنا نفرضها إذا قال إلا أن تشاء أنت التأخير.
فإذا ثبت هذا ففيها سبع مسائل: الست ما ذكرناه، وزيادة واحدة: إن قضاه في
غد بر، وإن لم يقضه حتى غربت الشمس في غد حنث، وإن قضاه من يومه قبل غده
حنث، وإن قضى بعضه في يومه وبعضه في غده حنث، وإن مات من له الحق في يومه
فهل يحنث أم لا؟ على قولين لأنه مكره، وإن مات في غد بعد القدرة على القضاء
على قولين أصحهما عندنا أنه لا يحنث في الموضعين، وتنحل اليمين، السابعة مثله
الاستثناء وقد مضت.
الثالثة إذا حلف لأقضين حقه إلا أن يشاء زيد ففيها ثمان مسائل: سبع قد
مضى، وزيادة أخرى: إن قضاه غدا بر، وإن لم يقضه حتى غربت الشمس حنث،
وإن قضاه اليوم حنث، وإن قضى بعضه اليوم وبعضه غدا حنث، وإن مات اليوم فهل
يحنث أم لا على قولين؟ وإن مات في غد بعد القدرة فعلى قولين، وإن قال زيد قد شئت
التأخير انحلت اليمين بوجود الاستثناء، الثامنة مات زيد اليوم قبل أن يشاء شيئا و
تعذر الاستثناء وكان البر ممكنا، فإن قضاه في غد بر فيها، وإن غربت الشمس قبل
أن يقضيه حنث.
إذا حلف ليقضين حقه عند رأس الهلال أو إلى رأس الهلال أو كان عند الاستهلال أو
إلى استهلال الهلال ففيه مسئلتان أحداهما أن يقول ليقضين حقه عند رأس الهلال،
أو مع رأس الهلال، أو عند الاستهلال أو مع استهلال الهلال وجب عليه حين إهلال
الهلال وأن يقضيه عند أول جزء من أول ليلة من الشهر لا قبله ولا بعده ولا فرق بين هذه
الألفاظ وأن الحكم فيها واحد، ومتى قضاه بعده أو قبله حنث لأن " عند " وضع في
الكلام العربي للمقارنة لا غير وإذا كانت كذلك، وجب أن يكون القضاء مقارنا لأول
الشهر.
فإذا ثبت هذا فإن كان الحق مما يقبض في زمان واحد كالذهب والفضة ونحو
229

ذلك وقع القضاء في زمان واحد وإن كان حقا يقبض في زمان طويل كالمكيل والمعدود
ونحو ذلك، فإذا ابتدأ بالقضاء مع رأس الهلال بر، وإن تطاول الإيفاء.
الثانية إذا قال إلى رأس الهلال أو إلى استهلال الهلال، فهل يكون إلى حذاء
أو بمعنى مع، قال قوم يقتضي المقارنة وهي بمعنى مع، وقال آخرون ينبغي أن يكون
إلى حذاء فإن قضاه قبله بر في يمينه، وهو الأقوى.
واستعمالها بمعنى مع أيضا كثير قال الله تعالى " من أنصاري إلى الله " (1) أي مع
الله، وقال " ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم " (2) بمعنى مع، غير أن الحقيقة الأول.
ومن قال إنها مشتركة قال لا يحنثه إلا بيقين فمن قال إن إلى تفيد حذاء
فمتى قضى قبله أو بعده حنث، ومن قال إنها بمعنى مع فمتى قضاه قبله أو معه لم يحنث
وإن قضاه بعده حنث.
إذا حلف ليقضين حقه إلى حين أو إلى زمان أو إلى دهر فلا حد لهذه الألفاظ
كلها، ويكون كقوله والله لأقضينه حقه، فيكون على مدة حياته، فإن لم يفعل حتى
مات حنث بوفاته عند بعضهم، وفيه خلاف.
والذي يقتضيه مذهبنا أنه إذا حلف إلى حين كان ذلك إلى ستة أشهر وإذا حلف
إلى زمان كان ذلك إلى خمسة أشهر، ونص عليه أصحابنا فيمن نذر أن يصوم حينا
أو زمانا.
فأما إذا حلف إلى وقت فليس له حد على وجه بلا خلاف، فإن قال قريبا أو
بعيدا فليس له حد عند بعضهم، وفيه خلاف، وإن قال إلى حقب لم يكن له حد و
فيه خلاف.
إذا حلف لا يفعل فعلا فأمر غيره بفعله عنه بأمره مثلا أن يحلف لا تزوجت ولا
طلقت، لا بعت ولا اشتريت، ولا ضربت عبدي، فإذا فعله غيره بأمره لم يخل من أحد
أمرين إما أن يكون الحالف ممن يلي أموره بنفسه أو يليها عنه غيره.

(1) آل عمران: 52، الصف: 14.
(2) النساء: 2.
230

فإن كان ممن يليها بنفسه كأفناء الناس لم يحنث لأنه ما فعله وإنما فعله غيره و
الأيمان يتعلق بحقايق الأسماء والأفعال، فإذا فعله عنه غيره بأمره فهو وإن أضيف
إليه فما فعله هو حقيقة، بدليل أنه يصح نفي الفعل عنه، فلو قيل قد باع الحالف هذا
قيل لا إنما باعه وكيله وناب عنه وكيله فيه.
وإن كان الحالف ممن لا يلي هذه الأشياء بنفسه كالخليفة والسلطان العظيم فوكل
غيره بفعله عنه، نظرت فإن حلف لا تزوجت ولا طلقت لم يحنث، لأن هذا مما يليه
بنفسه فهو فيها كالعامة وسائر الناس، وإن كان حلف لا بعت ولا اشتريت، ولا ضربت
عبدي، ففعله عنه غيره بأمره، قال قوم إنه لا يحنث، وقال آخرون في الضرب إنه يحنث
لأنه يقال باع الخليفة، وإن كان البايع وكيله، كما روي زنا ماعز فرجمه رسول الله و
إنما أمر برجمه وهذا الأقوى عندي ومن قال لا يحنث قال هذا مجاز والأيمان يتعلق
بالحقايق، وهو قوي أيضا ويقويه أن الأصل براءة الذمة.
إذا علق يمينه بأمرين لم يخل من أحد أمرين إما أن يكون نفيا أو إثباتا، فإن
كان إثباتا كقوله والله لآكلن هذين الرغيفين أو لألبسن هذين الثوبين، فإذا لبسهما
بر وإن لبس أحدهما لم يبر في يمينه بلا خلاف.
وإن كان هذا على النفي فحلف لا أكلت هذين الرغيفين، ولا لبست هذين الثوبين
لم يحنث حتى يأكلهما، فإن أكل أحدهما لم يحنث، وقال بعضهم يحنث إذا أكل
أحدهما لأن أصله، أن القرب من الحنث حنث، والأول أصح عندنا.
فإن حلف لا كلمت زيدا وعمروا فكلم أحدهما حنث، والفرق بينهما أنهما
يمينان لأنه حلف لا كلم زيدا ولا كلم عمروا، وإنما دخلت الواو نايبة مناب تكرير
الفعل كأنه أراد أن يقول والله لا كلمت زيدا ولا كلمت عمروا فقال وعمرو، فلهذا حنث
وليس كذلك في الأول لأنها يمين واحدة.
ولو حلف لا شربت ماء هذه الإداوة صار بالإضافة إليها معرفة، فلا يحنث حتى
يشربه كله، ولو كان هذا على الإثبات فقال لأشربن ماء هذه الإداوة لم يبر حتى يشربه
كله لما مضى.
231

فأما لو حلف لا شربت من ماء هذه الإداوة فشرب منه قطرة حنث لأنه قد
شرب منه، ولو حلف لأشربن من ماء هذه الإداوة فإذا شرب منه ولو قطرة، بر في يمينه
لأنه شرب منه.
وهكذا كل إناء فيه ما يمكن أن يشربه كله كالحب والبركة والمصنع العظيم
فشربه والحكم فيه كالإداوة سواء.
فأما دجلة والنهر فإذا حلف لا شرب من ماء دجلة أو من ماء هذا النهر، فمتى
شرب منه قطرة حنث، لأنه قد شرب منه، وكذلك الإثبات إذا قال لأشربن منه فشرب
قطرة بر، فأما إن أطلق فقال لا شربت ماء دجلة فشرب منه، قال بعضهم متى شرب
منه حنث، لأنه إذا قال لا شربت ماء دجلة فمعلوم أنه لا يمكنه شربه كله، ثبت أنه
أراد لا شربت منه فيحنث إذا شربه، كما حلف لا أكلت خبز الحواري فإنه يحنث
بأكل لقمة كذلك ها هنا وجب أن يحنث بشرب جرعة منه.
وقال آخرون إنه لا يحنث وهو الأقوى عندي لأن قوله " ماء " نكرة وقوله " دجلة "
للتعريف وكانت الحقيقة كله كماء الإداوة سواء وكان كقوله والله لا صعدت السماء فإنه
لا يحنث فيه بحال، وما قالوه من خبز الحوارى فلان الحواري صفة الخبز فكأنه قال
الخبز الحوارى الأبيض ولو قال الخبز الأبيض تعلق بكل لقمة منه، كقوله الماء العذب
فتعلق بكل شربة منه، وليس كذلك في مسئلتنا لأنها نكرة أضيفت إلى معرفة
فكانت معرفة وتعلقت اليمين بالكل.
فإن حلف لا شربت من النهر لا شربت من دجلة، فمتى شرب من مائها حنث
سواء غرف بيده أو في كوز أو غيره على أي وجه، شرب منها أو كرع فيها كالبهيمة، و
قال بعضهم لا يحنث حتى يكرع منها كالبهيمة لأنه إذا شرب غرفا بيده فما شرب منها
وإنما شرب من يده وهو الأقوى عندي.
كل من حلف يمينا على فعل فاعل تعلقت اليمين بفعل ذلك الفاعل في باب البر
والحنث، ولا يتعلق بفعل غيره. من ذلك:
إذا حلف لا فارقتك حتى أستوفي حقي منك، فقد علق اليمين بفعل نفسه وحده
232

فإن استوفى حقه قبل المفارقة بر في يمينه، وإن فارقه قبل الاستيفاء باختياره حنث
وإن فارقه ناسيا أو مكرها فعلى وجهين أصحهما عندي أنه لا يحنث.
فإن فر الذي عليه الحق لم يحنث الحالف، سواء فر باختيار الحالف أو بغير
اختياره لأن الأيمان ما تعلقت بفعل من عليه الحق وإنما تعلقت بفعل الحالف، و
الحالف ما فارقه.
فإن حلف لا فارقتني حتى أستوفي حقي منك، فاليمين تعلقت بفعل الغريم وحده
فإن قضاه الحق قبل المفارقة بر وإن انصرف الغريم باختيار نفسه حنث الحالف، وإن
انصرف الغريم مكرها أو ناسيا فهل يحنث الحالف أم لا؟ على قولين: عندنا أنه لا
يحنث، وإن انصرف الحالف على أي وجه كان لم يحنث، لأن الغريم ما فارقه، و
إنما فارق هو الغريم.
وإن حلف لا افترقت أنا وأنت حتى أستوفي حقي كان معناه لا فارقتني ولا
فارقتك، فقد تعلقت اليمين بفعل كل واحد منهما، فإن قبض حقه قبل المفارقة بر، و
أن فارق أحدهما صاحبه باختياره حنث، وإن فارقه ناسيا أو مكرها فعندنا لا يحنث و
قال بعضهم يحنث.
ولو حلف لا افترقت أنا وهو ففر منه لم يحنث عندنا، وقال قوم يحنث لأن
فراره منه باختيار نفسه، وكذلك لو حلف لا أفترق أنا وهو، ولا فصل بينهما، ولو
حلف لا افترقنا حتى أستوفي حقي منك لم يحنث حتى يكون من كل واحد منهما
فراق لصاحبه: يذهب هذا كذا، وهذا كذا، لأنه قد علق اليمين بمفارقة كل واحد منهما.
إذا حلف لا فارقتك حتى أستوفي حقي منك فقد فرع على هذا ثلاث مسائل:
الأولى فلس من عليه الحق وحجر الحاكم عليه لزمه مفارقته شرعا، فكان فرارا
على إكراه بحكم الشرع، فهل يحنث؟ على قولين قد مضى.
الثانية أخذ حقه معتقدا أنه نفس حقه، فبان غيره مثل أن كان حقه دنانير
فبانت نحاسا، وفضة فبانت رصاصا، قال قوم يحنث، وقال قوم لا يحنث وهو
الأقوى عندي.
233

الثالثة إذا أحاله بالحق فقبل الحالف الحوالة وانصرف حنث، لأن الحوالة
وإن كانت فإنما هي قبض حكما فأما مشاهدة وفعلا فلا.
إن حلف لا فارقتك حتى أستوفي حقي نظرت، فإن استوفى نفس حقه بر وإن
استوفى بدل حقه مثل أن كانت دنانير فأخذ دراهم أو ثيابا أو غير ذلك حنث في يمينه،
سواء كان البدل وفاء حقه أو أقل لأنه ما استوفى حقه وإنما استوفى بدل حقه فإن
أبرأه وانصرف حنث أيضا لأنه ما استوفاه.
فإن قال حتى أستوفي نظرت، فإن استوفى حق نفسه بر، وإن أخذ البدل عنه
وكان وفاء حقه بر، وإن كان دون ذلك حنث، لأنه ما استوفاه.
فإن قال لا أفارقك ولي قبلك حق، فإن أخذ نفس حقه أو بدل حقه بر، سواء
كان في البدل وفاء أو لم يكن، لأنه فارقه ولا حق له قبله، وكذلك إن أبرأه وانصرف.
كل موضع حكمنا بوقوع الفراق فالفراق هو افتراق المتبايعين عن محلهما الذي
تبايعا، وقد فسرناه في البيوع، وبينا أنه مأخوذ من العرف فما يسمى في العرف
افتراق حكم بذلك، وما لم يسم بذلك لم يحكم به.
إذا حلف من عليه الحق لا فارقتك حتى أقبضك حقك، فإن قضاه نفس حقه
بر، وإن أعطاه بدل حقه حنث، فإن كان الحق عينا فوهبها مالكها منه فقبلها حنث
لأنه ما اقتضاه.
وإن أبرأه من الحق فمن قال الإبراء يحتاج إلى القبول، فقبل حنث كالهبة، و
من قال يبرء من غير قبول فهل يحنث أم لا؟ على قولين أقواهما عندي أنه يحنث لأنه
ما أقبضه.
فإن حلف عمرو لا بعت لزيد ثوبا فأعطى زيد وكيله ثوبا وقال له بعه، وإن
شئت فادفعه إلى من ترى ليبيعه فأتى وكيل زيد عمرا فأعطاه فباعه وهو لا يعلم أنه
لزيد صح البيع، وهل يحنث؟ على قولين أقواهما عندي أنه لا يحنث، لأنه جاهل
بذلك، وهو كالمكره والناسي، وإن قال زيد لوكيله بعه أنت فأعطى الوكيل هذا
الثوب لعمرو وقال بعه فباعه فالبيع باطل، ولا يحنث عمرو لأنه ما باع، وسواء
234

قال لا باع له ثوبا ملكه أو أطلق فلا فرق بينهما.
إذا قال لامرأته إن خرجت من الدار حتى آذن لك فأنت طالق، فقد علق طلاقها
بصفة وهو خروجها بغير إذنه، فعندنا أن هذه يمين باطلة، وعندهم صحيحة، فإن
خرجت بغير إذنه طلقت، فإن عادت فخرجت ثانيا لم تطلق لأنه اليمين انحلت بالحنث
فيها، فإن أذن لها فخرجت لم تطلق، لأنها خرجت بإذنه، وانحلت اليمين أيضا بذلك
فإن خرجت ثانيا بغير إذنه لم يحنث.
هذا إذا قال لها حتى آذن لك، فإن قال إن خرجت من الدار إلا بإذني فهو كقوله
حتى آذن لك، فإن خرجت بغير إذنه طلقت وانحلت اليمين، لأن " إن " لفعل مرة
واحدة، فإن أذن لها فخرجت بر في يمينه، فإن خرجت بعد هذا لم تطلق، وإن كان
بغير إذنه.
وقال بعضهم إذا قال إن خرجت من الدار إلا بأذني فأنت طالق، فإن خرجت
بغير إذنه طلقت وانحلت اليمين، وأن خرجت مرة أخرى لم تطلق مرة أخرى مثل
ما قال الأول، وإن أذن لها فخرجت لم تطلق فإن خرجت مرة أخرى بغير إذنه
طلقت، فجعل هذا القائل يمينه على التكرار على كل مرة.
ولو قال متى خرجت إلا بأذني فأنت طالق، كان على مرة واحدة، ولا فصل بينهما
أكثر من أن قوله إن خرجت كان للفعل، ومتى خرجت للزمان، وكذلك أي وقت
وأي حين وأي زمان وأية ساعة الباب واحد.
فأما إن قال كلما خرجت بغير إذني فأنت طالق فهو على التكرار على كل مرة
تخرج، فإن أذن فيها مرة فخرجت لم تطلق، فإن خرجت بعده مرة أخرى بغير إذنه
طلقت حتى تقول كلما خرجت فقد أذنت لك فيه فحينئذ تزول اليمين لأن لفظة كل
للتكرار.
إن قال إن دخلت دار زيد إلا بإذنه فامرأتي طالق، فإن دخلها بغير إذنه طلقت
وإن أذن له بالدخول ارتفعت اليمين، دخلها بعد أو لم يدخلها واحد، فإن دخلها لم
يحنث بعد هذا، وإن منعه زيد من الدخول بعد الإذن لم يقدح في ذلك، بل تكون
235

اليمين منحلة بوقوع الإذن، وإن لم يوجد المأذون فيه، وعندنا أن هذه مثل الأولى
لا يقع بها طلاق بحال.
فإن قال إن خرجت من الدار إلا بإذني إلا لعيادة مريض فأنت طالق، فقد علق
طلاقها بصفة وهو خروجها بغير إذنه، واستثنى ما يمنع وقوع الطلاق بشيئين: أحدهما
وجود إذنه، والثاني خروجها لعيادة مريض، فإن خرجت في غير هذين فقد طلقت.
فإذا تقرر هذا نظرت فإن خرجت لعيادة مريض لم تطلق فإن تشاغلت بعد خروجها
بغير العيادة كزيارة الوالدين وقضاء الحوائج ودخول الحمام لم تطلق، لأنها ما خرجت
إلا لعيادة المريض وفلا يقدح في خروجها حدوث نية غير ما خرجت له.
فإن خرجت لغير عيادة المريض طلقت وإن تشاغلت بعد خروجها بعيادة المريض
لم ينفعها ذلك، لأنها ما خرجت له.
فإن خرجت لعيادة المريض ولغير عيادة كأنها اعتقدت الخروج لأشياء منها عيادة
المريض لم تطلق، لأنها قد خرجت لعيادة المريض فلا يضر أن يعتقد غيره، وعندنا
هذه مثل الأولى سواء لا تطلق بحال.
إذا حلف بالطلاق لا خرجت إلا بإذني فأذن لها فخرجت بعد الإذن وقبل العلم
به لم يحنث، وقال بعضهم يحنث، وهذا يسقط عنا لما مضى.
إذا قال رقيقي أحرار أو مماليكي ابتداء عندنا أو حلف على ذلك عندهم، نظرت
فإن كان له عبيد قن وإماء قن عتقوا بلا إشكال لأن الاسم تناولهم على الاطلاق فإن
كان فيهم مدبر عتق أيضا كالعبد القن لأنه عبد، وكذلك المكاتب وأم الولد لأن
الاسم يتناولهم.
فإن كان له أشقاص عبيد، مثل أن كان له نصف عشرة أعبد مشاعا عتقوا كالمنفرد
فإذا كان له نصف عشرة أعبد فله خمسة، فإنهم يعتقون فإن كان فيهم مكاتب ففي الناس
من قال المكاتب لا يدخل في ذلك، ومنهم من قال: يدخل أيضا، والأقوى عندي أنه
يدخل إن كان مشروطا عليه لما روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال المكاتب عبد ما بقي
عليه درهم.
236

إذا قال لزوجته إن كلمت أباك فأنت طالق، عندنا لا يتعلق به حكم لأن اليمين
ما انعقدت، وعندهم ينعقد وفيها ثلاث مسائل:
إن كلمت أباها وقع الطلاق لأن الصفة وجدت، وهكذا إذا كلمت أباها و
هي رجعية لأنها في معنى الزوجات.
الثانية أبانها بالخلع أو طلقها قبل الدخول طلقة أو طلقة بعد الدخول وتركها
حتى انقضت عدتها ثم كلمت أباها انحلت اليمين، لأن الصفة وجدت وهي باين
فإن نكحها بعد هذا ثم كلمت أباها لم تطلق، لأن اليمين انحلت بوجود الصفة بين
النكاحين.
الثالثة أبانها ولم تكلم أباها ثم تزوجها ثم كلمت أباها فقد وجد عقد اليمين
في ذلك والصفة في نكاح آخر ولم توجد الصفة بين النكاحين فهل يعود حكم اليمين أم
لا؟ نظرت فيما وقعت به البينونة فإن أبانها بأقل من ثلاث عاد حكم اليمين وقال بعضهم لا
يعود، وإن أبانها بالثلاث لم يعد، وقال بعضهم يعود.
فإذا ثبت هذا فإذا قال لعبده إن لم أضربك غدا فأنت حر ففيه ثلاث مسائل أيضا:
الأولى: إن لم يضر به غدا حتى غربت الشمس عتق لأن الصفة وجدت والعبد
في ملكه.
الثانية باعه اليوم ولم يضربه غدا حتى غربت الشمس فإنه لا يعتق لأن الصفة
وجدت والعبد في غير ملكه فانحلت اليمين.
فرع هذا المسألة: إذا لم يبعه اليوم، وجاء غد ولم يضربه مع القدرة على ضربه
ثم باعه وغربت الشمس ولم يضربه لم يعتق أيضا لأن الصفة وجدت والعبد ليس في
ملكه.
الثالثة باعه اليوم واشتراه غدا وخرج اليوم ولم يضربه، فقد وجد عقد اليمين
في ملك، وزال الملك ثم ملكه ووجدت الصفة في ملك ثان، ولم يوجد الصفة بين
الملكين، فهل يعتق أم لا؟ منهم من قال لا يعود، ومنهم من قال يعود، لأن البيع بمنزلة
الطلاق الثلاث، ومن قال يعود قال لأن بيع العبد مثل البينونة بأقل من ثلاث، هذا
237

إذا كانت اليمين بالعتق، وهذا كله يسقط عنا لأن اليمين بالطلاق والعتاق لا تنعقد أصلا.
فأما إذا كانت اليمين بالله فقال والله لأضربنك غدا ثم باعه اليوم وخرج غدو
لم يضربه حنث ووجبت الكفارة وقد روى أصحابنا أنه إذا حلف ليضربن عبده ولم
يضربه وعفى عنه لم تلزمه كفارة لقوله " وأن تعفو أقرب للتقوى " (1).
إذا قال لعبده إن بعتك فأنت حر نظرت، فإن باعه مطلقا عتق عند بعضهم، لأن
الصفة وجدت والعبد ممن تلحقه العتق بالمباشرة فلحقه العتق بالصفة لأن البيع إذا
انعقد ثبت بينهما خيار المجلس ما لم يتفرقا ولو أعتق عبده في مدة خيار المجلس عتق
فكذلك إذا وجدت صفة العتق، ومن لم يقل بخيار المجلس قال لا ينعتق، لأن بنفس
العقد لزم البيع بغير خيار، فإن باعه بشرط الخيار لهما أو للبايع عتق بلا خلاف بينهم
لما مضى، وعندنا لا ينعتق لما مضى، وإن كنا نقول بخيار المجلس.
فأما إذا باعه بشرط أن لا خيار بينهما خيار المجلس فعندنا ذلك صحيح ولا
يتعلق به العتق لما مضى، ولهم فيه ثلاثة أوجه أحدها يصح البيع والشرط معا والثاني
يبطلان معا والثالث يصح البيع ويبطل الشرط.
فإذا ثبت هذا رجعنا إلى العتق فإذا قيل يصح البيع والشرط لم يعتق لم يعتق العبد لأن
الصفة وجدت وهو على صفة لا يلحقه العتق بالمباشرة، فلا يلحقه بالصفة، وإذا قيل
يبطلان لم يعتق العبد لأن العقد لم يوجد، وإذا قيل يصح البيع ويبطل الشرط عتق
كالبيع المطلق.
وقال لعبده إن بعتك فأنت حر فباعه بيعا فاسدا لم يعتق بلا خلاف، وهكذا
لو قال إن زوجتك فأنت حر فزوجه تزويجا فاسدا لم يعتق، لأن إطلاق البيع يقتضي
بيعا شرعيا فإذا كان فاسدا لم توجد الصفة.
إذا حلف لا يأكل الرؤوس حنث بأكل رؤس النعم: الإبل والبقر والغنم ولا يحنث
بأكل رؤس سواها كرؤوس الحيتان والعصافير والطيور والجراد، وإن كان بلد له صيد
كثير وتكون رؤس الصيد يؤكل مفردة عندنا حنث فيها وإن حلف لا يأكل الرؤس و

(1) البقرة: 237.
238

هو في غيرها من البلاد، فأكل منها هل يحنث أم لا قال قوم يحنث لأنه إذا ثبت عرف في
مكان تعلق بها حكم اليمين في كل مكان كخبز الأرز له عرف بطبرستان فيتعلق به الأيمان
في كل مكان.
وقال آخرون لا يحنث لأن هذا الحالف لا علم له بذلك ولا عرف له بهذا
البلد وهكذا القول في رؤس الحيتان إذا ثبت لها من العرف ما ثبت لرؤوس الصيود.
هذا إذا يكن له نية فأما إذا كان له نية حنث وبر على نيته، والورع أن يحنث
بأي رأس كان ليخرج من الخلاف، لأن فيه خلافا، والأقوى عندي أن لا يحنث بما
لا يعرفه، لأن الأصل براءة الذمة.
إذا حلف لا يأكل البيض انطلق على كل بيض يزائل بائضه، وهو بيض الدجاج، و
الوز والنعام، والعصافير، والطيور ونحوها، فأما ما عداها مما لا يزايل بايضه حيا
وهو بيض الحيتان والجراد فلا يحنث، لأن إطلاق الأيمان يتعلق بما يقصد ويفرد
للأكل وحده دون بايضه كرؤوس النعم وأما ما لا يفرد عن أصولها فلا يحنث به كرؤوس
العصافير والطيور.
إذا حلف لا يأكل لحما فأكل لحم النعم وغيرها من الصيود والطيور، حنث
لأن اسم اللحم يطلق على هذا كله، فإن أكل لحم الحيتان لا يحنث وقال بعضهم يحنث
والأول أقوى.
إذا حلف لا يشرب سويقا فإن صب عليه ماء وشربه حنث، وإن استفه لم يحنث
ولو حلف لا يأكل خبزا فإن أكله وهو أن يلوكه بفيه ويزدرده حنث، فإن
ماثه بالماء وشربه كالسويق لم يحنث، لأن الاسم الحقيقي لا يتناوله.
فإذا تقرر هذا فإن حلف لا أكل السويق فذاقه لم يحنث لأن الأكل أن يلوكه
ويزدرده، والذوق أن يعرف طعمه ازدرده أو لم يزدرده، بلى إن حلف لا ذاقه فأكله
حنث، لأن الأكل ذوق وزيادة، لأنه لا يصح أن يقال كله ولا تذقه، ويقال ذقه
ولا تأكله، فلهذا حنث.
وإن حلف لا ذاقه فأخذه بفيه ومضغه ورمى به ولم يزدرد شيئا منه قال بعضهم
239

يحنث وهو الأقوى لأن الذوق عبارة عن معرفة طعم الشئ وقد عرف طعمه قبل أن
يزدرده، وقال بعضهم لا يحنث ما لم يزدرد شيئا منه، لأنه لا يقال ذاقه ما لم ينزل
شئ منه في حلقه والأول أصح لأن بالذوق لا يفطر الصائم وبالازدراد يفطر.
إذا حلف لا يأكل سمنا فالسمن ضربان: جامد ومايع، فإن كان جامدا نظرت
فإن أكله على جهته وحده حنث وإن أكله بالخبز حنث أيضا عندنا، وقال بعضهم لا
يحنث، لأنه ما أكل السمن على جهته، فأما إذا كان مايعا نظرت فإن شربه لم يحنث
لأنه حلف لا يأكل فلا يحنث بشربه، وإن أكله بالخبز حنث عندنا، ومن قال هناك
لا يحنث قال ها هنا مثله.
فإن أكل خبيصا معمولا بالسمن حنث إذا كان السمن ظاهرا فيه، وإن كان
مستهلكا فيه لم يحنث وكذلك إذا حلف لا يأكل خلا فأكل مرقة فيها خل فإن كان
ظاهرا حنث وإن كان مستهلكا لم يحنث.
إذا حلف لا يأكل هذه التمرة فوقعت في تمر فأكله كله إلا واحدة نظرت فإن
تيقن أنه أكل التي حلف عليها حنث، وإن تيقن أنه ما أكلها لم يحنث، وإن أشكل
الأمر لم يحنث أيضا لأن الأصل أنه ما حنث فلا يحنث بالشك وهكذا لو هلكت
منه تمرة فأكل ما بقي كله، فإن علم أنه أكلها حنث وإن علم أنه ما أكلها وأنها
التي هلكت لم يحنث، وإن أشكل الأمر لم يحنث أيضا لما مضى.
إذا حلف لا يأكل هذه الحنطة أو من هذه الحنطة الباب واحد غير أنا نفرضها
فيه إذا قال هذه الحنطة فإن أكلها على جهتها حنث وإن غيرها بأن طحنها وجعلها
دقيقا أو قلاها فجعلها سويقا فأكل منه لم يحنث عندنا وقال بعضهم يحنث لأنه علق
الحكم بهذه العين والعين تلك.
فأما إذا حلف لا كلمت هذا الصبي فصار شابا وهذا الشاب فصار شيخا فكلمه
أو لا أكلت من لحم هذا الحمل فصار كبشا فأكل، أولا أكلت من هذا البسر فصار رطبا
فأكل، ففي الكل قال قوم يحنث، وقال آخرون لا يحنث وهو الأقوى عندي.
وإن حلف لا يأكل من هذا الدقيق فخبزه وأكل منه لم يحنث، وقال قوم يحنث
240

لأن الدقيق هكذا يؤكل، والأول أقوى لأن الأصل براءة الذمة.
إذا حلف لا يأكل شحما فالشحم هو الذي يكون في الجوف من شحم الكلى أو
غيره، فإن أكل منه حنث، وإن أكل غيره من كل شئ في الشاة من لحمها الأحمر والأبيض و
الإلية والكبد والطحال والقلب لم يحنث بشئ من هذا لأن اسم الشحم لا يقع عليه
وقال بعضهم إن أكل من لحم الظهر حنث والأول أقوى عندي وإن حلف لا يأكل لحما
نظرت فإن أكل من اللحم الأحمر أو من الأبيض الذي يكون على الظهر حنث، وإن
أكل من القلب لم يحنث لأن اسم اللحم لا يقع عليه، ولا يقال لمن أكله أكل لحما، و
إن أكل من شحم البطن لم يحنث عندنا، وقال بعضهم يحنث، فإن أكل الكبد والطحال
لم يحنث، وقال بعضهم يحنث، والأول أقوى، لأنها لا يسمى لحما، فإن أكل الإلية
لم يحنث عندنا لما مضى، وقال بعضهم يحنث لأنه بمنزلة اللحم.
فإن حلف لا آكل تمرا فأكل رطبا أو رطبا فأكل بسرا أو بسرا فأكل بلحا، أو بلحا فأكل
طلعا لم يحنث، وكذلك لو حلف لا يأكل طلعا فأكل بلحا أو بلحا فأكل بسرا أو بسرا
فأكل رطبا أو رطبا فأكل تمرا لم يحنث، لأن كل واحد منهما غير صاحبه.
فإن حلف لا يأكل رطبا فأكل من المصنف وهو ما نصفه رطب ونصفه بسر نظرت
فإن أكل منه الرطب حنث، وإن أكل منه البسر لم يحنث، وإن أكله على ما هو به
حنث لأنه قد أكل الرطب، وقال بعضهم لا يحنث والأول أصح عندنا، وهكذا إذا
حلف لا يأكل بسرا فأكل المصنف فعلى ما فصلناه.
فإن حلف لا يأكل زبدا فأكل لبنا لم يحنث، لأن الاسم لا يقع عليه وكذلك
من حلف لا يأكل دبسا فأكل تمرا أو شيرقا فأكل سمسما لم يحنث أيضا لأنه غيره،
وكذلك إن حلف لا يأكل تمرا أو سمسما فأكل دبسا أو شيرقا لم يحنث.
فإن حلف لا يأكل لبنا فأكل سمنا لم يحنث، لأنه غيره، وإن أكل زبدا فالزبد
لا ينفك من اللبن فينظر فيه، فإن كان اللبن مستهلكا فيه لم يحنث، وإن كان قائما
فيه حنث، وقال بعضهم إذا حلف لا يأكل اللبن حنث بأكل كل ما عمل منه من زبد
241

وسمن وجبن وغير ذلك، لأن الكل لبن، والأول أصح لأن الصورة بطلت، و
الاسم قد زال.
إذا حلف لا كلمت فلانا فسلم عليه وحده، وهو يعرفه، مع ذكره ليمينه حنث
لأن السلام كلام، وإن كان جاهلا به أو عالما لكنه نسي فلا يحنث عندنا، وقال
بعضهم يحنث.
فإن سلم على جماعة وفلان فيهم ففيه ثلاث مسائل: إما أن يقصده بالنية أو يعزله
بالنية أو يطلق، فإن قصده وأراده مع القوم حنث، وإن عزله بالنية ونوى السلام
عليهم دونه لم يحنث عندنا، وقال بعضهم يحنث، وإن أطلق من غير نية فالأقوى أن
يقال إنه يحنث لأن ظاهر القول العموم، وقال بعضهم لا يحنث، وإن كان جاهلا
بأنه في القوم ثم بان فيهم لم يحنث عندنا وقال بعضهم يحنث.
إذا حلف لا كلمت زيدا فكتب إليه كتابا أو أرسل رسولا أو أومأ إليه برأسه أو
بيده أو بعينه لم يحنث عندنا، وقال بعضهم يحنث.
إذا حلف لا رأى منكرا إلا رفعه ففيه ثلاث مسائل إما أن يقول إلا رفعته إلى القاضي
أبي فلان أو إلى قاض أو إلى القاضي.
فإن قال إلى القاضي أبي فلان، فقد عين وسمى، فإذا رأى منكرا نظرت فإن
رفعه إليه بر، وإن لم يرفعه مع القدرة عليه حتى ماتا أو أحدهما حنث لأنه ترك
البر مع القدرة عليه حتى فاته، وإن فاته بغير تفريط مثل أن سار ليرفعه فماتا أو أحدهما
قبل أن يصل إليه فلا يحنث عندنا، وقال بعضهم يحنث، وكذلك لو حجب عنه أو منع
في الطريق مكرها لم يحنث عندنا، وقال بعضهم يحنث، فإن عزل القاضي نظرت، فإن
كانت نيته أن يرفعه إليه وهو قاض فالعزل ها هنا كالموت وقد مضى، وإن لم يكن له
نية فهل فات رفعه بعزله؟ قال قوم إنه فات، وهو الأقوى عندي، وقال بعضهم ما فات.
الثانية إذا قال إلا رفعته إلى قاض فقد نكر القاضي، فإن مات أو عزل لم يحنث
لأنه يمكنه رفعه إلى غيره، فأي قاض رفعه إليه بر في يمينه، ولا يحنث ها هنا بموت
قاض ولا بعزله.
242

الثالثة إذا قال إلى القاضي، قال قوم يرجع هذا إلى قاضي البلد، من كان قاضيه
لأنه عرفه ولم يعينه، فإن كان له قاض رفعه إليه، وإن مات أو عزل لم يفت رفعه
لأن كل من ولي بعده مكانه فهو قاضي البلد وهذا قريب.
إذا حلف ما له مال، وله مال يتمول في العادة حنث، سواء كان زكاتيا كالأثمان
والثمار والماشية والزرع، أو كانت غير زكاتية كالعقار والأثاث والبغال والحمير،
وهكذا إن قال إن شفى الله مريضي فلله على أن أتصدق بمالي، تناول كل ما يتمول
كالأثمان، وقال قوم لا يعلق ذلك إلا بالزكاتية، والأول أقوى عندي، وقد رواه
أصحابنا في النذر فيمن نذر أن يتصدق بجميع ماله.
فأما إن كان له مال في الذمة نظرت، فإن كان حالا حنث لأن اسم الملك يقع
عليه، وإن كان إلى أجل قال قوم لا يحنث لأنه لا مال في ذمته في الآجل وقال قوم
وهو الصحيح إنه يحنث لأن ذمته مشغولة به بدليل أنه لو أبرأه برئ، وإن كان قبل
المحل، فلو لم يكن له لما برئ.
إذا حلف ليضربن عبده مائة سوط أو قال مائة فأخذ ضغثا فيه مائة شمراخ فضربه
به دفعة واحدة، أو شد مائة سوط فضربه بها دفعة واحدة ففيه ثلاث مسائل إن علم أنه
ما وصل بعضها إلى بدنه لم يبر في يمينه، وإن علم أنها وقعت كلها على بدنه فقد بر
في يمينه عندنا، وقال بعضهم لا يعتد له إلا بواحدة.
وأما إذا قال ليضربنه مائة مرة فلا يعتد إلا بضربة واحدة بلا خلاف.
وإن حلف ليضربنه مائة ضربة قال بعضهم لا يبر حتى يضرب مائة مرة لأنه
يجري مجرى قوله مائة مرة، ولهذا قلنا في الرمي بسبع حصيات دفعة واحدة لم يعتد
إلا بواحدة، وقال بعضهم يبر بضرب مرة واحدة لأن الضربة إيصال ضربة إلى بدنه
فإذا وقعت الشماريخ عليه دفعة واحدة فقد أوصل إلى بدنه مائة ضربة وهذا الأقوى
عندي.
فلا فصل في جميع ذلك بين أن يؤلمه بالضرب أو لا يؤلمه، بعد أن يفعل ما يقع عليه
اسم الضرب: وهو أن يرفع يده أولا ثم يوقع الضرب به، فأما إذا وضعه على كتفه وضعا
243

فلا يقال له ضرب، وقال بعضهم الضرب ما آلمه به، فإذا لم يؤلمه فليس بضرب، والأول
أقوى.
الثالثة إذا ضربه دفعة واحدة، ولم يعلم هل وصلت إلى بدنه، لكنه غلب على
ظنه أن الكل قد أصابه بر في يمينه، وقال بعضهم لا يبر في يمينه، لأنه ما قطع
أن الكل وصل إليه، والأصل أنه ما وصل، فلا يحكم بالبر، والأول أقوى
لعموم أخبارنا فيه، ولقوله تعالى " وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث " (1) ولم
يفصل.
إذا حلف لا وهبت له، فالهبة عبارة عن كل عين يملكه إياها تبرعا بغير عوض
فإن وهب له أو أهدي إليه أو نحله أو أعمره أو تصدق عليه صدقة تطوع حنث بذلك
كله، وأبعدها العمرى، وقد سماها رسول الله صلى الله عليه وآله هبة، فقال: العمرى لمن وهبت له
وقال بعضهم في صدقة التطوع أنه لا يحنث بها، فإن حلف لا أعمرته فتصدق عليه، أو
لا أتصدق عليه فأهدى له لم يحنث، لأن اليمين تعلقت بنوع فلا يحنث بنوع آخر،
كما لو حلف لا أكلت المعقلي فأكل البرني لم يحنث.
فإن حلف لا وهبت له فأعاره لم يحنث، لأن الهبة تمليك الأعيان، والعارية
لا يملك بها العين، فإن وقف عليه فمن قال إنه ينتقل إلى الله لا إلى مالك لم يحنث
لأنه ما ملكه، ومن قال إنه ينتقل إلى الموقوف عليه حنث، والثاني أقوى.
فإن أوصى له بشئ وقبله لم يحنث لأنه سبب تمليك وليس بتمليك.
إذا حلف لا ركبت دابة العبد، وللعبد دابة جعلها سيده في رسمه يركبها لم
يحنث، وقال بعضهم يحنث لأنها تضاف إليه، والأول أقوى لأنه الحقيقة والثاني
مجاز، فأما إن ملكه سيده الدابة، فمن قال إنه لا يملك لا يحنث، ومن قال يملك
حنث لأنها ملك العبد والأقوى الأول.
فأما إن حلف لا ركبت دابة السيد فركب دابة المكاتب لم يحنث، لأن الدابة
منقطعة عن السيد لا حق للسيد فيها، والمكاتب هو المتصرف فيها فلا يحنث، بلى إن

(1) ص: 44.
244

حلف لا ركب دابة المكاتب فركب له دابة، قال قوم يحنث وقال آخرون لا يحنث، و
الأول أقوى، لأنها في حكم ملكه، بدليل أنه هو المتصرف فيها دون سيده، والسيد
لا يملك بيعها ولا هبتها ولا التصرف فيها.
إذا حلف لا ضربت عبد زيد فوهبه زيدا، أو جنى العبد جناية تعلق أرشها برقبته
فضربه حنث، لأن العبد ملكه، وإنما تعلق برقبته حق الغير، وهذا لا يخرجه من
أن يكون ملكه.
245

[كتاب النذر (1)]
النذر ضربان نذر تبرر وطاعة، ونذر لجاج وغضب، فالتبرر أن يعلقه بإسداء
نعمة أو دفع بلية ونقمة، فإسداء النعمة أن يقول إن رزقني الله ولدا أو عبدا
فمالي صدقة، وإن رزقني الحج فعلي شهر، ودفع النقمة قوله إن شفى الله
مريضي أو خلصني من هذا الكرب، أو دفع عني هذا الظالم فعلي صدقة مالي
أو صوم شهر. فإذا وجد شرط نذره لزمه الوفاء به بلا خلاف، لقوله عليه السلام من نذر أن
يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه، غير أنا نراعي أن نقول ذلك بلفظ
" لله على كذا " لأن عدا ذلك لا ينعقد به نذر، ولا بحلفه كفارة.
وأما نذر اللجاج والغضب فالذي معناه معنى اليمين أن يمنع نفسه به من شئ

(1) كذا في بعض النسخ، مفصولا بين الكتابين، والعنوان مكتوب بالحمرة وذكر
في انتهاء الكتاب " تم كتاب النذر ويتلوه كتاب الصيد والذبائح " وفي سائر النسخ التي
عندنا، لا يوجد عنوان كتاب النذر، وذكرت في انتهاء الكتاب " هذا آخر كتاب الأيمان
من كتاب المبسوط ويتلوه في الجزء الرابع كتاب النذور إن شاء الله " كما في الطبعة الأولى،
ولكن كل النسخ خال من كتاب يعرف بكتاب النذور وتشرع بعده بكتاب الصيد والذبائح.
لكن الفروع المذكورة بعد ذلك قد جعلها مع تغيير ما في كتاب الخلاف تتمة لكتاب
الأيمان، ثم عنون كتاب النذر وبحث عن النذر الابتدائي الذي لا شرط فيه فقط وفيه عشرون
مسألة، مع أنه قدس سره قد خلط بين المبحثين: النذر الابتدائي، والنذر مع الشرط في
عنوان كتابه التهذيب، والظاهر أن عنوان كتاب النذر هذا هو الصحيح تبعا لكتب الأصحاب،
من دون فرق بين النذر الابتدائي والشرطي، والشيخ قدس سره جمع بين المسائل هنا كما
فعل في التهذيب.
والسر في اختلاط البابين أن الفروع المذكورة في كتاب الأيمان والنذور لا يتمان
على مذهبنا إلا إذا علقت باليمين أو النذر، فسواء قال: والله إن شفى الله مريضي أعتق رقبة،
أو قال لله علي أن أعتق رقبة أن شفى الله مريضي، ولذلك ترى بعض الأصحاب يعنون كتاب
الأيمان والنذور مجتمعا ولا يفرد لكل واحد بابا ولا كتابا.
246

أو يوجب عليها فعل شئ، فالمنع أن يقول إن دخلت الدار فمالي صدقة أو فعلي صوم
شعبان، والإيجاب أن يقول إن لم أدخل الدار وإن لم أكلم فلانا فمالي صدقة، أو
فعلي صوم سنة.
فإذا وجد شرط نذره فما الذي يلزمه؟ اختلف الناس فيها على ستة مذاهب
ذكرناها في الخلاف (1) فعندنا أنه متى قال ذلك بلفظ " لله على " فإنه يلزمه الوفاء به،
وإن خالفه لزمته كفارة النذر على ما نبينه، وقال بعضهم هو بالخيار بين الوفاء بنذره
وبين أن يكفر كفارة يمين، وقال بعضهم كفارة يمين لا غير.
فإذا تقرر ذلك لم يخل ما تعلقه به من ثلاثة أحوال إما أن يعلقه بصدقة مال،
أو عبادة غير الحج أو بالعتق والطلاق، أو بالحج، فإن علقه بصدقة مال كقوله لله
على أن أتصدق بمالي، أو بعبادة غير الحج كقوله فعلي ألف ركعة أو صوم شهر فهو
بالخيار عندهم بين الوفاء وبين كفارة يمين، وعندنا يلزمه الوفاء به، فإن خالفه لزمته
كفارة النذر على ما سنبينه، وإن علقه بالطلاق والعتق فعندنا لا يقعان، وإن حصل
الشرط وعندهم يقع.
وإن علقه بالحج فقال لله على حجة، عندنا يلزمه الوفاء به، فإن عينه في سنة
بعينها وخالف وجب عليه كفارة النذر، وانحل النذر، وإن أطلقه لا ينحل ووجب
عليه الوفاء به.
وعندهم مثل سائر العبادات يكون مخيرا بين الوفاء وكفارة اليمين، وقال
بعضهم يلزمه الوفاء به ولا يجزيه الكفارة، لأن الحج يجب بالدخول فيه، فلزم الوفاء
به، إذا علقه بالنذر، وليس كذلك سائر العبادات عند هذا القائل.
* * *
إذا حلف لا أستخدم عبدا فخدمه عبد من قبل نفسه لم يحنث، سواء كان عبد
نفسه أو عبد غيره، وقال بعضهم إن كان عبد نفسه يحنث والأول أقوى عندي.
إن حلف لا يأكل فاكهة، فالفاكهة العنب والرطب والرمان والتين ونحوها

(1) راجع المسألة 93 من كتاب الأيمان.
247

وقال بعضهم العنب والرطب والرمان ليس بفاكهة، والأول أقوى عندي، وإنما
أفرده الله تعالى ذكره تعظيما له، فإن حلف لا يأكل فاكهة فأكل القثاء والخيار لم يحنث
لأنها من الخضر، فإن أكل بطيخا حنث لأن له نضجا كنضج الرطب يحلو إذا نضج
ويؤكل كالعنب والرطب، فلهذا كانت من الفاكهة.
فإن حلف لا يشم الريحان انطلق على هذا بالفارسي الذي هو الشاشبرم (1) دون
المرزنجوش ونحو ذلك من الورد والياسمين، لأن الاسم لا يتناول هذه، فإن حلف
لا يشم الورد فشم نفس الورد حنث، وإن شم دهن الورد لم يحنث، فإن حلف لا يشم.
البنفسج فإن شم ورده حنث، وإن شم دهنه لا يحنث، وقال بعضهم يحنث لأنه يقال
لدهنه بنفسج، والأول أقوى لأنه الحقيقة وما قالوه مجاز.
فإن حلف لا ضرب زوجته، فعضها أو خنقها أو نتف شعرها لم يحنث، وقال بعضهم
يحنث بكل ذلك، لأنه ضرب وزيادة، والأول أصح.
إذا قال من بشرني بقدوم زيد فهو حر، وعلى مذهبنا قال فلله على أن أعتقه
فإن بشره واحد أو جماعة دفعة واحدة وجب عليه أن يعتقهم، وعندهم يعتقون، لأن
البشارة عبارة عن أول خبر يبشر به، فإن بشره بعد الأول غيره لم يلزمه ذلك، لأن
البشارة قد وقعت فلا تقع به مرة أخرى.
فإن قال من أخبرني بقدوم زيد فهو حر فإن أخبره واحد أو جماعة عتقوا، وإن
أخبره بعدهم آخر عتق أيضا، وعندنا إن كان ذلك بلفظ النذر وجب عليه الوفاء به
لأن الأول والثاني والثالث خبر كله، وليس كذلك البشارة لأنها عبارة عن أول
خبر يبلغه، فإن قال أول من يدخل الدار من عبيدي أحرار، فدخل اثنان معا ودخل
ثالث لم يعتق الاثنان، لأنه لا أول منهما، ولا الثالث لأنه ليس بأول.
فإن قال أول من يدخلها من عبيدي وحده فهو حر، فدخلها اثنان معا وثالث
بعدهما عتق الثالث وحده، لأنه أول داخل وحده، وقد روي في أحاديثنا أن الاثنين
يعتقان لأنهم رووا أنه إذا قال القايل أول ما تلده الجارية فهو حر فولدت توأما اثنين

(1) معرب شاه اسپرغم نوع من الريحان.
248

أنهما يعتقان وإن كنا نراعي في جميع ذلك لفظ النذر.
فإن قال أول من يدخلها حر فدخلها واحد، وما دخل بعده غيره فإنه يعتق لأنه
ما دخل قبله غيره، فهو الأول، وقال بعضهم لا يعتق لأنه لا أول إذا لم يدخل بعده
غيره، والأول أصح.
فإن قال: آخر من يدخل الدار حر عتق آخر من دخلها قبل وفاته لأنه لا يعلم
الآخر قبل وفاته إلا بموته لأن إطلاق الصفة يقتضي وجودها حال الحياة، فكأنه قال
آخر من دخلها في حياتي حر اقتضى هذا كذلك [إذا أطلق].
فإن حلف لا يأكل أدما فإن أكل الخبز بالملح حنث لأنه هو الأدم، فإن أكل
لحما مشويا أو مطبوخا أو أكل الجبن حنث وقال بعضهم لا يحنث، وقال بعضهم الأدم
ما يصطبغ به، والأول أقوى عندي.
إذا حلف لا دخل بيتا فإن دخل الكعبة أو المسجد أو البيعة أو الكنيسة لم يحنث
عند قوم، لأن البيت إذا أطلق يتناول ما بني للإيواء والسكنى، وكل هذا بني
للعبادة والصلاة، وعلى هذا إذا دخل الحمام لم يحنث لأنه يبنى للاغتسال والتنظيف
فإن دخل دهليز دار لم يحنث، لأنه بني للدخول منه إلى الدار والاستطراق، لا
للإيواء والسكنى فلم يحنث.
فإن دخل بيتا في جوف الدار حنث لأنه بني للإيواء والسكنى، فإن دخل صفة
في الدار لم يحنث، وقال بعضهم يحنث، والأول أقوى لأن الصفة لا تسمى بيتا.
إذا حلف لا صلى لا يحنث عندنا، وإن صلى، وعندهم لا يحنث حتى يكبر
ويقرأ ويركع، وقال بعضهم حتى يسجد، وقال قوم إذا أحرم بها حنث قرأ أو لم يقرء
ركع أو لم يركع، لأنه يقال لمن أحرم بالصلاة هو مصل، وقوله صليت غير قوله
أصلي، لأن أصلي عبارة عن كل الصلاة، وصليت عبارة عن التلبس بها، فهو كالأكل
لأنه إذا قال لا أكلت حنث بأول لقمة.
إن قال لعبده إن لم أحج العام فأنت حر، وعلى مذهبنا قال لله على أن أعتقك
فمضى وقت الحج ثم اختلفا فقال السيد قد حججت العام، وقال العبد ما حججت فأقام
249

العبد البينة أن مولاه نحر يوم الأضحى بالكوفة، قال بعضهم عتق العبد وقال بعضهم
لا يعتق، والأول أصح عندنا، لأنه إذا ثبت أنه كان يوم النحر بالكوفة بطل أن يكون
يوم عرفة بمكة.
إن حلف لا يتكلم فقرأ لم يحنث، سواء كان في الصلاة أو غيرها، وقال بعضهم
إن قرأ في الصلاة لم يحنث، وإن قرء في غيرها حنث، والأول أقوى، لأنه لو كان
كلاما خارج الصلاة لكان كلاما داخل الصلاة.
فإن حلف لا كلمت عبد زيد، فإن كلمه وهو لزيد حنث وإن كلمه بعد زوال ملكه
عنه لم يحنث وكذلك زوجة زيد كعبد زيد إن كلمها وهي زوجته حنث وإن كلمها
بعد طلاقها لم يحنث، لأنه ما كلم عبد زيد ولا زوجته.
فإن كانت بحالها فحلف لا كلمت زوجة زيد هذه، فطلقها ثم كلمها حنث، وكذلك
إذا كلم عبد زيد بعد أن باعه حنث وقال بعضهم في الزوجة مثل الأول، وخالف في
العبد والأول أقوى، ولو قلنا في الموضعين لا يحنث كان قويا.
إذا حلف لا وهبت عبدي هذا، أو قال له إن وهبتك فأنت حر وجعله نذرا عندنا
فإن وهبه من رجل حنث بوجود الإيجاب، قبل الموهوب له، أو لم يقبل عند قوم، و
قال آخرون - وهو الأقوى - إنه لا يحنث حتى يحصل القبول، لأن الهبة عبارة عن
الإيجاب والقبول معا كالبيع بدليل أنه لو حلف لا بعت لم يحنث بالإيجاب فالهبة مثله
والأول أيضا قوي.
إذا قال إن شفى الله مريضي فلله على أن أمشي إلى بيت الله الحرام، انعقد نذره
فإذا وجد شرطه لزمه أن يمشي إليه حاجا أو معتمرا لأن المشي إليه شرعا لا يكون
إلا لأحد هذين، فانعقد نذره بما هو من موجب الشرع، فأما إن قال إن شفى الله مريضي
فلله على أن أمضي إلى بيت الله الحرام، فهو كقوله أن أمشي، وقال بعضهم لا ينعقد
نذره، ولا يلزمه شئ، ومتى خرج راكبا وقد نذر المشي مع القدرة لزمه دم لأنه
ترك المشي، وروى أصحابنا أنه يعيد الحج ويمشي ما ركب. ورووا مثل الأول وإن
قال أذهب أو أمضي، فعلى أي وجه ذهب ماشيا أو راكبا جاز.
250

إذا قال كل جارية تسريت بها فهي حرة، نظرت، فإن لم يكن له جارية لم
يتعلق به حكم، فإن ملك جارية بعد هذا فتسري بها لم يحنث بلا خلاف بيننا وبين
جماعة، لأنه عقد اليمين قبل وجود الملك، وإن كانت له جارية فتسري بها حنث،
لأن العقد والصفة وجدا معا في ملكه كالطلاق.
فإذا ثبت أنه يحنث فالكلام في التسري ما هو؟ قال قوم التسري الوطي أو التخدير
أنزل أو لم ينزل، لأن الجارية ضربان سرية وخادمة، فإذا خدرها ووطئ فقد تسرى
وترك الاستخدام، وقال آخرون التسري مجرد الوطي أنزل أو لم ينزل، حصنها و
خدرها أو لم يحصنها، لأن السيد إذا جامع فقد تسرى، وقال آخرون إذا جامع
وأنزل فقد تسرى سواء حصنها أو لم يحصنها، وهذا هو الأقوى، وبعده الأول.
واختلف في اشتقاق التسري، منهم من قال من السرور ومنهم من قال من السر
والسر الجماع، ومنهم من قال من السرا وهو الظهر، فكأنها مركوبة على ظهرها.
إذا كان له عبدان فقال إذا جاء غد فأحدكما حر، فإن جاء غد وهما في ملكه
[لم يعتق، وقيل: (1)] عتق أحدهما لا بعينه، كقوله أحدكما حر، وقيل له عين
المعتق منهما، فإذا عينه عتق ورق الآخر، وكذلك الطلاق، وكذلك إن باع أحدهما
اليوم وجاء غدو الآخر وحده في ملكه لم يعتق، وقال بعضهم يعتق.
وإذا قال لعبده وعبد غيره: أحدكما حر لم يعتق عبده بلا خلاف، وعلى هذا
لو قال لزوجته وزوجة غيره إحداكما طالق لم يطلق زوجته.
فإن كانت بحالها فباع أحدهما اليوم ثم اشتراه ثم جاء غدوهما في ملكه، فمن
قال يعود حكم اليمين قال كالمسألة الأولى، ومن قال لا يعود حكمها قال هو كالثانية
فإن كانت بحالها فباع نصف عبد فجاء غد وعنده عبد ونصف، كان له فرض العتق في
أيهما شاء منهما.
فإن فرض العتق في الكامل عتق واستقر الرق في النصف، وإن عين العتق في
النصف عتق، واستقر الرق في الكامل فإذا عتق النصف نظرت، فإن كان موسرا قوم عليه

(1) هذا هو الظاهر الموافق لنسخة الخلاف وهي المسألة الأخيرة من كتاب الأيمان.
251

نصيب شريكه وإن كان معسرا استقر الرق في النصف.
فإن قال إذا جاء غد وأحدكما في ملكي فهو حر فباع أحدهما أو مات، ثم جاء
غد، عتق الباقي منهما، لأن أحدهما في ملكه، ولو جاء غد ونصف أحدهما في ملكه
لم يعتق النصف، لأن نصف أحدهما في ملكه، فلم توجد الصفة كما لو قال إذا جاء غد
وأنت في ملكي فأنت حر فجاء غد ونصفه في ملكه لم يعتق، لأن الصفة لم توجد
بوجود بعضه.
إذا قال: يا طالق أنت طالق ثلاثا إن شاء الله وقع الطلاق بقوله يا طالق عندنا
إذا نوى ذلك، وعندهم بلا نية، وعاد الاستثناء إلى قوله أنت طالق ثلاثا، وهكذا
لو قال أنت طالق ثلاثا يا طالق إن شاء الله طلقت واحدة عندنا، وعندهم عاد الاستثناء
إلى قوله أنت طالق ثلاثا، وقال بعضهم إن قدم قوله يا طالق فكما مضى، وإن أخر
قوله يا طالق عاد الاستثناء إليهما.
والأول أقوى، لأن قوله يا طالق اسم، وأنت طالق إيقاع فوجب أن يعود
الاستثناء إلى الإيقاع لا إلى الأسماء كما لو قدم الاسم فقال يا طالق أنت طالق ثلاثا
إن شاء الله.
إذا قال لزوجته إن دخلت الدار أنت طالق ظاهره الشرط والجزاء، وهو تعليق
طلاقها بصفة، فيكون معناه إن دخلت الدار فأنت طالق، فإن قال نويت إيقاع الطلاق
في الحال، وألغيت قولي إن دخلت الدار، كان على ما نواه، وقال بعضهم بل ظاهره
إيقاع في الحال، فإن نوى به تعليق طلاقها بصفة بمعنى إن دخلت الدار، فأنت طالق
قبل منه.
قال الأول: وهذا غلط لأن قوله إن دخلت الدار وحده شرط يقتضي الجزاء و
إذا قال أنت طالق كان في الظاهر جوابا لأنك إذا جعلت أنت طالق جوابا وجزاء لم
يلغ قوله إن دخلت الدار، وإن جعلت إيقاعا في الحال ألغيت قوله إن دخلت الدار.
والذي يقتضيه مذهبنا أن يرجع إليه فإن قال نويت الإيقاع في الحال قبل منه
وإن قال أردت تعليق الطلاق بشرط كان باطلا لا حكم له.
252

وإذا قال إن دخلت الدار وأنت طالق، فإنه يحتمل ثلاثة معاني أحدها أنهما
شرطان يقتضيان جوابا فكأنه أراد إن دخلت وأنت طالق فعبدي حر كقوله إن دخلت
الدار وأنت طاهر أو وأنت حايض يقتضيان جوابا كذلك ها هنا.
الثاني معناه فأنت طالق لكنه أقام الواو مقام الفاء، فإن حروف العطف يخلف
بعضها بعضا، ويحتمل إيقاعا في الحال ويلغى إن دخلت الدار، وقال بعضهم ظاهره
إيقاع كله في الحال، والذي نقوله مثل ما بيناه في المسألة الأولى سواء.
ومن قال بالأول قال رجع إليه:
فإن قال أردت الاحتمال الأول أن والثاني فالقول قوله مع يمينه، لأنه يحتمل
غيره، وإن قال أردت الثالث قبل بغير يمين، لأنه قد أوقع طلاقا في الحال.
هذا إذا أقر فإن امتنع من التفسير، قيل لها ما الذي أراد؟ فإن قالت الاحتمال
الأول قلنا فلا فائدة لك، لأنه علق طلاق غيرك بصفة هي دخولك الدار وأنت طالق
فالخطاب مع غيرك لا معك، وإن ادعت الاحتمال الثاني أو الثالث، فالقول قوله مع
يمينه، لأنه يحتمل غيرهما، فإن حلف برئ، وإن لم يحلف رددنا اليمين عليها
فتحلف ويحكم لها بما حلفت عليه.
ومتى قال وإن دخلت الدار فأنت طالق احتمل أمرين أحدهما عطفا على كلام
ماض، فكأنها خالفته في حال وقالت لا تطلقني فأني أدخل الدار، فقال وإن دخلت
الدار فأنت طالق، فيكون تعليق طلاقها بصفة، ويحتمل إيقاعا في الحال، وقال بعضهم
إيقاع في الحال على كل حال بغير يمين، فمن قال محتمل فلا يحمل على أحدهما بغير قرينة.
فإذا ثبت هذا فإن قال أردت الاحتمال الأول، فالقول قوله مع يمينه وإن قال
أردت الثاني فالقول قوله بغير يمين، والذي نقوله أن يقبل قوله على كل حال بغير يمين
فإن قال أردت الإيقاع في الحال قبلنا منه، وإن قال أردت تعليقه بصفة قبلنا قوله ولا
حكم له.
إذا قال أنت طالق وإن دخلت الدار، فهذا إيقاع في الحال لا يحتمل سواه يوجب
حمله عليه، لأنه أوقع الطلاق دخلت الدار أو لم تدخل، فلا يتعلق بذكر الدار حكم
253

فإن قال أردت الشرط والجزاء قبل منه فيما بينه وبين الله، ولم يقبل في الحكم عند
المخالف.
وعندنا أن القول قوله مثل المسائل الأول ولا يمين عليه إلا أن تكون التطليقة
ثالثة، فيجب عليه حينئذ اليمين أنه ما أراد الإيقاع في الحال.
وإنما قلنا ذلك لأنه لو قال أردت الشرط لكان لا حكم له فتبقى على الزوجية
وظاهره الإيقاع، ولا يمكننا أن نقول ما نقوله في الثانية والأولة لأنه إذا أنكر
الإيقاع كان عندنا رجعة قبلنا قوله فيه بغير يمين، وقد بطلت ههنا الرجعة.
* * *
قد مضى الكلام في مسائل الأيمان ونذكر ها هنا تفصيلا يشتمل على بيان ما
مضى منها.
وجملته إذا علق يمينه باسم لم يخل من أحد أمرين إما أن يكون باسم خاص أو
عام فإن كان خاصا نظرت، فإن كان حقيقة فيه لا مجاز له في غيره تعلق بالحقيقة ولم
يتعلق بغيرها، وإن قصد الغير ونواه وأراده كقوله لا شربت لك ماء من عطش، هذا
حقيقة غير مجاز في الشراب ومجاز في الطعام، وفي الناس من قال حقيقة فيها والأول
أوضح.
فأما إن علقها بالعموم حملت على العموم إلا أن يدخلها التخصيص، ويكون ذلك
بأحد ثلاثة أشياء نية أو عرف قائم في الاسم أو عرف الشرع.
فالنية إذا علقها بعموم الأعيان كقوله لا كلمت أحدا تعلق بكل أحد فإن قال
نويت إلا زيدا كان على ما نوى أو يعلقها بعموم الزمان فحلف لا كلمت زيدا أبدا اقتضى
أبد الدهر.
فإن قال نويت شهرا أو نويت ما لم يدخل الدار صح، لأن دخول التخصيص
في مثل هذا صحيح، وفي هذا المعنى إذا علقها باسم خاص لشئ حقيقة فيه، وقد استعمل
في غيره مجازا كقوله لا دخلت دار زيد، ومجازه دار يسكنها زيد بأجرة، فإذا نوى
المجاز قبل منه كما يعدل بالحقيقة إلى المجاز بدليل.
254

فإذا ثبت أنها يخص بالنية نظرت، فإن كان يمينا بالله قبلنا منه في الحكم و
فيما بينه وبين الله، لأنه أعرف بما نواه، وإن كانت بالعتق أو بالطلاق لم ينعقد عندنا
أصلا وعندهم يقبل فيما بينه وبين الله دون الحكم، لأنه يدعي خلاف الظاهر.
وأما التخصيص بالعرف القائم في الاسم كقوله لا أكلت البيض، حقيقة هذا كل
بيض سواء زايل بائضه وهو حي، كبيض الدجاج والنعام والإوز والعصافير، أو
لا يزايل بائضه وهو حي، كبيض السمك والجراد، والبيض الموجود في جوفه يطبخ
ويشوى معها، غير أنا نحمله على ما يزايل بايضه حيا بالعرف القائم في الاسم، ألا
تراه إذا قال أكلت البيض لم يفهم منه بيض السمك والجراد، وكذلك إذا حلف لا أكلت
الرؤس فهذا حقيقته كل رأس وحملناه على النعم بالعرف القائم في الاسم.
وأما ما يخص بعرف الشرع فكلما كان له اسم في اللغة ونقل في الشرع إلى
غير ما وضع له في اللغة، حمل إطلاقه على الشرعي كالصيام هو في اللغة عام في الإمساك
عن كل شئ وهو في الشرع إمساك لشئ مخصوص، فحملنا المطلق على الشرعي وفي
هذا المعنى الصلاة في اللغة دعاء وفي الشرع لهذه الأفعال فانطلقت على الشرعية، و
كذلك الحج القصد وفي الشرع لهذه الأفعال، فحملنا المطلق على عرف الشرع.
وإذا حلف لا كلمت الناس، [فهو] ظ عام في كل أحد، فإن كلم واحدا حنث لأنه
بالجنس.
255

* (كتاب) *
* (الصيد والذباح) *
قال الله تعالى " أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم
عليكم صيد البر ما دمتم حرما " (1) فأباح صيد البحر مطلقا لكل واحد وأباح صيد البر
إلا في حال الإحرام، وقال تعالى " أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي
الصيد وأنتم حرم " (2) وقال تعالى " وإذا حللتم فاصطادوا " (3) وقال " يسألونك ماذا أحل
لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين " إلى قوله " فكلوا مما أمسكن
عليكم (4) ".
وهذه أبين آية في كتاب الله تعالى في الاصطياد وأكل الصيد، لأنها أفادت جواز
تعليم الجوارح للاصطياد، وأكل ما يصيد ويقتل، إذا كان معلما، لأنه لو لم يقتل
لما جاز أكله حتى يذكى معلما كان أو غير معلم.
وروي أن النبي صلى الله عليه وآله قال من اقتنى كلبا إلا كلب ماشية أو صيد أو زرع انتقص
من أجره كل يوم قيراط، فلما حرم اقتناء الكلب إلا ما كان للصيد، دل على جواز
الصيد وأيضا عليه إجماع الأمة.
فأما ما يجوز الاصطياد به فلا يجوز الاصطياد بشئ من الجوارح إلا الكلب
المعلم فقط دون ما عداه، سواء كان من جوارح السباع أو جوارح الطير، وقال المخالف
كل ما أمكن تعليمه للصيد جاز أن يصطاد به إذا تعلم، سواء كان من جوارح الطير
كالصقر والبازي والباشق والعقاب أو من سباع البهائم كالكلب والفهد والنمر، وقال
بعض من تقدم مثل ما قلناه.

(1) المائدة: 96.
(2) المائدة: 1.
(3) المائدة: 2.
(4) المائدة: 4.
256

وإذا أرسل شيئا منها على صيد لم يخل من أحد أمرين إما أن يكون معلما أو
غير معلم، فإن كان معلما نظرت، فإن لم يقتل وأدركه وفيه حياة مستقرة لم يحل
حتى يذكيه، وإن قتله حل أكله عندهم على كل حال، وعندنا إذا قتله الكلب المعلم
فقط، فأما إذا كان غيره قتله فلا يحل بحال.
وإن كان غير معلم فإن أدركه وفيه حياة مستقرة لم يحل حتى يذكيه، فإن
وجده وقد قتله لم يحل أكله بلا خلاف.
وأما إذا استرسل بنفسه، فإن وجده وفيه حياة مستقرة لم يحل حتى يذكيه
معلما كان أو غير معلم، وإن قتله فلا يحل أيضا، فكأنه إنما يحل في موضع واحد، و
هو إذا أرسله فقتله وهو معلم لدليل الآية وروى أبو ثعلبة الخشني قال قلت يا رسول الله
إني أصيد بكلبي المعلم، وبكلبي الذي ليس بمعلم، فقال صلى الله عليه وآله: ما أخذت بكلبك
المعلم فأذكر اسم الله تعالى عليه وكله، وما أخذت بكلبك الذي ليس بمعلم فأدركت
ذكاته فكله.
والكلب إنما يكون معلما بثلاث شرايط أحدها إذا أرسله استرسل وإذا زجره
انزجر، وإذا أمسك لم يأكل، ويتكرر هذا منه مرة بعد أخرى حتى يقال في العادة
إنه معلم، وقال بعضهم إذا فعل ذلك مرتين فقد صار معلما والأول أحوط.
إذا أرسل كلبا غير معلم فأخذ وقتل ولم يأخذ منه شيئا فهو مباح، وعند المخالف
حكم سائر الجوارح مثل ذلك، وإن أكل منه الكلب، فإن كان شاذا نادرا جاز أكله
وإن كان معتادا للأكل لم يجز عندنا، وعندهم متى كان سبعا من البهائم فأخذ وقتل
وأكل واتصل أكله بالقتل قال بعضهم لم يحل، وقال آخرون يحل، ولم يفصلوا،
وما قتل قبل هذا ولم يأكل منه شيئا فهو مباح عندنا وعند جماعة وفيه خلاف.
وحكم جوارح الطير حكم سباع البهائم سواء عند بعضهم لا يجوز وقال آخرون
يجوز أكل ما أكل منه بكل حال، وعندنا لا يجوز أكل ما قتله بحال، وإن لم يأكله.
فمن فصل بين سباع الطير والبهائم قال لأن البهائم تعلم على ترك الأكل والطير
يعلم على الأكل فلهذا جاز أكل ما أكل منه، وهذا لا يحتاج إليه أصلا على ما بيناه.
257

وقال بعضهم لو اصطادت سباع البهائم ثلاثين سنة كان مباحا فإذا أكلت بعد هذا
مرة واحدة حرم أكل ما اصطاده طول عمره وعندنا لا يحرم ذلك ما لم يأكل منه.
فإذا تقرر أنه لا يحرم ذلك ما لم يأكل منه، فإن جرحه وشرب دمه لم يحرم
أكله بلا خلاف إلا بعض من تقدم، فإنه قال لا تحل.
التسمية عند إرسال السهم بذكر الله وعند إرسال السلاح والجارح واجب عندنا
وعند بعضهم، وقال قوم هو مستحب غير واجب.
إذا أرسل المسلم آلته على صيد وأرسل المجوسي آلته أيضا على ذلك الصيد مثل
أن أرسلا كلبين أو سهمين أو أحدهما كلبا والآخر سهما فأصاباه وقتلاه حرم أكله بلا
خلاف، ولا فصل بين أن يقع السهمان دفعة واحدة أو واحد بعد واحد إذا كان القتل
منهما.
فأما إن صيره الأول في حكم المذبوح، ثم رماه الآخر مثل أن قطع الأول
الحلقوم والمرئ والودجين ثم رماه الآخر فالأول ذابح، والآخر جارح، فيكون
الحكم للأول، فإن كان الأول مجوسيا والثاني مسلما لم يحل أكله وإن كان الأول
مسلما والثاني مجوسيا حل أكله لأن الحكم للأول.
فأما إن أرسلا معا فوجدا الصيد قتيلا ولم يعلم أي الكلبين قتله حرم أكله فإن
أرسلا معا كلبا واحدا فقتل حرم أكله.
وإن كان مع مسلم كلبان فأرسلهما وأحدهما معلم والآخر غير معلم، لم يحل
أكله.
وإن كان معه كلبان أرسل أحدهما ولم يرسل الآخر واسترسل الآخر بنفسه
حرم أكل ما قتلاه.
فإن أرسل مسلم كلبه ومجوسي كلبه، فأدركه كلب المجوسي فرده إلى كلب المسلم
فقتله كلب المسلم وحده حل أكله وقال بعضهم لا يحل والأول أصح عندنا.
فإن غصب رجل آلة فاصطاد بها كالسهم أو الكلب كان الصيد للصياد دون صاحب
الآلة، وعلى الغاصب أجرة المثل في تلك الآلة إن كان غير الكلب في المدة التي بقيت
258

عنده فإن كانت كلبا فلا أجرة له عند بعضهم، لأن منفعة الكلب مباحة غير مملوكة،
يقوى في نفسي أنه يلزمه ذلك لأن كلب الصيد مملوك عندنا.
فإن اصطاد بالكلب صيدا فعضه الكلب وجرح موضعا منه، كان موضع العضة
نجسا وقال قوم لا يجب غسله لقوله تعالى " فكلوا مما أمسكن عليكم " ولم يأمر بالغسل
وقال قوم يجب غسله لأنه نجسه والأول أقوى والثاني أحوط.
إذا أرسل إليه من سلاح أو جارحة أو كلب على صيد فغاب الصيد والكلب معا
[ففيه أربع مسائل: إحداها أن يغيب الصيد والكلب معا] ظ قبل أن يعقره الكلب
فوجده قتيلا وليس الكلب عليه لم يحل أكله، لأنه لا يدري كيف هلك.
الثانية غاب الصيد والكلب معا قبل أن يعقره فوجده ميتا والكلب عليه فلا يحل
أكله أيضا لما مضى غير أن هذا أظهر، والحكم فيهما سواء.
الثالثة عقره قبل أن يغيب عنه عقرا صيره في حكم المذبوح مثل أن قطع حلقومه
ومريه أو أبان حشوته أو شق قلبه، ثم تحامل على نفسه فغاب فوجده ميتا حل أكله
لأنه غاب بعد أن حصل مذكى.
الرابعة عقره الكلب قبل أن يغيب عنه عقرا لم يصيره في حكم المذبوح ثم غاب
عنه فوجده ميتا قال بعضهم يحل أكله، وقال آخرون لا يحل، وهو الأقوى عندنا.
إذا أرسل إليه كلبا أو سلاحا فعقره الصيد ثم أدركه وفيه حياة مستقرة ففيه
ثلاث مسائل: إحداها أن يكون العقر قد صيره في حكم المذبوح مثل أن أبان حشوته
أو قطع الحلقوم والمري أو أصابه في مقتل كالقلب وكانت الحياة غير مستقرة والحركة حركة
المذبوح حل أكله: ذبحه بعد هذا أو لم يذبحه لأن هذا العقر ذكاته، وإن أمر السكين
على حلقه فذبحه كان أحوط، وإن لم يفعل أجزأه هذا العقر.
وهكذا لو ذبح دجاجة فجعلت تعدو فإنه إذا ترك ذبحها بعد هذا لم يضره وحل
أكلها لأنها حياة غير مستقرة وهكذا لو شق ذئب بطن شاة فأبان حشوتها فأدركها
صاحبها لم يحل أكلها ذبحها أو لم يذبحها، لأنه أدركها مقتولة، لأن الحياة فيها
غير مستقرة، فلم يؤثر فيها الذبح، وهكذا لو جرح رجلا فأبان حشوته ثم جاء آخر
259

فقتله وفيه حياة فالأول قاتل والثاني لا شئ عليه، لأن حركته حركة المذبوح.
الثانية كان العقر عقرا لم يصيره في حكم المذبوح، بل وجده وفيه حياة مستقرة
يعيش اليوم ونصف اليوم وكان الزمان متسعا لذكاته لم يحل سواء ترك الذكاة عامدا
أو لعدم الآلة التي يذبح بها.
الثالثة أدركه وفيه حياة مستقرة لكنه في زمان لم يتسع لذبحه، فإنه يحل
أكله، وهكذا لو أدركه ممتنعا فجعل يعدو خلفه فوقف له، وقد بقي من حياته زمان
لا يتسع لذبحه حل أكله وإن لم يذبحه وقال بعضهم لا يحل أكله، والأول أقوى.
وقال أصحابنا إن أقل ما يلحق معه الذكاة أن يجده تطرف عينه أو تركض رجله
أو يحرك ذنبه، فإنه إذا وجده كذلك ولم يذكه لم يحل أكله، وهذا ينبغي أن يكون
محمولا على أنه إذا كان الزمان يتسع لتذكيته.
إذا أرسل كلبه على صيد بعينه فقتل غيره جاز أكله إذا سمى عند إرساله، وقال
بعضهم لا يحل أكله، والأول أقوى عندنا.
وإما إن أرسل كلبه على صيود كبار فتفرقت عن صغار فقتل الكلب الصغار حل
أكله بلا خلاف.
فأما إن عدلت آلته عن سمتها فقتلت نظرت، فإن كانت الآلة سلاحا حربة أو
نشابة حل أكله، وإن كانت آلته كلبا قال بعضهم لا يحل، وقال آخرون يحل أكله
وهو الأقوى عندنا، لأن قصد الكلب أن يصطاد ما هو أهون عليه وأقرب.
إذا أرسل آلته وهو لا يرى شيئا فأصابت صيدا فقتله نظرت، فإن كانت آلته كلبا
أو فهدا أو صقرا لم يحل أكله، لأنه أرسله لا على صيد، فإذا قتل صيدا فقد قتل بغير
إرسال على صيد، كما لو استرسل بنفسه.
وإن كانت الآلة سلاحا: حربة أو سهما فأصاب صيدا فقتله مثل أن كان يرمي
في الغرض فأصاب في طريقه صيدا أو أرسله إلى فوق فوقع على صيد قال بعضهم يحل
أكله وقال آخرون لا يحل، وهو الأقوى عندنا لأنه ما قصد شيئا بعينه، كما لو نصب سكينا
260

فانذبحت بها شاة لم يحل أكلها وعلى مذهبنا خاصة التسمية مراعاة وذلك لا يصح
مع ارتفاع القصد.
إذا استرسل الكلب بنفسه من غير إرسال صاحبه وقتله لم يحل أكله بلا خلاف
إلا الأصم فإنه قال: يحل أكله.
إذا استرسل بنفسه فصاح به صاحبه فوقف ثم أرسل فاسترسل فأخذ وقتل حل
أكله بلا خلاف، لأنه لما وقف قطع قصده وفعله، وزال حكم الاسترسال.
وإذا استرسل بنفسه ثم رآه صاحبه قاصدا نحو الصيد فأضراه وأغراه فازداد
عدوه وحقق قصده، وصار عدوه أسرع من الأول، لم يحل أكله عندنا، وقال
بعضهم يحل.
إذا أرسل سهمه في ريح عاصفة في نحو الصيد فأطارت الريح السهم فوقع في الصيد
فقتله، ولولا الريح ما وصل إليه حل أكله لأن الإرسال الأول له حكم الإباحة فلا
تغير الريح حكمه لأنه لا يمكن الاحتراز منه، فأما إن وقع السهم على الأرض ثم
وثب فأصاب الصيد فقتله قال قوم يحل لأن الحكم للأول، والثاني لا يحل لأن
وقوعه على الأرض ووثوبه عنها بقوته والأول أصح عندنا.
إذا رمى صيدا [فعقره فيه خمس مسائل: إحداها عقره] ظ فقطعه بنصفين فيه
ثلاث مسائل إحداها إن قطعه باثنين نصفين حل أكل الكل بلا خلاف، وإن كان الذي
مع الرأس أكثر حل أكل الكل عند قوم، وقال بعضهم حل ما مع الرأس دون ما عداه
وهو مذهبنا. الثانية عقره ولم يبن منه شيئا فمات قبل أن يدركه حل أكله. الثالثة
أبان بعضه وكان الباقي على الامتناع فرماه ثانيا فقتله حل أكله دون ما بان منه بالأول.
الرابعة أبان بعضه فأدركه وفيه حياة مستقرة فذكاه أو تركه حتى مات لم يحل أكل
ما بان منه، الخامسة عقره فأثبته وقد أبان بعضه، ثم رماه فقتله لم يحل أكل شئ
منه لأن الذي مع الرأس غير ممتنع فلا يكون عقره ذكاته، والباين بذلك العقر لما لم
يحل به ما بقي مع الرأس فكذلك ما بقي.
إذا اصطاد مجوسي بكلب علمه مسلم لم يحل أكله لأنه إرسال مجوسي، والاعتبار
261

بالمرسل، وإن علمه مجوسي فاستعاره المسلم أو غصبه فاصطاد به حل أكله، وقال
بعضهم لا يحل وهو الأقوى عندي.
إذا كان المرسل كتابيا لم يحل أكله عندنا وعندهم يحل، وإن كان مجوسيا
أو وثنيا لم يحل بلا خلاف، وإن كان أحد أبويه مجوسيا والآخر كتابيا نظرت
فإن كان الأب مجوسيا لم يحل أكله وإن كان الأم مجوسية فعلى قولين، وقال
بعضهم يحل بكل حال، وعندنا لا يحل على كل حال، سواء كان الأب مجوسيا أو
الأم، لأنهما لو كانا كتابيين لم يحل.
الأحبولة شئ ينصب للصيد يتعلق به من حبل أو شبكة أو شرك ونحو هذا
فإذا وقع فيه فقتله لم يحل أكله سواء كان فيها سلاح فجرحه وقتله أو لم يكن فيها
سلاح بلا خلاف.
الحيوانات في باب الذكاة ضربان مقدور عليه، وغير مقدور عليه، فالمقدور عليه
مثل الإنسي كله الإبل والبقر والغنم، وكذلك الوحشي إذا تأنس كبقر الوحش وحمار
الوحش والظبي والغزلان، وكذلك ما كان من الصيود ممتنعا فوجدته نائما أو رميته فأثبته
فوجدته وفيه حياة مستقرة، كل هذا مقدور عليه وذكاته في الحلق واللبة، لما روي
عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: الذكاة في اللبة والحلق.
وأما غير المقدور عليه، فعلى ضربين: وحشي وإنسي، فإن كان وحشيا وهو
كل صيد ممتنع من بهيمة أو طائر فعقره في أي موضع عقرته ذكاته بلا خلاف لخبر
يحيى بن عدي.
الضرب الثاني من غير المقدور عليه وهو الإنسي إذا توحش كالإبل والبقر والغنم
إذا لم يقدر على شئ من هذا، وصار كالصيد الممتنع فعقره ذكاته كالصيد الممتنع، سواء
وهكذا ما تردى في بئر فلم يقدر على الحلق واللبة، فإن عقره ذكاته.
وجملته متى لم يقدر على ذكاته كان عقره ذكاته، وبهذا قال أكثر أهل العلم وفيه
خلاف شاذ.
262

* (فصل) *
* (فيما يجوز الذكاة به وما لا يجوز) *
كل محدد يتأتى الذبح به ينظر فيه، فإن كان من حديد أو صفر أو خشب أو
ليطة وهو القصب أو مروة وهي الحجارة الحادة حلت الذكاة بكل هذا إلا ما كان من
سن أو ظفر، فإنه لا يحل الذكاة بواحد منهما، فإن خالف وفعل به لم يحل أكلهما
سواء كان متصلا أو منفصلا، وقال بعضهم في السن والظفر المنفصلين إن خالف وفعل
حل أكله، وإن كان متصلا لم يحل، والأول مذهبنا غير أنه لا يجوز عندنا أن يعدل
عن الحديد إلى غيره مع القدرة عليه.
إذا توالى على الصيد رميان من اثنين أحدهما بعد الآخر لم يخل الأول من
ثلاثة أحوال إما أن لا يحطه عن الامتناع، أو يحطه عنه ويصيره في حكم المذبوح
أو يحطه عنه ولا يصيره في حكم المذبوح.
فإن لم يحط الأول عن الامتناع مثل أن جرحه وهو على الامتناع ثم رماه
الثاني فقتله ملكه وحل أكله، لأن العقر الأول ما غير له حكم ملك.
وإن رماه الأول فصيره في حكم المذبوح، مثل أن قطع الحلقوم والمرئ، أو
وقع السهم في ثغرة النحر أو أصابه في مقتل كالقلب والخاصرة فقد ملكه، وحل أكله فإذا
رماه الثاني فقد جنى على ملك غيره، ولم يغير له حكما، فيكون عليه ضمان ما نقص
إن كان العقر الثاني أفسد لحما أو شق جلدا كرجل ذبح شاة ثم جاء آخر فجرحها فلا
ضمان عليه، إلا أن يكون أفسد بالجرح.
فإن رماه الأول فأثبته ولم يصيره في حكم المذبوح بل بقيت فيه الحياة مستقرة
مثل أن كسر ساقه إن كان يمتنع برجله كالظبي أو جناحه إن كان يمتنع به كالحمام،
أو رجله وجناحه إن كان يمتنع بهما كالقبج والدراج، والحياة مستقرة فيه، فقد
ملكه لما روي أن النبي صلى الله عليه وآله مر بطير حاقف أي مثخن بالجرح فهم أصحابه به فقال
263

رسول الله صلى الله عليه وآله دعوه حتى يجيئ صاحبه، فأثبت له بالإثخان صاحبا ومنع أصحابه منه
ثبت أنه كان ملكه به.
فإذا ثبت ملك الأول فإذا رماه الثاني لم يخل من أحد أمرين إما أن يوجئه أو لا يوجئه فإن
وجأه نظرت، فإن كان أصابه في الحلق حل أكله، لأنه مقدور عليه وعليه ما نقص بالذبح
كرجل ذبح شاة الغير حل أكلها وعليه ما نقصت في الذبح وأما إن كان وجأه في غير
الحلق مثل أن رماه في قلبه أو في خاصرته حرم أكله لأنه مقدور عليه، فإذا وجأه في
غير الحلق حرم أكله، وعليه كمال قيمته وبه الجرح الأول، لأنه قد أتلفه على مالكه.
وأما إن لم يوجئه الثاني مثل أن رماه فعقره عقرا قد تسرى إلى نفسه، وصار
مجروحا جرحين، لم يخل الأول من أحد أمرين إما أن يقدر على ذكاته أو لا يقدر
فإن لم يقدر على ذكاته مثل أن أدركه وقد مات أو أدركه وقد بقي من حياته ما لا يتسع
الزمان لذبحه حرم أكله، لأنه مات من جرحين: حاظر وهو الثاني، ومبيح وهو
الأول، بدليل أن الأول لو انفرد وحده فمات قبل القدرة على ذكاته حل أكله، فإذا مات
منهما حرم أكله، كما لو رمى مجوسي ومسلم فأصاباه فمات حرم أكله، وعلى الثاني
كمال قيمته لأنه أتلفه على صاحبه بجنايته عليه.
وإما إن قدر الأول على ذكاته لم يخل من أحد أمرين إما أن يذكيه أو لا يذكيه
فإن ذكاه في الحلق واللبة حل أكله، لأنه مقدور على ذكاته وذكاته في الحلق، وقد
فعل، وعلى الثاني أرش الجرح فقط لأنه جرح ملك الغير كرجل جرح شاة غيره ثم
ذبحها مالكها حل أكلها، وكان على الجارح أرش الجرح، وإن تركه الأول ولم
يذكه حتى مات من الجرحين معا حرم أكله، لأنه مات من جرحين حاظرين.
فإذا ثبت أنه حرام فقال قوم يجب على الثاني كمال قيمته، لأن الأول ملكه
بإثباته، فصار ملكه، وإذا عقره الثاني فقد جنى على مقدور عليه لغيره، وليس فيه أكثر
من أن الأول ترك ذكاته، وهذا لا يقدح في ضمان الثاني، كما لو جرح الرجل شاة لغيره
فتركها صاحبها ولم يذبحها حتى ماتت حرم أكلها، وعلى الجارح كمال قيمتها.
وقال آخرون هذا غلط، لا يجب على الثاني كمال قيمته لأن عقر الأول كان
264

مبيحا والثاني حاضرا فلما ترك الأول ذكاته مع القدرة بان أن الأول كان حاظر فقد
مات من جرحين حاظرين، فلم يجب على أحدهما كمال القيمة كما لو جرح شاة نفسه
ثم جاء آخر فجرحها ثم ماتت لم يكن على الثاني كمال قيمتها، لأنها ماتت من
جرحين حاظرين.
فإذا ثبت هذا فمن قال بالأول فلا كلام، فإن على الثاني كمال القيمة وبه
جرح الأول، ومن قال بالثاني وهو الأقوى عندنا، قال ليس على الثاني كمال قيمته
وكم الذي يجب عليه؟ يحتاج أن يفرض مسألة فيه كان الجرحان معا مضمونين، ليعلم
ما يجب على كل واحد منهما، فإذا فرغنا منه عدنا إلى مسئلتنا فطرحنا عن الأول
الضمان، وبقينا على الثاني ما يجب عليه، فعبد الغير وشاته والصيد المملوك سواء
فنفرضها في صيد مملوك قيمته عشرة جنى الأول جناية أرشها درهم، وجنى
الثاني جناية أرشها درهم ثم سرى إلى نفسه ومات.
قال قوم فيه ستة أوجه: أحدها أن لا يدخل أرش كل واحد في دية النفس، و
على كل واحد منهما أرش جنايته ونصف قيمته بعد الجنايتين:
لأن الأول جنى عليه وحده جناية أرشها درهم، فلزمه درهم، فعادت قيمته
إلى تسعة ثم جنى الثاني عليه جناية أرشها درهم فلزمه الدرهم كالأول وصار قيمتها
ثمانية، ثم سرتا إلى نفسه وقيمته ثمانية فوجب على كل واحد منهما نصف قيمته بعد
الجنايتين أربعة، فيكون على كل واحد منهما خمسة.
فإن كانت بحالها وكان أرش جناية الأول ثلاثة وأرش جناية الثاني درهما،
عادت قيمته بعد الجنايتين إلى ستة، فعلى كل واحد منهما كمال أرش جنايته ونصف
قيمته بعد الجنايتين، فيكون على الأول ستة، وعلى الثاني أربعة.
فإن كانت بحالها وكان أرش جناية الأول درهما وأرش جناية الثاني ثلاثة
كانت بالعكس فيكون على الأول أربعة، وعلى الثاني ستة، وعلى هذا أبدا.
والثاني فيهم من قال لا يدخل أرش جناية الأول في بدل النفس، ويدخل
أرش جناية الثاني في بدلها، وعلى كل واحد منهما نصف قيمته بعد إحدى الجنايتين
265

وهو بعد جناية الأول عليه، لأن الأول جنى على صيد ما جنى عليه غيره فأوجبنا
عليه الأرش فعادت قيمته إلى تسعة، ثم جنى الثاني عليه جناية أرشها درهم فدخلت
في بدل النفس لأنه قد جنى على صيد قد جنى عليه غيره، ثم سرت الجنايتان وقيمته
تسعة فأوجبنا على كل واحد بعد قيمته، فيكون على الأول خمسة ونصف، وعلى الثاني
أربعة ونصف
والثالث قال بعضهم يدخل نصف أرش جناية كل واحد منهما في بدل النفس وعلى
كل واحد منهما نصف قيمته يوم جنايته، لأنه لو انفرد بالجناية عليه فسرت إلى نفسه
دخل كلا الأرشين في بدل النفس، فإذا شاركه في الجناية سرت جنايته إلى نصف النفس
فدخل نصف الأرش في بدل نصفها، ولم يدخل النصف الباقي، لأن ذلك النصف ضمنه
غيره، فلا يدخل أرش جنايته في بدل نفس ضمنه غيره بدليل أنه لو قطع يد رجل
فقتله غيره، لم يدخل أرش اليد في بدلها، ثبت أن نصف الأرش ما دخل
ويكون عليه نصف قيمته يوم جنى عليه خمسة، لأن قيمته يومئذ عشرة، ثم مات من
جنايته وجناية الآخر عليه، فكان عليه خمسة ونصف: نصف القيمة ونصف الأرش، وأما
الثاني فيدخل نصف أرش جنايته في بدل النفس، ولا يدخل كله لما مضى، وعليه نصف
قيمته يوم جنايته، عليه أربعة ونصف، لأنه جنى عليه وقيمته تسعة، ومات من جنايته
وجناية الأول.
فعلى الأول خمسة ونصف، وعلى الثاني خمسة، ويرجع الأول على الثاني
بنصف أرش جناية الثاني، وهو النصف الذي دخل في نصف بدل النفس، لأنه جنى
على ما دخل في ضمان الأول لأن من جنى على ما ضمنه غيره ضمنه له كرجل غصب
عبدا فجنى عليه جان في يد الغاصب، فإن الجاني يضمن أرش الجناية للغاصب لأنه
جنى على ما دخل في ضمانه فإذا ضمن الغاصب لرب المال كمال القيمة، رجع الغاصب
على الجاني بأرش الجناية.
فإذا ثبت هذا فلرب المال أن يرجع على كل واحد منهما، فإن رجع على
الأول بخمسة ونصف رجع على الثاني بأربعة ونصف ويرجع الأول على الثاني بنصف
266

لأن ضمان النصف استقر عليه.
وإن رجع رب المال على الأول بخمسة ورجع على الثاني بخمسة برئت ذمة
الأول عن نصف درهم، ولم يرجع الثاني على الأول بشئ، فيكون بقدر ما يستقر
على كل واحد منهما خمسة.
التفريع على هذه الطريقة.
جنى الأول عليه جناية أرشها ثلاثة، وقيمتها عشرة، فعليه نصف أرش الجناية
درهم ونصف، ونصف قيمته يوم جنى عليه خمسة يكون عليه ستة ونصف، وجنى
الثاني عليه جناية أرشها درهم وقيمتها سبعة، فأوجبنا أربعة ونصف: نصف أرش الجناية
ونصف قيمته يوم جنى عليه، وعلى الأول ستة ونصف يرجع الأول على الثاني بنصف
درهم لأنه هو القدر الذي دخل في ضمان الأول يكون على الأول ستة وعلى الثاني
أربعة، يستقر على الثاني أربعة.
فإن كانت بحالها وأرش جناية الأول درهم ثم أوجبنا عليه نصف أرش الجناية
ونصف قيمته يوم جنى عليه خمسة ونصف، ثم جنى الثاني عليه جناية أرشها ثلاثة،
وقيمته تسعة فأوجبنا نصف أرش الجناية ونصف القيمة يكون ستة، يرجع الأول على
الثاني بدرهم ونصف، فيكون على الأول أربعة وعلى الثاني ستة، وعلى هذا أبدا.
هذه الطريقة والطريقة الأولى سواء في قدر الضمان وأنما يختلفان في التعليل.
الرابع قال بعضهم يدخل نصف أرش جناية كل واحد منهما في بدل النفس وعلى
كل واحد منهما نصف قيمته يوم جنايته عليه، ولا يرجع الأول على الثاني بشئ
لأنه إنما يضمن للأول لو ضمن الأول قيمته كله فأما ههنا فقد ضمن الأول قيمة
نصفه، فما جنى على ما دخل في ضمان الأول، وإنما جنى على ما دخل في ضمان
نفسه.
فيكون على الأول خمسة ونصف، وعلى الثاني خمسة، ثم أضم خمسة ونصف
إلى خمسة فيصير عشرة ونصف، وأقسط العشرة على عشرة ونصف، فيكون على الأول خمسة
ونصف من عشرة ونصف من عشرة، وعلى الثاني خمسة من عشرة ونصف من عشرة، وهذه الطريقة
267

قريبة من الطريقة التي قبلها غير أنه لم يجعل للأول أن يرجع على الثاني بشئ.
وإن اخترت أن تجعل لهذا أصلا يعمل عليه فالوجه أن تجعل العشرة والنصف
أصل المال، والعشرة التي هي قيمة الصيد كالفائدة، فمن كان له في العشرة والنصف شئ
ضرب في فائدة المال، فما اجتمع قسمته على جمل سهام الملك وهو عشرة ونصف فتأخذ
من كل عشرة ونصف واحدا، فتضرب خمسة ونصف في عشرة، يصير خمسة وخمسين
فتأخذ من كل عشرة ونصف واحدا يكون من اثنين وخمسين سهما ونصف: خمسة دراهم
ويبقى سهمان ونصف وذلك من مأخذ عشر ونصف سبع وثلثا سبع، وإن اخترت فعلي
خمسة من عشرة ونصف سدس وسبع درهم، وللثاني من عشرة ونصف خمسة مضروبة
في عشرة، فيصير خمسين يكون من تسعة وأربعين أربعة دراهم وثلثا درهم وثلثا سبع
درهم، فإذا جمعت ما اجتمع لهما معا يكون عشرة دراهم وعلى هذا أبدا.
الخامس منهم من قال يدخل أرش جناية كل واحد منهما في بدل النفس، و
على كل واحد منهما نصف قيمته يوم جنايته، فإذا كان كذلك فعلى كل واحد
منهما نصف قيمته يوم الجناية، فيكون على الأول خمسة، لأن قيمته يوم جنى عليه
عشرة، وعلى الثاني أربعة ونصف لأن قيمته يوم جنى عليه تسع، ويضيع نصف درهم
لأني لا أجد من أوجبه عليه.
السادس قال بعضهم يدخل أرش جناية كل واحد منها في بدل النفس، وأجعل
كل واحد منهما كأنه انفرد بقتله، فأوجب عليه كمال قيمته يوم جنى عليه، وأضم
إحدى القيمتين إلى الأخرى، وأقسم ما اجتمع على عشرة، فالأول قتله وقيمته
عشرة، والثاني قتله وقيمته تسعة أضم إحداهما إلى الأخرى يكون الكل تسعة عشر
أقسم العشرة عليهما، فيكون على الأول عشرة أسهم من تسعة عشر سهما من عشرة،
وعلى الثاني تسعة أسهم من تسعة عشر من عشرة.
فإن كان أرش الأول خمسة دخلت في بدل النفس وأوجب عليه قيمته يوم جنى
عليه عشرة، وكان أرش جناية الثاني درهما دخل في بدل النفس، وأوجب عليه قيمته يوم
جنى عليه خمسة وأضم إحداهما إلى الأخرى يصير خمسة عشر، ثم أقسم العشرة عليها
268

فيكون على الأول عشرة من خمسة عشر من عشرة: ثلثا العشرة ستة وأربعة دوانيق،
وعلى الثاني خمسة من خمسة عشرة من عشرة، وهو ثلث العشرة ثلاثة وثلث، وعلى
هذا أبدا.
وهذه الطريقة أصحها، لأن الطريقة الأولى تبطل من وجهين أحدهما لم يدخل
أرش الجناية في بدل النفس، والثاني يفضي قوله إلى أن يجب على الثاني أكثر مما يجب
على الأول، وقيمته يوم جنى الثاني عليه أقل من قيمته يوم جنى الأول عليه.
وتبطل الطريقة الثالثة بالوجهين: أحدهما لم يدخل نصف أرش الجناية في بدل
النفس، ويفضي قوله إلى أن يجب على الثاني وقد جنى عليه وقيمته دون قيمته يوم
جنى الأول عليه، أكثر مما يجب على الأول.
وتبطل الطريقة الرابعة لأنه لم يدخل نصف أرش الجناية في بدل النفس، و
تبطل الطريقة الخامسة لأنه أوجب في صيد قيمته عشرة تسعة ونصف فيضيع من قيمته
نصف درهم، ويصح الطريقة السادسة لأنها سلمت من جميع ذلك.
فرع يتوطأ به ما ذكرناه من الطرق.
المسألة بحالها لكنه جنى عليه ثلاثة كل واحد جناية أرشها درهمان: جنى
الأول جناية أرشها درهمان وقيمته عشرة، والثاني جناية أرشها درهمان وقيمته
ثمانية، والثالث جناية أرشها درهمان وقيمته ستة عادت قيمته بعد الجنايات إلى
أربعة فعلى الطريقة الأولى على كل واحد ثلاثة وثلث: كمال أرش الجناية، وثلث قيمته
بعد الجنايات.
وعلى الطريقة الثانية كمال أرش جنايته، وعلى كل واحد ثلث قيمته بعد جناية
الأول عليه، يكون على الأول أربعة وأربعة دوانيق، وعلى كل واحد من الآخرين
درهمان وأربعة دوانيق.
وعلى الطريقة الثالثة يدخل ثلث جناية كل واحد منهم في بدل النفس، وعلى
كل واحد منهم ثلث قيمته يوم جنى عليه، فيكون على الأول أربعة وأربعة دوانيق و
على الثاني أربعة، وعلى الثالث ثلاثة وثلث، ويرجع الأول على الثاني بأربعة
269

دوانق، ويكون قدر ما ضمته من عنده ثلاثة وثلث ويرجع الثاني على الثالث بأربعة دوانيق
يكون قدرها وهو جناية على ما دخل في ضمان الأول، ويرجع على الثالث بأربعة دوانيق، و
يكون قدر ما ضمن الأول ما ضمنه الثاني من عنده ثلاثة وثلث، ويكون قدر ما ضمنه الثالث
من عنده ثلاثة وثلث مثل الطريقة الأولى، وإن اختلفا في التعليل.
وعلى الطريقة الرابعة على الأول أربعة وأربعة دوانيق، وعلى الثاني أربعة، وعلى
الثالث ثلاثة وثلث يصير المجموع اثني عشر، فيكون على الأول أربعة وأربعة دوانيق
من اثني عشر من عشرة، وعلى الثاني أربعة من اثني عشر من عشرة، وعلى الثالث
ثلاثة وثلث من اثني عشر من عشرة، وهذه قريبة من الطريقة التي قبلها،، إلا أنه
خالفه في فصل وهو أن الأول لا يرجع على غيره بشئ.
وعلى الطريقة الخامسة يدخل أرش جناية كل واحد في بدل النفس وعلى كل
واحد ثلث قيمته يوم جنايته عليه، فعلى الأول ثلاثة وثلث، وعلى الثاني درهمان و
أربعة دوانيق، وعلى الثالث درهمان يصير ثمانية، وضاع درهمان.
وعلى الطريقة السادسة يدخل أرش جناية كل واحد في بدل النفس، وعلى كل
واحد كمال قيمته يوم جنايته عليه، وضم الكل بعضها إلى بعض، فعلى الأول
عشرة وعلى الثاني ثمانية، وعلى الثالث ستة يصير الجمع أربعة وعشرين، يقسم
العشرة عليها:
يكون على الأول عشرة من أربعة وعشرين من عشرة: ربعها وسدسها يكون
من العشرة أربعة دوانيق، وعلى الثاني ثمانية من أربعة وعشرين: ثلثها يكون من العشرة
ثلاثة وثلث، وعلى الثالث ستة من أربعة وعشرين يكون من العشرة ربعها درهمان
ونصف يصير الجميع عشرة، وعلى هذا أبدا وقد بينا أن هذه الطريقة أصحها عندنا.
إذا لم تحط الرمية عن حد الامتناع، وأمكنه أن يتحامل طائرا أو عاديا
فدخل دار قوم، فأخذه صاحب الدار ملكه، لأن الأول ما ملكه برميه، لأنه ما
حطه عن الامتناع، فما ملكه، فإذا حصل في الدار لم يملكه صاحب الدار بحصوله
فيها، حتى إذا أخذه ملكه بالأخذ، وكذلك السمكة إذا وثبت من الماء إلى السفينة
270

لا يملكها صاحبها، ويكون لمن أخذها، وكذلك إذا توحل ظبي في ضيعة رجل لم
يملكه صاحب الضيعة بل يملكه الآخذ.
إذا رماه الأول فعقره ولم يحطه عن الامتناع، ثم رماه الثاني فأثبته ملكه،
كأن ابتدأه بالرمي، فإن رماه الأول بعد ذلك فوجأه نظرت، فإن كان في المذبح
كالحلق حل أكله، لأنه ذبح مقدورا عليه وعلى الأول للثاني ما نقص بالذبح، فيكون
عليه نقصان الذبح مجروحا جرحين.
وإن كان الأول وجأه في غير محل الذكاة، مثل أن أصابه في قلبه أو كبده فقتله
حرم أكله لأنه قتل مقدورا عليه، فيكون عليه كمال قيمته للثاني، لأنه قتله، وهو
ملك للثاني فيكون عليه قيمته مجروحا جرحين.
إذا رميا صيدا معا وأصاباه وأثبتاه معا، كان لهما نصفين لأنهما أثبتاه معا، و
يحل أكله لأنهما قتلاه معا فهو كما لو ذبحا شاة معا سواء كان الجراحات سواء أو أحدهما
أكثر من الآخر، لأن القتل بهما معا.
فأما إن رماه أحدهما فأثبته ثم رماه الثاني فهو للأول دون الثاني، وإن رماه
الأول فلم يثبته ثم رماه الثاني فأثبته فهو للثاني دون الأول.
وإن كان الصيد يمتنع لأمرين رجل وجناح كالقبج والدراج، فرماه أحدهما
فكسر رجليه، ثم رماه الثاني فسكر جناحه، فقال قوم هو بينهما لأنهما قد عطلاه
معا عن الامتناع، [وقال آخرون بل لما رماه الأول وكسر رجله لم يثبته] فكان بعده
على الامتناع، فلما رماه الثاني كان الإثبات به، فوجب أن يكون الملك له وحده،
والأول أقوى عندي وإن كان الثاني قويا.
إذا ترادف على الصيد رميان من اثنين: رماه أحدهما فعقره، ثم رماه الثاني
فعقره، فوجداه ميتا ولم يعلم القاتل منهما؟ قال قوم: حل أكله وهو ملكهما إذا علم
ذكاته قطعا، ويعلم ذلك من ثلاثة أوجه:
أحدها أن أحدهما عقره والآخر ذبحه فيحل أكله بكل حال، لأنه إن كان
الأول ذبحه لم يضره عقر الثاني، وإن كان الثاني ذبحه لم يضره عقر الأول، و
271

إن كانا عقراه وأثبتاه معا ولم يصيراه في حكم المذبوح فأدركه أحدهما فذبحه
حل أكله وإن علم أن الثاني ذبحه والأول عقره فأكله حلال.
وإن لم يعلم ذكاته قطعا بل وجداه ميتا من الجرحين فلا يحل أكله لأنه يحتمل
أن يكون الأول أثبته ثم جرحه الثاني فمات منهما فلا يحل أكله، ويحتمل أن
يكون الثاني ذبحه وقتله دون الأول فيحل أكله، وإذا احتمل الأمران قدم التحريم
ويكون بينهما لأن يدهما عليه.
فأما إذا كان صيدا يمتنع برجله وجناحه فكسر أحدهما رجله، والآخر جناحه
فقد مضى القول فيه، وجملة ذلك: إن قتلاه معا كان بينهما، وإن أثبت أحدهما كان له
دون الآخر، سواء أثبته الأول أو الثاني، وإن كان صيدا يمتنع برجله وجناحه فكسر
أحدهما رجله والآخر جناحه فعلى ما مضى، ومتى لم يعلم أنهما أو واحد منهما قتله لم
يحل أكله بحال.
فإن رميا صيدا فوجداه قتيلا واختلفا فقال أحدهما أنا أثبته أولا وأنت رميته
ثانيا فقتلته فعليك قيمته، وقال الآخر بل أنا أثبته وملكته، وأنت رميته فقتلته فعليك
الضمان تحالفا، ولا يحل أكله لأنهما قد اتفقا على أنه حرام.
ويتحالفان لأجل الضمان: يحلف كل واحد منهما لصاحبه ما أتلفه، ولا ضمان
على واحد منهما، فإن حلف أحدهما ما أتلفه ولم يحلف الآخر رددنا اليمين على الحالف
فيحلف أنه أثبته ويكون له.
فإن رماه كل واحد منهما فوجد ميتا فقال أحدهما أنا أثبته وأنت قتلته فعليك
الضمان، وقال الآخر أنت ما أثبته لكنك جرحته وما عطلته عن الامتناع، فرميته
أنا فعطلته وأثبته، فالقول قول الثاني لأن الأصل الامتناع، فلا يزول بجرح الأول
فكان القول قول الثاني مع يمينه.
إذا رمى طائرا فجرحه فسقط على الأرض فوجد ميتا حل أكله، سواء مات
قبل أن يسقط أو بعد ما يسقط أو لم يعلم وقت موته قبل سقوطه أو بعده، وقال بعضهم إذا مات
بعد ما سقط لم يحل أكله لأن سقوطه على الأرض قبل موته، فقد أعانت السقطة على
272

قتله، فقد مات من مبيح وحاظر، فغلبنا حكم الحظر كما لو سقط في الماء وهذا أليق
بمذهبنا فأما إن سقط عن الإصابة في ماء أو تردى من جبل أو وقع على شجرة فتردى
منها إلى الأرض لم يحل أكله لقوله تعالى " والمنخنقة والموقوذة والمتردية " (1) فما وقع
في الماء فالماء يخنقه وما وقع عن الجبل ثم تردى فهي المتردية.
هذا إذا كان الجرح غير موجئ فأما إن كان الجرح قاتلا موجئا مثل أن وقع
السلاح في حلقه فذبحه، أو في قلبه أو كبده فقتله، حل أكله بكل حال، لأنه صار
مذكى، فلا يقدح فيه ما وراء ذلك، كما لو ذبح شاة ثم وقعت في الماء فماتت فيه فإنه
يحل أكلها.
الثاني إذا رمى صيدا فقتله أو جرحه، فمات من ذلك نظرت، فإن كان مما يجرح
بحدته كالحربة والسكين والمروة وهي الحجر الحاد أو كان الحاد خشبة أو ليطة و
نحو هذا حل أكله، فأما ما قتله بثقله كالحجارة والبندقة فلا يحل أكله سواء قتله بجرح
أو بغير جرح وسواء كان الجرح ذبحا أو غير ذبح، فلو وقعت البندقة في حلقه فقطعت
الحلقوم والمري لم يحل أكله لقوله تعالى " والموقوذة " وهي المضروبة بالحجارة أو
بالعصا حتى تموت.
وروى عدي بن حاتم قال: سألت النبي صلى الله عليه وآله عن المعراض (2) فقال إن قتل بحده
فكله، وإن قتله بثقله فإنه وقيذ.
وإن رما بالبندقة فوقع نظرت، فإن أدركه ميتا أو في حكم المذبوح فقد حرم
أكله، وإن كان فيه حياة مستقرة وذكاه حل أكله، وروى أصحابنا أن ما يقتله
المعراض لا يؤكل ولم يفصلوا.
وأما الآلة إذا كانت جارحة من الطير أو سبعا من البهائم كالكلب والفهد والنمر
والبازي والعقاب، فإن قتلت نظرت، فإن كان بالعقر حل أكل ما أكله الكلب خاصة
عندنا دون ما سواه، وعندهم يحل أكل الكل، وإن قتلته من غير عقر مثل أن صدمته

(1) المائدة: 3.
(2) المعراض سهم بلا ريش دقيق الطرفين غليظ الوسط يصيب بعرضه دون حده.
273

فقتلته أو غمته حتى مات فلا يحل أكله عندنا وعند جماعة، وقال قوم يؤكل وأما إن
أكده وأتعبه ولم يزل كذلك حتى مات تعبا وضعفا فلا يحل أكله بلا خلاف.
إذا رأى شخصا فظنه حجرا فرماه فبان صيدا قد قتله فإن كان قد سمى وقصد
حل أكله عندنا، وإن لم يسم ولم يقصد لم يحل وعندهم يحل على كل حال، وهكذا
لو اعتقد آدميا أو صيدا لا يؤكل كالكلب والخنزير والدب ونحو هذا فبان صيدا عندنا
لا يؤكل، وقال قوم يؤكل، وقال بعضهم لا يحل كل ذلك مثل ما قلناه.
وإذا رمى سهما إلى فوق فأصاب طائرا فقتله، قال قوم يحل أكله، وقال آخرون
لا يحل وهو مذهبنا، ولو كانت في يده سكين فسقطت على حلق دجاجة لا تحل أكلها
عندنا، وقال بعضهم يحل.
فأما إذا رأى سوادا فاعتقده حجرا لا من حيث الظن لكن مر به نهارا ثم رآه
ليلا واعتقد أنه حجر فرماه فإذا صيد قتله عندنا لا يحل وعندهم يحل.
وإن أرسل كلبا في ظلمة الليل لا على شئ فقتل صيدا لم يحل أكله، وإن رأى
سوادا فظنه حجرا أو خنزيرا أو كلبا أو آدميا فبان صيدا يؤكل، وقد قتله الكلب،
لا يحل أكله عندنا، وقال بعضهم يؤكل، والأول أقوى لأنه ما أرسله على صيد.
إذا ملك صيدا وأفلت منه، لم يزل ملكه عنه دابة كانت أو طائرا سواء لحق
بالصحاري والبراري أو لم يلحق بذلك عندنا وعند جماعة وقال بعضهم إن كان يطير في
البلد وحوله فهو ملكه، وإن لحق بالبراري وعاد إلى أصل التوحش، زال ملكه
لأنه إن لم نقل ذلك أدى إلى أن لا يحل الاصطياد لأنه لا يؤمن أن يكون ملكا
للغير قد انفلت.
وهذا ليس بصحيح، لأنه لا يمكن الاحتراز منه كما لو اختلطت أخته بنساء
بلد لم يحرم عليه أن يتزوج من ذلك البلد، لأنه لا يمكن الاحتراز منه، وكذلك
لو كان له عصير فصبه في دجلة، لم يحرم أخذ الماء منها، لأن الاحتراز منه لا يمكن
وفيهم من قال يزول ملكه بالانفلات وكذلك إذا صب الماء في دجلة لأنه اختار إزالة
ملكه وليس بشئ.
274

إذا قتل المحل صيدا في الحل فلا جزاء عليه، سواء [دخل الحرم أو لم يدخل
وقال آخرون: إذا] ظ كان منشأه في الحرم ثم خرج منه، ففيه الجزاء، وإن كان
المنشأ في الحل والقتل في الحل فلا جزاء، دخل الحرم أو لم يدخل، والأول مذهبنا.
إذا كان له حمام فتحول من برجه إلى برج غيره كان للأول ولم يملكه الثاني
لأنه لا يزول ملكه بتحولة من مكان إلى مكان. وإن كان من الطيور الجبلية المباحة
التي لا مالك لها، فإن ملكها صاحب البرج بشبكة أو بيد فالحكم فيها كالمملوك الأصلي
سواء، وإن لم يملكه بل نزل البرج وطار فهو على ما كان من الإباحة قبل ذلك، فمن
أخذه ملكه، لأن الصيد المباح لا يصير مملوكا بدخوله ملك الغير.
إذا كان الصيد مقرضا أو موسوما أو به أثر ملك لآدمي لم يجز أن يصطاد، لأن
عليه أثر ملك، لما روي أن النبي صلى الله عليه وآله مر بطير (1) حاقف فهم أصحابه به، فقال: دعوه
حتى يجئ صاحبه، ولهذا إذا دخل المسلمون دار حرب فما أخذوه من متاع كان غنيمة
وما أصابوه من صيد فإن لم يكن مقرضا كان لمن أخذه، وإن كان مقرضا كان غنيمة
لأن الظاهر أنه ملكهم.
الشاة إذا عقرها سبع فيها ثلاث مسائل إحداها جرحها جرحا قد تموت منه وقد
لا تموت فأدركها صاحبها وفيها حياة مستقرة فذبحها حل أكلها لقوله تعالى " وما أكل
السبع إلا ما ذكيتم ".
الثانية جرحها جرحا تموت منه لا محالة، لكن فيها حياة مستقرة تعيش اليوم
والأيام، مثل أن يشق جوفها وظهرت الأمعاء ولم ينفصل، فإذا أدركها فذكاها حل
أكلها أيضا بلا خلاف.
الثالثة جرحها جرحا لا تبقى معه حياة مستقرة مثل أن شق الجوف، وأبان
الحشوة، وانفصلت عن الحيوان أو كان الجرح في اللبة فإذا أدركه وفيه حياة فذكاه
لم يحل أكله وإن خرج الدم بالذبح، لأن الحركة حركة المذبوح، فلا يراعى ما
وراء ذلك.

(1) بظبى خ ل.
275

الحيوان على ثلاثة أضرب ما لا يعيش إلا في البر وما يعيش في البر والبحر معا
وما لا يعيش إلا في البحر:
فأما ما لا يعيش إلا في البر فالإبل والبقر والغنم وغير ذلك من المأكول أو
غيره، فمتى مات حتف أنفه لم يحل أكله سواء مات في البر أو في البحر بلا خلاف.
وأما ما يعيش فيهما كالبط والإوز وطير الماء والضفدع والسرطان فمتى مات شئ
من هذا حتف أنفه يؤكل، سواء مات في البر أو في البحر لقوله تعالى: " حرمت عليكم
الميتة ".
وأما الضفدع والسرطان فلا يحل أكلهما بكل حال، بلا خلاف.
وأما ما لا يعيش إلا في الماء فعلى ضربين: سمك وغير سمك، فأما السمك فمتى
مات بعد أن أخرج من الماء حيا حل أكله عندنا، وإن مات في الماء لم يحل، وقال
بعضهم يحل أكله بكل حال ولو وجد ميتا وفي جوفه سمكة أو حيوان غيره وعلى
كل حال.
وأما ما عدا السمك مثل خنزير الماء وكلب الماء، وإنسان الماء، وفأر الماء وحيات الماء
وغير ذلك، لأنه قيل ما من صورة في البر إلا وفي البحر مثله، فعندنا أن جميع ذلك محرم، و
قال قوم إن جميعه مباح وفيه خلاف، والسمك عندنا لا يؤكل منه إلا ما كان له فلس فأما
ما ليس له فلس مثل المارماهي والجري وغير ذلك فلا يحل أكله، وعندهم يحل
جميعه، فإن اصطاد سمكة فانفلتت من يده وبقي في يده منها قطعة وذهب الباقي حيا حل أكله
فإن اصطاد سمكة وفي جوفها سمكة أخرى حل أكلهما معا، وإن وجدت في جوف
حية فإن كان ما تسلخت جاز أكلها، وإن تسلخت لم يجز، ولم أجد لهم نصا فيها
وأما دم السمك فإنه طاهر عندنا، وقال بعضهم نجس.
إذا اصطاد السمك من لا يحل ذبيحته كالمجوسي والوثني حل أكله بلا خلاف
غير أنه نعتبر أن نشاهده وقد أخرجه حيا ولا يصدق على ذلك، لأنه يجوز أن يكون
مات في الماء، وعندنا لا يجوز أكل ذلك وكذلك ما اصطاده اليهودي. والنصراني من
السمك.
276

والفرق بين صيد السمك والذبيحة على مذهبنا أن صيد السمك لا يراعى فيه
التسمية، والذباحة يجب فيها التسمية، فلأجل ذلك لم يصح منهما.
كل سمك قلنا يجوز أكله فلا يجوز أكله إلا إذا أخرج من الماء حيا ومات بعد
ذلك، فأما ما مات فيه أو نضب عنه الماء أو حصل في ماء حار أو بارد فمات فيه لم يحل
أكله، وقال بعضهم يحل أكل جميع ذلك، وقال آخرون إن مات حتف أنفه لم يؤكل
وإن مات بسبب مثل أن ضربه بشئ أو أحسر عنه الماء ونحوه يؤكل إلا ما مات بحرارة
الماء أو برودته ويفرضون المسألة في الطافي، فعندنا لا يجوز أكله إذا كان مات في الماء
وقال بعضهم يجوز بكل حال طفا أو لم يطف وإذا مات بسبب عند آخرين حل أكله
طفا أو لم يطف وإذا مات حتف أنفه لم يؤكل طفا أو لم يطف.
وإما الجراد كالسمك فإنه يحل أكله إذا مات حتف أنفه، وقال بعضهم لا يحل
حتى يقطع رأسه والأول أقوى.
ابتلاع السمك الصغار قبل أن يموت لا يحل عندنا وعند جماعة، وقال بعضهم
يحل، وهكذا لا يجوز أن يطرحه وهو حي في زيت يغلي على النار لأنه تعذيب له
وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله عن تعذيب الحيوان فأما الهازبي وهو السمك الصغار الذي يغلي
ما في جوفه من الرجيع، فعندنا يجوز أكله، لأن رجيع ما يؤكل ليس بنجس عندنا،
وقال بعضهم لا يحل أكله برجيعه.
277

* (كتاب الأطعمة) *
الترتيب في معرفة ما يحل أكله من الحيوان وما لا يحل أن يرجع إلى الشرع:
فما أباحه الشرع فهو مباح، وما حظره فهو محظور، وما لم يكن له في الشرع ذكر
كان المرجع فيه إلى عرف العادة عادة العرب عندهم، فما استطابته فهو حلال، وما
استخبثته فهو حرام، وإن يكن له في العرف والشرع ذكر فعند الفقهاء أنه يرد إلى
أشبه الأشياء به، فيحكم بحكمه من تحليل أو تحريم.
والذي نقوله إنه ما ليس له ذكر في الشرع أصلا فلا يخلو أن يكون حيوانا
في حال حياته أو بعد أن تفارقه الحياة، فإن كان في حال الحياة فهو محظور لأن ذبح
الحيوان محظور إلا بالشرع، وإن لم يكن حيوانا كان مباحا لأن الأشياء على الإباحة.
هذا على مذهب من قال من أصحابنا بأن الأصل الإباحة، فأما من قال الأصل
الحظر والوقف، فإن الجميع يحرم، وقد قال الله تعالى " يسألونك ماذا أحل لهم
قل أحل لكم الطيبات " (1) وقال تعالى " الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي
يجدونه " إلى قوله " ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث " (2).
ومن اعتبر العرف والعادة استدل بهذه الآيات فقال وجه الدلالة أن القوم سألوه
عما يحل لهم، فقال أحل لكم الطيبات، والطيب يقع على أربعة أشياء: فالطيب
الحلال قال تعالى " كلوا من الطيبات " (3) يعني من الحلال، ويقع على الطاهر قال تعالى
" فتيمموا صعيدا طيبا " (4) يعني طاهرا، ويقع على ما لا أذى فيه وهو الزمان الذي لا حر
فيه ولا برد، فيقال هذا زمان طيب ومكان طيب، ويقع على ما يستطاب من المأكول

(1) المائدة: 4.
(2) الأعراف: 157.
(3) المؤمنون: 51.
(4) النساء: 43، المائدة: 6.
278

يقال هذا طعام طيب لما تستطيبه النفس، ولا تنفر منه.
ولا يجوز أن يكون المراد به الحلال لأنهم سألوه عن الحلال ليبين لهم فلا يصح
أن يقول لهم الحلال هو الحلال وبطل أن يكون المراد ما لا أذى فيه لأن المأكول
لا يوصف به، ولا يجوز أن يكون المراد به الطاهر، لأن الطاهر إنما يعرف شرعا
فلم يبق إلا أن المراد به ردهم إلى ما يستطيبونه ولا يستخبثونه، فثبت أنه ردهم
إلى عادتهم.
وهذا قريب غير أنه لا يمتنع أن يقال المراد به ما لا أذى فيه من المباح الذي
ليس بمحرم، فكأنهم لما سألوه عن الحلال فقال: ما لا يستحق تناوله العقاب وذلك
عام في جميع المباحات، سواء علمت كذلك عقلا أو شرعا.
ومن اعتبر العرف والعادة اعتبر أهل الريف والغنى والمكنة الذين كانوا
في القرى والأمصار على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله حال الاختيار، دون من كان من أهل البوادي
من جفاة العرب التي تأكل ما دب ودرج لأن هؤلاء أهل حاجة إلى ذلك، فسئل بعض
العرب عما يأكلون فقال كل ما دب ودرج إلا أم حبين (1) وقال بعضهم لتهن أم حبين
العافية تأمن أن تطلب وتذبح وتؤكل.
فإذا قيل عادة العرب وعرفهم مختلفة قالوا اعتبرنا عرف أهل الريف والقرى والبلدان، وأهل الغنا والمكنة بحال الاختيار، واعتبر العام الشائع دون النادر.
فأما ما حرم شرعا فجملته أن الحيوان ضربان: طاهر ونجس، فالنجس الكلب
والخنزير وما توالد منهما أو من أحدهما وما عداهما كله طاهر في حال حياته
وقال بعضهم الحيوان كله طاهر في حال حياته ولم يستثن الكلب والخنزير، قال
إنما ينجس الخنزير والكلب بالقتل والموت.
وقال بعضهم الحيوان على أربعة أضرب: طاهر مطلق، وهو النعم، وما في معناها
ونجس العين وهو الخنزير، ونجس نجاسة تجري مجرى ما ينجس بالمجاورة وهو الكلب
والذئب والسباع كلها، ومشكوك فيه وهو الحمار والبغل.

(1) هي العظاية سميت أم حبين لعظم بطنها.
279

والأول أليق بمذهبنا غير أن أخبارنا تدل على أن السباع كلها نجسة، وكل
مسخ حكمه حكمها، غير أنها ليست نجسة العين، بدلالة أنهم أجازوا شرب سؤرها
والتوضي بها، ولم يجيزوا في الكلب والخنزير، وأجازوا استعمال جلودها بعد التذكية
والدباغ، ولم يجيزوا في الكلب والخنزير بحال، فأما الصلاة فيها فلا يجوز بحال.
فإذا ثبت هذا فكل ما كان نجسا في حال الحياة لم يحل أكله بلا خلاف وما كان
طاهرا في حال الحياة أو نجس الحكم على ما بيناه فعلى ضربين مأكول وغير مأكول،
فالسباع كلها محرمة سواء كانت من البهائم أو من الطير بلا خلاف، لما رواه علي عليه السلام
عن النبي صلى الله عليه وآله أنه نهى عن كل ذي ناب من السبع، وكل ذي مخلب من الطير، و
روى أبو ثعلبة الخشني أن النبي صلى الله عليه وآله نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع. وروى
أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله قال أكل كل ذي ناب من السباع حرام، وهذا لا خلاف
فيه أيضا.
وكذلك حشرات الأرض كلها حرام مثل الحية والعقرب والفأرة والديدان
والجعلان والذباب والخنافس والبق والزنابير والنحل ونحو هذا عندنا نصا وعندهم
لأنها مستخبثة.
السباع على ضربين ذي ناب قوي يعدو على الناس كالأسد والنمر والذئب والفهد
كل هذا لا يؤكل بلا خلاف للخبر المتقدم، والضرب الثاني ما كان ذا ناب ضعيف لا يعدو
على الناس مثل الضبع والثعلب، فعندنا أن جميعه حرام وقال بعضهم الكل حلال، وقال
بعضهم الضبع حرام، وقال آخرون مكروه.
اليربوع عندنا محرم، وعند بعضهم مباح، وابن آوى حرام عندنا وفيهم من
قال مباح، والسنور محرم عندنا بريا كان أو أهليا وقال بعضهم الأهلي لا يؤكل
والوحشي يؤكل وأما الوبر والقنفذ والضب فعندنا محرم وقال بعضهم يؤكل.
الأرنب حرام عندنا وعندهم مباح وأكل لحم الخيل مباح عندنا على كراهية
فيه، وفيه خلاف.
لحوم الحمر الأهلية مكروهة عندنا غير محرمة، وهو قول ابن عباس، وقال
280

المخالف محرمة، ولحم البغال أشد كراهية من لحم الحمير عندنا، وليس بمحرم
وحرموا كلهم إلا الحسن البصري.
حمار الوحش مباح عندنا وفيه خلاف، المجثمة كلها حرام، وهي التي تجعل
غرضا ولا تزال ترمى بالنشاب حتى تموت (1) بلا خلاف، و المصبورة هي التي تخرج وتحبس
حتى تموت، أكلها حرام بلا خلاف، لأن النبي صلى الله عليه وآله نهى عن تصبير البهائم، وعن
أكلها بلا خلاف.
قد بينا أن حشرات الأرض كلها حرام كالحية والعقرب والفأرة والخنافس
والجعلان والصراصر وبنات وردان والبراغيث والقمل والذباب والزنبور والنحل.
وما جرى مجراها، وكذلك اللحكا وقيل اللحكة وهي دويبة كالسمكة تسكن الرمل
وإذا رأت الانسان غاصت وتغيبت فيه، وهي صقيلة، ولهذا تشبه أنامل العذارى بها
فهو حرام عندنا، وقال بعضهم أكره الحية والفأرة والغراب ولا أحرمها فإذا أراد
أكلها ذبح وأكل.
فأما الطائر فعلى ضربين ذي مخلب وغير ذي مخلب فأما ذو المخلب هو الذي يقتل
بمخاليبه ويعدو على الطائر والحمام، كالبازي والصقر والعقاب والباشق والشاهين و
نحوها، فكله حرام عندنا، وعند الأكثر، وقال بعضهم الطائر كله حلال للآية،
فأما ما لا مخلب له فعلى ضربين مستخبث وغير مستخبث، فالمستخبث ما يأكل الخبائث كالميتة و
نحوها فكلها حرام وهي النسر والزحم والبغاث والغراب ونحو ذلك عندنا وعند جماعة
فروي أن النبي صلى الله عليه وآله أتي بغراب فسماه فاسقا فقال: ما هو والله من الطيبات.
والغراب على أربعة أضرب الكبير الأسود الذي يسكن الجبال ويأكل الجيف
والثاني الأبقع فهذان حرام، والثالث الزاغ وهو غراب الزرع، والرابع الغداف
وهو أصغر منه أغبر اللون كالرماد، قال قوم: هو حرام لظاهر الأخبار، وقال آخرون
هو مباح، وهو الذي ورد في رواياتنا.
وأما المستطاب من الطائر كالحمام إنسية ووحشية والفواخت وهو مطوق كالقماري

(1) إلا أن المجثمة تقال في الطير والمصبورة في البهائم.
281

والدباسي والورشان والدراج والدجاج والقباج والطيهوج والكراكي والكروان
والحبارى ونحو ذلك كله حلال، وروي في بعض أخبارنا كراهة الفاختة.
الجلالة البهيمة التي تأكل العذرة اليابسة أو الرطبة كالناقة والبقرة والشاة والدجاجة
فإن كان هذا أكثر علفها كره لحمها بلا خلاف بين الفقهاء، وقال قوم من الحديث هو
حرام والأول مذهبنا.
وإنما تزول الكراهة عندنا بأن تمنع النجاسة ويعلف الطاهر، فإن كان بدنة
أو بقرة أربعين يوما وإن كانت شاة فسبعة أيام، وإن كانت دجاجة ثلاثة أيام وقيل
سبعة، وفي البقرة عشرين يوما، وبه قال قوم، والصحيح عندهم أنه لا يحد بل يرجع إلى
العادة، وما تزول به هذه العادة من يوم أو شهر أو أقل أو أكثر، فأما إذا كان أكثر علفها
الطاهر، وإنما العذرة في وقت دون وقت فأكلها مباح بلا خلاف، والحكم في لبنها كالحكم
في لحمها حرفا بحرف.
أكل كسب الحجام مكروه للحر، مباح للعبد، سواء كسبه حر أو عبد عندنا و
عند جماعة، وفيه خلاف.
كل عمل فيه مباشرة نجاسة كالكناس والقصاب والجزار وكل ما في عمله
استخراج نجاسة كره ولم يحرم.
* * *
إذا نحرت الناقة وذبحت البقرة أو الشاة وكان في بطنها جنين نظرت، فإن خرج
ميتا فهو حلال إن كان شعر أو أوبر عندنا، وإن لم يكن كذلك فلا يجوز، ولم يفصل
المخالف، وإن خرج حيا نظرت فإن عاش بقدر ما لا يتسع الزمان لذبحه فهو حلال
وإن عاش ما يتسع الزمان لذبحه ثم مات قبل الذبح فهو حرام، سواه تعذر ذبحه
لتعذر الآلة أو لغيرها وفيه خلاف.
الفارة والعصفور والدجاجة والسنور متى مات شئ منها في سمن أو زيت نظرت
فإن كان جامدا ألقيت ما حولها وكان الباقي طاهرا مأمولا بلا خلاف.
282

وروي عن ميمونة قال سئل رسول الله صلى الله عليه وآله عن سمن جامد وقعت فيه فأرة فقال
ألقوها وما حولها وكلوه.
وأما إن كان مايعا فالكلام في السمن والزيت والشيرج والبزر وهذه الأدهان
كلها واحد فمتى وقعت الفأرة وماتت فيه نجس كله، ويجوز عندنا وعند جماعة الاستصباح
به في السراج، ولا يؤكل ولا ينتفع به في غير الاستصباح وفيه خلاف، ورووا أصحابنا
أنه يستصبح به تحت السماء دون السقف، وهذا يدل على أن دخانه نجس غير أن
عندي أن هذا مكروه.
فأما دخانه ودخان كل نجس من العذرة وجلود الميتة كالسرجين والبعر وعظام
الميتة عندنا ليس بنجس، فأما ما يقطع بنجاسته قال قوم دخانه نجس وهو الذي دل
عليه الخبر الذي قدمناه من رواية أصحابنا، وقال آخرون وهو الأقوى عندي أنه
ليس بنجس.
فأما رماد النجس فعندنا طاهر وعندهم نجس وإنما قلنا ذلك لما رواه أصحابنا
من جواز السجود على جص أوقد عليه بالنجاسات، فإذا ثبت هذا فمن قال الدخان
ليس بنجس فلا كلام، ومن قال نجس فإن علق بالثوب منه شئ، فإن كان يسيرا كان
معفوا عنه كدم البراغيث، وإن كان كثيرا وجب غسله.
فأما إذا سجر التنور بالأعيان النجسة وتعلق بوجه التنور دخانه، فإن كان
نجسا فلا يخبز عليه حتى يزال بمسح أو غيره، فإن خبز عليه قبل المسح كان ظهر
الرغيف نجسا ووجهه طاهرا فلا يحل أكله حتى يغسل ظهره، وعلى ما قلناه يسقط
عنا جميع ذلك ولا نحتاج إلى ما قالوه.
فأما إذا نجس شئ من هذه الأدهان فهل يجوز غسله أم لا؟ فعندنا لا يجوز
غسله ولا يطهر به على حال، وعندهم إن كان مما يختلط بالماء ولا يتميز عنه ولا يعلو
عليه لم يجز غسله، وهو السمن، لأنه لا يتأتى فيه الغسل، كاللبن والخل وما أشبهما
وإن أمكن غسله بأن يصب الماء فيه فيعلو عليه ويتميز عنه وهو الشيرج والزيت
قال قوم يجوز غسله لأنه ينفصل عن الماء كالثوب فعلى هذا إذا كان في إناء فكاثره
283

بالماء طهر، وكان الماء طاهرا لكنه ماء أزيل به النجاسة.
وقال آخرون لا يجوز غسله لأنه إنما يطهر ما يعصر منه الماء وتزال النجاسة
به عنه، وهما مايعان فلا يتأتى فيه وهو الذي اخترناه، فمن قال لا يطهر، قال لا
يجوز بيعه، ومن قال يطهر، فيهم من قال يجوز بيعه لأنه نجس بالمجاورة كالثوب
النجس سواء، وقال آخرون لا يجوز بيعه لأنه مائع نجس.
وجملته أن الأعيان النجسة على أربعة أضرب: نجس العين، وهو الكلب والخنزير
وما توالد منهما أو من أحدهما، وما في معناهما وهما ما استحال نجسا كالخمر والبول
والعذرة وجلد الميتة فكل هذا نجس العين لا ينتفع به ولا يجوز بيعه.
الثاني ما ينجس بالمجاورة ولا يمكن غسله، وهو اللبن والخل والدبس ونحو
ذلك، فلا ينتفع به ولا يجوز بيعه حال.
والثالث ما ينجس بالمجاورة وينتفع بمقاصده ويمكن غسله وهو الثوب فهذا
يجوز بيعه والبزر مثله.
والرابع ما اختلف في جواز غسله وهو الزيت والشيرج فمن قال لا يجوز غسله
لم يجز ومن قال يجوز غسله فالبيع على وجهين: فعندنا وإن لم يجز غسله فيجوز
الانتفاع به بالاستصباح، فينبغي أن يقول إنه يجوز بيعه بهذا الشرط.
قد بينا في كتاب الطهارة أن جلد الميتة لا يطهر بالدباغ، وأما أكله حال الضرورة
فجملته أن المضطر يحل له الميتة، والمضطر إليها هو الذي يخاف التلف إن لم يأكل،
فأما من لا يخاف التلف فهو غير محتاج ولا يحل له لقوله تعالى: " إنما حرم عليكم
الميتة والدم " إلى قوله " فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم " (1) يعني فمن اضطر
في مجاعة غير مرتكب لإثم وقال تعالى " وفصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم
إليه " (2).
فإذا ثبت أنها حلال للمضطر فإنها حلال له ولمن هو في معناه، وهو من يخاف

(1) المائدة: 3.
(2) الأنعام: 119.
284

المرض إن ترك أكلها أو كان ماشيا في سفر متى لم يأكل ضعف وانقطع عن الرفقة، أو كان
راكبا متى لم يأكل ضعف عن الركوب فإنه يحل أكلها، ومن حلت له الميتة حل
له الدم ولحم الخنزير والكلب والإنسان وغيرها من المحرمات، فيحل له كل ما حرم
من ميتة ودم ولحم خنزير.
فإذا تقرر هذا ففي المضطر ثلاث مسائل له سد الرمق بلا خلاف، ولا يزيد
على الشبع بلا خلاف وهل له الشبع بعد سد الرمق أم لا؟ قال قوم لا يزيد وهو مذهبنا
وقال قوم قوم له الشبع ولا يزيد، فمن قال له الشبع فإذا شبع لا يزيد بحال، ومن قال
لا يزيد على سد الرمق فمتى زاد كان حراما.
وإما وجوب الأكل خوفا على نفسه، قال قوم يجب عليه، وهو الصحيح عندنا
لأن دفع المضار واجب عقلا، ولقوله تعالى " ولا تقتلوا أنفسكم " (1) وقال " ولا تلقوا
بأيديكم إلى التهلكة " (2).
وقال بعضهم لا يجب عليه الأكل، وله تركه وإن مات، لأن له غرضا في الامتناع
وهو أن لا يباشر النجاسة.
إذا اضطر الانسان إلى طعام الغير وقد ذكرنا صفة المضطر كان على صاحب الطعام
بذله، لقوله عليه السلام من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيمة مكتوب بين
عينيه " آيس من رحمة الله " وقالوا هذا أولى؟
فإذا ثبت هذا لم يخل المضطر من أحد أمرين أن يكون واجدا للثمن أو
لا يكون واجدا له، فإن كان واجدا لم يكن عليه بذله إلا ببدل لأنا ألزمناه البذل
لإزالة الضرر عنه، فلا ندخل الضرر على غيره، وإن كان المضطر غير قادر على ثمنه
لعدمه بكل حال أو لعدمه في ذلك المكان، فإن كان قادرا عليه في بلده لم يجب على
صاحبه بذله بغير بدله، وفيهم من قال يجب عليه البذل بغير بدل، لأن المنافع
كالأعيان.

(1) النساء: 29.
(2) البقرة: 195.
285

فإذا تقرر أن عليه البذل لم يخل من أحد أمرين إما أن يبذل أو يمنع، فإن
بذله له بثمن مثله كان عليه الشراء للآية التي قدمناها ولأن الواجد بالثمن كالواجد لعينه
بدليل أن من وجد الماء بثمن كان كالواجد له في المنع من التيمم، وكذلك القدرة
على ثمن الرقبة كالقدرة على الرقبة في الكفارات
هذا إذا بذل، وأما إذا منع وقال لا أدفع إليه أو يبذل أكثر من ثمن مثله لم
يخل المضطر من أحد أمرين إما أن يكون قادرا على قتاله ومكابرته عليه أو غير قادر
فإن كان قادرا على قتاله ومكابرته كان عليه لأنه كالمستحق له في يديه، ولو كان له
مال في يد غيره فمنعه إياه كان له قتاله على منعه.
فإذا ثبت أنه يقاتله عليه فكم القدر الذي يحل له أن يقاتله عليه؟ فمن قال لا
يزيد على سد الرمق قاتله عليه، ومن قال له الشبع قاتله عليه.
فإذا قاتله نظرت، فإن قتل صاحب الطعام كان هدرا لأنه قتله بحق وإن قتل
المضطر كان قتله مضمونا لأنه مقتول ظلما.
فأما إن لم يكن قادرا على قتاله أو قدر عليه فتركه حذرا على إراقة الدماء نظرت
فإن قدر أن يحتال عليه ويشتريه منه بعقد فاسد، حتى لا يلزمه إلا ثمن مثله فعل
وإن لم يقدر إلا على العقد الصحيح فاشتراه بأكثر من ثمن مثله، قال قوم يلزمه الكل
لأنه باختياره بذل، وقال آخرون لا يلزمه الزيادة على ثمن المثل لأنه مضطر إلى بذلها
فكان كالمكره عليها، وهو الأقوى عندنا.
هذا كله إن وجد الطعام ولم يجد الميتة، فأما إن وجد ميتة وطعام الغير، لم
يخل صاحب الطعام من أحد أمرين إما أن يكون حاضرا أو غائبا فإن كان حاضرا
نظرت، فإن بذله بثمن مثله لم يحل أكل الميتة، فإن قاتله ومنعه لم يكن له قتاله و
يعدل إلى أكل الميتة، لأنه إنما يطلب طعام الغير خوفا على الهلاك وفي قتاله غرور
بما أراق دما وكان له ترك هذا إلى أكل الميتة.
وإن كان صاحب الطعام غايبا أو حاضرا ضعيفا لا نهضة به إلى منع المضطر من
طعامه قال قوم: ليس له أكل الميتة، لأنه قادر على طعام الغير بثمن مثله، وقال
286

آخرون يأكل الميتة والأول أقوى عندنا.
إذا وجد المضطر ميتة وصيدا حيا وهو محرم، فعندنا يأكل الميتة لأنه إن
ذبح الصيد كان حكمه حكم الميتة، وإن وجده مذبوحا أكل الصيد وفداه ولا يأكل
الميتة، وقال بعضهم يأكل الميتة بكل حال، وقال آخرون يأكل الصيد ويذبحه ويفديه.
وأما ذكاة المحرم فعندنا وعند جماعة لا تبيح كذكاة المجوسي وقال آخرون ذكاته
تبيح لغيره ولا تبيح لنفسه، فإذا قلنا ذكاته لا تبيح فالميتة أولى، لأن الصيد حرام
من وجهين، ومن قال يحرم عليه وحده فالصيد أولى عنده، لأن الصيد على هذا طاهر
والميتة نجس.
فأما إذا وجد صيدا مذبوحا وميتة نظرت، فإن كان ذبحه حلال في حل فقد وجد
ميتة وطعام الغير وقد مضى الحكم فيه، وإن كان هو الذي ذبح الصيد فإن كان ذبحه
قبل إحرامه فقد وجد ميتة وطعاما طاهرا لنفسه، فهو غير مضطر إليها يأكل ويفدي
عندنا وإن كان هو الذي ذبحه حال إحرامه فقد مضى القول فيه.
فإن وجد المضطر آدميا ميتا حل له أكله، كما لو كانت الميتة بهيمة للآيات
وعمومها.
وعندنا وعند جماعة لا تحل الميتة للباغي وإن كان مضطرا، وهو الخارج على
الإمام، ولا للعادي وهو قاطع الطريق. وفي الناس من يقول لا يجوز أكل لحم الآدمي
بحال للمضطر لأنه يؤدي إلى أكل لحوم الأنبياء، وهذا ليس بصحيح، لأن المنع
من ذلك يؤدي إلى أن الأنبياء يقتلون أنفسهم بترك لحم الآدمي عند الضرورة، فكان
من حفظ النبي في حال حياته أولى من الذي لم يحفظ بعد وفاته، بدليل أن من قتل
نبيا حيا ليس كمن أتلف آدميا ميتا.
وأما إن وجد آدميا حيا نظرت فإن كان محقون الدم كالمسلم والذمي لم يحل
قتله لأكله، لأنه محقون الدم على التأبيد وأن كان مباح الدم كالكافر الأصلي والمرتد
والزاني المحصن، والمقدور عليه في المحاربة قبل التوبة، كان كالميتة ويؤكل لأنه
مباح الدم، فلا إثم عليه في قتله، وهو ميتة بعد قتله، وهو مضطر قد وجد ميتة.
287

فإن لم يجد المضطر شيئا بحال. قال قوم: له أن يقطع من بدنه المواضع الجسمة
كالفخذ ونحوها فيأكله خوفا على نفسه، لأنه لا يمنع إتلاف البعض لاستبقاء الكل.
كما لو كان به آكلة أو خبيثة يقطعها، والصحيح عندنا أنه لا يفعل ذلك، لأنه إنما
يأكل خوفا على نفسه، وفي القطع منه خوف على نفسه، فلا يزال الخوف بالخوف،
ويفارق الخبيثة لأن في قطعها قطع السراية، وليس كذلك قطع موضع من بدنه، لأن
في قطعه إحداث سراية.
فأما إن وجد المضطر بولا وخمرا يشرب البول دون الخمر لأن البول لا يسكر
ولا حد في شربه، فإن لم يجد إلا خمرا فالمنصوص لأصحابنا أنه لا سبيل لأحد إلى
شربها سواء كان مضطرا إلى الأكل والشرب أو التداوي، وبه قال جماعة، وقال بعضهم
إن كان الضرورة العطش حل له شربها ليدفع العطش عن نفسه، وقال بعضهم يحل
للمضطر إلى الطعام والشراب ويحل تداوى العين به دون الشراب.
إذا مر الرجل بحائط غيره حل له الأكل من غير ضرورة، ولا يجوز له حمله
وعند المخالف لا يجوز من غير ضرورة، وقال بعض أصحاب الحديث ينادي ثلاثا فإن
أجابوه، وإلا دخل وأكل، ولم يتخذ جنبة وهذا قريب مما قلناه.
روى أبو واقد الليثي أن رجلا قال يا رسول الله إنا نكون بالأرض فتصيبنا بها
المخمصة، فمتى تحل لنا الميتة؟ فقال: ما لم تصطبحوا أو تغتبقوا أو تحتفئوا بها بقلا
شأنكم بها (1).
قال سألت أبا عمرو بن العلا وأبا عبيدة فقالا: لا نعرف تحتفئوا، ثم بلغني بعد
عن أبي عبيدة أنه قال: هو من الحفاء مهموز مقصور، وهو أصل البردي الأبيض
الرطب منه، وهو يؤكل فتأوله في تحتفئوا يعني ما لم تقتلعوا هذا بعينه فتأكلوه.

(1) رواه الدارمي على ما في مشكاة المصابيح ص 370.
288

* (كتاب السبق والرماية) *
قال الله تعالى " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به
عدو الله وعدوكم (1) " وروى عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وآله قال: ألا إن القوة الرمي
ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ووجه الدلالة أن الله تعالى أمر بإعداد
الرمي ورباط الخيل للحرب، ولقاء العدو والإعداد، وذلك لا يكون إلا بالتعلم
والنهاية في التعلم المسابقة بذلك، ليكد كل واحد نفسه في بلوغ النهاية والحذق فيه
فكان في ضمن الآية دليل على ما قلناه.
وقال تعالى " يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا (2) " فأخبر
بالمسابقة.
وروى ابن أبي ذويب عن نافع عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله قال: لا سبق
إلا في نصل أو خف أو حافر، وروي لا سبق بسكون الباء، وروي بفتح الباء فالسكون
مصدر مشتق من فعل سبق يسبق سبقا، والسبق بالفتح العوض المخرج في المسابقة
فأثبت النبي صلى الله عليه وآله السبق في هذه الثلاثة.
وروى أبو لبيد قال سئل أنس بن مالك هل كنتم تراهنون على عهدا رسول الله؟
فقال: نعم راهن رسول الله صلى الله عليه وآله على فرس له فسبق، فسر بذلك وأعجبه.
وروي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله سابق بين الخيل المضمرة من الحفيا إلى ثنية
الوداع خمسة أميال إلى ستة ومن ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق ميل، والمشهور
في الخبر الخيل المضمرة بتخفيف الميم، وروى الساجي المضمرة بفتح الضاد وتشديد الميم.
وروي عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: كان لرسول الله
صلى الله عليه وآله ناقة يقال لها العضبا إذا تسابقت سبقت فجاء أعرابي على بكر فسبقها

(1) الأنفال: 60.
(2) يوسف: 17.
289

فاغتم المسلمون فقيل: يا رسول الله سبقت العضبا؟ فقال: حق على الله أن لا يرفع شيئا
في الناس إلا وضعه وفي بعضها ألا يرفع شيئا في الناس إلا وضعه (1).
وروي عن عايشة قالت كنت مع رسول الله في غزاة فقال للقوم تقدموا فتقدموا، فقال
لي تعالي أسابقك فسابقته برجلي فسبقته، فلما كان في غزاة أخرى قال للقوم تقدموا
فتقدموا، وقال تعالى أسابقك فسابقته فسبقني، وكنت قد نسيت، فقال: يا عايشة
هذه بتلك وكنت بدنت.
وروي أن النبي صلى الله عليه وآله مر بقوم من الأنصار يترامون، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله:
أنا مع الحزب الذي فيه ابن الأدرع، فأمسك الحزب الآخر، وقالوا: لن يغلب حزب
فيه رسول الله، فقال ارموا فأني أرمي معكم فرمى مع كل واحد منهم رشقا فلم يسبق
بعضهم بعضا، فلم يزالوا يترامون وأولادهم وأولاد أولادهم لا يسبق بعضهم بعضا.
وروي عن بعضهم أنه قال: تناضلوا واحتفئوا واخشوشنوا وتمعددوا.
قوله " تناضلوا " يعني تراموا، والنضال الرمي، " واحتفئوا " يعني امشوا حفاة
" واخشوشنوا " يعني البسوا الخشن من الثياب، وأراد أن يعتادوا الحفا " وتمعددوا "
يعني تكلموا بلغة معد بن عدنان، فإنها أفصح اللغات وأيسرها.
وعليه إجماع الأمة لأنه لا خلاف بينهم في جوازه، وإنما الخلاف في أعيان
المسائل.
فإذا تقرر جواز ذلك في الجملة، فالكلام فيما يجوز المسابقة عليه، وما لا
يجوز، وما تضمنه الخبر من النصل والحافر والخف.
فالنصل ضربان: أحدهما نشابة وهي للعجم، والآخر السهم وهي للعرب
والمزاريق وهي الردينيات والرماح والسيوف كل ذلك من النصل ويجوز المسابقة عليه
بعوض لقوله تعالى " وأعدوا لهم ما استطعتم " الآية ولقوله لا سبق إلا في نصل أو خف
أو حافر، وكل ذلك يتناوله اسم النصل.

(1) وفي بعضها كما في مشكاة المصابيح: 336 أن لا يرتفع شئ من الدنيا إلا وضعه.
290

وأما الخف فضربان إبل وفيلة، فأما الإبل فيجوز المسابقة عليه، لقوله تعالى
" فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب " (1) وللخبر أيضا والركاب الإبل ولأن النبي
صلى الله عليه وآله سابق بناقته العضباء، وأما الفيل فقال قوم لا يجوز، لأنه ليس مما
يكر ويفر، وقال آخرون يجوز وهو الأظهر والأقوى عندنا لعموم الخبر.
وأما المسابقة على الخيل فجائز لقوله " ولا حافر " ولقوله تعالى " ومن رباط
الخيل " وقوله " من خيل ولا ركاب " وعليه الاجماع.
وإما البغال والحمير فقال قوم لا يجوز المسابقة عليها، لأنها لا تكر ولا تفر
كالبقر، وقال آخرون جائز، وهو الأقوى لعموم الخبر.
فأما ما لم يرد فيه الخبر فمذهبنا أنه لا يجوز المسابقة عليه، لأن النبي صلى الله عليه وآله نفى
أن تكون المسابقة إلا في الثلاثة الأشياء، فمن ذلك المسابقة بالأقدام أو إلى حبل (2)
أو على أن يدحو حجرا أو على المصارعة أو الطير خمس مسائل.
فالمسابقة بالأقدام يكون على ضربين: إما أن يتعاديا فأيهما سبق صاحبه فهو
السابق أو يكون للمدى شيئا معلوما فهو جائز بلا عوض بلا خلاف وفي كونه بعوض فيه
خلاف، وقد بينا أن عندنا لا يجوز بحال، فمن أجازه استدل بما روي أن النبي
صلى الله عليه وآله سابق عائشة.
وأما المسابقة على أن يدحو حجرا يدفعه من مكان إلى مكان ليعرف به الأشد
فلا يجوز بعوض وبغير عوض لأنه لا يقاتل بها.
والمسابقة بالمصارعة بغير عوض [تجوزو] ظ أجازه قوم بعوض وفيه خلاف فمن أجازه قال:
لما روي أن النبي صلى الله عليه وآله خرج إلى الأبطح فرأى يزيد بن ركانة يرعى أعنزا له، فقال
للنبي: هل لك في أن تصارعني؟ فقال له النبي صلى الله عليه وآله ما تسبق لي؟ فقال شاة، فصارعه
فصرعه النبي عليه وآله السلام فقال للنبي هل لك في العود؟ فقال النبي ما تسبق لي
فقال: شاة فصارعه فصرعه، فقال للنبي صلى الله عليه وآله هل لك في العود؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله ما
تسبق لي فقال شاة فصارعه فصرعه، فقال للنبي أعرض على الاسلام، فما أحد وضع

(1) الحشر: 6 (2) يعني إلى أكمة أو ربوة أو جبل.
291

جنبي على الأرض، فعرض عليه الاسلام فأسلم ورد عليه غنمه والأقوى أنه لا يجوز
لعموم الخبر.
وأما المسابقة بالطيور، فإن كان بغير عوض جاز عندهم، وإن كان بعوض فعلى
قولين، وعندنا لا يجوز للخبر
وأما المسابقة بالسفن والزيارق، فقال قوم يجوز، وقال آخرون لا يجوز، و
هو الصحيح عندنا للخبر.
* * *
الأسباق جمع سبق، وهو المخرج للسبق، ولا يخلو ذلك من ثلاثة أحوال إما
أن يخرجه غيرهما، أو أحدهما، أو هما، فإن كان الذي يخرج غيرهما، فإن كان
الإمام نظرت، فإن أخرجه من ماله جاز، لما روي أن النبي صلى الله عليه وآله سابق بين الخيل
وجعل بينهما سبقا، وفي بعضها سابق بين الخيل وراهن، وإن أراد اخراجه من
بيت المال جاز أيضا للخبر ولأن فيه مصلحة للمسلمين وعدة، وإن كان المخرج
لذلك غير الإمام جاز أيضا عندنا، وقال بعضهم لا يجوز لأنه من المعاونة على الجهاد
وليس ذلك إلا للإمام والأول أقوى، لأن فيه نفعا للمسلمين.
فالتفريع على هذا:
إن قال لاثنين أيكما سبق إلى كذا فله عشرة دراهم صح لأن كل واحد منهما
يجتهد أن يسبق وحده
فأما إن قال لاثنين من سبق فله عشرة، ومن صلى فله عشرة، و
قوله صلى يعني حاذى رأس فرسه صلوى فرس السابق، والصلوان الحقوان.
فإذا سوى بينهما في العطية:
فإن لم يدخل بينهما ثالثا كان خائبة لأن كل واحد منهما لا يكد ولا يجهد
لأنه إن سبق فله العشرة وإن صلى فله العشرة.
وإن أدخل بينهما ثالثا وقال أي الثلاثة سبق أو صلى فله العشرون صح لأن
كل واحد منهم يكد ويجهد خوفا أن يكون ثالثا غير سابق ولا مصلى.
هذا إذا سوى بينهما فأما إن فاضل في العطية فقال للسابق عشرة، وللمصلي
292

خمسة، فإن أدخل بينهما ثالثا صح لأن كل واحد يخاف أن يكون ثالثا لا يأخذ
شيئا، وإن لم يدخل بينهما ثالثا قال قوم لا يصح لأن كل واحد منهما لا يخلو من
جعل، وقال آخرون يصح وهو الأقوى عندي، لأن كل واحد منهما يكد ويحرص
على تحصيل الأكثر.
هذا إذا كان المسبق غيرهما. فأما إذا كان المسبق أحدهما، فقال أينا يسبق
فله عشرة، إن سبقت أنت فلك العشرة، وإن سبقت أنا فلا شئ عليك، جاز هذا
عند قوم ولا يجوز عند آخرين والأول أقوى، لأن الأصل جوازه.
الثالث أن يسبق كل واحد منهما صاحبه، فيخرج كل واحد منهما عشرة ويقول من
سبق فله العشرون معا، فإن لم يدخلا بينهما محللا فهو القمار بعينه، لما روي أن
النبي صلى الله عليه وآله قال من أدخل فرسا بين فرسين وقد أمن أن يسبق فهو قمار، وإن لم يأمن
فليس بقمار.
والدلالة من أول الخبر، وهو إنهما لو تسابقا وأدخلا بينهما ثالثا قد أمن أن
يسبق معناه أي قد أيس أن يسبق، لضعف فرسه وقوة الآخرين، فهو قمار لأنه قد
علم وعرف أنه لا يسبق ولا يأخذ شيئا، فإذا لم يجز هذا ومعهما ثالث قد أيس أن يسبق
فبأن لا يجوز إذا لم يكن معهما ثالث بحال أولى.
فهذا دلالة الفقهاء وعندي أنه لا يمنع جوازه، لأن الأصل الإباحة، فأما إن
أدخلا بينهما ثالثا لا يخرج شيئا، وقالا إن سبقت أنت فلك السبقان معا، فهذا جائز
عند قوم، وعند آخرين لا يجوز، والأول أقوى، لأن الأصل جوازه.
فعلى هذا إذا أدخلا بينهما محللا نظرت فإن لم يكن فرسه كفوا لفرسيهما، و
هو أن كان على برذون وكل واحد منهما على عربي جواد، فالمسابقة قمار للخبر الذي
قدمناه وإن كان فرسه كفوا لفرسيهما، فهذا هو الجائز لقوله عليه السلام من أدخل فرسا
بين فرسين ولا يأمن أن يسبق فليس بقمار.
إذا أسبق كل واحد منهما عشرة وأدخلا بينهما محللا لا يخرج شيئا وقالا: أي
الثلاثة سبق فله السبقان معا فإن تسابقوا على هذا فسبق أحد المسبقين وتأخر المحلل
293

والآخر معا كان السبقان معا للسابق، يمسك سبق نفسه ويستحق سبق غيره، وقال
بعضهم يمسك سبق نفسه، ولا يستحق سبق غيره، والأول أصح، للخبر المتقدم.
ويتفرع على هذا سبع مسائل ثلاث لا خلاف فيها مع هذا القائل وأربع فيها
خلاف.
فالتي لا خلاف فيها: إذا سبق الثلاث كلهم أتوا الغاية معا فههنا يحوز كل واحد
منهما مال نفسه، ولا شئ للمحلل، لأنه ما سبق، الثانية سبق المسبقان معا وتأخر
المحلل فكل واحد منهما يحوز مال نفسه، ولا شئ للمحلل لأنه ما سبق، الثالثة
سبق المحلل وحده، وتأخرا، أخذ المحلل السبقين لأنه قد سبقهما.
وأما الأربعة التي فيها خلاف فترتيبها أن يبنى على المحلل.
الأولى سبق أحد المسبقين والمحلل معا فتأخر الآخر فالمسبق يحوز مال نفسه
ويكون العشرة بينه وبين المحلل نصفين، لأنهما سبقا المسبق الآخر، وقال المخالف
يحوز المسبق السابق سبق نفسه، وتكون العشرة للمحلل لأنه لو شاركه المسابق السابق
كان قمارا لأنه يحصل في القوم من يغنم تارة ويغرم أخرى وهذا لا سبيل إليه، وقد
سبق المسبق المتأخر فكان العشرة له وحده.
الثانية سبق أحد المسبقين وصلى المحلل، وتأخر الآخر، فالسابق يحوز مال
نفسه وسبق الآخر، لأنه قد سبق الكل، وعلى قول المخالف تكون العشرة التي
للمتأخر للمحلل، لأنه قد سبق المتأخر.
الثالثة سبق أحد المسبقين وتأخر المحلل والمسبق الآخر معا، فالسابق يحوز
مال نفسه، وسبق المتأخر، وعلى قول المخالف يحوز السابق مال نفسه، والمسبق
الثاني يحوز مال نفسه ولا شئ للمحلل لأنه ما سبق أحدا.
الرابعة سبق أحد المسبقين وصلى المسبق الآخر وتأخر المحلل عنهما، فالسابق
يحوز السبقين معا، وعلى قول المخالف للسابق سبق نفسه وللمسبق الثاني سبق نفسه
ولا شئ للمحلل لأنه تأخر عنهما.
إذا قال أجنبي أو إمام أو غيره لعشرة أنفس: من سبق فله عشرة، فإن وافى القوم معا
294

فلا شئ لواحد منهم، لأنه ما سبق أحدا فلم يوجد الشرط، فإن وافى منهم واحد و
تأخر الباقون كان له العشرة، وإن وافى تسعة وتأخر العاشر كان العشرة للتسعة.
وإذا قال من سبق فله عشرة، ومن صلى فله خمسة، فإن سبق خمسة وصلى
أربعة، وتأخر العاشر، كان لمن سبق عشرة وهم خمسة، ولمن صلى خمسة وهم أربعة
ولا شئ للآخر.
فإن سبق واحد وصلى ثمانية، وتأخر العاشر، فلمن سبق عشرة، ولمن صلى خمسة
ولا شئ للعاشر، فإن سبق ثلاثة وصلى أربعة وتأخر الباقون فلمن سبق عشرة ولمن
صلى أربعة، ولا شئ للباقين، وعلى هذا أبدا.
الهادي العنق، والكتد الكاهل وهو العالي ما بين أصل العنق والظهر، وهو من
الخيل مكان السنام، ومن البقر هو مجتمع الكتفين.
فإذا ثبت هذا فمتى تسابقا لم يخل الفرسان من أحد أمرين إما أن يكونا في
الخلقة متساويين أو مختلفين، فإن كانا متساويين في القد وطول العنق، فمتى سبق
أحدهما الآخر بالهادي أو ببعضه أو بالكتد فقد سبق.
وأما إن كانا مختلفين في الخلقة مثل أن يكون طول عنق أحدهما ذراعا وطول
عنق الآخر ذراعا وشبرا، فإن سبق القصير الطويل بالهادي أو ببعضه فقد سبق، وكذلك.
إذا كان الرأسان سواء وإن سبق الطويل القصير فإن كان بقدر الزيادة في الخلقة لم يكن
سابقا لأن ذلك لطول خلقته لا لسرعة عدوه، وإن كان السبق بأكثر من الزيادة في
الخلقة كان سابقا.
والاعتبار في السبق بالكتد أو الهادي عند الأكثر، وقال شاذ الاعتبار بالأذن
فإذا سبق بها فقد سبق، لقوله صلى الله عليه و آله بعثت والساعة كفرسي رهان كاد أحدهما أن يسبق
الآخر بإذنه، والأول أقوى، لأن أحد الفرسين متى رفع عنقه قليلا كان هو السابق
وإن كان أذن الآخر أسبق، والخبر المراد به ضرب المثل على سبيل المبالغة كما قال
من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة، وإنما أراد المبالغة
في الكل بضرب المثل.
295

لا يجوز المسابقة حتى يكون ابتداء الغاية التي يجريان منها والانتهاء التي
يجريان إليها معلوما ولما روي أن النبي صلى الله عليه وآله سابق بين الخيل المضمرة من الحفيا
إلى ثنية الوداع وبين التي لم يضمر من ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق.
ومن شرطه أن تكون الغاية التي يجريان إليها واحدة، ولا تختلف الغايتان
فتكون إحداهما أبعد من الأخرى.
وإما المناضلة إذا تناضلا على الإصابة جاز، وإن تناضلا على أيهما أبعد رميا قال
قوم يجوز وقال آخرون لا يجوز، والأول أقوى.
النضال اسم يشتمل على المسابقة بالخيل والرمي معا ولكل واحد منهما اسم
ينفرد به، فالمناضلة في الرمي والرهان في الخيل فأما قولهم سبق فهو من الأضداد سبقه
بمعنى أخرج السبق وسبقه أحرز السبق.
وجميع أحكام الرهان معتبرة في النضال إلا من واحد وهو أن المسابقة لا تصح
حتى تعين الفرس ومتى نفق لم يستبدل صاحبه غيره، وفي النضال لا يحتاج إلى تعيين
القوس، وإن عينها لم يتعين، ومتى انكسرت كان له أن يستبدل، لأن المقصود
من النضال الإصابة، ومعرفة حذق الرامي، وهذا لا يختلف لأجل القوس، والقصد
في المسابقة معرفة السابق، فلهذا اختلف باختلاف الفرس وإذا نفق لم يقم غيره مقامه، لأنه
قد يكون دون الأول أو خيرا منه، وليس كذلك القوس لأن المقصود معرفة حذقه
فكل قوس يذهب يقوم غيرها مقامها.
لا تصح المناضلة إلا بسبع شرايط: وهو أن يكون الرشق معلوما، وعدد الإصابة
معلوما، وصفة الإصابة معلومة، والمسافة معلومة، وقد الغرض معلوما، والسبق معلوما
وأن يشترط مبادرة أو محاطة.
أما الرشق بكسر الراء فعبارة عن عدد الرمي، يقال رشق ووجه ويد واليد بالفارسية
دست، وقوله " وجه " معناه أن يقفوا عند أحد الغرضين يرمون رشقهم إلى الآخر
فقالوا وجه، وأما الرشق بفتح الراء فعبارة عن الرمي، يقال فرس رشيق وغلام رشيق
إذا كان دقيقا وليس للرشق عدد معلوم عند الفقهاء، بل على أي عدد يتفقان عليه، و
296

عند أهل اللغة عبارة عما بين عشرين إلى ثلاثين.
وأما عدد الإصابة فأن يقال الرشق عشرون والإصابة خمسة، ونحو هذا.
وصفة الإصابة معلومة، وهو أن يقال حوابي أو خواصر أو خوارق أو خواسق
وقيل خواصل ومنه يقال خصلت مناضلي أي سبقته.
فالحوابي ما وقع بين يدي الغرض، وحبا إليه أي سبق إليه، ومنه قال حبا الصبي يحبو إذا
حبا من مكان إلى مكان، والخواصر ما كان في جانبي الغرض ومنه قيل الخاصرة لأنها
من جانبي الرجل، والخوارق ما خدش الغرض ولم يثبت فيه، والخواسق ما فتح الغرض
وثبت فيه والخواصل اسم للإصابة أي إصابة كانت.
وللإصابة غير هذه الأسماء لكنها ليست من شرايط المناضلة، وهو المارق والخارق
والخازم والمزدلف، فالمارق هو الذي يقع في الغرض وينفذ فيه، ويقع في الجانب
الآخر والخازم والخارق معا عبارة عن الذي يخزم حاشية الغرض ثبت فيه أو لم يثبت
والمزدلف هو الذي يقع في الأرض قبل الغرض ثم يثبت إلى الغرض.
وأما المسافة وهو ما بين الهدفين لا بد أن يكون معلومة، فيقال مائتا ذراع أو
ثلاثمائة ونحوه، وأما الغرض فنذكر أولا الهدف ثم الغرض، فالهدف هو التراب المجموع
الذي ينصب فيه الغرض أو حائط أو غير ذلك، والغرض هو الذي ينصب في الهدف و
يقصد إصابته، ويكون من رق أو جلد أو خشب أو ورق أو قرطاس، والغرض الرقعة
من الشن البالي، والرقعة ما نصبت من التراب. وقال بعض أهل اللغة الغرض هو المعلق
غير منصوب في التراب.
وقد الغرض يكون معلوما، يقال شبر أو أربع أصابع في أربع أصابع
وأما السبق والقرع فعبارة عن المال المخرج في المناضلة، وقال ابن الأعرابي السبق و
الخطر والندب والقرع والوجب عبارة عن المال المخرج، وأما المبادرة فأن يبادر
أحدهما إلى الإصابة مع تساويهما في عدد الرمي المجموع والمحاطة أن يبادر أحدهما
إلى الإصابة مع تساويهما في عدد الرمي بعد اسقاط ما تساويا في الإصابة. فالست الأولة
شرط، وأما ذكر المبادرة والمحاطة، قال قوم هو شرط، وقال آخرون ليس بشرط،
297

والتفريع على المبادرة والمحاطة فقد قلنا إن المبادرة أن يبادر أحدهما إلى الإصابة
مع تساويهما في عدد الرمي، فإذا وجد هذا أحدهما فقد فضله.
بيانه شرطا الرشق عشرين والإصابة خمسة، وعلى هذه الصورة جميع ما نذكره
من المسائل فيما بعد، فرمى كل واحد منهما عشرة وأصاب كل واحد منهما خمسة، فقد
تساويا في عدد الرمي والإصابة فما فضل أحدهما صاحبه، ولا يرميان ما بقي من الرشق
لأنه يخرج عن المبادرة.
فإن كانت لحالها، فرمى كل واحد منهما عشرة، فأصاب أحدهما خمسة، والآخر
أربعة، فقد فضله صاحب الخمسة فأما إن رمى كل واحد منهما خمسة عشر، فإن أصاب
كل واحد منهما خمسة فما فضل أحدهما صاحبه ولا يرميان ما بقي وإن أصاب أحدهما
خمسة والآخر أربعة فقد فضل صاحب الخمسة، وعلى هذا أبدا.
فإن رمى كل واحد منهما عشرين فأصاب كل واحد منهما خمسة فما فضل أحدهما
صاحبه ولا يرميان ما بقي، وإن أصاب أحدهما أربعة والآخر خمسة فقد فضله صاحب
الخمسة، وهذا أصل متى تساويا في عدد الرمي والإصابة معا قبل إكمال الرشق لم
يكملاه، ومتى بادر أحدهما إلى الإصابة مع تساويهما في عدد الرمي فقد فضل و
على هذا أبدا.
وأما المحاطة فقد قلنا هو أن يبادر أحدهما إلى عدد الإصابة مع تساويهما في عدد
الرمي، بعد أسقاط ما تساويا فيه من الإصابة، فإن عدم هذا لم يفضل أحدهما صاحبه.
بيانه الرشق عشرون والإصابة خمسة، على ما صورناها، رمى أحدهما عشرة
فأصاب خمسة، ورمى الآخر عشرة فأصاب خمسة، تحاطا ذلك وأكملا الرشق، فإن
كانت بحالها فرمى أحدهما عشرة فأصاب تسعة، ورمى الآخر عشرة فأصاب خمسة
تحاطا خمسة بخمسة، وفضل الآخر يكملان الرشق، وعلى هذا أبدا.
فإن بادر أحدهما إلى الإصابة مع تساويهما في عدد الرمي بعد اسقاط ما تساويا
فيه من الإصابة لم يخل من أحد أمرين، إما أن يكون هذا بإكمال الرشق، أو قبل
إكماله، فإن كان هذا بإكمال الرشق، فقد فضل المنفرد بالإصابة.
298

بيانه رمى كل واحد منهما العشرين، فأصاب أحدهما كلها، وأصاب الآخر
خمسة عشر فخمسة عشر بخمسة عشر، وانفرد أحدهما بخمسة، فقد فضله، هذا إذا حصل
كذلك بإكمال الرشق.
فأما إن حصل هذا قبل إكمال العشرين، وهو أن يبادر أحدهما إلى الإصابة مع
تساويهما في عدد الرمي، بعد اسقاط ما تساويا فيه من الإصابة، فطالب صاحب الأقل الأكثر
بإكمال الرشق، فقال صاحب الأكثر قد فضلتك لا أرمى ما بقي من الرشق، فهل عليه
الرمي أم لا؟ لم يخل من أحد أمرين إما أن يكون له فائدة في إكمال الرشق، أو
لا فائدة:
فإن لم يكن له فائدة فقد فضله صاحب الأكثر، ولا يجب إكمال الرشق، مثل
أن رمى أحدهما خمسة عشر فأصابها، ورمى الآخر خمسة عشر فأصابها خمسة، فلا
يجب الإكمال، لأن أكثر ما فيه أن يرمي صاحب الأقل ما بقي من الرشق، وهو خمسة
فيصيبها فيضمها إلى الخمسة التي له، فتصير عشرة، ويرمي صاحب الأكثر ما بقي و
يخطئها كلها وله خمسة عشرة تحاطا عشرة بعشرة وفضل صاحب الأكثر بخمسة وهو
عدد الإصابة فلهذا قلنا لا يرمي ما بقي.
وأما إن كان لصاحب الأقل فائدة بإكمال الرشق، فقد يكون الفائدة رجاء أن
ينضل صاحب الأكثر، وقد يكون أن يساوي صاحب الأكثر في الإصابة، وقد يكون
أن يمنع صاحب الأكثر أن ينفرد بعدد الإصابة.
بيان ذلك أنه ينضل صاحب الأقل صاحب الأكثر، بأن يرمي أحدهما عشرة
فيصيب ستة، ويرمي الآخر عشرة فيصيب واحدا وبقي من الرشق عشرة، فيصيبها
صاحب الواحد فيصير له أحد عشر، ويخطئها صاحب الستة فيكون له ستة، ولهذا
أحد عشر فيتحاطا ستة بستة وتبقى لصاحب الأحد عشر خمسة، فيفضله بذلك.
وأما المساواة فبأن يرمي أحدهما خمسة عشر [فيصيب عشره] ظ ويرمي الآخر
خمسة عشر فيصيب خمسة، فإذا أكملا الرشق أصاب صاحب الخمسة ما بقي فيصير له عشر
إصابات ويخطئها صاحب العشرة فيكون لكل واحد منهما عشرة وتساويا وسقطا.
299

وأما أن يمنع صاحب الأكثر أن ينفرد بالإصابة، مثل أن يرمي أحدهما خمسة
عشرة، فأصاب إحدى عشر، ورمى الآخر خمسة عشر فأصاب اثنين، فإذا أكمل الرشق
أصاب صاحب الاثنين ما بقي وهو خمسة صار له سبعة، وأخطأ صاحب الأحد عشر ما بقي
فاستقر له أحد عشر، ثم تحاطا ما تساويا فيه من الإصابة سبعة بسبعة، وفضل لصاحب
الأحد عشر أربعة.
فالحكم في كل هذا واحد: متى كان لصاحب الأقل فائدة إما أن يرجع إلى أن
يفضل صاحبه، أو يساويه في عدد الإصابة أو يمنعه عن الانفراد بعدد الإصابة، فهل له
المطالبة بإكمال الرشق أم لا؟ قال قوم: ليس له ذلك، لأن صاحب الأكثر قد بادر
إلى الإصابة مع تساويهما في عدد الرمي بعد اسقاط ما تساويا فيه من الإصابة، فوجب
أن يكون ناضلا، كما لو تناضلا مبادرة وبادر أحدهما إلى الإصابة مع تساويهما في عدد
الرمي فإنه قد فضل أحدهما صاحبه، وقال آخرون وهو الأقوى عندي: له مطالبته
بإكمال الرشق، لأن له فائدة، لأنه ربما فضل أو أسقط ما له من الفضل أو يساوي
فلهذا كان له المطالبة بإكمال الرشق.
ويفارق المبادرة لأن موضوعها على أن لا يحط ما تساويا فيه من الإصابة، فإن
بادر أحدهما إلى الإصابة مع تساويهما في عدد الرمي فلا معنى لإكمال الرشق، فبان
الفصل بينهما.
إذا تسابقا أو تناضلا، وأخرج كل واحد منهما سبقا وأدخلا بينهما محللا فهل
ذلك من العقود الجائزة أو اللازمة؟ قال قوم من العقود الجائزة كالجعالة، وقال آخرون
من العقود اللازمة كالإجارة، والأقوى الأول.
فمن قال من العقود اللازمة، قال لزم، ويلزم الوفاء به، ومتى أراد أحدهما
أن يخرج منه نفسه بعد التلبس بالمناضلة أو قبل التلبس وبعد العقد، لم يكن له ذلك
ومن قال من الجائزة، قال هو كالجعالة وأيهما أراد اخراج نفسه من السباق، كان
له ذلك، وعلى القولين يصح أن يكون العوض فيه عينا ودينا.
فإذا تم النضال بينهما سواء قيل إنه جائز أو لازم فقد استحق السبق بذلك.
300

فإن كان عينا كان الناضل يستحقها كسائر أمواله، فإن اختار تملكها وأحرزها وإن
شاء أطعمها أصحابه، وإن كان العوض دينا طالبه، فإن منعه حكم الحاكم عليه به،
كما يقضي عليه في سائر الديون، وإن كان موسرا استوفاه وصنع به ما شاء على ما ذكرناه
وإن كان معسرا كان الناضل أحد الغرماء، فإن كان مفلسا ضرب به معهم.
وهل يجوز أخذ الرهن والضمين بالسبق أم لا؟ لم يخل من أحد أمرين إما
أن يكون السبق عينا أو دينا فإن كان عينا لم يجز أخذ الرهن به، سواء كان قبل النضال
أو بعد الفراغ منه، لأنه لا يجوز أخذ الرهن والضمين بالأعيان، وإن كان السبق
دينا فإن كان بعد الفراغ من النضال جاز، لأنه لزم على القولين، لأن العمل قد وجد
وإن كان بعد العقد قبل النضال، فمن قال هو عقد إجارة قال يصح، لأنه رهن أو ضمين
بالأجرة في الإجارة، وهو جائز، ومن قال جعالة منهم من قال يجوز لقوله تعالى:
" ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم " (1) ولم يعقبه بنكير، وقال آخرون لا يصح
لأن الرهن والضمين كل واحد منهما عقد لازم، ومال الجعالة جائز، فلا يستوثق
للجائز باللازم كمال الكتابة وهو الأقوى.
لا يصح المناضلة حتى يكون السبق معلوما، لأنه يكون في معاوضة كالثمن في البيع
فإذا ثبت ذلك ففيه أربع مسائل: إن قال أسبقتك عشرة على أنك إن نضلتني فلك عشرة
ولا أرمي أبدا، أو لا أرمى شهرا - يعني أنفة كان هذا باطلا لأنه شرط ترك ما هو
مندوب إليه مرغب فيه فكان فاسدا فإذا فسد الشرط فسد النضال.
الثانية قال إن نضلتني فلك دينار حال وقفيز حنطة بعد شهر صح النضال.
الثالثة قال على أنك إن نضلتني فلك عشرة، وتعطيني قفيز حنطة، كان فاسدا لأن
موضوع النضال على أن الناضل يأخذ ولا يعطي، وهذا قد شرط عليه إذا نضل أن يعطي
وهذا فاسد، ولأن كل واحد منهما قد أسبق صاحبه، ولا محلل بينهما، وهذا فاسد.
الرابعة قال إن نضلتني فلك عشرة إلا دانقا صح لأنه استثناء معلوم من معلوم
يصح وإن قال على أن على عشرة إلا قفيز حنطة، كان باطلا لأن قيمة القفيز مجهول

(1) يوسف: 72.
301

فإذا حذف من المعلوم مجهولا كان مجهولا فلهذا بطل النضال.
إذا تناضلا فسبق أحدهما صاحبه، فقال إن نضلتني فلك عشرة، بشرط أن تطعم
السبق أصحابك فالنضال باطل، وقال قوم الشرط باطل، والنضال صحيح، وهذا أقوى.
فمن قال المناضلة صحيحة، قال يستحق الناضل المسمى وهو بالخيار، إن
شاء أطعم السبق أصحابه، وإن شاء منع، ومن قال المناضلة باطلة، فتناضلا فإن كان
الناضل هو المسبق فلا كلام يمسك مال نفسه، وإن كان الناضل هو المسبق لم يستحق
المسمى لأن المسمى سقط في العقد الفاسد.
وقال قوم يستحق أجرة المثل كالبيع والصلح والإجارة، وقال آخرون لا يستحق
شيئا لأنه إنما يجب أجرة المثل في الموضع الذي يفوت على العامل عمله، وعاد به
نفعه إلى الناضل، كالقراض الفاسد يجب عليه أجرة مثل العامل لأنه فوت عليه عمله
فيما عاد نفعه إليه.
إذا تسابقا نظرت، فإن كان السبق بالخيل، فإنهما يجريان معا في زمان واحد
لا يسبق أحدهما صاحبه، لأن السابق من سبق، إلى الغاية، وإن كان السباق بالمناضلة
فلا بد أن يبدأ أحدهما قبل صاحبه، لأنهما لو بدءا معا لم يعرف المصيب منهما، ولم
يستفد بالمناضلة حذقا.
ثم لا يخلو من أحد أمرين إما أن تكون المناضلة بشرط أن يبدأ فلان، فإذا
فعلا هذا كان على ما شرط، وإن أطلقاها من غير شرط فمن الذي يبدأ؟ لا يخلو النضال
من أحد أمرين، إما أن يكون كل واحد منهما سبق صاحبه أو لم يسبق.
فإن كان كل واحد منهما سبق صاحبه، قال قوم يقرع بينهما، لأنه لا مزية
لأحدهما، وقال آخرون النضال فاسد، والأول أقوى عندي، وإن لم يكن كل
واحد منهما أخرج السبق بل أخرج أحدهما أو غيرهما، قال قوم إن كان المسبق أحدهما
بدأ هو لأن له مزية، وإن كان غيرهما كان له الخيار إليه في تقديم أيهما شاء وقال
قوم النضال باطل، لأن موضع النضال على أن يكون للمسبق مزية.
وإن كان اخراج العوض منه فالسنة في النضال أن يكون لأهله غرضان وهدفان
302

يرمون من عند أحدهما إلى الآخر ثم يمشون إلى الذي رموا إليه فيأخذون سهامهم
ويقفون عنده، فيرمون إلى الذي ابتدؤوا منه، لما روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال:
ما بين الغرضين روضة من رياض الجنة.
فإذا ثبت هذا ورتبوا غرضين ووقفوا فرموا أولا من عند واحد إلى الآخر فبدأ
أحد الرماة إما بالشرط أو بالقرعة أو بالتسبيق على ما فصلناه، فإذا مشوا إلى الآخر
وجمعوا سهامهم للرمي لم يكن للذي بدء من عند الأول أن يبدء من عند الآخر، بل
يبدأ غيره على ما يرتبونه، لأن موضوع المناضلة على المساواة بين المتناضلين، بدليل
أن المسافة في الكل واحد.
فأما الكلام في كيفية الرمي، فإن إطلاق المناضلة يقتضي المراسلة أن يرمي سهما
وسهما كذلك حتى ينفد الرشق، لأنها عادة الرماة، فإن شرطا غير ما يقتضيه الاطلاق
مثل أن يرمي عشرة وعشرة رشقا ورشقا جاز.
وإذا عرض لأحد المناضلين عارض فاضطرب رميه لأجله، مثل أن أغرق النزع
فخرج السهم من اليمين إلى اليسار، وذلك أن من شأن السهم أن يسترسل على إبهام
بالغ صاحبه، فزاد في النزع فعبر القوس فمر على أصل سبابة يساره، وإن انكسر قوسه
أو انقطع وتره أو عرض في الطريق عارض غير سوق استرساله مثل أن وقع في بهيمة أو غيرها
ونفذ عنها أو طائر أو انسان أو استلبه ريح في أحد كتفيه فتغير نزعه.
وجملته متى عرض عارض اضطرب رميه لأجله لم يعتد بذلك السهم عليه من
الخطأ، إن هو أخطأ، لأن الخطأ ما كان لسوء رميه، فأما إذا كان لعارض فلا يكون
لسوء رميه، فيرد إليه ليعيد رميه، ومتى حصلت الإصابة مع العارض، قال قوم يعتد
عليه خطأ، وقال آخرون لا يعتد وهو الأقوى.
إذا تجاوز السهم الهدف مع العارض، قال قوم يعتد عليه، وقال آخرون لا
يعتد عليه.
قد قلنا إن الخاسق ما ثقب الغرض وثبت نصله فيه، والخارق ما خدشه ولم
يثقبه، فإذا شرطا الإصابة خواسق ورمى فأصاب الغرض ثلاث مسائل: إحداها ثقبه
303

وثبت نصله فيه، حسب له إصابة لأنه خسق.
الثانية خدش الغرض، ولم يثقبه، لم يعتد له إصابة، فكان خطأ لأنه شرط
الخواسق، وهذا خارق.
الثالثة ثقب الغرض ثقبا يصلح للخسق، غير أن السهم سقط ولم يثبت فيه، قال
قوم يحسب خاسقا لأنه ثقب الغرض، وإنما لم يثبت لمانع، وهو أن اتسع الثقب
أكثر من الحاجة، أو لثقبه غلظ منعه البقاء فيه، وقال آخرون وهو الأقوى إنه لا
يعتد به خاسقا لأن الخاسق ما ثبت فيه نصله، وهذا ما ثبت.
إذا شرطا الإصابة مطلقة، وهي الخواصل، فمتى أصاب الغرض بوجه مثل أن
خرق أو خسق أو خرم أو مرق فالكل إصابة يعتد له بها، لأنهما شرطا هذا.
إذا كانت الإصابة بينهما خواسق، فرمى أحدهما فأصاب الغرض ثم سقط السهم
فادعى الرامي أنه خسق، وإنما سقط ولم يثبت في الغرض لغلظ ثقبه من حصاة أو
نواة أو غيرهما، وأنكر صاحبه، لم يخل من أحد أمرين إما أن يعلم موضع الإصابة
أو لا يعلم.
فإن لم يعلم موضع الإصابة، فالقول قول المصاب عليه، لأن الأصل أن لا خسق
وهل القول قوله مع يمينه؟ نظر فإن لم يكن فيه غلظ ولا حصاة ولا ما يرد السهم
عن الثبات فيه، فالقول قوله بلا يمين، لأن الظاهر أن سقوطه لسوء رميه، وإن كان
فيه شئ من هذا فالقول قوله مع يمينه لأن ما يدعيه الرامي ممكن.
فأما إن عرف موضع الإصابة نظرت في الموضع، فإن لم يكن فيه ما يرد السهم
عن الثبوت، فالقول قول المصاب عليه، أيضا لما مضى، وإن كان هناك ما يرد السهم
من حصاة أو نواة، فإن لم يكن السهم خرق وجه الحصاة، فالقول قول المصاب عليه أيضا لأنه لو
كان الأمر على ما ادعاه الرامي لكان السهم قد فتح المكان، وبان أن المانع ما كان
وراءه من الحصاة، وإن كان السهم قد خرق ما في وجه الحصاة وبلغ النصل إلى الحصاة
فمن قال في المسألة الأولى يعتد له به خاسق، قال هاهنا مثله، ومن قال لا يعتد له
قال لا يعتد هاهنا له ولا عليه، حتى يرمي ثانيا لأنا لا نعلم هل خسق أم لا.
304

إذا كانت الإصابة خواسق، فرمى أحدهما فوقع سهمه في ثقبة كانت في الغرض
أو في مكان خلق بال، فثقب الموضع وثبت السهم في الهدف، وكان الغرض ملصقا
بالهدف، فهل يعتد به خاسقا أم لا؟ قال قوم ينظر في الهدف، فإن كان قويا كقوة
الغرض، مثل أن كان الهدف حائطا أو طينا جامدا قويا فهو خاسق، وإن كان الهدف
ضعيفا ولم يكن بقوة الغرض، كالتراب والطين الرطب لم يعتد به له، ولا عليه،
لأن أمره مشكل.
قد ذكرنا الخرم، وهو أن يقع السهم في حاشية الغرض فخرمه، وثبت فيه
مثل أن قطع من حاشيته قطعة وثبت فيه، أو شق الحاشية فثبت فيه، وكان الغرض
محيطا ببعض السهم، وبعض السهم لا يحيط به الغرض، فإذا كان كذلك فشرط
الخواسق فخرم، قال قوم لا يعتد به خاسقا، لأن الخاسق ما ثبت فيه ويحيط الغرض
بجميع دور السهم، وهذا ليس كذلك، وقال آخرون إنه خاسق، لأن الخاسق ما
ثقب الغرض وثبت فيه، وهذا موجود، لأنه إذا خرم فقد خسق وزيادة، لأنه قد
قطع منه قطعة ورماه وثبت السهم في مكان القطعة، فبأن يحسب خاسقا أولى.
هذا إذا ثلم الحاشية وثبت فيه وكان بعض دور السهم خارج الحاشية، فأما إذا
كانت الثلمة على صفة إذا كان حاشية الغرض ذهب، كان الغرض محيطا بكل السهم
كان خاسقا بلا خلاف.
إذا شرط الخواسق فرمى أحدهما سهم فمرق، فقد وصفنا المارق، وهو أن يصيب
الغرض ويثقبه فينفذ السهم من ورائه، فإذا كان كذلك، قال قوم هو خاسق ومن الرماة
من لم يجعله خاسقا وجعله خطأ اعتد به عليه.
إذا كان الخواسق فرمى أحدهما فوقع السهم في الغرض، فوجد في ثقبة منه، و
السهم ثابت في الغرض مع جليدة، فاختلفا فقال الرامي خسقت بقطع السهم هذه الجليدة
من الغرض لشدة رميي، فأنكر المصاب عليه ذلك، قال قوم القول قول المصاب عليه
لأن الأصل ألا خسق حتى يعلم.
هذا إذا كان صلابة الهدف كصلابة الغرض، وإن لم يكن صلابة الهدف كصلابة
305

الغرض، لم يعتد به له ولا عليه.
القدح الفوق، والفوق الثلمة التي يقع فيها الوتر من السهم، فإذا تناضلا و
الشرط الإصابة المطلقة، فعلى أي وجه أصاب حسب له إذا أصاب بنصله، فأما إن أصاب
بعرض السهم، أو أصاب بالقدح، وهو أن وقع السهم بين يدي الغرض، ثم انقلب
فوقع فوقه على الغرض، فهذا عليه لأنه أسوء ما يكون من الخطأ.
فأما إن تناضلا فازدلف، وهو أن يقع بين يدي الغرض، ثم يثب إلى جهة
الغرض فإن أخطأ كان عليه، لأنه من سوء رميه، وإن أصاب قال قوم يعتد به له إصابة
وفيهم من قال لا يعتد له ولا عليه، والأول أقوى.
إذا تناضلا وفي الجو ريح لينة، فرمى وميل رميه إلى جهة الريح بحيث يكون
قدر ما يميله يوافق الإصابة فأصاب حسب له، وهكذا لو كانت الريح في وجه الغرض
فنزع نزعا بقدر ما يكون قوة رميه مع معاونة الريح يصل إلى الغرض ويصيب، فأصاب
كان له، لأنه هو النهاية في الحذق أن يكون رماه مع معاونة الريح يوافق المراد فأما
إن كانت الريح عاصفة لم يعتد عليه الخطأ خطأ، ولا الإصابة إصابة.
فإن هبت الريح فحولت الغرض فوقع السهم في مكانه الذي تحول منه نظرت
فإن كان الشرط إصابة مطلقة كانت إصابة، وإن كان الشرط خواسق نظرت، فإن كانت
صلابته مثل صلابة الغرض فإنه يعتد به خاسقا، وإن كانت صلابة الهدف دون صلابة
الغرض، لا يعتد به له ولا عليه، لأنا لا نعلمه خاسقا ولا غير خاسق.
وإن وقع السهم فوق المكان الذي تحول إليه لم يعتد به له، وكان عليه، لأنه
لو كان الغرض في مكانه الأول لم يكن مصيبا له اللهم إلا أن يتفقا بعد تحوله أن
يكون الإصابة بحيث تحول إليه، فيصح ذلك كما لو حولاه إليه تحويلا من غير ريح.
إذا كانت الإصابة خواسق فرمى فثبت في الغرض، ثم سقط عنه كان خاسقا لأنه
فعل الخسق، وسقوطه يحتمل أن يكون لثقله أو لريح حركته فسقط.
إذا عقدا نضالا مطلقا، ولم يشترطا قوسا معروفة، اقتضى إطلاقه أن يكون الرمي
منهما بنوع واحد، يرميان معا بالعربية أو معا بالعجمية، فإن أراد أحدهما الرمي
306

بالعربية، والآخر بالعجمية لم يكن له، فإن شرطا أن يرمي أحدهما بالعربية و
الآخر بالعجمية، لزم ما شرطا، وما روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه رأى رجلا معه قوس
عجمية فقال: ملعون حاملها عليكم بالقسي العربية وسهامها، فإنه سيفتح عليكم
بها، فمنسوخ بالإجماع.
إذا تناضلا فلا يجوز حتى يكون الإصابة على السواء، وإن شرطا أن يحسب خاسق
أحدهما بخاسق واحد، والآخر كل خاسق بخاسقين، أو يكون لأحدهما خاسق واحد
بخاسقين أو يحط من خواسق أحدهما خاسق واحد، فالكل باطل، لأن موضع النضال على
المساواة، ليعرف حذق الناضل فيها، فإذا فضل أحدهما فضل صاحبه بما فضل به، لا
بحذقه، وإن نقص أحدهما نقص بما حط من إصابته لا بحذق صاحبه، فلهذا قلنا
لا يجوز.
إذا عقدا النضال على نوع من القسي تعين ما عقداه، مثل أن قالا نرمي معا
بالعربية دون العجمية، أو قالا نرمي معا بالعجمية دون العربية، تعين ما شرطاه
ولم يكن لأحدهما أن يعدل عنه بعد الشرط.
فأما إن وقع على قوس معينة من النوع فقالا يكون الرمي بهذه لم يتعين، و
كان له أن يعدل إلى غيرها، سواء كان لحاجة أو لغير حاجة، لأن الأصل والمقصود
في النضال الرمي والقوس تبع، فكان له أن يستبدل إليه من نوعها كيف شاء.
فإن كان هذا في الرهان لم يجز حتى يعين الفرس، فإذا تعين بعين لا يعدل
عنه إلى غيره، لأن الأصل هو والفارس تبع له، فالرجل في النضال كالفرس في الرهان
والقوس في النضال كالرجل في الرهان: فإن أراد في الرهان أن يستبدل بالدابة لعذر
أو لغير عذر لم يجز، وإن أراد أن يستبدل بالرجل جاز، وإن أراد أن يستبدل في
النضال بالرجل لم يجز، وإن أراد أن يستبدل بالقوس جاز.
فإن نفق الفرس لم يقم غيره مقامه، وإن مات الفارس قام وارثه مقامه، كذلك
في النضال، إن مات الرامي لم يقم غيره مقامه، وإن انكسر القوس قام غيرها مقامها
فإن شرطا في النضال قوسا معينة على أن لا يرمي بغيرها كان النضال فاسدا لأنه شرط
307

ما ليس من مصلحة النضال.
الشن هو الجلد، والجريد هو الشنبر المحيط بالشن كشنبر المنخل، والعرى
المخدمة هي التي حول الشن، والمعاليق الخيوط التي يعلق بها والغرض ما دار عليه
الشنبر فإن شرطا إصابة الشن فأصابه كان إصابة، وإن أصاب العرى أو الشنبر لم يكن
إصابة، لأنه ليس من الشن.
وإن شرطا إصابة الغرض فأصاب الشن أو الشنبر أو العرى كان إصابة، لأنه
غرض كله، وإن أصاب العلاقة قال قوم يعتد به، لأنها من جملة الغرض، وقال آخرون
لا يعتد به، وهو الأقوى، لأن العلاقة غير الغرض.
* * *
إذا عقدا بينهما نضالا على أن الرشق عشرون، والإصابة خمسة، وأراد أحدهما
الزيادة في عدد الرشق وفي عدد الإصابة، وامتنع الآخر عليه:
فمن قال إنه عقد لازم، لم يجز أن يزيدا ولا أن ينقصا مع بقاء العقد، كالإجارة
والبيع، وإن تفاسخا العقد واستأنفا ما يتفقان عليه جاز.
ومن قال هو عقد جائز على ما اخترناه، قال إن كانت المطالبة قبل التلبس
بالرمي أو بعد التلبس ولم يكن لأحدهما على صاحبه مزية، مثل أن كانا في عدد الرمي
والإصابة سواء، فأيهما طلب فصاحبه بالخيار، إن شاء أجابه وإن شاء انصرف، أو
جلس لأنه عقد جائز.
وإن كان لأحدهما مزية على صاحبه مثل أن رمى أحدهما عشرة، فأصاب
أربعة، ورمى الآخر عشرة فأصاب سهمين، فإن طالب بذلك من له الأكثر كان بالخيار
وإن كان المطالب من له الأقل قال قوم صاحبه بالخيار، لأنه عقد جائز، وقال
آخرون ليس له المطالبة بذلك، لأنا لو أجزنا ذلك أدى إلى أن لا ينضل أحد أحدا
إلا ومتى أشرف على أنه مغلوب طالب بالزيادة وجلس، فأمن أن ينضل وهذا أقوى.
* * *
إذا كان الرشق عشرين، والإصابة خمسة، فرمى أحدهما عشرة فأصاب سهمين
308

ورمى الآخر عشرة فأصاب سهمين، فقال أحدهما لصاحبه ارم سهمك، فإن أصبت فقد.
نضلتني لم يجز، لأن موضوع النضال أن يعرف الأحذق منهما، فإذا فعلا هذا ربما
فضل لا بحذقه، وأيضا فإن هذا يؤدي إلى أن يكون الناضل منضولا، والمنضول
ناضلا و ذلك لا يجوز.
بيانه أن يكون لأحدهما إصابة أربعة، ولصاحبه إصابة واحدة، فقال صاحب
الأكثر لصاحب الأقل ارم سهمك، فإن أصبت فقد نضلتني، فرمي فأصاب، فنضله و
المنضول إصابته أكثر وهذا لا يجوز.
فإن كان هذا قبل التلبس بالعقد أو بعد ذلك لكن تفاسخا ثم قال ارم سهمك
هذا، فإن أصبت فلك دينار صح، لأنها جعالة فيما له فيه غرض صحيح.
إذا قال له ارم عشرين سهما فإن كان صوابك أكثر من خطأك فلك دينار، قال
قوم يصح لأنها جعالة صحيحة كرجل له عشرون عبدا فقال إن جئتني بأكثر فلك دينار
صح، وقال بعضهم لا يصح لأن العوض في مقابلة عمل مجهول، والأول أصح.
وإن قال له ارم عشرين وناضل نفسك، فإن كان الصواب أكثر فلك كذا، كان
باطلا، لأنه لا يصح أن يناضل نفسه.
* * *
إذا تناضلا فرمى أحدهما فأصاب بالنصل فهي أصابة، فإن انقطع السهم باثنين
وأصاب بالسهم فهي إصابة، لأنه أجود رمى وأحسنه، فإن أصاب بالقدح وهو الفوق
لم يكن إصابة وكان عليه، وإن أصاب بهما اعتد له بإصابة النصل ولم يعتد بالقدح
لا له ولا عليه.
إذا رمى سهمه فأصاب فوق سهم في الغرض نظرت، فإن كان الذي في الغرض قد
ثبت نصله فيه وبقيته بطوله إلى جانب الرامي لم يعتد به ولا عليه، لأن بينه وبين
الغرض قدر طول السهم الذي في الغرض، ولا يعلم ما يكون منه لو لم يقع في فوق السهم.
وإن كان السهم الذي في الغرض قد نفذ في الغرض إلى فوقه، فوقع هذا الثاني
في فوق الأول، فإن كان الشرط الإصابة اعتد له إصابة، لأنا نعلم قطعا أنه لولا الأولة
309

أصاب الغرض وإن كان الشرط الخواسق لم يعتد به له ولا عليه، لأنا لا نعلم هل
يخسق أم لا.
فأما إن ثبت الأول نصله في الغرض وبقية طوله خارج منه، فأصاب فوقه وشج
علبه وأصاب الغرض اعتد له إصابة، لأنه إنما أصاب بحذقه وجودة رميه.
إذا شرطا أن كل من أراد الجلوس والترك فعل، لم يخل أن يكون الشرط
مقارنا للعقد أو بعده، فإن كان بعد العقد فمن قال هو لازم، قال وجوده وعدمه سواء
ومن قال جائز قال لا يؤثر في العقد، لأنهما شرطا مقتضى العقد.
وإن كان الشرط مقارنا للعقد فمن قال هو لازم أبطل العقد، ومن قال جائز،
فمن قال لكل واحد الترك، لم يقدح في العقد، ومن قال لمن عليه الفضل أن يجلس
كان عقد النضال باطلا لأنه يخالف موجب العقد.
إذا تناضلا على رشق معلوم وإصابة معلومة، على أنه يسقط عنه واحدا من
الخطأ لا يعتد به له ولا عليه، كان النضال باطلا.
إذا شرطا نوعا من القسي تعين ذلك النوع إما العربية أو العجمية، ولم يكن
لأحدهما العدول عنه، فأما إن عين قوسا من النوع لم تتعين، وكان له أن يعدل
إلى غيرها.
إذا عقدا نضالا ولم يذكرا قدر المسافة من موقف الرماية وبين الغرض، كان
النضال باطلا، فإذا ذكراها فمن قال بلزوم العقد لم يجز الزيادة فيها ولا النقصان، و
من قال هو جائز أجازه، وإن لم يذكرا قدر الغرض في الصغر أو الكبر فالنضال باطل.
وإذا تناضلا ولم يذكرا قدر ارتفاع الغرض عن وجه الأرض، كان مكروها لما
يقع فيه من النزاع، وإن تركه جاز، لأن ارتفاعه معروف وينصرف إطلاقه إلى
العرف بين أهله، والمسافة لا عرف فيها، ومتى شرطا قدر ارتفاعه من وجه الأرض لم
يجز خفضه ولا رفعه عند من قال هو عقد لازم.
إذا كانت المسافة مائتين وخمسين جاز، لما روي أنه سئل بعض أصحاب النبي
صلى الله عليه وآله كيف كنتم تقاتلون العدو؟ فقال إذا كانوا على مائتي وخمسين
310

ذراعا قاتلناهم بالنبل وإن كانوا على أقل قاتلناهم بالحجارة، فإذا كانوا على أقل من
ذلك قاتلناهم بالرماح، فإذا كانوا على أقل من ذلك قاتلناهم بالسيوف.
ولأنه العرف في البلاد: فعرف بغداد مائتان وخمسون، وعرف مصر مائتان
وإن كانت المسافة ثلاث مائة وخمسين لم يجز، لأنه عقد لا يمكن الوفاء به، لأن
الإصابة تقل وتتعذر وقيل أنه ما كان يرمي أحد على أربع مائة ذراع ويصيب إلا
عقبة بن عامر الجهني.
فأما إذا كانت المسافة ما بين مائتين وخمسين وثلاث مائة وخمسين قال قوم يجوز
لأن الإصابة مع هذه المسافة معتادة، وقال آخرون لا يجوز، لأن الإصابة تقل
غالبا.
إذا كان الرشق عشرة، والإصابة ثمانية فما دونها جاز، وإن كانت الإصابة
تسعة ولا يعتبر العاشر لم يصح، وإن كانت الإصابة من العشرة تسعة أو عشرة قال قوم
يجوز لأنه يمكن الوفاء به، وقال آخرون لا يجوز، لأنه يتعذر في العادة، و
الأول أقوى.
يجوز عقد النضال على أرشاق كثيرة، فإن عقداه على أن يرميا مائة رشق جاز
كما يجوز على رشق واحد، فإذا صح لم يخل من أحد أمرين إما أن يشترطا قدرا ما
يرميان في كل يوم أو يطلقا:
فإن اشترطا أن يكون الرمي سهما في كل يوم كذا وكذا رشقا صح ما شرطا
لأن الأغراض يختلف، فإن رميا ما اشترطا عليه فلا كلام، وإن أرادا الزيادة في ذلك
أو النقصان فعلى ما مضى، وإن وقع العقد مطلقا اقتضى إطلاقه التعجيل، والرمي في
كل يوم من برد الغداة إلى الليل.
وكان الرمي طول النهار إلا من عذر، وما لا بد منه من الأكل والشرب و
حاجة الانسان والطهارة والصلاة، وكذلك ما كان عذرا يقطع الرمي كالريح العاصفة
وكذلك المطر لأنه يبل الوتر ويفسد الريش، وكذلك المرض فيؤخر حتى يزول
العارض.
311

وإذا جاء الليل انقطع الرمي لأن العادة ما جرت به ليلا، إلا أن يشترطا
الرمي ليلا ونهارا، فحينئذ يرميان ليلا، فإن كان القمر منيرا فذاك، وإن لم يكن
القمر منيرا فالضوء من شمع ومشعل ونحو ذلك، فيكون على ما شرطاه.
إذا رمى أحدهما فأصاب، فإن المرمي عليه يرمي بعده، ولا يكلف المبادرة
فيدهش، ولا له أن يطول الإرسال بأن يمسح قدميه أو يقوم سهمه أو يفوق النبل ويديره
طلبا للتطويل حتى تبرد يد صاحبه فينسي الطريقة التي يسلكها في الإصابة، ومتى أطال
الرامي الكلام عند الرمي وهو إذا أصاب افتخر وتبجح وطول الكلام نهى عنه، لأن
لا يغتاظ صاحبه فيتشوش رميه، وكذلك الشاهد ينبغي أن يقل الكلام ولا يزهره
المصيب لئلا يكسر قلب صاحبه.
إذا اختلفا في موضع النضال فقال بعضهم عن يمين الغرض، وقال آخرون عن
شماله، كان للذي له البدأة أن يقف حيث شاء، فإذا رميا من هذا المكان ومضيا إلى
الهدف الآخر كان البادي منه المناضل الآخر ولا يرمي أحدهما ابتداء من الغرضين
لأنه هو التسوية بين المناضلين، فإذا بدأ الآخر من الآخر وقف أيضا حيث شاء، لأن
البدأة له كالأول.
هذا إذا كانا اثنين، فإن زادوا على هذا فكانوا ثلاثة، فرمى أحدهم ابتداء من
غرض ثم صاروا إلى الثاني أقرعنا بين الآخرين، فإذا خرجت القرعة لأحدهما وقف
حيث شاء، فإذا عادوا إلى الأول رمى الثالث ابتداء بلا قرعة.
إذا عقدا نضالا واختلفا، فقال أحدهما مستقبل الشمس، وقال آخرون مستدبرها
قدم قول من طلب الاستدبار لأن ذلك هو العرف، فإن اشترطا أن يكون الرمي في
وجه الشمس كان على ما شرطاه لأنهما على هذا دخلا، كما لو شرطا الرمي ليلا.
يجوز للجماعة عقد النضال ليتناضلوا حزبين كما يجوز في رجلين أن يرمي كل
واحد رشقا.
فإذا ثبت أنه جائز فإنهم يقتسمون الرجال بالاختيار لا بالقرعة، لأنه لو كان
عقد إجارة أو جعالة فإن القرعة لا يدخلهما، فإذا صاروا حزبين بالقسمة، فإن أرادوا
312

القرعة ليعين كل فريق بالقرعة لم يجز لمثل ما ذكرناه عند من خالفه، ويقوى في
نفسي أنه لا مانع منه.
ثم ينظر فإن اتفقا على أن البادي بالاختيار فلان جاز، وإن اختلفوا و
قالوا لا نرضى إلا بالقرعة جاز الإقراع ها هنا، فمن خرجت قرعته بدأ فاختار رجلا
فإذا اختار رجلا بدأ الآخر فاختار رجلا، وكذلك رجلا رجلا حتى يقسم الجماعة.
فإذا صاروا حزبين كان تدبير كل حزب إلى أحذق أهل حزبه، فإن جعلوا تدبير
الحزبين معا إلى واحد من أحد الحزبين لم يجز، لأنه متهم في ذلك، لأنه يقدم
الحذاق من حزبه، ويؤخر الحذاق من الحزب الآخر.
إذا تناضلوا حزبين فقال أحدهما أنا أختار الرجال على أن أسبق لم يجز، لأن
موضوع النضال على أن لا يكون لأحدهما فضل، لأجل اخراجه السبق، ولو قال أنا
أختار الرجال على أن من اخترته أخرج هو السبق ولا أخرج شيئا لم يجز، لما مضى.
ولو قال أختار أنا على أن أخرج أنا السبق، وإن اخترت أنت عليك اخراج
السبق، كل هذا لا يجوز، ولو قال نقترع فأينا خرجت قرعته كان هو المسبق لم يجز
ولا يجوز أن يقولا نرمي معا على أن من أصاب منا فعلى الآخر اخراج السبق، لأنه
عوض في جعالة أو إجارة وأيهما كان فلا يجوز بالقرعة، ولا بالإصابة.
إذا وقفوا لقسمة الرجال للمناضلة فحضر غريب فذكر أنه رام فقسموه وهم لا
يعرفونه، لم يخل من أحد أمرين إما أن يبين راميا أو غير رام، فإن بان ممن لا يحسن
الرمي كان العقد فيه باطلا، لأنه ليس من أهله، فإذا بطل فيه بطل في الذي كان في
مقابلته لأن القسمة رجل ورجل، فإذا بطل فيهما لم يبطل في الباقين، وقال قوم
يبطل في الكل بناء على تفريق الصفقة، فمن قال لا يبطل قال أهل كل حزب بالخيار
بين الفسخ والامضاء لأن الصفقة تفرقت.
وأما إن بان راميا فإن كان كأحدهم فلا كلام، وإن كانت أصابته أكثر، فقال
غير أهل حزبه ظنناه كأحدنا فقد كثرت أصابته فلا نرضى فلا خيار لهم، وكذلك لو قلت
أصابته لا خيار لحزبه، لأن الشرط أن يكون من أهل الصنعة ولا يعتبر الأحذق فيه.
313

إذا تلبسا بالنضال ففضل لأحدهما إصابة، فقال المفضول أطرح الفضل بدينار
حتى نكون في عدد الإصابة سواء لم يجز، لأن موضوع النضال على أن ينضل أحدهما
صاحبه بحذقه، فإذا طرح ربما فضله لما طرح من عدد الإصابة لا لحذقه وإذا لم يصح
فعليه رد ما بذله، ويعود إلى عدد إصابته، ويكون الرمي على إكمال الرشق ليبين
الناضل منهما.
إذا تعاقدا نضالا وتعين البادي منهما بالشرط أو بالقرعة أو بالسبق، فبادر الآخر
فرمى فأصاب أو أخطأ لم يعتد له ولا عليه، لأنه رمى قبل وقت الرمي كما لو رمى
قبل عقد النضال.
المضربة ما يلبسه الرامي من جلد في يده اليسرى يستر به ظهر إبهامه خوفا أن
يمر الرشق به فيعقره، والأصابع ما يلبسه في اليمنى لأنه يعقد بإبهامه وسبابته
على فوق السهم والوتر، فإذا كان عليها جلد لم يعقر نفسه حين الرمي.
فإذا ثبت هذا وأراد الصلاة وهذا في يده لم يخل من أحد أمرين إما أن يكون
الجلد نجسا أو طاهرا، فإذا كان نجسا كجلد الكلب والخنزير قبل الدباغ أو بعده.
أو كان جلد ميتة مما يؤكل لحمه أو مما لا يؤكل لحمه فلا يجوز الصلاة فيه، سواء كان
قبل الدباغ أو بعده، وإن كان الجلد طاهرا وهو جلد ما يؤكل لحمه مدبوغا أو قبل
الدباغ [فالصلاة فيه جائزة] ظ وإن كان مذكى من جلد ما لا يؤكل لحمه مدبوغا أو قبل
الدباغ فالصلاة فيه عندنا غير جائزة وعندهم يجوز لأنه طاهر ولكن إذا صلى وهو
في يديه يمنع أن يصل بطون أصابعه إلى الأرض حين السجود، قال قوم يجزيه، و
كذلك عندنا إذا كان الجلد يجوز الصلاة فيه.
وجملته أنه لا بد من كشف الجبهة في الصلاة، ولا بد من ستر الركبتين لئلا
ينكشف شئ من العورة، ويجوز كشف الرجلين وسترها، واليدان مثل ذلك، و
قال قوم لا بد من كشفهما.
الصلاة في السلاح جائز لقوله تعالى " وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة (1) "

(1) النساء: 102.
314

الآية وروى سلمة بن الأكوع قال: قلت يا رسول الله أصلي على القوس والقرن؟
فقال أطرح القرن وصل بالقوس، والقرن الجعبة التي يكون فيه النشاب، فإن كانت
كالحقة بالغطاء فهي الجعبة وإن كان رأس السهام مكشوفا فذاك القرن.
فإذا ثبت أنه جائز فالسلاح على ثلاثة أضرب محرم، ومكروه، ومباح،
فالمحرم ما كان نجسا مثل أن يكون من جلد نجس أو ريش ما لا يؤكل لحمه، أو عليه
نجاسة من دم ونحوه، والمكروه الطاهر مما يشغله عن الصلاة كالقرن والرمح، و
المباح ما كان طاهرا لا يشغله كالسيف والخنجر والسكين.
إذا قال لرجل: ارم هذا السهم فإن أصبت فلك عشرة صح لأنها جعالة، وإن
قال ارم به، فإن أصبت فلك عشرة، وإن أخطأت فعليك عشرة، فهذا باطل.
إذا اختلفا فقال أحدهما نصف ذات اليمين أو ذات الشمال، وقال الآخر بين يدي
الغرض على ذراع أو ذراعين، فإن كانا شرطا ذلك بالشرط أملك وإن كان مطلقا حملا
على العرف، فإن كان العرف ذات اليمين أو ذات الشمال أو بين يديه حملا عليه، وقد
قدمنا أن في الناس من قال الخيار إلى الذي له البدأة وهو الأولى.
إذا سبق أحدهما صاحبه عشرة، فقال إن نضلتني فهي لك، وإلا فلا شئ لك
فقال الثالث للمسبق أنا شريكك في الغنم والغرم فإن نضلك فعلي نصف العشرة، وإن
نضلته فلي نصف ما سبقته كان باطلا.
وكذلك لو سبق كل واحد منهما عشرة، وأدخلا بينهما محللا، فقال رابع
لكل واحد من المسبقين أنا شريكك في الغرم والغنم، فإن نضلك فالعشرة علينا، و
إن نضلته فالعشرة لنا، لأنه إنما يغنم أو يغرم من تناضل فينضل أو ينضل فأما من كان
ناحية فلا شئ له ولا عليه.
إذا سبق أحدهما صاحبه على أن يكون البادي من الوجهين أبدا كان باطلا،
لأن النضال موضوع على المساواة، وإن قالا أنا أبتدئ من الوجهين ثم أنت من
الوجهين جاز، لأنه لا تفاضل فيه.
إذا عقدا نضالا على أن كل واحد منهم معه ثلاثة رجال لم يجز حتى يكون
315

الرجال معلومين بالمشاهدة أو بالصفة، فأما مطلقا فلا يجوز لأنه غرر.
إذا شرطا الإصابة حوابي على أن من خسق منهما كان كحابيين، قال قوم يجوز
لأن موضوعه أن ينضل أحدهما صاحبه بحذقه، ومن خسق كان أحذق من الذي حبا
فكان أنضل منه وبان حذقه.
إذا تناضلا على أن الإصابة حوابي، على أن ما كان إلى الشن أقرب أسقط
الذي منه أبعد صح ذلك لأنه لما جاز أن يناضلا محاطة فيسقطا ما تساويا فيه من
الإصابة كذلك ها هنا.
فإذا ثبت أنه جائز فقد فرع على هذا ست مسائل، والظاهر أن الإصابة
إصابة الهدف:
فإذا رمى أحدهما سهما فوقع في الهدف بقرب الغرض، ثم رمى الآخر خمسة
أسهم فوقعت أبعد من هذا الواحد، ثم رمى الأول سهما فوقع أبعد من الخمسة سقطت
الخمسة بالأول الذي هو أقرب، وسقط الذي بعد الخمسة بالخمسة، لأن الخمسة
إلى الغرض أقرب.
الثانية رمى أحدهما خمسة إلى الهدف بعضها إلى الغرض أقرب من بعض، ثم
رمى الثاني خمسة كلها أبعد من الخمسة الأولى سقطت الخمسة الثانية بالأولة لأنها
إلى الغرض أقرب، وبقيت الخمسة الأولى لا يسقط ما قرب منها إلى الغرض ما كان
منها إلى الغرض أبعد، لأن الأقرب يسقط أبعد من سهام غيره، لا من سهام نفسه.
الثالثة أصاب أحدهما الغرض والآخر الهدف، فالذي في الغرض يسقط الذي
في الهدف لأنه لما أسقط الأقرب إلى الغرض ما كان منه أبعد فبأن يسقط إصابة الغرض
ما كان في الهدف أولى.
الرابعة أصاب أحدهما الغرض ورمى الآخر فأصاب العظم، وهو الذي في وسط
الغرض: من الرماة من قال يسقط الذي في العظم ما كان أبعد منه، وقال قوم لا يسقط
لأن الشن كله موضع إصابة وليس فيه أقرب وأبعد.
الخامسة رمى أحدهما فأصاب الهدف ثم رمى الآخر فأصاب الهدف أيضا وكان
316

في القرب إلى الغرض سواء، قال قوم تناضلا، لأن أحدهما ليس بأقرب.
السادسة الساقط ما وقع بين يدي الغرض، والقاسط ما وقع من أحد الجانبين، و
الخارج ما جاوز الغرض من فوق، وينبغي أن ينظر إلى الأقرب إلى الغرض ويسقط
به ما كان أبعد من أي جانب كان من جميع جهاته، لأنه إذا كان الساقط ما يقرب
فالخارج كذلك.
317

تم كتاب الصيد والذبائح
ويتلوه في الجزء السابع كتاب الجراح.
318