الكتاب: الاقتصاد
المؤلف: الشيخ الطوسي
الجزء:
الوفاة: ٤٦٠
المجموعة: فقه الشيعة الى القرن الثامن
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع: ١٤٠٠
المطبعة: مطبعة الخيام - قم
الناشر: منشورات مكتبة جامع چهلستون - طهران
ردمك:
ملاحظات: بمناسبة ذكرى احتفالات ( بداية القرن الخامس عشر الهجري المبارك )

بمناسبة ذكرى احتفالات
(بداية القرن الخامس عشر الهجري المبارك)
الإقتصاد
الهادي إلى طريق الرشاد
تعريف الكتاب 1

الإقتصاد
الهادي إلى طريق الرشاد
شيخ الطائفة الفقيه الأكبر
أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي
385 - 460
منشورات
مكتبة جامع چهلستون - طهران
تعريف الكتاب 3

مطبعة الخيام - قم
1400 - ه‍
تعريف الكتاب 4

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على نعمة التي لا تحصى، والصلاة والسلام على رسوله
المصطفى، وآله وعترته الذين هم العروة الوثقى في الآخرة والأولى
صلى الله عليهم أجمعين، إلى قيام يوم الدين
تعريف الكتاب 5

تقديم
لم يكن شيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي انسانا مغمورا حتى يحتاج
إلى التعريف به والإشادة بمآثره، بل هو طود شامخ وعلم معروف انتشرت
آثاره العلمية في الأندية الإسلامية وعرفت مآثره الدينية في كافة الأوساط
إنه لم يمت كما مات ملايين من الذين ساروا أياما في الركب البشري
ثم طواهم الأجل فنسي ذكرهم التاريخ كأن لم يكونوا في هذه الدنيا
إنه حي تتجدد ذكراه على مر العصور والدهور
نعم، سيبقى حي الذكر أولئك الذين أدركوا مغزى " خلقتم للحياة لا للفناء "
واتجهوا بكنه وجودهم إلى الحي القيوم واستضاؤا في مسيرتهم العملية بأنوار
الأنبياء وجعلوا سيرة أولياء الحق دستورهم المتبع.. هؤلاء سيبقى ذكرهم
حيا خالدا ولا يجد الفناء إليهم سبيلا.
إنهم أدركوا أن ما في الكون فإن زائل، لا يبقى شئ سوى الله تعالى ولا
يدوم إلا وجهه الكريم، فانقطعوا عما سواه وتوجهوا إليه واكتسبوا منه عز
شأنه بقاء الذكر وبدلوا مماتهم بالحياة، لم تستهوهم زخارف الدنيا المادية
تقديم 7

ومظاهرها الخلابة الكاذبة، فأبدلهم الله جل جلاله بالذكر الطيب على الألسن
وفي القلوب.
و " الشيخ الطوسي " من النفر المعدودين الذين سلكوا هذا السبيل واتبعوا
أئمة الهدى وجدوا واجتهدوا في نشر الاسلام وتركيز المذهب الحق (مذهب
التشيع)، فيحق له أن يكون غرة في جبين الدهر ومصباحا مضيئا في صفحات
التاريخ البارزة وعلما شامخا " في ميدان العلم والتحقيق.
ليس " شيخ الطائفة " مفخرة إيران المسلمة فحسب، بل هو مفخرة العالم
الاسلامي بما قدم من الخدمات الكبرى في سائر المجالات العلمية الدينية
وليس " شيخ الطائفة " ممن يباهي به الشيعة فقط، بل يباهي به المسلمون
لما أحسوا فيه من الشخصية المسهمة في إعلاء كلمة الله تعالى وبذل الجهد لنشر
الأسس الإسلامية المتينة
إن " شيخ الطائفة " عالم عامل مزج العلم بالعمل والقول بالفعل وأخلص لله
تعالى في نيته وجعل خدمة الدين الحنيف همه وجهده، فجزاه الله بالحياة
الأبدية وصار التاريخ يلهج بذكره ويثني عليه ثناءا عطرا وينظر إليه بنظر الاعظام
والاكبار.
عندما يقرأ الإنسان ما كتبه المحققون عن " شيخ الطائفة " ويتعمق في النعوت
التي أضفوها عليه وجمل الثناء التي أطلقوها فيه.. يشعر بأن هناك سرا في
هذه النظرة منهم بالنسبة إليه، وينبعث لكشف هذا السر ومعرفة الرمز المودع
في هذا الإنسان الذي أصبح عملاقا على صفحات التاريخ
أليس هذا السر هو الذي قلناه من إخلاص العمل من الشوائب...
* * *
ولد شيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي في خراسان في شهر شعبان
تقديم 8

سنة 385، وبعد طي بعض المراحل الدراسية في موطنه هاجر سنة 408 إلى بغداد
عاصمة العلم في العراق، فتتلمذ خمس سنوات على الشيخ المفيد محمد بن
محمد بن النعمان البغدادي التلعكبري، وبعد وفاة المفيد في سنة 413 تتلمذ
الطوسي على الشريف المرتضى علي بن الحسين الموسوي المتوفى سنة 436.
وبعد أن توفي السيد المرتضى انتقلت الزعامة الدينية للطائفة إلى الشيخ
الطوسي، فأصبح الزعيم الأوحد للشيعة والمرجع الأعلى لهم، وخصص
الخليفة العباسي (القائم بأمر الله) كرسي الكلام به إذ عرف بالمقام العلمي الرفيع،
فانهالت عليه الأسئلة المذهبية العلمية من كل الأقطار وكان يجيب عليها بكل
طلاقة وحرية، مع الاشتغال بالتدريس على المذاهب الإسلامية غير الشيعية،
وكان محفل درسه يضم طائفة كبيرة من علماء سائر المذاهب بالإضافة إلى ما يضم
من علماء الشيعة.
مني المسلمون في ذلك العصر بآل سلجوق الذين كانوا شديدي العصبية
في التسنن، وكانوا دائم النشاط في إثارة الضغائن ضد الشيعة والمذهب الشيعي
يثيرون الخلافة العباسية بالتوافه ويوجدون الغوغاء في العامة. ومن الضوضاء
الذي أحدثوه ضد الشيخ الطوسي أن وجدوا كتابه " مصباح المتهجد " واتهموه
بأشياء فيه منها جمع أدعية فيها اللعن والسب ووشوا بذلك عند الخليفة، فدعاه
الخليفة إلى الحضور لديه مع كتابه، وبعد الحضور والسؤال عن التهم بين
الطوسي ما جرى يوم عاشوراء على العترة الطاهرة وكيف استوجب أعداؤهم
اللعن، وكان إيضاح الموضوع لدى الخليفة من القوة بحيث أدى إلى احترام
الخليفة للطوسي ورفعة مكانه عنده.
ولكن أعداء الاسلام لم يقتنعوا بهذا وزادوا في إثارة الفتن والغوغاء، حتى
أدى الأمر إلى تلاحم الشيعة والسنة في سنة 448 وذهبت نفوس جماعة من
الطرفين، واضطر الشيخ الطوسي في سنة 449 إلى ترك بغداد والهجرة عنها،
تقديم 9

ووجد الأعداء الفرصة في جمع آثاره العلمية وآثار الشيعة في ساحات احراقها
بمشهد ومرأى من الناس، وبهذا التصرف الوحشي أضاعوا على المسلمين كثيرا "
من منابعهم العلمية والثقافية.
هذه الوقائع الأليمة كانت تكفي لتحطيم قوى الشيخ الطوسي وتزعزعه
عن السير قدما " في الطريق الذي كان قد شقه لنفسه، ولكن حيث كان يستمد
قواه من عالم الغيب ويتعلم الصمود أمام الحوادث من مدرسة أهل البيت عليهم
السلام، زادت الاحداث في تقوية روحه وتركيزه في الصمود لنشر الحق
والدعوة إلى الدين، فهاجر من بغداد ليلقي رحل اقامته بالنجف الأشرف في
جوار أبي الأئمة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام
على يد " الشيخ الطوسي " تأسست جامعة النجف الأشرف، وبجهوده
المشكورة بنيت الحوزة العلمية في هذه المدينة المقدسة، وبإقامته في هذه
البلدة المباركة اجتمعت ثلة مختارة من علماء الطائفة حوله كان لهم الأثر البالغ
في تنمية العلوم الإسلامية وازدهارها، وبدأت تشع إشعاعها العلمي والديني
على المسلمين عامة وعلى الشيعة خاصة. ولأنها حوزة أسست على التقوى
والصلاح زاولت نشاطها لمدة ألف سنة وستزاول - إنشاء الله تعالى - إلى
مدى الدهر.
خرج الشيخ الطوسي من بغداد خائفا شريدا ودخل النجف مضطرب القلب،
وكأن الله تعالى شاء أن يصنع من خوفه عزا " للشيعة ومن اضطرابه عظمة للطائفة،
فأنشأ هذه المدرسة العظيمة التي أصبحت غنية بالعطاء الفكري والتثقيفي ولجأ
إليها كل متعطش إلى العلم والبحث والتحقيق، وكانت حصيلتها رجالات ممتازة
في ميادين العلوم الإسلامية بمختلف الأعصار، يتحدث عنهم التاريخ فيبتهج
بمآثرهم الخالدة
تقديم 10

إن الطواغيت والذين استهوتهم الرئاسة والمال والسيطرة، لا يمكنهم درك
هذه الحقائق ولا تدع لهم نفوسهم المتجبرة فرصة الاقتراب من خالقهم، فعاقبتهم
الهلاك والبوار. أما المؤمنون ورجال الحق فلو نالتهم المصائب الفادحة في
فترات من حياتهم، فمآل أمرهم إلى النصر وجميل الذكر، وهم أحياء بالحياة
الدائمة الباقية
أفتتحت مدرسة النجف العظيمة على يد " شيخ الطائفة " وتوافد عليها الطلاب
من هنا وهناك وجعلوا ينهلون من نميرها العذب ويتعلمون من علومها ويتأدبون
بأخلاقها الإلهية، ثم انتشر طلابها في البلاد يبثون المعارف التي اكتسبوها
ويعلمون الناس الأسس العقائدية والآداب الإسلامية، ولم تمض إلا فترة قصيرة
أمست النجف منبرا عاليا للدعوة الدينية والتعاليم الإسلامية
اثنا عشرة سنة بقي الشيخ الطوسي بالنجف يدأب بجد لا يعرف الكلل والملل
حتى وضع أسس هذه المدرسة العلمية، وكانت تحتاج إلى مؤهلات علمية
وأساتذة تضمن دوامها وبقاءها بعد مؤسسها العظيم، فهيأ لها المؤهلات العلمية
بما ألف من الكتب والرسائل وضمن لها البقاء بما ربى من العلماء الأعلام الكاملين
في العلم والعمل.
إننا في القرن الرابع عشر نقرأ تاريخ القرن الخامس ونلمس عظمة الشيخ
الطوسي في المدرسة الكبرى التي أنشأها بجهوده، ونحس بمتانة أسسها وقوتها التي
داومت هذه القرون، بالرغم من الزوابع الشديدة التي كادت أن تعصف بها.
لقد توالي عليها ضروب من المحن وجد أعداء المذهب في إزالتها، ولكن
لم تزل قائمة بإذن الله يتخرج منها كل سنة لفيف من خيرة العلماء الدعاة
ويعجبني في هذا المجال نقل قصة ذكرها المؤرخون نستدل منها على شدة
إخلاص الشيخ الطوسي في عمله وسر خلوده في التاريخ:
تقديم 11

كان جماعة من المشايخ في بغداد يتذاكرون كتاب (النهاية) وترتيب أبوابه
وفصوله، فكان كل واحد منهم يعارض مؤلفه في مسائل ويذكر أنه لا يخلو من
خلل، ثم اتفق أنهم خرجوا لزيارة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام - وذلك
على عهد الشيخ نفسه - فأجمع رأيهم على أن يصوموا ثلاثا ويغتسلوا ليلة الجمعة
ويصلوا ويدعوا بحضرة مولانا أمير المؤمنين فلعله يتضح لهم ما اختلفوا فيه،
فسنح لهم أمير المؤمنين عليه السلام في النوم وقال لهم: لم يصنف مصنف في فقه
آل محمد " ص " كتابا أولى بأن يعتمد عليه ويتخذ قدوة ويرجع إليه أولى من
كتاب (النهاية) الذي تنازعتم فيه، وإنما كان ذلك لأن مصنفه اعتمد في تصنيفه
على خلوص النية لله والتقرب والزلفى لديه، فلا ترتابوا في صحة ما ضمنه مصنفه
واعملوا به وأقيموا مسائله، فقد تعنى في ترتيبه وتهذيبه والتحري بالمسائل
الصحيحة بجميع أطرافها. فلما انتبهوا أقبل كل واحد منهم على صاحبه فقال:
رأيت الليلة رؤيا تدل على صحة (النهاية) والاعتماد على مصنفها، فأجمعوا
على أن يكتب كل واحد منهم رؤياه على بياض قبل التلفظ، فوافقت الرؤيا
لفظا " ومعنى وقاموا متفرقين مغتبطين بذلك، فدخلوا على شيخهم أبي جعفر
الطوسي، فحين وقعت عيناه عليهم قال لهم: لم تسكنوا إلى ما كنت أوقفتكم
عليه في كتاب (النهاية) حتى سمعتم من لفظ مولانا أمير المؤمنين عليه السلام.
فتعجبوا من قوله وسألوه عما استقبلهم من ذلك فقال: سنح لي أمير المؤمنين
عليه السلام كما سنح لكم، وحكى رؤياه على وجهها.
هذا هو الطوسي، وهذه هي مدرسته العظيمة، وهذا هو سر خلوده...
* * *
من نعم الله تعالى على كاتب هذه السطور أن وفق للدراسة في هذه الحوزة
تقديم 12

العلمية المباركة لمدة خمس عشرة سنة وتتلمذ على أساتذتها من أساطين العلم
ومراجع الشيعة وعمد الدين، ويخص بالذكر منهم الفقيه الجليل آية الله العظمى
الشيخ حسن الحلي تغمده الله برحمته ورضوانه. ويحمده تعالى على أن وفقه
لتأليف كيف عديدة في علمي الفقه والأصول، طبع منها مجلدان بعنوان
(دليل العروة الوثقى).
وشكرا لما أنعم عز شأنه علي من النعم العلمية الجسام، سألته التوفيق في
طبع كتاب (الاقتصاد) الذي ألفه زعيم الطائفة ومؤسس مدرسة النجف
الأشرف، وذلك عندما رأيته لأول مرة ووجدت فيه ضالتي المنشودة من
عرض عقائد الشيعة الإمامية باختصار ومسائل من أبواب الفقه لا يستغني عنها
طلاب الفقه الجعفري.
كانت فكرة طبع هذا الكتاب النفيس تراودني بين آونة وأخرى ولكن
الشواغل تمنع عن إنجازها، وكاد اليأس يدب في النفس إذ فجعنا باستشهاد
العالم العامل التقي الورع سماحة آية الله الحاج ميرزا أبو الحسن الشمس آبادي
(آل رسول) فتألمت لهذه الفاجعة الجلل قلوب الشيعة وخاصة العلماء الأعلام
فاقترحت على جماعة من إخواني العلماء أن يطبع الكتاب إحياءا لذكرى هذا
العالم الديني الذي أفنى عمره في علوم أهل البيت عليهم السلام ولم يزل داعية
لولاء علي عليه السلام حتى بذل نفسه الزكية في هذا السبيل، لكي يستفيد من
الكتاب المحققون المشتغلون بالمباحث الكلامية والفقهية ويهدي ثوابه إلى
روحه الطاهرة
أحمد الله تعالى على أن لقي هذا الاقتراح التحبيذ من الإخوان، بل حثوني
على الطبع بالسرعة الممكنة، فطبع الكتاب كما يراه القارئ الكريم، ويعود
تقديم 13

الفضل الأكبر في نشره وطبعه إلى أخ المغفور له الشمس آبادي سماحة حجة
الاسلام السيد (آل رسول) والوجيه الكبير الحاج آقا رضا (عماد زاده)
وجماعة آخرين من المؤمنين الذي بذلوا تكاليف الطبع.
فإلى هؤلاء وإلى كل من آزرني في مشاريعي الإسلامية أقدم شكري وثنائي
وأسأل الله تعالى لهم ولي التوفيق والسداد
طهران
حسن السعيد الطهراني
تقديم 14

كلمة المصحح
كتاب " الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد " من عيون مؤلفات الفقيه الأكبر
المحدث المفسر الجليل شيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي المتوفى
سنة 460
وهو مع صغر حجمه يستعرض أمهات المسائل الكلامية في التوحيد والعدل
والنبوة والإمامة والمعاد، كما يتعرض لأهم الفروع الفقهية من أبواب الطهارة
والصلاة والصوم والزكاة والحج والجهاد، بانيا القسم الأول منه على الأدلة
العقلية الفلسفية وربما يستشهد في بعضها بالأدلة النقلية من الكتاب الكريم
والسنة الطاهرة، وأما القسم الثاني فيرتكز على فتاواه الفقهية وما توصل إليه
بآرائه الاجتهادية
والكتاب - بقسميه - خلاصة جيدة من عقائد الشيعة الإمامية في الكلام
والفقه، وهو بعباراته الميسرة خير معين لمن أراد الوقوف على آراء الإمامية في
هذين الفرعين من فروع الثقافة الإسلامية.
كلمة المصحح 15

وقد أشار الطوسي في أول الكتاب وآخر القسم الأول والثاني، أنه ألفه
بطلب من (الشيخ الأجل)، ويبدو من الإحالات على مؤلفاته الاستدلالية في الكلام
والفقه أن هذا الشيخ من العلماء المتمكنين من الأسس العلمية، فمن هو هذا الشيخ
الأجل؟! هل هو أحد تلاميذه الذين يعتز بهم أو هو من بعض العلماء المنتشرين
في البلاد الإسلامية؟!
هذا سؤال لم نقف على جوابه....
* * *
أشير في بعض المؤلفات إلى نسخ مخطوطة من هذا الكتاب في المكتبات
العامة والخاصة، أما نحن فقد استفدنا من نسختين إليك وصفهما باختصار:
1 - نسخة (مكتبة جامع چهلستون العامة) بطهران، نسخها عبد المجيد
ابن مظفر بن حسن بن مخزوم التوبلي الكوري، وأتمها عشية الخميس 14
جمادى الأولى سنة 1044، وقد قوبلت وصححت حسب الجهد والطاقة، وهي
التي نرمز إليها بحرف " ج "
2 - نسخة (مكتبة سماحة العلامة الحجة المحقق السيد محمد علي الروضاتي)
بأصبهان، وهي في مجموعة فيها عدة كتب كتبها السيد محمد بن زيد العابدين
الموسوي، وفرغ من نسخ كتاب الاقتصاد في يوم الأربعاء 15 جمادى الأولى
سنة 1267 وقوبلت على نسخة سقيمة كثيرة الأغلاط، وهي التي نرمز إليها
بحرف " ر ".
والنسختان بالرغم من أن عليهما آثار المقابلة والتصحيح، كثيرة السقط
والخطأ والتحريف، ومع الجهد المبذول في المقابلة بقيت عبارات كثيرة لم
نتوصل إلى صحيحها، بل هناك عبارات لم نتمكن من قراءتها، وكان من
كلمة المصحح 16

المستحسن أن نشير في الهوامش إلى ما قلنا ولكن رأينا أن الكتاب يتضخم
والقارئ يمل فاكتفينا بالضروري الذي لا بد من الإشارة إليه وأرجأنا التحقيق
الكامل إلى طبعة قادمة إنشاء الله
والآيات الكريمة مخرجة في الهوامش، وأما الأحاديث فلم نجد الفرصة
الكافية لتخريجها من مظانها فخرج منها ما تيسر وبقي بعضها غير مخرجة.
هذا ونرجو من الله تعالى التوفيق والعون في خدمة التراث الاسلامي
وإحياء جهود علمائنا الماضين، إنه تعالى هو الموفق إلى ما فيه الرشاد.
كلمة المصحح 17

الصفحة الأولى من نسخة " ج
صور النسخ المخطوطة 19

آخر صفحة من نسخة " ج "
صور النسخ المخطوطة 20

الصفحة الأولى من نسخة " ر "
صور النسخ المخطوطة 21

آخر صفحة من نسخة " ر "
صور النسخ المخطوطة 22

الإقتصاد
الهادي إلى طريق الرشاد
شيخ الطائفة الفقيه الأكبر
أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي
385 - 460
1

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على سوابغ نعمه، وتتابع مننه، وترادف أنعامه، وتوالي
أفضاله. وله الشكر على جزيل فواضله، وكريم مواهبه.
وصلى الله على سيد أنبيائه وخاتم أصفيائه محمد النبي المنتجب من أشرف
العناصر وأكرم المناصب، وعلى آله الطيبين الأئمة الراشدين، النجوم الزاهرة
والغرر الباهرة، وسلم تسليما.
وبعد:
فإني ممتثل ما رسمه الشيخ الأجل، أطال الله بقاءه، وعضد كافة أوليائه
بطول أيامه وامتداد زمانه، وجعل ما خوله من محبة العلم وأهله وإيثار
الدين وصرف الهمة إليه، وحبب إليه ما يكسبه الجمال عاجلا ويثمر الخلاص
آجلا.
من إملاء مختصر يشتمل على بيان ما يجب اعتقاده ومعرفته، ويلزم العمل
به والمصير إليه، مما لا يخلو منه مكلف في حال من الأحوال، وأن أقرب ذلك
3

بأدلة واضحة وبراهين نيرة، لا أطول القول فيها فيمله ولا أقصر على الاتيان
على الغرض فيحصر دونه.
وأتبع ذلك بما يجب العمل به من العبادات على وجه الاختصار مما لا
يستغنى عنه، فإن الكتب المعمولة في الأصول والفروع كثيرة، غير أنها مبسوطة
جدا أو مختصرة لا تأتي على الغرض.
وأنا ممتثل ما رسمه ومجيب إلى ما دعا إليه.
ومن الله الكريم أستمد المعونة، وإياه اسأل التوفيق لإتمامه.
وقد رتبته على فصول:
4

فصل
(فيما يلزم المكلف)
الذي يلزم المكلف أمران: علم، وعمل. فالعمل تابع للعلم ومبني عليه.
والذي يلزم العلم به أمران: التوحيد، والعدل.
فالعلم بالتوحيد لا يتكامل إلا بمعرفة خمسة أشياء: أحدها معرفة ما
توصل
به إلى معرفة الله تعالى، والثاني معرفة الله على جميع صفاته، والثالث معرفة
كيفية استحقاقه لتلك الصفات، الرابع معرفة ما يجوز عليه وما لا يجوز، الخامس
معرفته بأنه واحد لا ثاني له في القدم.
والعدل لا يتم العلم به إلا بعد العلم بأن أفعاله كلها حكمة وصواب، وأنه
ليس في أفعاله قبيح ولا إخلال بواجب. ويتفرع من ذلك وجوب معرفة
خمس أشياء: أحدها معرفة حسن التكليف وبيان شروطه وما يتعلق به، والثاني
معرفة النبوة وبيان شروطها، والثالث معرفة الوعد والوعيد وما يتعلق بهما،
5

والرابع معرفة الإمامة وشروطها، والخامس معرفة الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر.
فأنا إنشاء الله أبين فصلا فصلا من ذلك على أخصر ما يمكن وأوجزه،
وأردف ذلك بما يجب العمل به من الشرعيات على هذا المنهاج إنشاء الله.
ومن جهته التوفيق والتسديد.
6

القسم الأول
الأصول الاعتقادية
7

فصل
(في ذكر بيان ما يتوصل به إلى ما ذكرناه)
لا طريق إلى معرفة هذه الأصول التي ذكرناها إلا بالنظر في طرقها، ولا
يمكن الوصول إلى معرفتها من دون النظر.
وإنما قلنا ذلك لأن الطريق إلى معرفة الأشياء أربعة لا خامس لها:
(أولها) أن يعلم الشئ ضرورة لكونه مركوزا في العقول، كالعلم بأن الاثنين
أكثر من واحد، وأن الجسم الواحد لا يكون في مكانين في حالة واحدة، وأن
الجسمين لا يكونان في مكان واحد في حالة واحدة، والشئ لا يخلو من أن
يكون ثابتا أو منفيا، وغير ذلك مما هو مركوز في العقول.
(والثاني) أن يعلم من جهة الادراك إذا أدرك وارتفع اللبس، كالعلم
بالمشاهدات والمدركات بسائر الحواس (1).
(والثالث) أن يعلم بالأخبار، كالعلم بالبلدان والوقائع وأخبار الملوك
وغير ذلك.

(1) في ر (والذي كان لسائر الحواس).
9

(والرابع) أن يعلم بالنظر والاستدلال.
والعلم بالله تعالى ليس بحاصل من الوجه الأول، لأن ما يعلم ضرورة
لا يختلف العقلاء فيه بل يتفقون عليه، ولذلك لا يختلفون في أن الواحد لا يكون
أكثر من اثنين وأن الشبر لا يطابق الذراع. والعلم بالله فيه خلاف بين العقلاء
فكيف يجوز أن يكون ضروريا.
وليس الادراك أيضا طريق إلى العلم بمعرفة الله تعالى، لأنه تعالى ليس
بمدرك بشئ من الحواس على ما سنبينه فيما بعد، ولو كان مدركا محسوسا
لأدركناه مع صحة حواسنا وارتفاع الموانع المعقولة.
والخبر أيضا لا يمكن أن يكون طريقا إلى معرفته، لأن الخبر الذي يوجب
العلم هو ما كان مستندا إلى مشاهدة وإدراك، كالبلدان والوقائع وغير ذلك، وقد
بينا أنه ليس بمدرك، والخبر الذي لا يستند إلى الادراك لا يوجب العلم. ألا
ترى أن جميع المسلمين يخبرون من خالفهم بصدق محمد صلى الله عليه وآله
فلا يحصل لمخالفيهم العلم به لأن ذلك طريقه الدليل، وكذلك جميع الموحدين
يخبرون الملحدة بحدوث العالم فلا يحصل لهم العلم به لأن ذلك طريقه الدليل.
فإذا بطل أن يكون طريق معرفته الضرورة أو المشاهدة أو الخبر، لم يبق
إلا أن يكون طريقه النظر.
فإن قيل: أين أنتم عن تقليد [الآباء و] (1) المتقدمين؟
قلنا: التقليد إن أريد به قبول قول الغير من غير حجة - وهو حقيقة التقليد -
فذلك قبيح في العقول، لأن فيه إقداما على ما لا يأمن كون ما يعتقده عند التقليد
جهلا لتعريه من الدليل، والإقدام على ذلك قبيح في العقول. ولأنه ليس في
العقول تقليد الموحد أولى من تقليد الملحد إذا رفعنا النظر والبحث عن أوهامنا

(1) الزيادة من ر.
10

ولا يجوز أن يتساوى الحق والباطل.
فإن قيل: نقلد المحق دون المبطل.
قلنا: العلم بكونه محقا لا يمكن حصوله إلا بالنظر، لأنا إن علمناه بتقليد
آخر أدى إلى التسلسل، وإن علمناه بدليل فالدليل الدال على وجوب القبول
منه يخرجه من باب التقليد، ولذلك لم يكن أحدنا مقلدا للنبي أو المعصوم فيما
نقبله منه، لقيام الدليل على صحة ما يقوله.
وليس يمكن أن يقال: نقلد الأكثر ونرجع إليهم. وذلك لأن الأكثر قد
يكونون على ضلال، بل ذلك هو المعتاد المعروف. ألا ترى أن الفرق المبطلة
بالإضافة إلى الفرق المحقة جزء من كل وقليل من كثير.
ولا يمكن أن يعتبر أيضا بالزهد والورع، لأن مثل ذلك يتفق في المبطلين
فلذلك ترى رهبان النصارى على غاية العبادة ورفض الدنيا مع أنهم على باطل
فعلم بذلك أجمع فساد التقليد.
فإن قيل: هذا القول يؤدي إلى تضليل أكثر الخلق وتكفيرهم، لأن أكثر
من تعنون من العقلاء لا يعرفون ما يقولونه من الفقهاء والأدباء والرؤساء والتجار
وجمهور العوام ولا يهتدون إلى ما يقولونه، وإنما يختص بذلك طائفة يسيرة من
المتكلمين، وجميع من خالفهم يبدعهم في ذلك، ويؤدي إلى تكفير الصحابة
والتابعين [وأهل الأمصار، لأنه معلوم أن أحدا من الصحابة والتابعين] (1) لم
يتكلم فيما تكلم فيه المتكلمون ولا سمع منه حرف واحد ولا نقل عنهم شئ
منه، فكيف يقال بمذهب يؤدي إلى تكفير أكثر الأمة وتضليلها، وهذا باب ينبغي
أن يزهد فيه ويرغب عنه.
قيل: هذا غلط فاحش وظن بعيد، وسوء ظن بمن أوجب النظر المؤدي

(1) الزيادة ليست في ر.
11

إلى معرفة الله، ولسنا نريد بالنظر المناظرة والمحاجة والمخاصمة والمحاورة
التي يتداولها المتكلمون ويجري بينهم، فإن جميع ذلك صناعة فيها فضيلة
وإن لم تكن واجبة، وإنما أوجبنا النظر الذي هو الفكر في الأدلة الموصلة إلى
توحيد الله تعالى وعدله ومعرفة نبيه وصحة ما جاء به، وكيف يكون ذلك منهيا
عنه أو غير واجب والنبي عليه السلام لم يوجب القبول منه على أحد إلا بعد
إظهار الأعلام والمعجزة من القرآن وغيره، ولم يقل لأحد أنه يجب عليك القبول
من غير آية ولا دلالة.
وكذلك تضمن القرآن من أوله إلى آخره التنبيه على الأدلة ووجوب
النظر (1.
قال الله تعالى: " أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله
من شئ " (2.
وقال: " أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت *
وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت " (3.
وقال: " وفي أنفسكم أفلا تبصرون " (4.
وقال: " قتل الإنسان ما أكفره * من أي شئ خلقه * من نطفة خلقه " (5
الآية.
وقال: " إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات

1) في نسخة ج " النظم ".
2) سورة الأعراف: 185.
3) سورة الغاشية: 20 17.
4) سورة الذاريات: 21.
5) سورة عبس: 19 17.
12

لأولي الألباب " إلى قوله " إنك لا تخلف الميعاد " 1).
وقال: " فلينظر الإنسان إلى طعامه * أنا صببنا الماء صبا * ثم شققنا الأرض
شقا " إلى قوله " متاعا لكم ولأنعامكم " 2).
وقال: " ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرا ر
مكين " إلى قوله " فتبارك الله أحسن الخالقين " 3).
وقال: " إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون " 4) و " لقوم يعقلون " 5) و " لأولي
الألباب " 6) و " لمن كان له قلب " 7) يعني عقل.
وغير ذلك من الآيات التي تعدادها يطول.
وكيف يحث تعالى على النظر وينبه على الأدلة وينصبها ويدعو إلى النظر
فيها، ومع ذلك يحرمها. إن هذا لا يتصوره إلا غبي جاهل.
فأما من أومى إليه من الصحابة والتابعين وأهل الأعصار من الفقهاء والفضلاء
والتجار والعوام، فأول ما فيه أنه غير مسلم، بل كلام الصحابة والتابعين مملو
من ذلك، وهو شائع ذائع في خطب أمير المؤمنين عليه السلام في الاستدلال على
الصانع والحث على النظر والفكر في إثبات الله تعالى معروف مشهور،
وكذلك كلام الأئمة عليهم السلام من أولاده، وعلماء المتكلمين في كل عصر
معروفون مشهورون.

1) سورة آل عمران: 190 - 194.
2) سورة عبس: 24 - 32.
3) سورة المؤمنون: 12 - 14.
4) سورة الرعد: 3.
5) سورة الرعد: 4.
6) سورة الرمز: 21.
7) سورة ق: 37.
13

وكيف يجحد ذلك وينكر وجوده، وروي عن النبي صلى الله عليه وآله
أنه قال " أعرفكم بنفسه أعرفكم بربه " وقال أمير المؤمنين عليه السلام في خطبته
المعروفة " أول عبادة الله معرفته، وأصل معرفته توحيده، ونظام توحيده نفي الصفات
عنه، لشهادة العقول أن من حلته الصفات فهو مخلوق، وشهادتها أنه خالق ليس
بمخلوق " ثم قال " بصنع الله يستدل عليه، وبالعقول يعتقد معرفته، وبالنظر
يثبت حجته، معلوم بالدلالات، مشهور بالبينات " 1) إلى آخر الخطبة.
وخطبه في هذا المعنى أكثر من أن تحصى.
وقال الحسن (الحسين خ ل) عليه السلام: " والله ما يعبد الله إلا من عرفه
فأما من لم يعرفه فإنما يعبده هكذا ضلالا " وأشار بيده.
وقال الصادق عليه السلام: " وجدت علم الناس في أربع: أولها أن تعرف
ربك، والثاني أن تعرف ما صنع بك، والثالث أن تعرف ما أراد منك، والرابع
أن تعرف ما يخرجك من دينك " 2).
ثم إنه يلزم مثل ذلك الفقهاء، فإنا نعلم ما فرعه الفقهاء 3) من المسائل ودونوه
في كتبهم ودارت بينهم من العلل والأقيسة لم يخطر لأحد من الصحابة والتابعين
ببال ولا نقل شئ منه عن واحد منهم. فينبغي أن يكون ذلك كله باطلا، أو يقولوا
أن الصحابة لم يكونوا عالمين عارفين بالشرع، فأي شئ أجابوا عن ذلك في
الفروع فهو جوابنا في الأصول بعينه، وهو أن يقال إنهم كانوا عالمين بأصول
الشريعة فلما حدثت حوادث في الشرع لم يكن استخرجوا أدلتها من الأصول
قلنا مثل ذلك فإنهم كانوا عارفين بالأصول من التوحيد والعدل مجملا، فلما

1) تحف العقول ص 43 مع اختلاف في بعض الألفاظ.
2) الخصال ص 239.
3) في ر " ما ودعه الفقهاء ".
14

حدثت شبهات لم تسبقهم استخرجوا أجوبتها من الأصول.
ولو سلمنا أنهم كانوا غير عارفين بما يعرفه المتكلمون لم يدل على ما قالوه
لأنه لا يجوز أن يكونوا عالمين بالله تعالى على وجه الجملة وخرجوا بذلك
عن حد التقليد وتشاغلوا بالعبادة أو الفقه أو التجارة، ولم ينقدح لهم فيما اعتقدوه
شك ولا خطرت لهم شبهة يحتاجون إلى حلها، فاقتنعوا بذلك وكانوا بذلك
قد أدوا ما وجب عليهم.
والمتكلمون لما أفرغوا وسعهم لعلم هذه الصناعة خطرت لهم شبهات
ووردت عليهم خواطر لزمهم حل ذلك والتفتيش عنه حتى لا يعود ذلك بالنقض
على ما علموه.
وكل من يجري مجراهم ممن تخطر له هذه الشبهات فإنه يلزمه حلها ولا
يجوز له الاقتصار على علم الجملة، فإنه لا يسلم له ذلك مع هذه الشبهة. ومن
لا يخطر له ذلك لبلادته أو لعدوله عنه أو تشاغله بعبادة أو فقه أو دين، فإنه
لا يلزمه التغلغل فيه ولا البحث عن الشبهات حتى يلهه ويلزمه التفتيش عنها
والأجوبة عنها.
وإن فرضنا في آحاد الناس من لم يحصل له علم الجملة ولا علم التفصيل
وإنما هو على تقليد محض، فإنه مخطئ ضال عن طريق الحق وليس يتميز
له ذلك.
فإن قالوا: أكثر من أو مأتم إليه إذا سألته عن ذلك لا يحسن الجواب عنه.
قلنا: وذلك أيضا لا يلزم، لأنه لا يمتنع أن يكون عارفا على الجملة وإن
تعذرت عليه العبارة عما يعتقده، فتعذر العبارة عما في النفس لا يدل على بطلان
ذلك ولا ارتفاعه.
فإن قيل: قد ذكرتم أنه يخرج الإنسان عن حد التقليد بعلم الجملة، ما
15

حد ذلك بينوه لنقف عليه؟
قلنا: أحوال الناس تختلف في ذلك: فمنهم من يكفيه الشئ اليسير،
ومنهم من يحتاج إلى أكثر منه بحسب ذكائه وفطنته وخاطره حتى يزيد بعضهم
على بعض إلى أن يبلغ إلى حد لا يجوز له الاقتصار على علم الجملة بل يلزمه
على التفصيل لكثرة خواطره وتواتر شبهاته. وليس يمكن حصر ذلك لشئ
لا يمكن الزيادة عليه ولا النقصان عنه.
فإن قيل: فعلى كل حال بينوا لذلك مثالا على وجه التقريب.
قلنا: أما على وجه التقريب فإنا نقول: من فكر في نفسه فعلم أنه لم يكن
موجودا ثم وجد نطفة ثم صار علقة ثم مضغة ثم عظما ثم جنينا في بطن أمه
ميتا ثم صار حيا فبقي مدة ثم ولد صغيرا فتتقلب به الأحوال من صغر إلى كبر
ومن طفولة إلى رجلة ومن عدم عقل إلى عقل كامل ثم إلى الشيخوخة وإلى
الهرم ثم الموت، وغير ذلك من أحواله، علم أن هنا من يصرفه هذا التصريف
ويفعل به هذا الفعل، لأنه يعجز عن فعل ذلك بنفسه، وحال غيره من أمثاله
حاله من العجز عن مثل ذلك.
فعلم بذلك أنه لا بد من أن يكون هناك من هو قادر على ذلك مخالف له،
لأنه لو كان مثله لكان حكمه حكمه. ويعلم أنه لا بد أن يكون عالما من حيث أن
ذلك في غاية الحكمة والاتساق، مع علمه الحاصل بأن بعض ذلك لا يصدر
ممن ليس بعالم، وبهذا القدر يكون عالما بالله تعالى على الجملة.
وهكذا إذا نظر في بذر يبذر فينبت منه أنواع الزرع والغرس ويصعد إلى
منتهاه، فمنه ما يصير شجرا عظيما يخرج منه أنواع الفواكه والملاذ، ومنه
ما يصير زرعا يخرج منه أنواع الأقوات، ومنه ما يخرج منه أنواع المشمومات
الطيبة الروائح، ومنه ما يكون خشبه في غاية الطيب كالعود الرطب وغير ذلك،
16

وكالمسك الذي يخرج من بعض الظباء والعنبر الذي يخرج من البحر، فيعلم
بذلك أن مصرف ذلك وصانعه قادر عالم لتأتي ذلك واتساقه ولعجزه وعجز
أمثاله عن ذلك، فيعلم بذلك أنه مخالف لجميع أمثاله، فيكون عارفا بالله على
الجملة.
وكذلك إذا نظر إلى السماء صاحية فتهب الرياح وينشأ السحاب ويصعد
ولا يزال يتكاثف ويظهر فيه الرعد والبرق والصواعق، ثم ينزل منه من المياه
والبحار العظيمة التي تجري منها الأنهار العظيمة والأودية الوسيعة، وربما كان
فيه من البرد مثل الجبال، كل ذلك في ساعة واحدة ثم تنقشع السماء وتبدو
الكواكب وتطلع الشمس أو القمر كأن ما كان لم يكن من غير تراخ ولا زمان
بعيد، فيعلم ببديهة أنه لا بد أن يكون من صح ذلك منه قادرا عليه ممكن منه 1)
وأنه مخالف له ولأمثاله، فيكون عند ذلك عارفا بالله.
وأمثال ذلك كثيرة لا نطول بذكره، فمتى عرف الإنسان هذه الجملة وفكر
فيها هذا الفكر واعتقد هذا الاعتقاد، فإن مضى على ذلك ولم يشعثه خاطر ولا
طرقته شبهة فهو ناج متخلص.
وأكثر من أشرتم إليه يجوز أن يكون هذه صفته، وإن بحث عن ذلك
وعن علل ذلك فطرقته شبهات وخطرت له خطرات وأدخل عليه قوم ملحدون ما حيره
وبلبله، فحينئذ يلزمه التفتيش ولا تكفيه هذه الجملة، ويجب عليه أن يتكلف
البحث والنظر، على ما سنبينه ليسلم من ذلك ويحصل له العلم على التفصيل.
ونحن نبين ذلك في الفصل الذي يلي هذا الفصل على ما وعدنا به إنشاء الله.
فإن قيل: أصحاب الجمل على ما ذكرتم لا يمكنهم أن يعرفوا صفات الله
تعالى وما يجوز عليه وما لا يجوز عليه منها على طريق الجملة، وإذا لم

1) في ج " على كل ممكن فيه ".
17

يمكنهم ذلك لم يمكنهم أن يعلموا أن أفعاله كلها حكمة ولا حسن التكليف ولا
النبوات ولا الشرعيات، لأن معرفة هذه الأشياء لا يمكن إلا بعد معرفة الله
تعالى على طريق التفصيل.
قلنا: يمكن معرفة جميع ذلك على وجه الجملة، لأنه إذا علم بما قدمناه
من الأفعال ووجوب كونه قادرا عالما وعلم أنه لا يجوز أن يكون قادرا بقدرة
محدثة لأنها كانت تجب أن تكون من فعله، وقد تقرر أن المحدث لا بد له من
محدث، وفاعلها يجب أن يكون قادرا أولا، فلولا تقدم كونه قادرا قبل ذلك
لما صح منه تعالى فعل القدرة، فيعلم أنه لم يكن قادرا بقدرة محدثة، ولأجله
علم أنه كذلك لأمر لا اختصاص له بمقدور دون مقدور، فيعلم أنه يجب أن
يكون قادرا على جميع الأجناس ومن كل جنس على ما لا يتناهى لفقد التخصيص.
وكذلك إذا علم بالمحكم من أفعاله كونه عالما علم أن ما لأجله علم ما
علمه لا اختصاص له بمعلوم [دون معلوم] 1)، إذ المخصص هو العلم المحدث
والعلم لا يقع إلا من عالم، فلا بد أن يتقدم كونه عالما لا بعلم محدث، وما
لأجله علم لا اختصاص له بمعلوم دون معلوم، فيعلم أنه عالم بما لا يتناهى
وبكل ما يصح أن يكون معلوما لفقد الاختصاص. فيعلم أنه لا يشبه الأشياء،
لأنه لو أشبهها لكان مثلها في كونها محدثة، لأن المثلين لا يكون أحدهما
قديما والآخر محدثا.
ويعلم أنه غير محتاج، لأن الحاجة من صفات الأجسام، لأنها تكون إلى
جلب المنافع أو دفع المضار وهما من صفات الأجسام، فيعلم عند ذلك
أنه غني.
ويعلم أنه لا تجوز عليه الرؤية والإدراكات، لأنه لا يصح أن يدرك إلا ما

1) الزيادة من ج.
18

يكون هو أو محله في جهة، وذلك يقتضي كونه جسما أو حالا في جسم،
وهكذا يقتضي حدوثه وقد علم أنه قديم.
وإذا علم أنه عالم بجميع المعلومات، وعلم كونه غنيا، علم أن جميع
أفعاله حكمة وصواب ولها وجه حسن وإن لم نعلمه مفصلا، لأن القبيح لا يفعله
إلا من هو جاهل بقبحه أو محتاج إليه وكلاهما منتفيان عنه، فيقطع عند ذلك
على حسن جميع أفعاله من خلق الخلق والتكليف وفعل الآلام وخلق المؤذيات
من الهوام والسباع وغير ذلك.
ويعلم أيضا عند ذلك صحة النبوات، لأن النبي إذا أدعى النبوة وظهر
على يده علم معجز يعجز عن فعله جميع المحدثين علم أنه من فعل الله ولولا
صدقه لما فعله، لأن تصديق الكذاب لا يحسن، وقد أمن ذلك بكونه عالما غنيا.
فإذا علم صدق الأنبياء بذلك علم صحة ما أتوا به من الشرعيات والعبادات،
لكونهم صادقين على الله وأنه لا يتعبد الخلق إلا بما فيه مصلحتهم.
وإذا ثبت له هذه العلوم فتشاغل بالعبادة أو بالمعيشة ولم تخطر له شبهة
ولا أورد عليه ما يقدح فيما علمه ولا فكر هو في فروع ذلك لم يلزمه أكثر
من ذلك.
ومتى أورد عليه شبهة فإن تصورها قادحة فيما علمه يلزمه حينئذ النظر فيها
حتى يحلها ليسلم له ما علمه، وإن لم يتصورها قادحة ولا اعتقد أنها تؤثر فيما
علمه لم يلزمه النظر فيها ولا التشاغل بها.
وهذه أحوال أكثر العوام وأصحاب المعايش والمترفين، فإنهم ليس يكادون
يلتفتون إلى شبهة تورد عليهم ولا يقبلونها ولا يتصورونها قادحة فيما اعتقدوه
بل ربما أعرضوا عنها واستغفوا عن سماعها وإيرادها وقالوا: لا تفسدوا علينا
ما علمناه. وقد شاهدت جماعة هذه صورتهم.
19

فبان بهذه الجملة ما أشرنا إليه من أحوال أصحاب الجمل.
ونحن نبين في الفصل الذي يلي هذا ما يلزم من هو فوق هؤلاء ممن ينظر
ويبحث وتطرقه الشبهات وإن لم يبالغ في استيفاء ذلك، ليكون قد ذكرنا أمر
الفريقين وبينا أحوال الفئتين. والله تعالى الموفق للصواب.
فصل
(في ذكر بيان ما يؤدي النظر فيه إلى معرفة الله تعالى)
لا يمكن الوصول إلى معرفة الله تعالى إلا بالنظر في حدوث ما لا يدخل
تحت مقدور المخلوقين، وهو الأجسام والأعراض المخصوصة، كالألوان
والطعوم والأراييح والقدرة والحياة والشهوة والنفار وما جرى مجرى ذلك.
فأما ما يدخل جنسه تحت مقدور القدر 1) كالحركات والسكنات والاعتمادات
والأصوات، فلا يمكن بالنظر فيها الوصول إلى معرفة الله تعالى.
والكلام في حدوث الأجسام أظهر، لأنها معلومة ضرورة لا يحتاج فيها في
العلم بوجودها إلى الدليل بل إنما يحتاج إلى الكلام في حدوثها، ثم بيان أن
لها محدثا يخالفها فيكون ذلك علما بالله، ثم الكلام في صفته.
ولنا في الكلام في حدوث الأجسام طريقان:
أحدهما: أن ندل على أنها ليست قديمة، فيعلم حينئذ أنها محدثة، لأنه
لا واسطة بين القدم والحدوث.
والطريق الثاني: أن نبين أنها لم تسبق المعاني المحدثة، فيعلم أن حكمها
حكمها في الحدوث.
(وبيان الطريق الأول) هو أن الأجسام لو كانت قديمة لوجب أن تكون في

1) في ج: القدرة (المخلوقين خ ل).
20

الأزل في جهة [من جهات] 1) العالم، لأن ما هي عليه من الحجم والجثة
يوجب ذلك.
ثم لا يخلو كونها في تلك الجهة إما أن تكون للنفس أو لمعنى قديم أو
لمعنى محدث أو الفاعل. فإذا بين فساد جميع ذلك علم أنها لم تكن قديمة
ولا يجوز أن تكون في الأزل في جهة الفاعل، لأن من شأن الفاعل أن يتقدم
على فعله، ولو تقدم فاعلها عليها لكانت محدثة، لأن القديم لا يمكن أن يتقدم
عليه غيره، والمعنى المحدث لا يوجب صفة في الأزل.
وكونها في الجهة للنفس يوجب استحالة انتقالها، لأن صفات النفس لا
يجوز تغيرها وزوالها، والمعلوم ضرورة صحة انتقالها، فبطل أن يكون كذلك
للنفس.
ولا يجوز أن تكون كذلك لمعنى قديم، لأنها لو كانت كذلك لوجب إذا
انتقل الجسم أن يبطل ذلك المعنى، لأن وجوده فيه على ما كان يوجب كونه
في الجهتين، وذلك محال.
والانتقال لا يجوز على المعنى، لأنه من صفات الجسم.
فقد بطل جميع الأقسام، وفي بطلان جميعها بطلان كونها قديمة وثبوت
كونها محدثة، لأنه لا واسطة بين الأمرين على ما بيناه.
(وبيان الطريقة الثانية) أن نبين أربعة فصول: أحدها أن في الأجسام
معان غيرها، والثاني أن نبين أن تلك المعاني محدثة، والثالث أن نبين أن
الجسم لم يسبقها في الوجود، والرابع أن ما لم يسبق المحدث يجب أن يكون
محدثا.
والذي يدل على الفصل الأول: إنا نعلم أن الجسم يكون على صفات من

1) الزيادة من ج.
21

اجتماع وحركة فتتغير إلى أن يصير مفترقا وساكنا، فلا بد من أمر غيره، لأنه
لو لم يكن أمر لبقي على ما كان عليه.
ولا يجوز أن يكون ذلك الأمر نفس الجسم، ولا ما يرجع إليه من وجود
أو حدوث أو جسمية، لأن جميع ذلك يكون حاصلا مع انتقاله من جهة إلى
غيرها، فكيف يكون هو المؤثر في تغير الصفات.
ولا يجوز أن يكون ذلك لعدم معنى، لأن عدم معنى لا اختصاص له بجسم
دون جسم ولا بجهة دون غيرها، وكان يجب أن تتغير الأجسام كلها وتنتقل
إلى جهة تغيرها، وذلك باطل.
ولا يجوز أن يكون كذلك بالفاعل، لأنه: إن أريد بذلك أنه فعل فيه معنى
أوجب تغيره وانتقاله، فذلك وفاق وهو المطلوب. وإن أرادوا أن الفاعل
جعله على هذه الصفات ولم يفعل معنى فذلك باطل، لأن من شأن ما يتعلق
بالفاعل من غير توسط معنى أن يكون القادر عليه قادرا على إحداث تلك الذات.
ألا ترى أن من قدر على إحداث كلامه قدر على أن يجعله على جميع
أوصافه من أمر ونهي وخبر وغير ذلك، وكلام الغير لما لم يكن قادرا على
إحداثه لم يكن قادرا على جعله أمرا ونهيا وخبرا. والواحد منا يقدر على أن
يجعل الجسم متحركا أو ساكنا أو مجتمعا أو متفرقا ولا يقدر على إحداثه،
فدل ذلك على أن هذه الصفات غير متعلقة بالفاعل، فلم يبق بعد ذلك شئ
يعقل إلا أنه صار كذلك لمعنى.
والذي يدل على حدوث ذلك المعنى أن المجتمع إذا فرق أو المتحرك
إذا سكن لا يخلوا أن يكون ذلك المعنى الذي كان فيه باقيا كما كان أو انتقل عنه
أو عدم. ولا يجوز أن يكون موجودا كما كان، لأن ذلك يوجب كونه مجتمعا
متفرقا متحركا ساكنا، لوجود المعنيين معافيه في حالة واحدة، وذلك محال
22

ولا يجوز أن يكون انتقل عنه، لأن الانتقال من صفات الجسم دون العرض،
ولأنه لو انتقل لم يخلو إما أن يكون انتقل مع جواز ألا ينتقل أو وجب انتقاله.
ولو كان انتقاله جائزا لاحتاج إلى معنى كالجسم، وذلك يؤدي إلى إثبات
معان لا نهاية لها، ولو وجب انتقاله لأدى إلى وجوب انتقال الجسم، والمعلوم
أن الجسم لا يجب انتقاله إن لم ينقله ناقل، فلم يبق من الأقسام إلا أنه عدم.
ولو كان قديما لما جاز عدمه، لأنه قديم لنفسه، وصفات النفس لا يجوز خروج
الموصوف عنها. ألا ترى أن السواد لا يجوز بياضا ولا الجوهر عرضا ولا
الحركة اعتمادا وغير ذلك، لأن هذه الأشياء على ما هي عليه لنفسها فلا يجوز
عليها التغيير. فلما ثبت عدمها على أنها لم تكن قديمة، وإذا لم تكن قديمة
وجب كونها محدثة.
والذي يدل على الفصل الثالث - وهو أن الجسم لم يخل منها هو
أنه معلوم ضرورة أن الأجسام للعالم لا تخلو من أن تكون مجتمعة أو مفترقة أو
متحركة أو ساكنة، فثبت بذلك أنها لا تخلو من الاجتماع والافتراق.
ومن قال إن الأجسام كانت هيولي لا مجتمعة ولا مفترقة. ربما أشار بذلك
إلى أنها كانت معدومة فسماها موجودة، كما يقولون موجود بالقوة وموجود
في العلم، وذلك عندنا ليس بوجود في الحقيقة. ومتى أرادوا ذلك كان
خلافا في العبارة لا يعتد به.
وأما الفصل الرابع فالعلم به ضرورة، لأن من المعلوم أن كل ذاتين وجدا
معا ولم تسبق إحداهما الأخرى، فإن حكمهما حكم واحد [في الوجود] 1)
ألا ترى أنا إذا فرضنا ميلاد زيد وعمرو في وقت واحد فلا يجوز مع ذلك أن
يكون أحدهما أسبق من الآخر لأن ذلك متناقض، وكذلك إذا فرضنا أن الجسم

1) الزيادة من ر.
23

لم يسبق المحدث ولم يخل منه علمنا أن حكمه حكمه في الحدوث.
وقول من قال: إن فيها معان لا نهاية له 1) شيئا قبل شئ لا إلى أول. باطل
لأن وجود ما لا نهاية له محال، لأنه كان يصير من شروط وجود كل واحد منها
أن يتقدم قبله ما لا نهاية له، فلا يصح وجود شئ منها البتة، والمعلوم خلافه.
على أن القائل بذلك قد ناقض، لأنه إذا قال إنها محدثة اقتضى أن لها
أولا، فإذا قال بعد ذلك لا أول لها اقتضى ذلك قدمها، وذلك متناقض. وأيضا
فإذا قال الجسم قديم أفاد ذلك وجوده في الأزل، [فإذا سلم أنه لا يخلو من
معنى فقد أثبت فيه معنى في الأزل] 2)، والمعنى الموجود في الأزل يكون
قديما، فيكون في ذلك رجوع عن كونها محدثة. أو يقول فيما لم يزل لم يكن
فيها معنى فيكون فيها رجوع في أن الجسم لم يخل من معنى، وذلك
فاسد. فقد بان بهذه الجملة حدوث الأجسام، ثم تدل فيما بعد على أن لها
صانعا يخالفها.
وأما الطريقة الثانية فهو أن نبين أن ههنا معان كالألوان والطعوم والقدرة
والحياة والشهوة والنفار وكمال العقل، ونبين أن أحدا من المخلوقين لا يقدر
على شئ منها، فيعلم عند ذلك أن صانعها مخالف لها.
وبيان ذلك: أن الواحد منا قد يدعوه الداعي إلى تبيض الأسود أو تسود
الأبيض أو يحيي ميتا أو يقدر عاجزا أو يكمل عقل من لا عقل له، وهو قادر
متصرف غير ممنوع والدواعي متوفرة، ويبالغ في ذلك ويجتهد في تحصيله
مع احتمال المحل لذلك فيتعذر ولا يتحصل لا لوجه معقول إلا أنه ليس بمقدور
له، فيعلم عند ذلك أن صانعها مخالف لها ومباين لنا، فيكون ذلك علما بالله

1) كذا في النسختين ولعله " لا نهاية لها ".
2) الزيادة ليست في ر.
24

على الجملة. فإذا عرف بعد ذلك صفاته وما يجوز عليه وما لا يجوز حصل علمه
به على طريق التفصيل.
فصل
(في إثبات صانع العالم وبيان صفاته)
إذا ثبت حدوث الأجسام بما قدمنا، فالذي يدل على أن لها محدثا هو
ما ثبت في الشاهد من أن الكتاب لا بد لها من كاتب والبناء لا بد له من بان
والنساجة لا بد لها من ناسج وغير ذلك من الصنائع. وإنما وجب ذلك فيها
لحدوثها، فيجب أن تكون الأجسام إذا شاركتها في الحدوث أن تكون محتاجة
إلى محدث.
فإن قيل: كيف تدعون العلم بذلك وههنا من يخالف في ذلك ويقول
الكتابة لا تعلق لها بالكاتب ولا البناء بالباني ولا غير ذلك من الصنائع، وهو
الأشعري وأصحابه، لأن عندهم أن هذه الصنائع لا كسب للعبد فيها وإنما هي
من فعل الله وحده.
قلنا: الأشعري لم يدفع حاجة البناء إلى بان ولا الكتابة إلى كاتب، وإنما
قال فاعلها هو الله تعالى دون العبد. ونحن لم ندع العلم بحاجة هذه الأفعال
إلى فاعل معين بل ادعينا حاجتها إلى صانع ما في الجملة. ثم هل هو القديم
أو الواحد منا؟ موقوف على الدليل، ودليله هو أنه يجب وقوع هذه الأفعال
بحسب دواعينا وأفعالنا ويجب انتفاؤها بحسب صوارفنا وكراهتنا، فلو كانت
متعلقة بغيرنا لما وجب ذلك، كما لا يجب ذلك في طولنا وقصرنا وخلقنا
وهيأتنا لم لما تكن متعلقة بنا، فالوجوب الذي اعتبرناه يبطل تعلقها بغيرنا.
25

فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون ذلك [بالعادة دون أن يكون] 1) واجبا.
قلنا: ذلك فاسد من وجهين:
أحدهما: إن ذلك يبطل الفرق بين الواجب والمعتادة، فيؤدي إلى أنه
لا فرق بينهما، وأن يقول قائل انتفاء السواد بالبياض بالعادة وحاجة العلم إلى
الحياة بالعادة وغير ذلك من الواجبات، فبأي شئ فرقوا بينهما فهو فرقنا بين
أن يكون ذلك واجبا أو معتادا.
الثاني: أنه لو كان ذلك بالعادة لوجب أن يكون من لا يعرف العادات ولا
نشأ بين أهلها أن يجوز أن تبنى دار من قبل نفسها أو تنكتب كتابة طويلة بلا
كاتب أو أن تنسج نساجة عجيبة من غير ناسج وغير ذلك. والمعلوم خلاف
ذلك، لأنه لا يجوز مثل ذلك إلا مؤف العقل فاسد التصور.
فإن قيل: لو خلق الله تعالى عاقلا ابتداءا، فشاهد قصرا مبنيا وكتابة هل
كان يعلم أن لها بانيا وكاتبا أم لا، فإن قلتم يعلم قلنا وأي طريق له إلى ذلك،
وإن قلتم لا يعلم بذلك فقد بطل ادعاؤكم العلم.
قلنا: من خلقه الله وحده ابتداءا وشاهد الكتابة أو القصر فهو لا يعلمهما
محدثين متجددين [فلذلك لا يعلم لهما بانيا وكاتبا، فيحتاج أن يتأمل حالهما
حتى يعلمهما محدثين متجددين] 1)، فإذا علمهما متجددة الوجود علم تعلقهما
بفاعل.
ونظير ذلك أن من شاهد الأجسام قبل النظر في حدوثها، فإنه لا يعلم أن
لها محدثا، فإذا تأمل وعلم حدوثها علم عند ذلك أن لها محدثا.
وإنما قلنا أن علة حاجة هذه الحوادث إلينا حدوثها لا غير لأمرين:
أحدهما: أن الذي يتجدد عند دواعينا حدوث هذه الصنائع وينتفى عند

1) الزيادة ليست في ر.
26

صوارفنا حدوثها أيضا، فعلمنا أن علة حاجتها إلينا حدوثها.
والثاني: أن هذه الأشياء لها ثلاثة أحوال: حال عدم، وحال حدوث،
وحال بقاء. فهي لا تحتاج إلينا في حال عدمها، لكونها معدومة في الأزل، وهي
تستغني عني في حال بقائها، وإنما تتعلق بنا وتحتاج إلينا في حال حدوثها،
فعلمنا بذلك أن علة حاجتها إلينا الحدوث، فعند ذلك نحكم بحاجة الأجسام
، إذا ثبت حاجة حدوثها إلى محدث للاشتراك في علة الحاجة.
وهذه الجملة كافية في هذا الباب، فإن استيفاء ذلك ذكرناه في شرح
الجمل، وفي هذا القدر كفاية إنشاء الله تعالى.
وأما ما يجب أن يكون عليه من الصفات:
فأول ذلك أنه يجب أن يكون قادرا، لأن الفعل لا يصح أن يصدر إلا من قادر.
ألا ترى أنا نجد فرقا بين من يصح منه الفعل وبين من يتعذر عليه ذلك، فلا بد
من أن يكون من صح منه الفعل مختصا بأمر ليس عليه من تعذر عليه ذلك
وإلا تساويا في الصحة أو التعذر [وقد علمنا خلافه] 1). وأهل اللغة من اختص
بهذه المفارقة يسمونه قادرا، فأثبتت المفارقة لمقتضى العقل والتسمية لأجل
اللغة، فإذا كان صانع العالم صح منه الفعل وجب أن يكون قادرا.
على أنا دللنا على أن أفعالنا محتاجة إلينا دال على حاجتها إلى من له صفة
المختارين، فإسنادها إلى من ليس له صفة المختارين في البطلان كبطلان
إسنادها إلى مؤثر، وكلاهما فاسدان.
على أن صانع العالم لا يخلو من أن يكون قادرا مختارا أو موجبا هو علة
أو سبب، ولا يجوز أن يكون علة ولا سببا، لأنهما لا يخلو من أن يكونا قديمين
أو محدثين، فلو كانا محدثين لاحتاجا إلى علة أخرى أو سبب آخر، وذلك
يؤدي إلى ما لا نهاية له من العلل والأسباب، وإن كانا قديمين وجب أن يكون

1) الزيادة من ر.
27

العالم قديما، لأن العلة توجب معلولها في الحال والسبب يوجب المسبب إما
في الحال أو الثاني، وكلاهما يوجبان قدم الأجسام وقد دللنا على حدوثها،
فبطل بذلك أن يكون صانع العالم موجبا ولم يبق بعد ذلك إلا أن يكون مختارا
له صفة القادرين.
وإذا ثبت كونه قادرا وجب أن يكون حيا موجودا، لأن من المعلوم أن
القادر لا يكون إلا كذلك، فثبت أنه تعالى قادر حي موجود.
وأما الذي يدل على أنه عالم هو أن الأحكام ظاهر في أفعاله كخلق الإنسان
وغيره من الحيوان، لأن فيه من بديع الصنعة ومنافع الأعضاء وتعديل الأمزجة
وتركيبها على وجه يصح معه أن يكون حيا لا يقدر عليه إلا من هو عالم بما
يريد فعله، لأنه لو لم يكن عالما لما وقع على هذا الوجه من الأحكام والنظام
ولاختلف في بعض الأحوال، ولما كان ذلك واقعا على حد واحد ونظام واحد
واتساق واحد دل على أن صانعه عالم.
وكذلك خلقه الثمار في أوقات مخصوصة لا تختلف وفي كل شجر ما هو
من جنسه وفي كل حيوان من شكله دال على أن خالق ذلك عالم، وإلا لكان
يجوز أن يخلق الفواكه الصيفية في الشتاء والشتوية في الصيف، ويخلق في
البهيمة من جنس ابن آدم أو في ابن آدم من جنس البهائم، أو يخلق في
النخل نبقا وفي الرمان تفاحا وغير ذلك. وفي علمنا بالمطابقة في هذا الباب
دليل على أن صانعها عالم بما صنعه.
ألا ترى أن في المشاهد لا تقع الكتابة إلا ممن هو عالم بها، ولا النساجة
إلا ممن هو عالم بترتيبها وكيفية إيقاعها، وغيره وإن كان أقدر منه يتعذر عليه
مثله لفقد علمه، والضعيف القليل القدر يصح منه ذلك لعلمه بكيفية إيقاعه.
وإذا كان القدر اليسير من أفعالنا المحكمة لا تقع إلا من عالم، فألا تقع
28

الأفعال التي أشرنا إليها الزائدة على أحكام كل محكم أولى وأحرى، فثبت
بذلك أن صانع العالم عالم.
ولا يجوز أن يكون بصفة الظانين ولا المعتقدين، [لأن الصنائع المحكمة
تحتاج إلى من له صفة العالمين دون الظانين المعتقدين] 1)، لأنها تحتاج إلى
أمر يلزم كمال العقل ولا يخرج عنه من ثبوت عقله، والظن والاعتقاد الذي ليس
بعلم لا يوجب لزومه لكمال العقل. فوجب من ذلك أن يكون صانع العالم
عالما دون أن يكون ظانا أو معتقدا.
ويجب أيضا أن يكون مدركا للمدركات سميعا بصيرا، لأن الحي الذي
لا آفة به متى وجدت المدركات وارتفعت الموانع واللبس وجب أن يكون
مدركا لها. ألا ترى أن من كانت حواسه صحيحة ووجدت المرئيات وارتفعت
الموانع واللبس وجب أن يكون رائيا لها، وكذلك إذا وجدت الأصوات وسمعه
صحيح وجب أن يدركها ويفصل بين حاله وهو مدرك لها وبين أن لا يدركها.
وهذا الفرق لا يستند إلى كونه حيا، لأنه كان حيا قبل ذلك ولم يجد نفسه كذلك
ولا إلى كونه عالما لأنه يكون عالما بها قبل إدراكها 2) ولا يجد نفسه على هذه
الحال. ألا ترى أن الإنسان يعلم الصوت بعد تقضيه ويعلمه أيضا قبل وجوده
ولا يجد نفسه على ما يجد عليه إذا أدركه، وكذلك المتألم يدرك الآلام وإن
لم يعلمها. فثبت بذلك أن الادراك غير العلم والحياة.
وإذا كان القديم تعالى حيا والآفات والموانع لا تجوز عليه لأنه ليس يرى
بحاسة ووجدت المدركات وجب أن يكون مدركا لها.
وليس لواحد أن يقول: إن الواحد منا يدرك بمعنى هو إدراك، والمعنى
ولا يجوز عليه تعالى، وذلك أن الادراك ليس بمعنى، وإنما الواحد منا يدرك

1) الزيادة ليست في ر.
2) أضاف في ر هنا " وبعد انقضائها ".
29

لكونه حيا، بدلالة أنه لو كان معنى لجاز أن يكون حيا وحواسه صحيحة
والموانع مرتفعة واللبس زائل ولو وجد المدركات فلا يدركها بأن لا يفعل فيه
الادراك، وذلك يؤدي إلى السفسطة والشك في المشاهدات وأن لا يثق بشئ
من المدركات، وما أدى إلى ذلك يجب أن يكون باطلا.
ويجب أيضا أن يكون سميعا بصيرا، لأنه حي لا آفة به. وفائدة السميع
البصير أنه على صفة يجب معها أن يسمع المسموعات ويبصر المبصرات،
وذلك يرجع إلى كونه حيا لا آفة به. وعلى هذا يوصف تعالى بذلك في الأزل
ولو كان له بكونه سميعا بصيرا صفة زائدة على ما قلناه لجاز أن يكون الواحد
منا حيا لا آفة به ولا يوصف بأنه سميع بصير، والمعلوم خلاف ذلك.
وأما سامع مبصر فمعناه أنه مدرك للمسموعات والمبصرات، وذلك يقتضي
وجود المسموعات والمبصرات، ولذلك لا يوصف بهما في الأزل.
وأما شام وذائق فليس المراد بهما كونه مدركا، بل المستفاد بالشام أنه
قرب الجسم المشموم إلى حاسة شمه، والذائق أنه قرب الجسم المذوق إلى
حاسة ذوقه. ولذلك يقولون شممته فلم أجد له رائحة، وذقته فلم أجد له
طعما ولا يقولون أدركته فلم أدركه لأنه مناقضة، وجرى مجرى قوله أصغيت
إليه فلم أسمعه، فهاتان يكون؟ سبب الادراك على وجه دون أن يكون نفس
الادراك.
ويجب أيضا أن يكون تعالى مريدا وكارها، لأنه ثبت أنه آمر وناه ومخبر
والأمر لا يقع إلا ممن هو مريد للمأمور به، والنهي لا يقع نهيا إلا مع كراهية
المنهي عنه، والخبر لا يقع خبرا إلا بإرادة كونه خبرا. بدلالة أن هذه الصيغ
كلها توجد فيما ليس بأمر ولا نهي ولا خبر.
30

ألا ترى أن قوله تعالى " واستفزز من استطعت منهم بصوتك " 1) وقوله
تعالى " اعملوا ما شئتم " 2) بصورة الأمر والمراد به التهديد، وقوله تعالى
" فأتوا بسورة من مثله " 3) صورته صورة الأمر والمراد به التحدي، وقوله
تعالى " وإذا حللتم فاصطادوا " 4) المراد به الإباحة. ونظائر ذلك كثيرة جدا،
فلا يمكن مع ذلك أن يكون آمرا لجنسه ولا لصيغته ولا لحدوثه، لأن جميع
ذلك يوجد فيما ليس بأمر، فلم يبق إلا أنه يكون آمرا لإرادة المأمور به. والكلام
في النهي والخبر مثل ذلك.
وأيضا فقد ثبت أنه تعالى خلق الخلق ولا بد أن يكون له فيه غرض، لأنه
إن لم يكن له فيه غرض كان عبثا، وذلك لا يجوز عليه. ولا يجوز أن يكون
خلقهم لنفع نفسه، لأن ذلك لا يجوز عليه، لأنا سنبين استحالة المنافع عليه.
فلم يبق إلا أنه خلق الخلق لمنافعهم، ومعناه أنه أراد نفعهم بذلك، فثبت
بذلك أنه مريد.
ويجب أن يكون تعالى قديما موجودا في الأزل، لأنه لو كان محدثا لاحتاج
إلى محدث، والكلام في محدثه كالكلام فيه، فكان يؤدي إلى محدثين ومحدثي
المحدثين إلى ما لا نهاية له، وذلك فاسد.
وأيضا فإنه فاعل الأجسام والأعراض المخصوصة من الألوان والطعوم
وغيرهما، والمحدث لا يصح منه فعل الجسم ولا هذه الأعراض المخصوصة،
فوجب أن يكون من صحت فيه قديما. وإنما كان كذلك لأن المحدث لا يكون

1) سورة الإسراء: 64.
2) سورة فصلت: 40 و
3) سورة البقرة: 23.
4) سورة المائدة: 2.
31

قادرا إلا بقدرة، والقدرة لا يصح بها فعل الأجسام.
وإنما قلنا " إن المحدث لا يصح أن يكون قادرا لنفسه " لأنه لو جاز أن
يكون الجسم قادرا لنفسه لوجب أن تكون الأجسام كلها قادرة لنفسها لأنها متماثلة،
والمعلوم خلاف ذلك.
وإنما قلنا " إن القدرة لا يقع بها فعل جسم " لأنا لو اجتهدنا كل الجهد
أن نوجد جسما أو جوهرا لتعذر ذلك، ولا وجه لتعذره إلا أنه غير مقدور لنا
وبذلك نفصل بين ما هو مقدور لنا وبين ما ليس بمقدور لنا. فبان بذلك أن
من صح منه الجسم لا يكون إلا قديما ولا يكون محدثا.
وهو تعالى متكلم. والطريق الذي يعلم كونه متكلما السمع، لأن العقل
لا يدل عليه، وإنما يدل على أنه قادر على الكلام، لأنه جنس من الأفعال وهو
قادر على جميع الأجناس. وقد أجمع المتكلمون على أنه تعالى متكلم لا
خلاف بينهم، وإجماعهم حجة. ومعلوم أيضا من دين النبي عليه السلام أنه
تعالى متكلم، وأن هذا القرآن كلام الله تعالى.
فإن قيل: السمع مستند إلى قول النبي عليه السلام، والنبي بأي شئ
يعلم أنه متكلم؟ فإن قلتم بسمع آخر أدى إلى ما لا نهاية له من المستمعين، أو
ينتهى إلى مسمع علم عقلا أنه متكلم، وإلا فما الجواب؟
قيل: لا يمتنع أن يعلم النبي كونه متكلما بكلام يسمعه يتضمن بأنه كلام
الله، ويقترن بذلك علم معجز، فيقطع على ذلك أنه كلامه وأنه متكلم. ويمكن
أيضا أن يخلق الله تعالى فيه العلم الضروري بأنه ليس بكلام أحد من المخلوقين
وقد تقرر في عقله أن المحدث لا بد أن يكون له محدث، فيعلم عند ذلك أنه
كلامه القديم، لأنه لا واسطة بين القديم والمحدث، وإذا بطل أنه كلام محدث
ثبت أنه كلام قديم.
32

فصل
(في كيفية استحقاقه لهذه الصفات)
يجب أن يكون تعالى قادرا في الأزل، لأنه لو تجدد كونه قادرا بعد أن
لم يكن كذلك وجب أن يكون قادرا بقدرة، لأن شرط صحة كونه قادرا
عدم المقدور، وهو حاصل في الأزل. ولو كان قادرا بقدرة وجب أن تكون
تلك القدرة محدثة، لأنها لو كانت قديمة لوجب كونه قادرا في الأزل، ولو
كانت محدثة لوجب أن يكون من فعله، إذ المحدث لا بد له من محدث،
ولو كانت من فعله لوجب أن يكون قادرا قبل إيجادها، لأن الفعل لا يصدر إلا من
قادر.
وعلى هذا المذهب هو تعالى لا يكون قادرا إلا بعد وجود القدرة، فيتعلق
كونه قادرا بوجود القدرة ووجود القدرة بكونه قادر، فلا يصح واحد من
الأمرين. وذلك باطل، لأنا علمنا خلاف ذلك.
وإذا ثبت كونه قادرا في الأزل وجب أن يكون قادرا لنفسه، لأنه لا يمكن
استناد ذلك إلى الفاعل والقدرة المحدثة، لأن ما يتعلق بالفاعل من شرطه تقدم
الفاعل عليه، وذلك لا يصح في الحاصل في الأزل. والقدرة المحدثة لا توجب
صفة في الأزل، لأن معلول العلة لا يتقدمها.
ولا يجوز أن يكون قادرا بقدرة قديمة، لأنه كان يجب أن تكون تلك
القدرة مثلا له ومشاركة له في جميع صفاته، وهو تعالى مشارك للقدرة في
جميع صفاتها لاشتراكهما في القدم الذي هو صفة النفس، والاشتراك في صفة
النفس توجب التماثل، كما أن ما شارك السواد في كونه سوادا كان سوادا،
33

وما شارك الجوهر في كونه جوهرا كان جوهرا. وكان يجب من ذلك أن يكون
تعالى بصفة القدرة والقدرة بصفة القادر، وذلك باطل، فلم يبق إلا أنه قادر لنفسه.
وبمثل ذلك يعلم [أنه عالم لنفسه، لأنه لو تجدد] 1) كونه عالما بعد أن لم
يكن لوجب أن يكون عالما بعلم محدث، إذ لا شرط يقف كونه عالما عليه، لأن
المعدوم يصح العلم به كما يصح بالموجود، بدلالة أنا نعلم ما كان أمس ونعلم
ما يكون في الغد، وكل ذلك معدوم.
ولو كان عالما بعلم محدث لوجب أن يكون من فعله، إذ لا أحد يقدر
أن يفعل علما لا في محل لو صح وجود غيره، ولو كان هو الفاعل له لوجب
أن يتقدم أو لا كونه عالما، لأن العلم لا يقع إلا من عالم، لأن جميع الوجوه
التي يقع الاعتقاد عليها فيكون علما يتقدم أو لا كون فاعله عالما، وذلك يؤدي
إلى تعلق كونه عالما بوجود العلم ووجود العلم بكونه عالما.
وإذا ثبت بذلك كونه قادرا عالما بنفسه لوجب أن يكون قادرا على جميع
الأجناس ومن كل جنس على ما لا يتناهى، لأنه لا مخصص له بقدر دون قدر.
ويجب مثل ذلك في كونه عالما أن يكون عالما بجميع المعلومات، إذ لا
مخصص له ببعضها دون بعض، فيجب من ذلك كونه عالما قادرا على ما لا يتناهى.
وإذا ثبت كونه قادرا عالما في الأزل وجب كونه حيا موجودا في الأزل،
إذ القادر العالم لا بد أن يكون حيا موجودا.
ويجب أن يكون موصوفا بأنه سميع بصير في الأزل، لأنه يفيد كونه على
صفة يجب أن يدرك المسموعات والمبصرات إذا وجدت، وذلك يرجع إلى
كونه حيا لا آفة به.
ولا يوصف بأنه سامع مبصر في الأزل، لأنهما يقتضيان وجود المسموعات

1) الزيادة ليست في ر.
34

والمبصرات في الأزل، ووجودهما في الأزل محال لأنهما محدثان، فلا يصح
وجودهما في الأزل.
وأما كونه مدركا فإنه يتجدد له بعد أن لم يكن إذا وجدت المدركات،
والمقتضي له كونه حيا، لأن أحدا متى حصل كونه حيا ووجدت المدركات
وارتفعت الموانع المعقولة وجب أن يكون مدركا، ولو كان المقتضي غير
كونه حيا لما وجب ذلك وقد علمنا وجوبه.
فأما كونه مريدا وكارها فيجب أن يحصلا له بإرادة محدثة موجودة لا في
محل، لأنه لا يخلو أن يكون مريدا لنفسه أو بإرادة قديمة أو محدثة فيه أو في
غيره من جماد أو حيوان، أو موجودة لا في محل. ولا يجوز أن يكون مريدا
لنفسه، لأنه كان يؤدي إلى أن يكون مريدا للشئ كارها له على وجه واحد في
وقت واحد، لوجوب سماع صفات النفس.
وما به علمنا كونه مريدا علمنا كونه كارها، واجتماع الصفتين محال،
لتضادهما ولأنه كان يجب أن يكون مريدا لكل ما يصح حدوثه، فيجب من ذلك
أن يكون مريدا للقبائح، وذلك صفة نقص يتعالى الله عن ذلك.
ولا يجوز أن يكون مريدا بإرادة قديمة، لأنه كان يجب أن تكون تلك
الإرادة مثلا له لمشاركتها له في القدم على ما بيناه في القدرة والعلم وقد بينا
فساده.
ولا يجوز أن يكون مريدا بإرادة قائمة به، لأنه ليس بمتحيز والمعاني لا
تقوم إلا بالمتحيز. ولو وجدت في غيره من الجماد استحال ذلك، لأن الإرادة
يستحيل وجودها في الجماد. ولو وجدت في حي لوجب أن تكون إرادة
لذلك الحي، فلم يبق إلا أنه يجب أن يكون مريدا بإرادة توجد لا في محل.
فأما كونه متكلما فلا يكون إلا بكلام محدث، لأن حقيقة المتكلم من وقع
35

منه الكلام الذي هو هذا المعقول بحسب دواعيه وأحواله.
والكلام المعقول ما انتظم من حرفين فصاعدا من هذه الحروف المعقولة
التي هي ثمانية وعشرون حرفا إذا وقع ممن يصح منه أو من قبله للإفادة.
والدليل على ذلك أنه إذا وجدت هذه الحروف على هذا الوجه سمى كلاما،
وإذا اختل واحد من الشروط لا يسمى بذلك، فعلمنا أنه حقيقة الكلام متى وقع
ما سميناه كلاما [بحسب دواعيه] 1) وأحواله سمي متكلما فعرفنا بذلك حقيقة
المتكلم. وإذا ثبت حقيقة الكلام والمتكلم ثبت أن كلامه محدث، لأن هذه
الإضافة تقتضي ذلك.
وليس لأحد أن يقول: لو لم يوصف تعالى فيما لم يزل بأنه متكلم يوصف
بضده من الخرس والسكوت، وذلك أن الخرس إنما هو فساد آلة الكلام
[والسكوت هو تسكين آلة الكلام] 2)، والله تعالى ليس بمتكلم بآلة فلا يوصف
بشئ من ذلك. ثم ذلك ينتقض بالصائح والصارخ، فإنه لا يوصف بالخرس
ولا بالسكوت ولا بالكلام، فبطل ما قالوه.
وينبغي أن يوصف كلام الله [بما سماه الله] 3) تعالى به من كونه محدثا،
قال الله تعالى " ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه " 4)، والذكر
هو القرآن بدلالة قوله " وأنزلنا إليك الذكر " 5) وقوله " إنا نحن نزلنا الذكر
وإنا له لحافظون " 6)

1) الزيادة ليست في ر.
2) الزيادة ليست في ر.
3) الزيادة من ر.
4) سورة الأنبياء: 2.
5) سورة النحل: 44.
6) سورة الحجر: 9.
36

ولا يجوز أن يكون المراد به الرسول، لقوله " إلا استمعوه " والكلام
هو الذي يصح استماعه دون الرسو ل، ويصفه بأنه مجعول كما قال " إنا جعلناه
قرآنا عربيا " 1)، ونعته بأنه منزل قال الله تعالى " إنا نحن نزلنا الذكر " وقال
" وأنزلنا إليك الذكر "، ويوصف بأنه عربي كما قال " بلسان عربي مبين " 2)
والعربية محدثة.
ولا يوصف بأنه مخلوق، لأنه يوهم أنه مكذوب أو مضاف إلى غير قائله
لأنه المعتاد من هذه اللفظة، قال الله تعالى " إن هذا إلا اختلاق " 3) و " إن
هذا إلا خلق الأولين " 4) وقال " وتخلقون إفكا " 5)، فلم يوصف الكلام بالخلق
إلا إذا أريد به الكدب أو الانتحال كما يقولون هذه قصيدة مخلوقة ومختلقة إذا
كانت منتحلة مضافة إلى غير قائلها.
وهذه الجملة تكفي فيما قصدناه، لأن شرح جميعه بيناه في شرح الجمل
وذكره يطول به ما قصدناه.
فصل
(فيما يجوز عليه تعالى وما لا يجوز)
لا يجوز أن يكون له تعالى مائية على ما يذهب إليه ضرار بن عمرو الضبي
وأبو حنيفة، لأن الطريق إلى إثباته تعالى وإثبات صفاته أفعاله، فلا يجوز أن يثبت

1) سورة الزخرف: 3.
2) سورة الشعراء: 195.
3) سورة ص: 7.
4) سورة الشعراء: 137.
5) سورة العنكبوت: 17.
37

على صفة لا يدل عليها الفعل إماما بنفسه أو بواسطة، لأنا إن لم نراع هذا الأصل
لزم أن يكون له كيفية وكمية وغير ذلك من الأقوال الفاسدة، وذلك باطل.
والفعل بمجرده يدل على كونه قادرا، وبوقوعه محكما على كونه عالما
وبوقوعه على وجه دون وجه على كونه مريدا أو كارها، وكونه قادرا عالما على
كونه حيا موجودا، وكونه حيا موجودا على كونه مدركا سميعا بصيرا.
ووجوب هذه الصفات له في الأزل يدل على صفته الذاتية عند من أثبتها
وليس في الفعل ما يدل على أن له مائية، فوجب نفيها.
وقول الأمة: إن الله تعالى أعلم بنفسه منا. معناه أنه يعلم من تفاصيل مقدوراته
ومعلوماته ما لا يعلمه أحد، لأنه يعلم منها ما لا نهاية له، والواحد منا يعلم ذلك
على وجه الجملة، فلا يجوز التوصل بذلك إلى القول بالمائية.
ولا يجوز أن يكون تعالى بصفة الجسم أو الجوهر، لأن ما دل على كون الجسم
محدثا 1) قائم في جميع الأجسام، فلو كان تعالى جسما لأدى إلى كونه محدثا
أو كون الأجسام قديمة، وكلا الأمرين فاسد.
وأيضا لو كان جسما لما صح منه فعل الأجسام كما لا يصح منا، على ما مضى
القول فيه، والعلة في ذلك كونها أجساما، وقد دللنا على أنه فاعل الأجسام
فبطل كونه جسما.
ولا يجوز وصفه بأنه جسم مع انتفاء حقيقة الجسم عنه، لأن ذلك نقض
اللغة، لأن أهل اللغة يسمون الجسم ما له طول وعرض وعمق، بدلالة قولهم
" هذا أطول من هذا " إذا زاد طولا، و " هذا أعرض من هذا " إذا زاد عرضا
و " هذا أعمق من هذا " إذا زاد عمقا، و " هذا أجسم من هذا " إذا جمع الطول
والعرض والعمق. فعلم بذلك أن حقيقة الجسم ما قلناه، وذلك يستحيل

1) في ر " كون الجسم متحركا محدتا ".
38

فيه تعالى، فلا يجوز وصفه بذلك.
وقولهم " إنه جسم لا كالأجسام " مناقضة، لأنه نفي ما أثبت نفيه، لأن قولهم
" جسم " يقتضي أن له طولا وعرضا وعمقا، فإذا قيل بعد ذلك " لا كالأجسام "
اقتضى نفي ذلك نفيه، فيكون مناقضة.
وليس قولنا " شئ لا كالأشياء " مناقضة، لأن قولنا " شئ " لا يقتضي
أكثر من أنه معلوم وليس فيه حس؟، فإذا قلنا " لا كالأشياء المحدثة " لم يكن
في ذلك مناقضة.
وقوله " الرحمن على العرش استوى " 1) معناه استولى عليه لما خلقه،
كما قال الشاعر 2):
قد استوى بشر على العراق * من غير سيف ودم مهراق
وقوله " لما خلقت بيدي " 3) معناه أنه تولى خلقه بنفسه، كما يقول القائل
" هذا ما عملت يداك " أي أنت فعلته. وقيل: معناه لما خلقت لنعمتي الدينية
والدنيوية.
وقوله " في جنب الله " 4) معناه في ذات الله وفي طاعته.
وقوله " والسماوات مطويات بيمينه " 5) أي بقدرته، كما قال الشاعر 6):
إذا ما راية رفعت لمجد * تلقاها عرابة باليمين

1) سورة طه: 50.
2) لسان العرب (سوى).
3) سورة ص: 75.
4) سورة الرمز: 56.
5) سورة الزمر: 67.
6) البيت لشماخ، انظر لسان العرب (يمن).
39

وقوله " تجري بأعيننا " 1) أي ونحن عالمون.
ولا يجوز أن يكون تعالى بصفة شئ من الأعراض، لأنه قد ثبت حدوث
الأعراض أجمع، فلو كان بصفة شئ من الأعراض لكان محدثا، وقد بينا قدمه.
ولأنه لو كان بصفة شئ من الأعراض لم يخلو من أن يكون بصفة ما يحتاج
إلى محل أو بصفة ما لا يحتاج إلى المحل كالغناء وإرادة القديم تعالى وكراهته
فإن كان بصفة القسم الأول أدى إلى قدم المحال وقد بينا حدوثها، ولو كان
بصفة القسم الثاني لاستحال وجوده وقتين كاستحالة ذلك على هذه الأشياء.
وأيضا لو كان بصفة الغناء لاستحال وجود الأجسام معه، وذلك باطل.
ولا يجوز عليه تعالى الحلول، لأنه لا يخلو أن يكون الحلول واجبا له
أو جائزا، ولو كان واجبا لوجب ذلك في الأزل، وذلك يوجب وجود ما
يحله في الأزل، وفي ذلك قدم المحال، وقد بينا فساده.
ولو كان وجوده متجددا [وهو واجب] 2) لوجب أن يكون له مقتضى،
فلا يخلو أن يكون مقتضيه صفته الذاتية أو كونه حيا، ولا يجوز أن تكون صفته
الذاتية مقتضية لذلك، لأن صفة الذات لا تقتضي صفة أخرى بشرط منفصل،
ووجود المحل منفصل. ولو كان كونه حيا مقتضيا لذلك اقتضاه فينا، كما أنه
لما اقتضى كونه مدركا اقتضاه فينا، وذلك باطل.
وإن كان حلوله جائزا احتاج إلى معنى، وذلك المعنى لا بد أن يختص به
والاختصاص يكون إما بالحلول أو المجاورة، وكلاهما يقتضيان كونه جوهرا
وقد أفسدناه، فبطل بجميع ذلك عليه الحلول.
ولا يجوز أن يكون تعالى في جهة من غير أن يكون شاغلا لها، لأنه ليس

1) سورة القمر: 14.
2) الزيادة من ر.
40

في الفعل ما يدل على أنه في جهة لا بنفسه ولا بواسطة، وقد بينا أنه لا يجوز
وصفه بما يدل عليه الفعل لا بنفسه ولا بواسطة.
ولا يجوز عليه تعالى الحاجة، لأن الحاجة لا تجوز إلا على من يجوز عليه
المنافع والمضار، والمنافع والمضار لا يجوزان إلا على من تجوز عليه الشهوة
والنفار، وهما يستحيلان عليه تعالى. والذي يدل على أنه يستحيل عليه الشهوة
والنفار أنه ليس في الفعل لا بنفسه ولا بواسطة ما يدل على كونه مشتهيا ونافرا
وقد بينا أنه لا يجوز إثباته على صفة لا يقتضيها الفعل لا بنفسه ولا بواسطة.
وأيضا فالشهوة والنفار لا يجوزان إلا على الأجسام، لأن الشهوة تجوز
على من إذا أدرك المشتهي صلح عليه جسمه [وإذا أدرك ما ينفر عنه فسد عليه
جسمه] 1)، وهما يقتضيان كون من وجدا فيه جسما، وقد بينا أنه ليس بجسم
فيجب إذا نفي الشهوة والنفار عنه.
وإذا انتفيا عنه انتفت عنه المنافع والمضار، وإذا انتفيا عنه انتفت عنه الحاجة
ووجب كونه غنيا، لأن الغني هو الحي الذي ليس بمحتاج.
ولا يجوز عليه تعالى الرؤية بالبصر، لأن من شرط صحة الرؤية أن يكون
المرئي نفسه أو محله مقابلا للرائي بحاسة أو في حكم المقابل، والمقابلة
يستحيل عليه لأنه ليس بجسم، ومقابلة محله أيضا يستحيل عليه لأنه ليس
بعرض على ما بيناه. ولأنه لو كان مرئيا لرأيناه مع صحة حواسنا وارتفاع
الموانع المعقولة ووجوده، لأن المرئي إذا وجد وارتفعت الموانع المعقولة
وجب أن نراه، وإنما لا نراه إما لبعد مفرط أو قرب مفرط أو لحائل بيننا وبينه
أو للطافة أو صغر، وكل ذلك لا يجوز عليه تعالى لأنه من صفات الأجسام
والجواهر.

1) الزيادة ليست في ر.
41

وبمثل ذلك بعينه يعلم أنه لا يدرك بشئ من الحواس الباقية، فلا وجه
للتطويل بذكره.
والحاسة السادسة غير معقولة، ولو كانت معقولة لكان حكمها حكم هذه
الحواس مع اختلافها واتفاقها في هذا الحكم.
وأيضا قوله تعالى " لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار " 1) دليل على
استحالة رؤيته، لأنه تمدح بنفي الادراك عن نفسه، وكل تمدح تعلق بنفي
فإثباته لا يكون إلا نقصا، كقوله " لا تأخذه سنة ولا نوم " 2) وقوله تعالى " ما اتخذ
الله من ولد " 3) وقوله تعالى " ولم تكن له صاحبة ولا ولدا " 4) وقوله تعالى
" لا يظلم الناس شيئا " 5) وغير ذلك مما تعلق المدح بالنفي، فكان إثباته نقصا.
والآية فيها مدح بلا خلاف وإن اختلفوا في جهة المدح، والادراك في الآية
بمعنى الرؤية، لأنه نفى عن نفسه ما أثبته لنفسه بقوله " وهو يدرك الأبصار " 6)
وقوله " وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة " 7) لا يعارض هذه الآية، لأن
النظر المذكور في الآية معناه الانتظار، فكأنه قال: لثواب ربها منتظرة. ومثله
قوله " وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة " 8) أي منتظرة.
وليس النظر بمعنى الرؤية في شئ من كلام العرب، ألا ترى أنهم يقولون

1) سورة الأنعام: 103.
2) سورة البقرة: 255.
3) سورة المؤمنون: 91.
4) سورة الأنعام: 101.
5) سورة يونس: 44.
6) سورة الأنعام: 103.
7) سورة القيامة: 23 22.
8) سورة النمل: 35.
42

" نظرت إلى الهلال فلم أره "، فيثبتون النظر وينفون الرؤية، ولو كان معناه الرؤية
لكان ذلك مناقضة، ويقولون " ما زالت أنظر إليه حتى رأيته " ولا يقولون
" ما زلت أراه حتى رأيته ".
ولو سلم أن النظر بمعنى الرؤية لجاز أن يكون معناه: إلى ثواب ربها
رائية، وثواب الله يصح رؤيته.
ويحتمل أن يكون " إلى " في الآية واحد الآلاء، لأنه يقال إلي والئ والئ
والئ والى، وإنما لم ينون لمكان الإضافة، فيكون " إلى " في الآية اسما
لا حرفا، فيسقط بذلك شبهة المخالف.
وقول موسى عليه السلام " رب أرني أنظر إليك " 1) يحتمل أن يكون
سأل الرؤية لقومه على ما حكاه الله عز وجل في قوله " فقد سألوا موسى أكبر
من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة " 2)، فسأل الله تعالى ذلك ليرد الجواب من جهته
فيكون أبلغ.
ويحتمل أن يكون سأل العلم الضروري الذي تزول معه الخواطر والشبهات
أو إظهار آية من آيات الساعة التي يحصل عندها العلم الذي لا شك فيه، وللأنبياء
أن يسألوا تخفيف البلوى في التكليف، كما سأل إبراهيم عليه السلام فقال:
" رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي " 3)
وكل ذلك لا ينافي الآية التي ذكرناها.

1) سورة الأعراف: 143.
2) سورة البقرة: 55.
3) سورة البقرة: 260.
43

فصل
(في أنه تعالى واحد لا ثاني له في القدم)
لو كان مع الله تعالى قديم ثان لوجب أن يكون مشاركا له في جميع
صفاته، لمشاركته له في القدم التي هي صفة ذاته التي باين بها جميع الموجودات
لأن جميع أوصافه - من كونه عالما وقادرا وحيا وموجودا ومريدا وكارها
ومدركا - [يشاركه غيره من المحدثات قديما ولا يشاركه في القدم، فبان أنه
يكون قديما] 1) يخالف المحدثات.
والشئ إنما يخالف غيره بصفته الذاتية وبها يتماثل ما تماثله، كما أن ما
شارك السواد في كونه سوادا ويخالف غير السواد من أن السواد يخالف
البياض 2) والحموضة وغيرهما أيضا بكونه سوادا [ويشارك سوادا آخر
بكونه سوادا] 3)، فعلم بذلك أن الاشتراك في صفة الذات يوجب التماثل،
وكان يجب من ذلك مشاركة القديمين في كونهما قادرين عالمين حيين وفي
جميع صفاتهما.
ثم لا يخلو أن يكون مقدورهما واحدا أو متغايرا، فإن كان واحدا جاز أن
يدعو أحدهما الداعي إلى إيجاد مقدوره والثاني يصرفه عن إيجاده، فيؤدي
ذلك إلى وجوب وجوده، لدعاء من دعاه الداعي إلى إيجاده ووجوب انتفائه
لصارف من صرفه عن إيجاده، وذلك محال.
فإن كان مقدورهما متغايرا لم يمتنع أن يدعو أحدهما الداعي إلى إيجاد

1) الزيادة ليست في ر.
2) في ج " ويخالف السواد من البياض ".
3) الزيادة من ر.
44

فعل ويدعو الثاني بصرفه عن إيجاده ووجوب صارف صرفه عن إيجاده، وذلك
محال. [وإن كان مقدورهما متغايرا لم يمتنع أن يدعو أحدهما الداعي إلى
إيجاد فعل ويدعو الآخر إلى إيجاد ضده] 1).
ثم لا يخلو أن يوجدا أو لا يوجدا أو يوجد أحدهما، فإن وجدا أدى إلى اجتماع
الضدين وذلك محال، وإن لم يوجدا أدى إلى ارتفاع الفعل عنهما لا لوجه
منع معقول، وإن وقع أحدهما أدى إلى ارتفاع الفعل عن أحدهما لا لمنع
معقول. لأنه لا يمكن أن يقال أن أحدهما أكبر مقدورا، لأن كل واحد منهما
يجب أن يكون مقدوراته غير متناهية.
فإذا ثبت ذلك بطل إثبات قديمين، وإذا بطل وجود قديمين بطل قول
الثنوية القائلين بالنور والظلمة، وبطل قول المجوس القائلين بالله والشيطان
وبطل قول النصارى القائلين بالتثليث.
على أن قول الثنوية يبطل من حيث دللنا على حدوث الأجسام، والنور
والظلمة جسمان، ولأنهما أثبتوهما من حيث اعتقدوا أن الخير يضاد الشر،
ولا يجوز أن يصدرا من فاعل واحد. وذلك باطل، من حيث أن الخير من
جنس الشر، لأن أخذ مال الغير غصبا هو ظلم وشر وأخذه قضاءا لدين حسن
وعدل وهما من جنس واحد، ولطمة اليتيم ظلما شر ولطمته تأديبا حسن،
ولو كانا ضدين لجاز أن يصدرا من فاعل واحد، لأن القادر يقدر على الشئ
وعلى جنس ضده، وهذا بعينه هو شبهة المجوس، والكلام عليهم واحد.
على أن قولهم أجمع يبطل المدح والذم، لأن المطبوع لا يستحق مدحا
ولا ذما، كالنار في الاحراق والثلج في التبريد. ويؤدي إلى قبح الاعتذار
لأن الاعتذار حسن لا يقع عندهم من الظلمة وما يعتذر منه قبيح لا يقع عندهم

1) الزيادة ليست في ر.
45

من النور، فيكون الاعتذار من غير فاعل الإساءة، وذلك قبيح في العقول.
وأما النصارى فمن خالف منهم في نبوة نبينا فالكلام معهم في النبوة
سيجئ، ومن قال بقول النصارى من القول بالتثليث والاتحاد والنبوة فقولهم
باطل، لأن قولهم ثلاثة أقانيم جوهر واحد متناقض، لأن في إثباته واحدا
نفيا لما زاد عليه وفي إثبات التثليث إثباتا لما نفى بعينه، وذلك محال. وقولهم
بالاتحاد وأن الثلاثة صارت واحدا محال، وكذلك قولهم صار الناسوت إلها
والمحدث قديما كل ذلك محال. ولو جاز ذلك لجاز أن يصير الواحد مائة
وأن يصير القديم محدثا، وكل ذلك فاسد، فيبطل ما قالوه.
وأما قولهم بالبنوة فحقيقة الابن من ولد على فراشه أو خلق من مائه،
وكلاهما يستحيلان عليه تعالى، ومجاز ذلك يطلق فيمن يجوز أن يولد على
فراشه أو يخلق من مائه. ألا ترى أنهم يقولون " يبنا فلان بفلان " إذا كان أصغر
منه، ولا يقولون " يبنا شاب شيخا " ولا " يبنا الانسان بهيمة " لما لم يجز أن
يكون مخلوقا من مائه، فمجاز هذه اللفظة يجوز على من يجوز عليه حقيقتها
وحقيقتها مستحيل في الله تعالى، فمجازها مثل ذلك.
وقولهم " ابن الله " لمشاركته له في المشيئة، يوجب أن يكون الأنبياء
كلهم أبناء الله، لأنهم يوافقونهم في المشيئة وهم لا يقولونه. فبان بذلك فساد
هذه المذاهب، وثبت أنه تعالى واحد لا يشاركه أحد في القدم.
فأما من عبد الأصنام أو الكواكب فقولهم باطل، لأن عبادة من لا يستحقها
قبيحة في العقول.
والعبادة إنما تستحق بأصول النعم التي هي خلق الخلق وجعله حيا وقادرا
وإكمال عقله وخلق الشهوة فيه التي بها ينتفع وينال الملاذ وخلق المشتهيات
وغير ذلك. وكل ذلك لا يقدر عليه غير الله، فيجب أن تقبح عبادته. على أن
46

هذه الأشياء جمادات ومسخرات، وكيف يصح منها فعل ما يستحق به العبادة.
وقولهم " ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى " 1) باطل، لأن التقرب
إلى الله بالقبائح قبيح في العقول. وليس يجري ذلك مجرى تعظيما للبيت
الحرام والحجر وسجودنا إليه، وذلك أنا نسجد لله تعالى ونتقرب إليه لا إلى البيت
والحجر، وإنما تعبدنا الله بذلك ورغبنا فيه. فنظير ذلك أن ثبت بشرع مقطوع
به التقرب إلى الله والسجود له بالتوجه إلى هذه الأشياء، والقوم لا يذهبون
إليه، فبطل تشبيههم بما قلناه وبان الفرق بينهما.
(الكلام في العدل)
الغرض بالكلام في العدل الكلام في تنزيه الله تعالى عن فعل القبيح
والاخلال بالواجب، فإذا حصل العلم بذلك حصل العلم بالعدل.
والطريق الموصل إلى ذلك أن نبين أنه تعالى قادر على القبيح ثم نبين
بعد ذلك أنه لا يفعله بعد أن نبين تقدم معنى الفعل وانقسامه ثم نعود إلى الغرض.
وحقيقة الفعل ما وجد بعد أن كان معدوما.
ولا يخلو الفعل من أن يكون له صفة زائدة على حدوثه أم لا يكون له
صفه زائدة، فما ليس له صفة زائدة هو كلام الساهي والنائم وحركات أعضائه
التي لا تتعداه، وما له صفة زائدة على حدوثه إما أن يكون حسنا أو قبيحا،
فالحسن هو كل فعل إذا فعله العالم به أو المتمكن من العلم به مختارا لا يستحق
عليه الذم.
وهو على ضربين: أحدهما له صفة زائدة على حسنه، والآخر لا صفة له
زائدة على حسنه. فما لا صفة له زائدة على حسنه هو الموصوف بأنه مباح إذا

1) سورة الزمر: 3.
47

علم فعله أو دل عليه، وما له صفة زائدة على حسنه فهو كل فعل يستحق به
المدح على بعض الوجوه.
وهو على ضربين: أحدهما إذا لم يفعله استحق الذم على بعض الوجوه،
والآخر لا يستحق الذم إذا لم يفعله على حال.
فالأول موصوف بأنه واجب على ثلاثة أقسام: أحدها واجب مضيق كالصلاة
المفروضة وكرد عين الوديعة، والثاني يكون مخيرا فيه كالكفارات الثلاث في
اليمين، والثالث من فروض الكفايات إذا قام به بعض سقط عن الباقي كرد
السلام والجهاد والصلاة على الأموات.
وما هو ندب على ضربين: أحدهما يكون نفعا واصلا إلى الغير فيوصف
بأنه إنعام وإحسان إذا قصد ذلك، والآخر لا يتعداه فلا يوصف بأكثر من أنه
ندب. وأمثلة ذلك في أفعالنا وأفعاله قد ذكرناها في شرح الجمل والمقدمة
وغير ذلك من كتبنا.
والقبيح هو كل فعل إذا وقع من عالم بقبحه أو متمكن من العلم بقبحه
استحق عليه الذم على بعض الوجوه.
والعلم بقبح القبائح ووجوب الواجبات [يكون عقليا وشرعيا: فالعقليات
كالعلم بقبح الظلم والجهل والكذب العاري من نفع أو ضرر والعبث وغير
ذلك، والواجبات] 1) كالعلم بوجوب رد الوديعة والانصاف وقضاء الدين
والعلم بحسن الاحسان وغير ذلك. وأما ما يعلم بالشرع فكلما لا يمكن معرفته
بالعقل كالعبادات الشرعية من الصلاة والزكاة والصوم والحج وغير ذلك،
وكقبح شرب الخمر والزنا وغير ذلك، فإنه لا مجال للعقل في العلم بذلك.

1) الزيادة ليست في ر.
48

والذي يدل على ما قلناه من أن العلم بما تقدم هو العقل دون الشرع، هو
أن كل عاقل مفطور العقل يعلم قبح الظلم وقبح الجهل والكذب والعبث، فلو لا
أن طريق ذلك العقل لما وجب شمول العلم لجميع العقلاء، ولكان يقف على
من علم صحة السمع.
وفي علمنا باشتراك جميع العقلاء من موحد وملحد ومقر بالنبوات وجاحد
لها في العلم بذلك دليل على أن طريق ذلك العقل.
وقولهم " إنهم علموا ذلك لمخالطتهم للعقلاء من أهل الشرع " باطل،
لأنه لو كان كذلك لعلموا قبح كل ما علمه أهل الشرع من قبيح شرب الخمر والزنا
وغير ذلك، وفي العلم بالفرق بينهما دليل على فساد ما قالوه.
ومتى قالوا: إن العقلاء لا يعلمون ذلك أو يعتقدونه اعتقادا ليس بعلم.
لزمهم أن يقولوا لا يعلمون المشاهدات أيضا، لأن في الناس من قال طريق ذلك
السمع، ولزم عليه قول السوفسطائية وأصحاب العنود في نفيهم العلم بشئ
من الأشياء ونسبتهم ذلك كله إلى الظن والحسبان، وذلك باطل بالاتفاق.
فأما الذي يدل على أنه تعالى قادر على القبيح، فهو ما ثبت من كونه خالقا
لكمال العقل والعلم بالمشاهدات، ومن شأن القادر على الشئ أن يكون قادرا
على جنس ضده، فيجب أن يكون قادرا على ضد هذه العلوم من الجهل،
والجهل قبيح.
وأيضا فالقبيح من جنس الحسن، بدلالة أن قعود الإنسان في دار غيره غصبا
من جنس قعوده فيها بإذن مالكها، وأحدهما قبيح والآخر حسن.
والقديم تعالى قادر على الأجناس كلها، ومن كل جنس على ما لا نهاية
له، لأنه قادر لنفسه على ما مضى، ولا اختصاص له بقدر دون قدر ولا بجنس
دون جنس.
49

وأيضا فهو تعالى قادر على تعذيب الكفار بلا خلاف وهو حسن، فإذا
أسلم الكافر قبح عقابه ولم يخرج إسلامه إياه تعالى عن كونه قادرا، فبان بذلك
أنه قادر على القبيح.
فإذا ثبت ذلك فالذي يدل على أنه لا يفعله علمه بقبح القبائح وعلمه بأنه
غني عنه، والعالم بقبح القبيح وبأنه غني عنه لا يجوز أن يختاره. ألا ترى أن
من خير بين الصدق والكذب في باب الوصول إلى غرضه وهو عالم بقبح
الكذب وحسن الصدق لا يجوز أن يختار الكذب على الصدق مع تساويهما
في الغرض، ولا علة لذلك إلا كونه عالما بقبح الكذب وبأنه غني عنه بالصدق
فيجب أن يكون تعالى لا يفعل القبيح لثبوت الأمرين.
على أنه لو جازت عليه الحاجة لما جاز أن يفعل القبيح، لأنه يقدر من جنسه
من الحسن على ما لا يتناهى. ألا ترى أن المخير بين الصدق والكذب مع
تساوي الغرض قد بينا أنه لا يختار الكذب مع جواز الحاجة إليه، لأنه يستغني
عنه بالحسن الذي هو الصدق. وكذلك القديم لا قبيح إلا وهو يقدر من جنسه
من الحسن على ما لا يتناهى، فلا يجوز أن يختاره مع علمه بقبحه.
والقديم تعالى لا يريد القبائح على وجه، لأنه لا يخلو أن يريده لنفسه أو
بإرادة قديمة أو محدثة، وقد بينا أنه ليس بمريد لنفسه ولا بإرادة قديمة فبطل
ذلك. ولو أراده بإرادة محدثة لكان هو الفاعل لها، لأنه لا يقدر أن يفعل إرادة
لا في محل سواه. ولو كان هو الفاعل لها لكان فاعلا للقبيح، لأن إرادة القبيح
قبيحة، بدلالة أن من علمها إرادة القبيح علم قبحها ومن لم يعلمها كذلك
لم يعلم قبحها، وذلك يؤدي إلى أن يكون فاعلا للقبيح، وقد دللنا على أنه لا
يجوز أن يكون فاعلا للقبيح على حال.
وأيضا فقد ثبت بلا خلاف أنه ناه عن القبيح، وقد بينا أن النهي لا يكون
50

نهيا إلا بكراهية المنهي عنه، ولو كان مريدا للقبيح لأدى إلى أن يكون مريدا
للشئ كارها له، وذلك باطل.
وأيضا فلو أراد القبيح لكان محبا له، راضيا به، لأن المحبة والرضا هي
الإرادة إذا وقعت على وجه مخصوص، وأجمعت الأمة على خطأ من أطلق ذلك
على الله تعالى وقد قال الله تعالى " وما الله يريد ظلما للعباد " 1) و " ما الله يريد
ظلما للعالمين " 2) و " يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر " 3). ومن أعظم
العسر الكفر والقبائح المؤدية إلى العقاب، وقد قال الله تعالى " وما خلقت
الجن والإنس إلا ليعبدون " 4) ومعناه أراد منهم العبادة لأن هذه اللام لام الغرض
لأنها لو كانت لام العاقبة لكان كذبا لوجودنا كثيرا من الجن والإنس غير عابدين
لله تعالى.
وقوله " وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا
من دونه من شئ كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا " إلى قوله
" إن أنتم إلا تخرصون " 5) واضح في أنه لا يريد القبيح لأنه كذب من أضاف
ذلك إلى الله، ومن أنه اتباع للظن دون العلم، وآيات القرآن شاهدة بذلك
وهي أكثر من أن تحصى.
وقوله " ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس " 6) اللام ههنا لام العاقبة

1) سورة غافر: 31.
2) سورة آل عمران: 108.
3) سورة البقرة: 185.
4) سورة الذاريات: 56.
5) سورة النحل: 35.
6) سورة الأعراف: 179
51

كما قال " فالتقطه آل فرعون ليكون عدوا وحزنا " 1) ولم يلتقطوه إلا ليكون
قرة عين لهم.
وقوله " ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها " 2) إخبار عن قدرته أنه قادر.
على أن يلجئ الخلق إلى الهدى والإيمان، لكن لا يفعل ذلك لأنه ينافي التكليف
وينتقض الغرض به، وجرى ذلك مجرى قوله " إن نشأ ننزل عليهم من السماء
آية فظلت أعناقهم لها خاضعين " 3).
وكذلك كل آية يتعلقون بها فالوجه فيها ما قلناه في هذه الآية، نحو قوله
" ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا " 4) وقوله " ولو شاء الله لهدى
الناس جميعا " 5) وما يجري مجرى ذلك من الآيات، فالوجه فيها ما ذكرناه.
فلا نطول بذكرها، وقد بينا الوجه فيها جميعه في تفسير القرآن مستوفى لا
يحتمل ذكره ههنا.
وقولهم " لو أراد من خلقه الإيمان والطاعة وما لا يقع للحقه بذلك وهن
وضعف ونقص، لأن الملك إذا أراد من رعيته ما لا يقع دل على ضعفه " باطل،
لأن الأمر بخلاف ما قالوه في الشاهد، لأن السلطان متى أراد من رعيته ما يعود
نفعه عليهم لا عليه فلم يقع أو وقع خلافه لا يلحقه ضعف ولا نقص، وإنما يجوز
أن يقال ذلك فيما يعود نفعه عليه من نصرته والدفاع عنه مما يستضر بفوته،
والقديم تعالى لا يريد إلا ما بكون نفعه للخلق دونه تعالى لاستحالة النفع عليه.

1) سورة القصص: 8.
2) سورة السجدة: 13.
3) سورة الشعراء: 4.
4) سورة يونس: 99.
5) سورة الرعد: 31 وأول الآية " أن أو يشاء الله ".
52

وكيف يشتبه الحال في ذلك ونحن نعلم أن سلطان الاسلام يكره من
اليهودي الزمن المقعد الدخول إلى كنيسة ويريد منه الاسلام والدخول في المساجد
ومع ذلك فإنما يقع منه دخول الكنيسة دون المسجد، ولا عاقل يقول إن سلطان
الاسلام ضعف بذلك.
ثم يلزمهم أنه إذا وقع من الكافر خلاف ما أمر الله به أن يلحقه ضعف،
لأن الشاهد لا يفصل بين الموضعين. ولا خلاف أن الله أمر الكافر بالإيمان،
ومع هذا فلم يقع ذلك منه، فيجب على أصلهم أن يلحقه ضعف. فبأي شئ
فصلوا بين الأمرين فهو فصلنا في الإرادة.
وأيضا فالمعلوم ضرورة أن النبي عليه السلام أراد من الكفار كلهم الإيمان
ولم يلحقه باستمرارهم على الكفر وهن ولا ضعف ويلزمهم على ذلك أن يكون
الله تعالى أمرهم بأن يضعفوه ويوهنوه من حيث أمرهم بما لا يريده منهم على
قولهم، وذلك باطل بالاتفاق.
وقولهم " لو فعل العبد ما كره الله تعالى لكان قد فعل ما أباه وذلك لا يجوز "
باطل، لأن الآباء ليس بكراهية، لأن الآباء هو المنع والامتناع، ولهذا يتمدحون
بأن يقولوا " فلا ن يأبى للضيم " أي يمتنع منه، ولا مدحه في أنه يكره الضيم
لأن الضعيف أيضا يكرهه.
وتعلقهم بأن المسلمين قالوا " ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن " وذلك
يمنع من أنه أراد الإيمان من الكافر ولم يرد الكفر منه. غير صحيح لأن هذا
الإطلاق غير مسلم، لأن جميع أهل العدل يمتنعون من إطلاقه. ثم إن المسلمين
أيضا يقولون " لا مرد لأمر الله ولا محيص منه "، وعلى قولهم الكافر قد رد
أمر الله، ومتى منعوا من ذلك منعنا مثله وإن تأولوا أولنا.
ولو سلم ذلك لكان المعنى ما شاء الله من فعل نفسه كان وما لم يشأ من فعل
53

نفسه لم يكن أو ما شاء الله من فعل غيره وألجأ إليه كان.
ومتى قالوا لو شاء الله جميع الطاعات لكان القائل إذا حلف أنه يقتضي دينه
غدا إنشاء الله إذا لم يقضه يحنث، وأجمعوا على خلافه.
قيل: في الناس من قال إنه يحنث وهو أبو علي ومن قال لا يحنث قال المشيئة
دخلت اتفاقا للكلام دون أن تكون شرطا ولأجل ذلك تدخل في الماضي وإن
كان الشرط لا يدخل في الماضي.
فإن قيل: هل أفعال العباد بقضاء الله وقدره أم لا؟
قلنا: القضاء في اللغة على أربعة أقسام:
أحدها: بمعنى الخلق والأحداث، " فقضاهن سبع سماوات في يومين " 1)
أي خلقهن وأحدثهن.
والثاني: أن يكون بمعنى الحكم، كقوله " الله يقضي بالحق " 2) ومنه
اشتقاق القاضي.
والثالث: بمعنى الأمر والالزام، كقوله " وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه " 3)
أي أمر وألزم.
والرابع: بمعنى الأعلام والأخبار، كقوله " وقضينا إلى بني إسرائيل " 4)
أي أعلمناهم وأخبرناهم 5).
ولا يجوز أن يكون قضى أفعال العباد بمعنى أحدثها، لأن فعل العبد لا

1) سورة فصلت: 12.
2) سورة غافر: 20.
3) سورة الإسراء: 23.
4) سورة الإسراء: 4.
5) أصل الكلمة بمعنى إحكام الأمر وإتقانه وإنفاذه لجهته، والمعاني التي ذكرها
المؤلف تعود إلى ما ذكر انظر معجم مقاييس اللغة 5 / 99.
54

يخلو أن يكون قبيحا أو حسنا، فما هو قبيح لا يجوز أن يكون فعلا له، لأنا
قد بينا أنه لا يفعل القبيح، وما هو حسن لا يجوز أيضا أن يفعله لأنه فعلنا، والفعل
الواحد لا يكون من فاعلين على ما نبينه.
ولا يجوز أن يكون قضاء أفعالهم بمعنى حكم أو أمر وألزم، لأن أحدا
من الأمة لا يقول إن الله ألزمنا فعل المعاصي أو حكم علينا بأن نفعلها.
وأما القضاء بمعنى الإعلام والإخبار فإنه يجوز أن يقال على ضرب من
التقييد، لأن الله تعالى أخبر وأعلم مالنا في فعل الطاعة من الثواب وما علينا
بفعل المعاصي من العقاب، فجاز أن يضاف إلى الله تعالى القضاء على هذا
الوجه.
وأيضا فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: يقول الله
تعالى: " من لم يرض بقضائي ولم يشكر نعمائي ولم يصبر على بلائي فليتخذ
ربا سواي " فلو كانت المعاصي بقضاء الله وأحداثه لوجب الرضا بها، وذلك
خلاف الإجماع.
والقول في القدر على مثل ذلك، لأن القدر يستعمل بمعنى الأحداث
والخلق كما قال " وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين " 1) فعلى هذا
لا يجوز أن تكون المعاصي بقدر الله، لمثل ما قلناه في القضاء.
وقد يستعمل بمعنى التقدير كما قال تعالى " فقدرنا فنعم القادرون " 2) فعلى
هذا يجوز أن يقال: أفعالنا بقدر الله، بمعنى أنه قدر ما علينا من الثواب أو
العقاب، فينبغي أن يقيد القول في ذلك ولا يطلق به.
فإن قيل: مضى في الكلام أن الواحد منا محدث لأفعاله وموجد لها، فما

1) سورة فصلت: 10.
2) سورة المرسلات: 23.
55

الذي يدل على ذلك.
قلنا: الدليل على ذلك وجوب وقوعها بحسب دواعينا وأحوالنا وانتفائها
بحسب صوارفنا وكراهتنا، فلولا أنها فعلنا لما وجب ذلك كما لا يجب ذلك
في طولنا وقصرنا وخلقنا وهيأتنا، ولا تجب أيضا في أفعال غيرنا لما لم تكن
متعلقة بنا.
وإنما قلنا بوجوب وقوعها بحسب دواعينا وأحوالنا لأن الواحد منا متى
دعاه الداعي إلى القيام أو القعود ولا صارف له عن ذلك ولا مانع، فإنه لا بد
أن يقع ما دعاه الداعي إليه، وليس كذلك ما لا تعلق له به كطوله وقصره. ولا
فرق بينهما إلا أنها محدثة بنا ومتعلقة بجهتنا.
ومتى قيل إن ذلك بالعادة، كان ذلك باطلا بالوجوب الذي اعتبرناه، لأن
ما يستند إلى العادة لا يجب وقوعه على كل حال. ويلزم على ذلك أن يكون
انتفاء السواد بالبياض وحاجة العلم إلى الحياة وما جرى مجراه من الواجبات
كله بالعادة، وذلك باطل بالاتفاق.
على أن تعلق الفعل بالفاعل لا بد أن يكون معقولا قبل إسناده إلى فاعل
معين، ولا يعقل في تعلقه بالفاعل آكد من وجوب تعلقه بدواعيه وأحواله،
وهذا حاصل معنى، فينبغي أن يكون كافيا في تعلقه بنا وهو في غيرنا مجوز،
ولا يترك المعلوم إلى المجوز على ذلك.
ومتى قيل إن أفعالنا تحتاج إلينا في كونها كسبا دون الحدوث. قلنا ذلك باطل،
لأن الذي يتجدد عند دواعينا وأحوالنا هو الحدوث لا غير دون شئ من صفاته،
فينبغي أن يكون هو من جهة الحاجة دون غيره هو الذي يتجدد عند وجود
الحركة كونه متحركا، وكان كونه متحركا هو المحوج إلى الحركة دون غيره
والكسب الذي يدعونه غير معقول، فكيف تعلق الحاجة به ويترك الحدوث
56

الذي هو أمر معقول معلوم، والكسب ليس بمعقول ولا معلوم.
فإن قيل: كيف لا يكون معقولا والانسان يفصل بين أن يمشي مختارا وبين
أن يسحب على وجهه.
قلنا: الفرق يرجع إلى ما قلناه من أن مشيه مختارا متعلق به وبإيثاره، وإذا
سحب على وجهه كانت الحركة فيه ضرورية فلذلك فرق بينهما.
فإن قيل: يتجدد عند دواعينا صفات من حسن وقبح وحلول في محل وكونه
غرضا وغير ذلك، فلم قلتم أن الذي يتعلق بنا الحدوث دون شئ من ذلك؟
قلنا: أما الحسن والقبح فقد يخلو كثير من الأفعال منهما، نحو كلام
الساهي والنائم وحركة أعضائه التي لا يتعداه وحلوله في المحل ليس له به صفة،
وإنما يفيد أنه من قبيل ما لا يجب بقاؤه كبقاء المحل.
ثم كثير من الأفعال يخلو من محل كالجوهر والغناء وإرادة القديم وكراهته
ولا يخلو فعل من حدوث فينبغي أن يكون جهة الحاجة الأمر الشائع في سائر
الأفعال وسائر القادرين.
واستقصاء ما يورد على هذا الدليل وشعبه قد استوفيناه في شرح الجمل،
وفيما ذكرناه كفاية إنشاء الله.
وإنما قلنا: إنما هو مقدور لنا لا يجوز أن يكون مقدورا له لأن ذلك يؤدي
إلى كونه موجودا معدوما، لأنا لو فرضنا أن الواحد منا دعته الدواعي إلى إيجاده
وجب حدوثه من جهته وإذا لم يرده الله تعالى يجب أن لا يوجد، مجتمع في
فعل واحد وجوب حدوثه ووجوب انتفائه، وذلك محال فوجب بطلانه على
كل حال.
ومما يدل أيضا على أن الواحد منا محدث لأفعاله، أنه يحسن مدحنا على
بعض الأفعال وذمنا على بعض، لأن من فعل الطاعة يحسن مدحه ومن فعل
57

الظلم يحسن ذمه، ولا يحسن مدحه ولا ذمه على طوله وقصره وحسنه وقبحه،
وإنما كان كذلك لأن الأول متعلق بنا والثاني غير متعلق بنا لا بشئ سواه.
وأيضا فإنه يحسن أن يأمر بعضنا بالقيام والقعود وينهاه عنه ولا يحسن أن يأمره.
بالطول والقصر ولا ينهاه عنهما، وإنما كان كذلك لأن الأول مقدور له فحسن أمره
والثاني غير مقدور له فلم يحسن أمره به ولا نهيه عنه.
فبان بجميع ذلك أن الواحد فاعل، والقرآن يؤكد ذلك، لأنه قال " جزاءا
بما كانوا يعملون " 1) و " جزاءا بما كانوا يكسبون " 2) و " فمن يعمل مثقال ذرة
خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره " 3) وقال " ومن يعمل سوءا يجز به " 4)
و " من يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا " 5) وغير ذلك من الآيات التي أضاف الفعل
فيها إلينا، [فمن نفا الفعل عنا فقد خالف العقول والقرآن.
ومتى قيل: أضافه إلينا] 6) من حيث كان كسبا لنا قلنا: إن الكسب ليس
بمعقول، فلا يجوز له أن يعول عليه. على أن عندهم إن المتولد لا كسب للعبد
فيه [عندهم، والظلم لا كسب للعبد] 6) فيه لأنه متعد عن محل قدرته لأنه يوجد
في المظلوم، وعندهم إنما تعدى محل القدرة عليه لا كسب للعبد فيه فكيف يمكنهم
حمل الآية عليه.
ومتى قالوا: إن الكسب الذي هو الظالم في الظلم كالقتل الذي ليس
بمستحق عليه والضرب الذي ليس بمستحق عليه وإنه في القاتل والضارب دون

1) سورة الأحقاف: 14.
2) سورة التوبة: 82.
3) سورة الزلزلة: 8 7.
4) سورة النساء: 123.
5) سورة الفرقان: 19.
6) الزيادة ليست في ر.
58

المقتول والمضروب. كان ذلك مكابرة للعقول، ويلزم على ذلك أن يكون
البناء في الباني دون المبني والنساجة في الناسج دون الثوب المنسوج، وذلك
تجاهل من بلغ إليه لا يحسن كلامه.
وقوله " والله خلقكم وما تعملون " 1) المراد به الأجسام، لأن الذي كانوا
يعبدون الأصنام دون أفعالهم فيها، فعنفهم الله تعالى بأن قال: " أتعبدون ما تنحتون "
من الأجسام " والله خلقكم وما تعملون " [من الأجسام التي تنحتون منها الأصنام،
وتقدير الكلام وما يعملون] 2) فيه. على أنه يضاف المعمول فيه إلى أنه
عمل الصانع، فيقال هذا الباب عمل النجار وهذا البناء عمل الباني وهذا الخاتم عمل
فلان، فيضيفون المعمول فيه إلى العامل، وذلك مجاز.
فهذا القدر الذي ذكرناه فيه كفاية واستيفاؤه مذكور في الموضع الذي
ذكرناه.
فصل
(في ذكر الكلام في الاستطاعة وبيان أحكامها)
الواحد منا قادر على الفعل، بدلالة صحة الفعل منه وتعذره على غيره من
الأحياء مع مساواتهما في جميع الصفات، ولا بد من أن يكون من صح منه
الفعل مفارقا لمن تعذر عليه 3)، وهذه المفارقة تستند إلى جملة الحي دون أجزائها
لأن صحة الفعل راجع إليها.
فبطل بذلك قول من قال: إن ذلك يرجع إلى الصحة أو الطبع أو اعتدال

1) سورة الصافات: 96.
2) الزيادة ليست في ر.
3) في ر " لمن قدر عليه ".
59

الأمزجة على اختلاف أقوالهم. لأن جميع ذلك يرجع إلى المحل دون الجملة.
وهذه الصفة تستند إلى معنى، لأنها تتجدد مع جواز أن لا تتجدد مع
تساوي الأحوال والشروط، وبهذه الطريقة أثبتنا المعاني، فيجب من ذلك أن
يكون الواحد منا قادرا بقدرة وهذه القدرة تتعلق بالشئ وبمثله وبخلافه وبضده،
بدلالة أن الواحد منا متى كان قادرا صح أن يتصرف في جميع ذلك.
ألا ترى أن من قدر على أن يتحرك يمنة قدر أن يتحرك يسرة، والحركة
في الجهتين متضادين، وكذلك من قدر على الحركة قدر على الاعتماد
والصوت والتأليف وهذه الأشياء مختلفة، وكذلك من قدر على الاعتقادات
قدر على سائر أجناسها وقدر على الإرادة والكراهة وهذه الأشياء مختلفة
ومتضادة. فدل ذلك على أن القدرة تتعلق بالشئ وبمثله وبخلافه وضده إذا كان
له ضد.
وأيضا لو لم تتعلق القدرة بالشئ وبضده وبخلافه لم يقع الفعل بحسب
دواعيه وأحواله، بل كان يجب أن يقع بحسب ما يوجد فيه من القدرة، فكان
لا يمتنع أن من يدعوه الداعي إلى القيام يقع منه القعود ومن دعاه الداعي إلى
الحركة وقع منه الاعتماد، والمعلوم خلاف ذلك.
والقدرة ليست موجبة للفعل بل يختار الفاعل بها الفعل، بدلالة أن مقدور
القدرة تابع لدواعيه واختياره، فلو كانت موجبة لبطل ذلك.
والقدرة قبل الفعل دون أن تكون مصاحبة له، بدلالة أن القدرة يحتاج
إليها ليخرج بها الفعل من العدم إلى الوجود، فلو وجد مقدورها لاستغنى عنها.
وأيضا فالفعل في حال البقاء يستغني عن القدرة بلا شك، ولا علة لذلك
إلا وجوده، فينبغي أن يستغني عنها في أول حال وجوده أيضا.
وأيضا فقد دللنا على أن القدرة قدرة على الضدين وذلك محال، فإذا ثبت
60

ذلك فالقادر على الكفر قادر على الإيمان والقادر على الطاعة قادر على المعصية
وإنما يختار أحدهما فإن اختار الكفر فبسوء اختياره، ولو كان الكافر غير قادر 1)
على الإيمان لما حسن تكليفه بالإيمان، لأن تكليف ما لا يطاق قبيح وأجمعت
الأمة على أنه مكلف بالإيمان.
وإنما قلنا إن تكليف ما لا يطاق قبيح، لأنه مركوز في العقل قبح تكليف
الأعمى نقط المصاحف والمقعد العدو والعاجز حمل الأجسام الثقال ونقلها
والعلم بقبح ذلك ضروري لاجتماع العقلاء على ذلك، ولا علة لذلك إلا أنه
تكليف بما لا يطاق. ومن ارتكب حسن ذلك لم يحسن منا مكالمته، وإنما ينبه
على غلطه بضرب الأمثال كما تضرب الأمثال السوفسطائية وأصحاب العنود
الذين دفعوا العلم بالمشاهدات والضروريات، وإلا فالاحتياج لا يمكن معهم
لأن الاحتجاج إنما يصح فيما يغمض ليرد إلى ما يتضح، فمن دفع الضروريات
لا يمكن احتجاجه بالرد إلى ما هو أوضح منه، لأنه لا شئ أوضح من الضروريات
فمن دفعها سد الباب على نفسه.
والمراد بقولنا " تكليف ما لا يطاق " هو كلما يتعذر معه الفعل سواء كان
ذلك لعدم القدرة أو عدم الآلة، فإن الكل يتساوى في قبح التكليف
وإن اختلفت.
فصل
(في الكلام في التكليف وجمل من أحكامه)
التكليف عبارة عن إرادة المريد من غيره ما فيه كلفة ومشقة، ويقال في
الأمر بما فيه كلفة ومشقة أنه تكليف من حيث كان الأمر لا يكون أمرا إلا بإرادة

1) في ر " قادرا ".
61

المأمور به والرتبة معتبرة في التكليف كاعتبارها في الأمر. يدل على ذلك أن
من أراد من الغير ما يلحقه فيه مشقة سمى مكلفا له، ومتى أراد من الغير ما لا
يلحقه فيه مشقة لم يسم " بذلك، ولذلك لم يكن الواحد منا إذا أراد من الله
تعالى الفعل مكلفا له وإذا أراد الله تعالى منا الفعل الذي فيه مشقة كان مكلفا
سواء كان ذلك الفعل واجبا أو ندبا.
وإعلام المكلف وجوب الفعل أو حسنه أو دلالته عليه شرط في حسن
التكليف من الله، لأنه من جملة إزاحة العلة فيما كلفه. وليس نفس الإعلام هو
التكليف، ولهذا كان مكلفا له وإن لم يكن معلما له 1).
وإنما لم يسم الواحد منا إذا أراد من الغير الصوم أو الصلاة مكلفا له،
لأنه سبق في ذلك تكليف الله وإرادته، فلذلك لم يسموه بذلك.
فإذا ثبت حقيقة التكليف فيحتاج في العلم بحسنه إلى معرفة أشياء: أولها
صفات التكليف، وثانيها صفات المكلف، وثالثها صفات الفعل الذي يتناوله
التكليف، ورابعها ما الغرض بالتكليف.
ونحن نبين جميع ذلك على أخصر الوجوه، وقبل ذلك نبين أولا ما وجه
الحسن في ابتداء الخلق، وبيان ذلك أن نقول:
لا يخلو أن يكون في ابتداء الخلق غرض أو لا غرض فيه، فإن كان لا غرض
فيه فهو عبث، وذلك قبيح لا يجوز عليه تعالى. وإن كان فيه غرض لا يخلو أن
يكون فيه غرض قبيح أو حسن، فالقبيح هو أن يقصد بخلق الخلق الإضرار
بهم، وذلك قبيح لا يجوز على الحكيم، والغرض الحسن لا يكون إلا بحصول
النفع فيه. وذلك النفع لا يخلو أن يكون راجعا إليه تعالى أو إلى غيره، فما
يرجع إليه تعالى مستحيل لاستحالة النفع عليه، وما يرجع إلى الغير هو وجه

1) في ر " وإن لم يعلما له ".
62

الحسن في ابتداء الخلق، سواء كان ذلك النفع راجعا إلى نفس المخلوق أو
إلى غيره أو إليهما، فإن جميع ذلك وجه الحسن إذا تعرى من وجوه القبح.
فإذا ثبت ذلك فالمكلف منفوع بالتفضيل ومنفوع بالثواب، وإن كان
المعلوم أنه يؤلم لمصلحته أو مصلحة غيره فهو منفوع أيضا بالعوض، فتجتمع
فيه الوجوه الثلاثة، وغير ذلك المكلف منفوع بالتفضيل قطعا وبالعوض إن كان
في إيلامه مصلحة لغيره من المكلفين.
وإذا كان وجه الحسن الخلق ما فيه من النفع فينبغي أن يكون أول ما
يخلقه الله تعالى حيا، لأن النفع لا يصح إلا على الحي، ولا بد أن يخلق فيه
شهوة لمدرك يدركه فيلتذ به سواء كان هو أو غيره.
ويجوز أن يبتدئ الله تعالى بخلق الجماد إذا علم أنه يخلق فيما بعد حيا
مكلفا يكون من لطفه اختياره خلق جماد قبله، فإن لم يكن ذلك معلوما لم
يحسن الابتداء بخلق الجماد. ونحن نعود إلى ما وعدنا به من اعتبار شرائط
حسن التكليف.
أما صفات المكلف تعالى فيجب أن يكون حكيما مأمونا منه فعل القبيح
والاخلال بالواجب ليعلم انتفاء وجه القبح عن هذا التكليف، وقد مضى بيان
ذلك في باب العدل.
ويجب أن يكون قادرا على الثواب الذي عرض بالتكليف له وعالما
بمبلغه، وقد بينا حين بينا أنه قادر لنفسه وعالم لنفسه.
ولا بد أن يكون له غرض في التكليف، ويستدل على ذلك فيما بعد.
ويجب أن يكون منعما بما يجب له به العبادة، والعبادة لا تستحق إلا
بأصول النعم من خلق الحياة والشهوة والبقاء والقدرة وكمال العقل وخلق
المشتهي وغير ذلك مما لا يدخل نعمة كل منعم في كونها نعمة إلا بعد تقدمها،
63

ولذلك لا يستحق بعضنا على بعض العبادة وإن استحق عليه الشكر، لأنه لا يقدر
على ما هو أصول النعم ويختص الله تعالى بالقدرة على ذلك فلذلك اختص
تعالى بالعبادة.
ويجب أيضا أن يكون عالما بتكامل شرائط التكليف في المكلف من أقداره
وسائر ضروب التمكين.
فإذا ثبت ذلك فالوجه في حسن التكليف أنه تعريض لمنزلة عظيمة لا يمكن
الوصول إليها إلا بالتكليف، والتعريض للشئ في حكم إيصاله. فعلى هذا
إذا كان التكليف تعريضا للبيع للشئ يجب أن يكون نفعا، لأن من حسن منه
التوصل إلى نفع حسن من الغير أن يعرضه له.
ومعنى التعريض تصيير المعرض بحيث يتمكن من الوصول إلى ما عرض
له [مع إرادة المعرض للفعل الذي عرضه له] 1) وعرض للمستحق عليه أو التوصل
به إليه. ألا ترى أن الإنسان إنما يكون معرضا لولده للعلم إذا مكنه من التعلم
وأزاح علته فيه وأراد منه التعلم، ومتى لم يرد منه ذلك أو لم يزح علته فيه لا
يكون معرضا له.
ومن شرط المعرض أن يكون عالما أو ظانا بوصول المعرض إلى ما
عرضه له متى فعل ما وصله إليه. ألا ترى أن الواحد منا لو عرض ولده للتجارة
وأمره بالسفر وغلب في ظنه أنه متى فعل جميع ما رسمه لا يحصل له شئ من
الربح لا يكون الوالد معرضا له، فعلى هذا القديم تعالى عالم بأن المكلف
متى فعل ما كلفه أنه يثيبه ويوصله إلى مستحقه.
واعتبرنا الإرادة لأن بها يختص بما عرض له دون ما لم يعرض له، والتمكين
والإقدار يصلح للأمرين. ألا ترى أن من أعطى سيفا لغيره ليجاهد به إنما يكون

1) الزيادة ليست في ر.
64

معرضا له بأن يقتل به كافرا دون مؤمن إذا أراد قتل الكافر دون المؤمن، وإلا فالسيف
يصلح للأمرين.
فعلى هذا إذا أقدر القديم تعالى المكلف ومكنه وخلق فيه الشهوة ويمكنه أن
ينال بها المشتهي كما يمكنه أن يختلقه على وجه يشق عليه، فإنما يتخصص بأحد
الوجهين دون الآخر بالإرادة.
وإنما قلنا في التكليف إنه تعريض للثواب لأنه لا يخلو أن يكون فيه غرض
أو لا غرض فيه، فإن لم يكن فيه غرض كان عبثا وذلك لا يجوز عليه تعالى، وإن كان
فيه غرض لم يخل أن يكون الغرض نفعه أو مضرته، ولا يجوز أن يكون الغرض مضرته
لأن ذلك قبيح، فلم يبق إلا أن يكون غرضه نفعه.
وينبغي أن يكون ذلك النفع مما يستحق بالتكليف، ولا يمكن الوصول
إليه إلا بالأفعال التي يتناولها التكليف، لأن الابتداء بالثواب لا يحسن لأنه يقارنه
تعظيم وتبخيل، والمعلوم ضرورة قبح ذلك بمن لا يستحقه، ولا يمكن استحقاق
الثواب إلا بما تناوله التكليف من واجب أو ندب.
فعلى هذا متى حسن التكليف وجب، لأن المكلف متى تكاملت شروط
تكليفه في وجوه جميع التمكين وجعل الفعل شاقا عليه وكان متردد الدواعي
وزال عنه الالجاء وجب تكليفه، ومتى نقص بعض هذه الشروط قبح تكليفه،
لأنه لو لم يكلفه لكان إما مغريا بالقبيح أو عابثا، وكلاهما لا يجوزان عليه.
يبين ذلك أنه إذا كان تعالى قادرا على إغنائه بالحسن عن القبيح فلم يفعل وأحوجه
بالشهوات المخلوقة فيه والتخلية بينه وبينه فإن لم يكن له غرض كان [عابثا وإن
كان فيه غرض] 1) فلا غرض فيه إلا التكليف، وأن يكون ملزما له بحسب المشتهى
وإن شق عليه ذلك للمنفعة العظيمة بالثواب، وإن لم يكن ذلك فالاغراء بتقوية

1) الزيادة ليست في ر.
65

الدواعي إلى نيله حاصل.
ولا يلزم أن تكون البهائم مغراة بالقبح، لأن ذلك معتبر فيمن يتصور العواقب
وذلك منتف عن البهائم.
وأما الفعل الذي يتناوله التكليف فلا بد أن يصح إيجاده من المكلف على
الوجه الذي كلفه، لأن ذلك يمكن لا يحسن التكليف من دونه.
ومن شروطه تقوية دواعيه بفعل اللطف مما لا ينافي التكليف، ولا بد أن
يكون ما تناوله التكليف مما يستحق به المدح والثواب، لأن وجه حسن التكليف
إذا كان هو التعريض للثواب لم يجز أن يتناول إلا ما يستحق به الثواب، وما يستحق
به الثواب هو إما واجب أو ندب فلا يخرج التكليف عنهما. والمباح لا مدخل
له في ذلك، لأنه لا يستحق به مدح ولا ثواب، وإنما حسن التكليف الندب من حيث كان
الندب مستهلا للواجب ومقويا له، فلا يصح أن يقتصر بالمكلف على تكليفه، لأنه
تابع لا يستقل بنفسه.
فأما الكلام في صفات المكلف فإنه فرع على العلم من المكلف، لأن الكلام
في صفة الذات فرع على العلم بالذات.
فإذا ثبت ذلك فالمكلف هو الحي، لأن من ليس بحي لا يحسن تكليفه.
ويسمى الحي " انسانا " وفي الملائكة والجن بأسماء أخر، والفلاسفة تسميه
" نفسا ".
والحي هو هذه الجملة المشاهدة دون أبعاضها، وبها يتعلق جميع الأحكام
من الأمر والنهي والمدح والذم.
وقال معمر وأبناء نوبخت وشيخنا أبو عبد الله: الحي هو غير هذه الجملة
وهو ذات ليس بجوهر ولا عرض ولا حال في هذه الجملة.
وقال ابن الراوندي وهشام الفوطي: هو جوهر في القلب.
وقال الأسواري: هو ما في القلب من الروح.
66

وقال النظام: هو الروح، وهو الحياة الداخلة لهذه الجملة.
وقال ابن الاخشيذ: هو جسم رقيق منساب في هذه الجملة.
والذي يدل على صحة ما ذكرناه أولا أن الأحكام الراجعة إلى الحي تظهر
في هذه الجملة من المدح والذم والنهي وغير ذلك.
وأيضا فإن الادراك يقع بأعضائها والتألم والتلذذ للادراك، ولو أنها هي الجهة
لما وقع الادراك بأبعاضها.
وأيضا الفعل المبتدأ يظهر في أطرافنا كحركة أيدينا وأرجلنا وغير ذلك،
فلا بد من إسناد ذلك إليها أو إلى ماله به تعلق معقول، فإذا أفسدنا جميع ما ادعي
من وجوه التعلق لم يبق إلا ما ذكرناه.
ولا يجوز أن يكون الفاعل في هذه الجملة غيرها، لأنه لو كان كذلك
لاقتضى أن يخترع الأفعال في هذه الجملة، لأن القدرة قائمة بذلك الغير على
هذا القول. وهذا باطل بما يعلم ضرورة من أن أحدنا إذا تعذر عليه حمل شئ بإحدى يديه
إذا استعان باليد الأخرى تأتى ذلك أو يسهل، ولا وجه لهذا الحكم المعلوم مع
القول بالاختراع، وإنما يصح ذلك على قول من يقول القدر في اليد اليمنى
مقدار لا يتأتى بها حمل الثقيل، فإذا انضاف إليها القدر الذي في الشمال تأتي ذلك
أو سهل، وإن الفعل لا يصح إلا باستعمال محل القدرة. وبمثل ذلك يبطل قول من
قال إنه جزء في القلب، لأن اليدين على هذا القول ليسا بمحلين للقدرة أصلا،
لأنها تحل الجزء الذي في القلب.
وأيضا فلو كان الفعل يفعل في هذه الجملة اختراعا لم يكن بعض الجملة بذلك
أولى من بعض، وكان يجب أن يصح أن يفعل فيها كلها لفقد الاختصاص المعقول.
ومما يدل أيضا على أن الفعال هذه الجملة أن الادراك يقع بكل عضو
منها، فلو لم يكن في الأعضاء حياة لما أدرك بها كما لا يدرك بالشعر والظفر.
67

فأما من قال الإنسان هو الروح، فليس يخلو أن يريد بالروح الحياة التي هي
وغرض أو يريد به الهواء المتردد، والأول باطل من حيث أن الحياة يستحيل
أن تكون حية قادرة، وإن أراد الثاني فذلك أيضا باطل، لأنه لا يصح أن تحل
الحياة الهواء ولا يدرك الألم واللذة وهو على صفته، وإن أراد غيرهما فذلك
غير معقول.
فأما مذهب ابن الأخشاذ 1) فإنه أيضا يبطل بمثل ما أبطلنا به مذهب النظام وكان
يجب أن لا تبطل الجملة بقطع وسطها وبقطع رأسها. وإذا قال بالتقلص في
قطع اليد أو الرجل فلم لا [يتقلص في قطع الرأس والوسط ولم] 2) يتقلص
بقطع اليد تارة فيبقى حيا وتارة لا يتقلص فيموت، وما الموجب لذلك الفرق.
فإذا ثبت أن الحي هذه الجملة فالصفات التي تجب أن يكون عليها المكلف
شيئان:
أولهما: أن يكون قادرا ليتمكن من فعل ما كلفه ولا يكون مكلفا لما لا
يطيق، وقد بينا فساده.
وثانيهما: أن يكون عالما أو متمكنا من العلم به فيما يحتاج إلى العلم به من
جملة ما كلفه من أحكام الأفعال أو إيقاعه على وجه مخصوص ليستحق به
الثواب ولا بد من العلم به، وكذلك يستحق الثواب على ترك القبيح إذا تركه
لقبحه، وذلك لا يتم إلا مع العلم بقبحه أو التمكن من العلم به بنصب
الأدلة عليه يقوم مقام خلق العلم الضروري في قلبه.
ولذلك قلنا إن الكفار مكلفون للشرائع لتمكنهم من العلم بها بالنظر في
معجزات الأنبياء.

1) كذا في النسختين يريد " ابن الأخشيذ " الذي مضى ذكره في الصفحة السابقة،
وهو أحمد بن علي بن بيغجور أبو بكر ابن الاخشيذ المعتزلي المتوفى سنة 326.
2) الزيادة ليست في ر.
68

ولما كانت علومه لا يصح حصولها إلا مع كمال عقله وجب أن يخلق فيه
العقل، والعقل هو مجموع علوم إذا اجتمعت كان الحي عاقلا، وإذا حصل
بعضها أو لم يحصل شي أصلا لم يكن عاقلا.
والعلوم التي تسمى عقلا تنقسم ثلاثة أقسام: أولها العلم بأصول الأدلة،
وثانيها ما لا يتم العلم بهذه الأصول إلا معه، وثالثها ما لا يتم الغرض المطلوب
إلا معه.
فالأول كالعلم بأحوال الأجسام التي تتغير من حركة وسكون، والعلم
باستحالة خلق الذات من النفي والاثبات المتقابلين، والعلم بأحوال الفاعلين
وغير ذلك. وليس يصح العلم إلا ممن يجب أن يكون عالما بالمدركات إذا
أدركها وارتفع اللبس عنها وممن إذا مارس الصنائع بعلمها، والعلم بالعادات
من أصول الأدلة الشرعية، فلا بد منه، فهو نظير القسم الثاني. والقسم الثالث
العلم بجهات المدح والذم والخوف وطرق المضار حتى يصح خوفه من إهمال،
النظر، فيجب عليه النظر والتوصل به إلى العلم.
والذي يدل على أن ذلك هو العقل لا غير أنه متى تكاملت هذه العلوم كان عاقلا،
ولا يكون عاقلا إلا وهذه العلوم حاصلة، ولو كان للعقل معنى آخر لجاز
حصول هذه العلوم، ولا يحصل ذلك المعنى فلا يكون عاقلا وإن لم يكن له
هذه العلوم، والمعلوم خلاف ذلك.
وسميت عقلا لأن لمكانها يمتنع من كثير من المقبحات، فشبهت بعقال الناقة
التي تمنعها من السير. ولأن العلوم المكتسبة مرتبطة بها ولا يصح حصولها من
دونه، فسميت به عقلا تشبيها أيضا بعقال الناقة، ولذلك لا يجوز وصف الله
تعالى بأنه عاقل وإن كان عالما بجميع المعلومات.
ويجب أن يكون المكلف متمكنا من الآلات التي يحتاج إليها في الأفعال
69

التي تتعلق بتكليفه، لأن فقد الأدلة كفقد القدرة في قبح التكليف.
والآلات على ضربين: أحدهما لا يقدر على تحصيلها إلا الله تعالى كاليد
والرجل، فيجب أن يخلقها له في وقت الحاجة إليها. والثاني يتمكن المكلف
من تحصيلها كالعلم في الكتابة والقوس في الرمي وغير ذلك، فالتمكين من
تحصيلها له وإيجاب تحصيلها عليه يقوم مقام خلقها.
ولا بد من تمكينه من الإرادة في كل فعل يقع على وجه بالإرادة إذا كلف
إيقاعه على ذلك الوجه، نحو صيغة الأمر والنهي والخبر وإيقاع الفعل على
وجه العبادة وغير ذلك.
وما يقع على وجه لا تؤثر فيه الإرادة جاز أن يكلف ذلك وإن لم يكن
متمكنا من الإرادة، وذلك نحو رد عين الوديعة ورد عين المغصوب.
ويجب أن يكون المكلف مشتهيا ونافرا، لأن الغرض إذا كان التعريض للثواب
فلا يصح استحقاق الثواب إلا على ما يلحق فيه المشقة، فلا يصح ذلك إلا بأن
يكون نافر الطبع عما كلف فعله ومشتهيا لما كلف الامتناع منه، ولهذا نقول
لا بد أن يكون على المكلف مشقة في نفس الفعل أو شبهه أو أمر يتصل به،
وأمثلة ذلك معروفة لا نطول بذكرها.
ويجب أن تكون الموانع مرتفعة، لأن مع المنع يتعذر الفعل كتعذره مع
فقد القدرة. ولا فرق بين أن يكون المنع من جهته تعالى أو من جهة غيره في
قبح تكليفه إذا لم يكن المكلف قادرا على إزالة المنع عن نفسه.
ولا يحسن أن يكلفه تعالى بشرط ارتفاع الموانع، لأن ذلك إنما يحسن فيمن
لا يعرف العواقب.
ويجب أيضا أن لا يكون ملجأ فيما كلف، لأن الغرض بالتكليف استحقاق المدح
والثواب، والالجاء لا يثبت معه استحقاق مدح. ألا ترى أن الإنسان لا يمدح
70

على أن لا يقتل نفسه وأولاده ولا يحرق ماله وداره، لأنه ملجأ إلى أن لا يفعله
مع زوال الشبهة واللبس، لأن مع دخول الشبهة يجوز أن يفعل ذلك كما يفعل
الهند من قتل نفوسهم وإحراقها لما اعتقدوا في ذلك من أنه قربة إلى الله.
والالجاء يكون بشيئين: أحدهما بأن يخلق الله فيه العلم الضروري بأنه متى
رام فعلا منع منه، والثاني أنه متى فعل تخلص من ضرر عظيم أو ينال منافعا
عظيمة، كمن يعدو من السبع والنار وغير ذلك.
وليس من شرط التكليف أن يعلم المكلف أن مكلفا كلفه إذا علم وجوب
الواجب عليه وقبح القبيح منه ويتمكن من أدائه على الوجه الذي وجب
عليه وإن لم يعلم مكلفه، وكذلك اشتراك العقلاء في العلم بوجوب رد الوديعة
والامتناع من الظلم وإن اختلفوا في المكلف.
وليس من شرط المكلف أن يعلم قبل الفعل أنه مكلف للفعل لا محالة وأنه
أوجب عليه قطعا، لأنه لو كان كذلك لقطع على بقائه إلى وقت الفعل، وفي
ذلك إغراء بالقبيح في ذلك الوقت.
وأيضا فلا مكلف إلا وهو يجوز احترامه في الثاني فكيف يكون مع ذلك
قاطعا على بقائه. ولا يلزم أن يكون الأنبياء والمعصومون مغرين بالقبائح
إذا قطعوا على بقائهم زمانا طويلا، لأن الإغراء لا يصح في المعصوم الموثق
بأنه لا يفعل قبيحا ولا يخل بواجب، فعلى هذا لا يقطع على أن المكلف
مكلف للصلاة إلا بعد أن يفعل الصلاة وقبل ذلك بتجويز الاحترام يجوز أن
يكون غير مكلف لها، وإنما يقول له يجب عليك التشاغل بالصلاة مع ضيق
الوقت لأنك لا تأمن أن تبقى على ما أنت عليه، فإذا خرج الوقت تبين أنها
كانت واجبة عليك، وإنما يحصل التحرز بفعل الصلاة فلذلك يجب عليه فعلها.
وتكليف من علم الله أنه يكون، ممكن حسن صحيح، ومن قال إن ذلك
71

غير ممكن لأن التكليف هو الإرادة على بعض الوجوه وما علم أنه لا يكون لا
يصح أن يراد. فقوله باطل، لأن الإرادة تتعلق بما يصح حدوثه في نفسه سواء
علم يحدث أو لا يحدث. ألا ترى أن الواحد منا يصح أن يريد من جميع الكفار
الإيمان وإن علم أن جميعهم لا يؤمن.
وأيضا فإن النبي عليه السلام كان يريد من أبي لهب الإيمان وإن كان الله
تعالى أعلمه أنه لا يؤمن.
وأيضا فقد يريد الواحد منا من الغير تناول طعامه وإن غلب في ظنه أنه لا
يتناوله.
وما يستحيل مع العلم يستحيل مع الظن على حد واحد، والمعلوم أن
ذلك لا يستحيل مع الظن، فيجب أن لا يستحيل مع العلم.
فأما من قال إن ذلك ممكن غير إنه لا يحسن، فالذي يدل على بطلان
قوله ما قدمناه من أن التكليف تعريض لنفع لا ينال إلا به، والتعريض للشئ
في حكم إيصاله وأن كل من حسن منه التوصل إلى أمر من الأمور حسن من
غيره تعريضه له إذا انتفت عنه وجوه القبح، وعكسه كل شئ يقبح لنا التعرض
له يقبح من غيرنا تعريضنا له أيضا، ونحن نعلم أنه يحسن من الواحد منا التعرض
للثواب والتوصل إليه بفعل ما يستحق به ذلك، فيجب أن يحسن منه تعالى
تعريضه له. فإذا حسن منا أن يتعرض لمنافع منقطعة من أرباح التجارات بتكليف
المشاق والأسفار وحسن من غيرنا أن يعرضنا لها فيجب أن يحسن التعرض
للمنافع الدائمة والتعريض لها.
والكافر إنما استضر في ذلك بفعل نفسه وسوء اختياره، لأنه أقدم على ما
يستحق به العقاب وقد نهاه الله وحذره وتوعده عليه ورغبه في خلافه، فهو
الذي ضر نفسه دون الذي كلفه، بل مكلفه نفعه بغاية النفع، من حيث عرضه
72

لمنافع لا تنال إلا بفعل ما كلفه وحثه على ذلك.
ويدل على حسن ذلك أيضا أنه قد ثبت حسن تكليف من علم الله أنه يؤمن،
وقد فعل الله تعالى بالكافر جميع ما فعله بالمؤمن من أقداره وخلق الشهوة فيه
والنفار ونصب الأدلة وخلق العلم والتمكين وغير ذلك من الشرائط التي تقدم
ذكرها، فينبغي أن يكون تكليفهما جميعا حسنا أو قبيحا. فإذا حكمنا بحسن
تكليف من علم الله أنه يؤمن وجب مثل ذلك في تكليف من علم أنه يكفر،
وأما من منع من حسن التكليف أصلا فلا تكلم في هذه المسألة بل تكلم بما
تقدم من الكلام في حسن التكليف.
والفرق بين التكليفين لا يرجع إلى اختيار الله بل إلى اختيار المؤمن للإيمان
فيحصل نفعه، واختيار الكافر الكفر فاستضر به، فأتى في ذلك من قبل نفسه.
(دليل آخر) ويدل أيضا على حسن تكليف من علم الله أنه يكفر ويموت
على كفره أنه لو لم يحسن ذلك لوجب أن يكون للمكلف طريق إلى العلم بقبح
ذلك، ولو علم قبحه لوجب أن يكون قاطعا على أنه لا يخرج من دار الدنيا
إلا وهو يستحق الثواب، ولا يتم ذلك إلا بأمرين: أحدهما أن يعلم أنه
متى رام القبيح منع منه وذلك إلجاؤنا في التكليف، أو يعلم أنه سيتوب في
المستقبل وذلك ويؤدي إلى الإغراء وكلاهما فاسدان، فإذا يجب أن يكون ممن
يجوز الخروج من الدنيا وهو مستحق للعقاب وهو ما أردناه. ومتى ادعي في ذلك
وجه قبح فالكلام عليه قد استوفيناه في شرح الجمل يرجع إليه إنشاء الله.
ومما يدل على حسن تكليف من علم الله أنه يكفر أنه ثبت أنه تعالى كلف
من هذه صورته، لأنا نعلم أن كثيرا من العقلاء المكلفين يموتون على كفرهم،
ولو لم يكن إلا ما علمناه من حال فرعون وهامان وأبي جهل وأبي لهب وغيرهم
لكفى، ولو كان ذلك قبيحا لما فعله الله تعالى، لأنا قد دللنا على أنه تعالى لا يفعل
القبيح على حال.
73

ولا يلزم على ذلك بعثة نبي يعلم أنه لا يؤدي ما حمله، لأن بعثة نبي لا يؤدي
إلينا مالنا فيه مصلحة يمنع من إزاحة علتنا في التكليف ويوجب منع اللطف
والتمكين، فلهذا لم يجز، لا لأنه تكليف من علم الله أنه يكفر. ولسنا ننكر
أيضا أن يعرض في تكليف من علم الله أنه [يكفر وجه قبح يقبح تكليفه، بل
لا ينكر ذلك في تكليف من علم الله أنه] 1) يؤمن، لأنه لو عرض فيه وجه المفسدة
لقبح تكليفه وإن آمن.
فإذا ثبت حسن التكليف بمن علم أنه يؤمن ومن علم أنه يكفر وجب أن يكون
منقطعا، لأن الغرض بالتكليف إذا كان هو الثواب فلو لم يكن التكليف منقطعا لانتقض
الغرض بالتكليف، لأن الثواب بالتكليف لا يمكن أن يكون مقترفا، لأن من
شأنه أن يكون خالصا صافيا من الشوب والتكدير حتى يحسن إلزام المشاق. وذلك
لا يصح مع التكليف، لأن التكليف لا يعرى من مشقة، وذلك يؤدي إلى حصول
الثواب على خلاف الوجه المستحق ويصرف به الغموم والمضار.
وأيضا لو اقترن الثواب بالتكليف لأدى إلى أن يكون المكلف ملجأ، لأن
المنافع العظيمة تلجئ إلى فعل ما ضمنت عليه، ولذلك قلنا لا بد أن يكون
بين زمان التكليف وبين حال الثواب زمان متراخ يخرج المكلف من حد
الالجاء. وإنما كانت المنافع العظيمة العاجلة ملجئة لأنه يقتضي أن يفعل الطاعة
لأجلها دون الوجوه التي يستحق عليها الثواب، وذلك يخرجها من أن يستحق
لها الثواب أصلا، وذلك ينقض الغرض.
وأما القدر الذي يكون بين زمان التكليف وبين الثواب فليس بمحصور
عقلا بل بحسب ما يعلمه الله تعالى، وإنما يعلم على طريق الجملة أنه لا بد من
تراخ ومهلة.

1) الزيادة ليست في ر.
74

فإذا ثبت وجوب انقطاع التكليف فليس الوقت وقت انقطاعه بزمان بعينه
بل نوجبه على سبيل الجملة. ولا يمتنع أن يحسن الشئ أو يقبح على طريق
الجملة.
ولا يعلم عقلا انقطاع التكليف عن جميع المكلفين بل إنما يعلم ذلك سمعا
والاجماع حاصل على ذلك.
وكان يجوز عقلا انقطاع التكليف عن بعضهم وبقاؤه على بعض، لكن
الإجماع مانع منه.
ومتى حصل انقطاع التكليف بفعل غير الله فقد حصل الغرض، ومتى لم يحصل
فإنه تعالى يزيله.
ويجوز انقطاع التكليف بإزالة العقل أو الموت أو الفناء، وأما فناء الجواهر
فليس في العقل ما يدل على جوازه ولا على إحالته، والمرجع في ذلك إلى
السمع، فإذا علم بالسمع أنه تفنى الجواهر ثم علمنا أن الباقي لا ينتفي إلا بضد
يطرأ عليه علمنا أن الفناء (مغني يغنى)؟ الجواهر. وما يسأل على ذلك من الشبهات
فقد بينا الجواب عنه في شرح الجمل.
والطريق الذي به يعلم فناء الجواهر هو السمع، وقد أجمعوا على أن
الله تعالى يفني الأجسام والجواهر ويعيدها، فلا نعتد بخلاف من خالف فيه.
ويدل عليه أيضا قوله " هو الأول والآخر " 1) فكما أنه كان أولا ولا شئ معه
موجود فكذلك يجب أن يكون آخرا ولا شئ معه موجود. وقد استدل بغير ذلك
من الآيات عليها اعتراضات والمعتمد ما ذكرناه.
وإذا ثبت أن الجواهر تفنى فالله تعالى يعيدها إجماعا. وأيضا فلو لم يعدها
لما أمكن إيصال المستحق إليها من الثواب، وقد علمنا وجوب ذلك، فإذا لا بد
من إعادتها.

1) سورة الحديد: 3.
75

[وكل من مات وله حق لم يستوفه في دار الدنيا فإنه يجب إعادته على كل
حال، لأن الثواب دائم لا يمكن توفيره في دار الدنيا] 1). وأما من يستحق
العوض فإنه يجوز أن يوفر عليه في الدنيا ولا يجب إعادته، لأن الغرض منقطع.
وأما من يستحق العقاب فلا يجب إعادته، لأن العقاب يحسن إسقاطه عقلا
فإذا سقط لم يحسن استيفاؤه فيما بعد فلم يجب إعادته. فإذا علمنا أنه يعاقب الكافر
لا محالة علمنا أنه يعيد المستحق للعقاب، ومن كان عقابه منقطعا فلا يكون كذلك
إلا وهو مستحق الثواب الدائم بطاعاته، وإذا أعيد ربما استوفى عقابه ثم نقل
إلى الثواب، وربما عفي عن عقابه وفعل به الثواب، فإعادته واجبة عقلا لما يرجع
إلى استحقاق الثواب دون العقاب.
وقد أجمعت الأمة على أن الله تعالى يعيد أطفال المكلفين والمجانين وإن
كان ذلك غير واجب عقلا، والقدر الذي يجب إعادته هو بنية الحياة التي متى
انتقصت خرج الحي من كونه حيا.
ولا معتبر بالأطراف وأجزاء السمن لأن الحي لا يخرج بمفارقتها من كونه
حيا. ألا ترى أن أحدنا قد يستحق المدح والذم ثم يسمن فلا يتغير حاله فيما
يستحقه وكذلك يهزل واستحقاقه للمدح أو الذم كما كان، فعلم بذلك أنه لا اعتبار
بهذه الأجزاء.
ومن قال يجب إعادة الحياة دون الجواهر فقوله باطل، لأن المستحق للثواب
والعقاب هي الجملة التي تركبت من الجواهر وكيف يجوز التبدل بها فيؤدي
إلى إيصال الثواب والعقاب إلى غير المستحق، والصحيح ما قلناه أولا.

1) الزيادة ليست في ر.
76

وأما الكلام في اللطف
(فيحتاج أن نبين أولا ما اللطف وما حقيقته)
واللطف في عرف المتكلمين عبارة عما يدعو إلى فعل واجب أو يصرف
عن قبيح، وهو على ضربين: أحدهما أن يقع عنده الواجب ولولاه لم يقع
فيسمى توفيقا، والآخر ما يكون عنده أقرب إلى فعل الواجب أو ترك القبيح
وإن لم يقع عنده الواجب ولا أن يقع القبيح فلا يوصف بأكثر من أنه لطف
لا غير، وما كان المعلوم أنه يرتفع عنده القبيح ولولاه لم يرتفع يسمى عصمة،
وإن كان عنده أقرب إلى أن لا يقع عنده القبيح سمي لطفا لا غير، واللطف
منفصل من التمكين، ويوصف اللطف بأنه صلاح في الدين 1) وأما ما يدعو إلى
فعل قبيح فيقع عنده الصحيح قبيح ولولاه لما يقع يسمى مفسدة واستفساد.
واللطف إذا كان داعيا إلى الفعل أو صارفا فلا بد أن يكون بينه وبين ما هو
لطف فيه مناسبة، ولا يلزم أن تكون تلك المناسبة معلومة تفصيلا.
ويجب أن يكون اللطف معلوما على الوجه الذي هو لطف فيه، لأنه داع إلى
الفعل، فهو كسائر الدواعي.
والمعتبر في الدواعي حال الداعي من علم أو ظن أو اعتقاد، ولذلك قد
يعتقد أن في الشئ نفعا فيكون ذلك داعيا له إلى فعله وإن لم يكن فيه نفع.
وإذا ثبت ذلك فلا يمتنع أن يدعوه إلى الفعل ما ليس بمدرك بعد أن يكون
معلوما.
ويجب أن يكون اللطف متقدما للملطوف فيه ليصح أن يكون داعيا إليه
وباعثا عليه، والداعي لا يكون إلا متقدما، وأقل ما يجب تقدمه وقت واحد،

1) في ج " بأنه صلاح وإصلاح في الدين ".
77

ويجوز تقدمه بأوقات بعد أن لا يكون منسيا قديما. وربما كان في تقديمه فضل
مزية، لأن رفق الوالد بولده في طلب العلم وحثه عليه بأوقات كثيرة ربما كان
أدعى له إلى التعليم.
واللطف على ثلاثة أقسام: أحدها من فعل الله تعالى، والثاني من فعل من
هو لطف له، والثالث من فعل غيرهما.
فما هو من فعل الله تعالى على ضربين: أحدهما يقع بعد التكليف للفعل
الذي هو لطف له فيوصف بأنه واجب، والثاني ما يقع مع التكليف للفعل الذي
هو لطف فيه فلا يوصف بأنه واجب، لأن التكليف ما أوجبه ولم يتقدم له سبب
وجوب لكن لا بد أن يفعل به لأنه كالوجه في حسن التكليف. وأما ما كان من
فعل المكلف فهو تابع لما هو لطف فيه، فإن كان واجبا فاللطف واجب وإن
كان لطفا في فعل نفل فهو نفل. وإذا كان اللطف من فعل غيرهما فلا بد من أن
يكون المعلوم من حاله أنه يفعل ذلك الفعل على الوجه الذي هو لطف في
الوقت الذي هو لطف فيه ومتى لم يعلم ذلك لم يحسن التكليف الذي هذا الفعل
لطف فيه.
هذا إذا لم يكن له بدل من فعل الله يقوم مقامه، فإن كان له بدل من فعل
الله تعالى جاز التكليف لذلك الفعل إذا فعل الله تعالى ما يقوم مقامه.
ولا يجب على الغير أن يفعل ما هو لطف للغير إلا إذا كان له في ذلك
لطف، كما نقول في الأنبياء عليهم السلام أنه يجب عليهم تحمل الرسالة لما
لهم في ذلك من اللطف دون مجرد ما يرجع إلى أممهم ولولا ذلك لما وجب
عليهم الأداء.
واللطف على ثلاثة أقسام:
أحدها: من فعل الله، فيجوز أن يكون له بدل، ولا مانع يمنع منه،
فيكون مخيرا في ذلك.
78

والثاني: أن يكون من فعل المكلف نفسه، فإن كان له بدل وجب إعلامه
ذلك، فيكون من باب التخيير كالكفارات الثلاث، ومتى لم يعلمه ذلك
قطعنا على أنه لا بدل له من فعله ولا من فعل الله تعالى، لأنه لو كان له بدل من
فعل الله لما وجب عليه الفعل على كل حال.
والثالث: ما كان من فعل غير الله وغير المكلف، فإن كان مع كونه
لطفا لغيره لطفا له جاز أن يكون واجبا أو ندبا، وإن لم يكن فيه له لطف أصلا وإنما
هو لطف للغير كان مباحا إلا أنه لا يحسن تكليف هذا إلا بعد أن يعلم أنه فعله.
فعلى هذا ذبح البهائم التي ليست نسكا ولا ندبا 1) وإنما هو مباح فوجه
حسنه أنه لطف لغير الذابح، وقيل وجه حسنه أن فيه عوضا للمذبوح ونفعا
لغيره بأكله، وكلاهما جائزان.
فعلى هذا الأفعال الشرعية ما هو واجب منها فوجه وجوبها كونها مصالح
في الواجبات العقلية ويقبح تركها لأنها ترك لواجب، وما هو قبيح فوجه
قبحها كونها مفسدة في الواجبات العقلية أو داعية إلى القبائح العقلية، ويجب
تركها لأنه ترك لقبيح، وما هو مباح فلأنها مصالح لغير فاعلها على ما مضى
القول فيه. ومتى كانت المفسدة من فعله تعالى لم يحسن فعلها وإن كانت من
فعل المكلف نفسه، ويجب أن يعلمه وجوب ترك ما هو مفسدة له، وإن كانت
من فعل غيرهما لا يخلو المكلف من أن يكون قادرا على منعها أو لا يكون
كذلك، فإن كان قادرا جاز أن نوجب عليه المنع منها وحسن تكليفه، [وإن لم
يكن في مقدوره المنع منها] 2) فإن كان المعلوم أن ذلك الغير لا يختارها حسن
أيضا تكليفه، وإن لم يكن ذلك معلوما وجب عليه تعالى المنع منها أو إسقاط

1) في ج " ولا نذرا ".
2) الزيادة ليست في ر.
79

تكليف ما تلك المفسدة مفسدة فيه وإلا أدى إلى أن علة المكلف غير مزاحة.
فعلى هذا دعاء إبليس وإغواه الخلق هل هو مفسدة أم لا؟ قيل فيه شيئان:
أحدهما أن كل من فسد بدعاء إبليس كان يفسد وإن لم يدعه فلم يكن حد المفسدة
قائمة فيه، والثاني أن التكليف مع دعاء إبليس أشق والتعريض للثواب 1)
أكثر، فدخل ذلك في باب التمكين وخرج من باب المفسدة. وكلاهما جائزان.
والذي يدل على وجوب فعل اللطف هو أن أحدنا لو دعا غيره إلى طعامه
وأحضر الطعام وغرضه نفع المدعو دون ما يعود إليه من مسرة أو غيرها،
وعلم أو غلب على ظنه أنه متى تبسم في وجهة أو كلمه بكلام لطيف أو كتب
إليه رقعة أو انفذ غلامه إليه وما أشبه ذلك مما لا مشقة عليه ولا حط له عن مرتبته
حضر ومتى لم يفعل ذلك لم يحضر، وجب عليه أن يفعل ذلك ما لم يتغير داعيه
عن حضور طعامه، ومتى لم يفعله استحق الذم من العقلاء كما يستحق لو غلق
بابه في وجهة، فلهذا صار منع اللطف كمنع التمكين في القبح. وهذا يقتضي
وجوب فعل اللطف عليه تعالى، ولأن العلة واحدة.
فإن قيل: كيف يجب على من دعا غيره إلى طعامه أن يلطف له وأصل
دعائه له ليس بواجب وإنما هو تفضل.
قيل: الأصل وإن كان تفضلا فهو سبب لوجوب التمكين ورفع الموانع
كالإقدار والتمكين وغير ذلك، وإذا كان سبب وجوب اللطف يختص بالداعي
إلى طعامه دون غيره فكذلك يجب أن يكون فعل المكلف يختص بالداعي
إلى طعامه دون غيره، كما لا يجب على غير الداعي إلى طعامه التبسم في وجهه
ولا غير ذلك من الأفعال المقوية لداعيه كما لا يجب تمكينه وإقداره.
وإنما شرطنا استمرار الإرادة لأنه يجوز على الواحد منا أن يبدو له من

1) في ر " للسواد ".
80

ذلك فيتغير داعيه، والقديم تعالى لا يجوز عليه البداء على حال. والعلم باستحقاق
من منع اللطف الذم ضروري كالعلم باستحقاق من منع التمكين مثل ذلك.
فإن قيل: ما قولكم في الداعي إلى طعامه لو غلب في ظنه أنه لا يحضر
طعامه إلا بعد أن يبذل له شطر ماله أو يقتل بعض أولاده وغير ذلك مما عليه فيه
ضرر عظيم.
قلنا: هذا أولا لا يطعن على ما نريده من وجوب اللطف على الله تعالى،
لأن جميع ذلك لا يليق به، لأن كل ما يفعله تعالى يجري مجرى ما لا مشقة عليه
فيه من التبسم وغيره، وإذا وجب التبسم وما جرى مجراه من فعلنا وجب
جميع الألطاف من فعله، لأنها جارية مجراه من فعلنا لأنه لا مشقة عليه فيها.
ثم نقول: الواحد منا إذا كلف غيره حضور طعامه لا يخلو أن يكون غرضه
نفع المدعو أو نفع نفسه وما يرجع إليه، فإن كان الأول وجب عليه من اللطف
ما لا مشقة عليه فيه أو ما لا يعتد به من المشقة اليسيرة، ومتى كانت فيه مشقة
عظيمة لم يجب. والمشاق معتبرة في وجوب الفعل أو حسنه فإن كان غرضه
نفع نفسه وما يعود إليه وجب أن يقابل بين الضرر الداخل وبين الضرر عليه
فيما يفعله لنفع ذلك الفعل ويدفع الأكثر بالأقل.
وأما المفسدة فهي ما يقع عندها الفساد ولولاه لم يقع، أو يكون أقرب إلى
لفساد ولولاه لم يكن أقرب أو ينصرف عنده من الواجب أو يكون إلى الانصراف
أقرب ولا يكون له حظ في التمكين. والعلم بقبح ما هذه صفته ضروري لا
يلتفت إلى خلاف من يخالفه فيه.
فأما من لا لطف له - بأن يكون المعلوم من حاله أنه يطيع على حال أو
يعصي - فإنه يحسن تكليفه لأنه متمكن من الفعل بسائر ضروب التمكنات،
وليس في المعلوم ما يقوي داعيه فيجب فعله به، فينبغي أن يحسن تكليفه.
81

غير أنا علمنا بوجوب المعرفة ووجوب الرئاسة لجميع الخلق أنهما لطفان
لجميعهم، ولولا السمع لكان يجوز أن يكون في المكلفين من يختار فعل
الواجب والامتناع من القبح وإن لم تجب عليه المعرفة ولا نصيب له، لكن
الإجماع مانع منه ومن تعلق لطفه بفعل قبيح في مقدوره تعالى.
[والصحيح أنه لا يحسن تكليفه، لأن هذا له لطف مراحم به علته، وإنما لم
يحسن أن يفعله تعالى لأمر يرجع إلى حكمه، وفي الناس من أجازه وأجراه
مجرى من لا لطف له] 1)، والصحيح الأول.
ومتى تعلق لطفه بفعل قبيح من مقدور غير الله فلا يحسن تكليفه أيضا، لأنه
لا يحسن تكليف الغير ذلك الفعل لقبحه.
وأما الأصلح في باب الدنيا فهو الأنفع إلا الذي لا يتعلق به لطف فإنه لا
يجب على الله تعالى، لأنه لو وجب ذلك لأدى إلى وجوب ما لا يتناهى وذلك
محال. أو إلى أن لا ينفك القديم تعالى من الاخلال بالواجب وذلك فاسد.
وإنما قلنا ذلك لأن النفع اللذة وهو تعالى يقدر من جنسهما على ما لا يتناهى
فلو كان ذلك واجبا لأدى إلى ما قلناه، ولو قلنا هربا من ذلك أنه لا يقدر إلا على
متناه أدى إلى القول بتناهي مقدورات الله، وذلك كفر.
ولا يلزم على ذلك أن يكون اللطف في باب الدين مثل ذلك، لأن اللطف
في باب الدين بحسب المعلوم، وليس يجب أن يكون المقدور منه ما لا نهاية
له. ولو فرضنا ذلك لقبح المكلف وإن كان ذلك بعيدا. وليس كذلك اللذة
والنفع، لأنه يرجع إلى جنس المقدور فيجب أن يكون قادرا منه على ما لا
نهاية له.
ويدل أيضا على أن الأصلح في باب الدنيا غير واجب أنه لو كان واجبا

1) الزيادة ليست في ر.
82

لما استحق تعالى الشكر بفعلها، لأن من فعل واجبا كقضاء الدين ورد الوديعة
لا يستحق الشكر وإنما يستحق الشكر بالتفضل المحض، ولو لم يستحق الشكر
لما استحق العبادة لأنها كيفية في الشكر، وذلك خلاف الإجماع.
وهو تعالى وإن استحق الشكر على الثواب والعوض الواجبين، فلأن
سبب الثواب التكليف وهو تفضل، وكذلك الآلام التي يستحق بها العوض
تابعة للتكليف الذي هو تفضل.
وأما الكلام في الآلام
فيقع من وجوه:
أحدها في إثباتها:
والكلام في ذلك ظاهر لا نتشاغل به، لأن المعلوم ضرورة الأمر الذي
يتألم به الحي ويدركه مع نفار طبعه عنه، فدفع ذلك مكابرة. وإنما الكلام
يقع في حسنه أو قبحه، لأن في الناس من قال الآلام كلها قبيحة وهم الثنوية
والمجوس، ومن قال إن فيها ما هو حسن اختلفوا فمنهم من قال لا وجه لحسنها
إلا الاستحقاق وهم التناسخية والبكرية.
والصحيح أن في الآلام ما هو حسن وفيها ما هو قبيح، فما يقبح منها يقبح
لوجوه ثلاثة: أحدها لكونه ظلما، وثانيها أن يكون مفسدة، وثالثها أن يكون
عبثا. وما عداه يكون حسنا.
وإن شئت قلت: الآلام لم تحسن إلا لنفع يوفى عليه أو دفع ضرر أعظم
منه أو الاستحقاق أو يكون واقعا على وجه المدافعة، فمتى خلا من ذلك أجمع
كان قبيحا.
فأما الظلم فهو الضرر الذي لا يقع فيه وفاء عليه ولا دفع ضرر أعظم منه
83

ولا يكون مستحقا ولا حاصلا على وجه المدافعة سواء كانت هذه الوجوه معلومة
أو مظنونة.
والذي يدل على أن الألم يحسن إذا كان فيه نفع يوفى عليه ما نعلمه ضرورة
من حسن إخراج ما يملكه من المتاع والعقار بعوض إذا غلب في ظنونا أن
النفع بالعوض أكثر منه، وإنما حسن تفويت المنافع بما يخرجه لأجل النفع
الذي يحصل بالعوض لا يختلف العقلاء في حسن ذلك.
ووجه حسن هذا الألم هو علمه بماله فيه من النفع أو ظنه دون حصول
النفع فيه، بدلالة أنه لو كان فيه نفع ولم يعلم أن فيه نفعا ولا ظنه لما حسن منه
تحمل هذا الألم، وإذا علم ذلك أو ظنه حسن، فعلم أن وجه حسنه ما قلناه.
ولا يلزم أن يكون الظلم حسنا لما فيه من العوض، لأنا نعتبر أن يكون
النفع موفيا عليه ويكون مقصودا، أو ما هو في مقابلة الظلم إنما يفعله الله
ويأخذه من الظالم على وجه الانتصاف لا يكون موفيا عليه بل بحسب الألم.
وأيضا فالظالم لم يقصد نفع المظلوم، فلم يحصل القصد أيضا.
وأيضا فالمعلوم ضرورة حسن تحمل ألم الأسفار طلبا للأرباح وتحمل
المشاق في طلب العلم لمكان حصول العلم، فعلم أن تحمل الألم يحسن للنفع.
وأما الذي يدل على أن الألم يحسن لدفع ضرر أعظم منه ما نعلمه ضرورة
من حسن عدونا على الشوك هربا من السبع أو النار أو خوفا من وقوع حائط
وما أشبه ذلك، ويحسن منا شرب الدواء الكريه دفعا للأمراض والخلاص
منها، ويحسن الفصد وقطع الأعضاء خوفا من السراية إلى النفس. ووجه
حسن جميع ذلك ظن دفع الضرر الموفي عليه، لأن العلم باندفاع الضرر
ليس يكاد يحصل في موضع، لكن إذا حصل الحسن مع الظن فمع العلم أولى
وأحسن.
84

وأما الذي يدل على أن الألم يحسن الاستحقاق فهو ما نعلمه ضرورة من
حسن ذم المسئ على إساءته وإن غمه ذلك وآلمه واستضر به، والعلم بحسن
ذلك مع تعريه من نفع أو دفع ضرر يوجب أنه حسن للاستحقاق لا غير.
وقد قيل في ذلك أيضا أنه يحسن المطالبة بتقضي الدين وإن أضر ذلك
بمن عليه الدين وغمه، وإنما حسن ذلك للاستحقاق.
ولقائل أن يجعل وجه ذلك ما يقدمه من الانتفاع بالدين، فجرى ذلك
مجرى تقدم الأجرة على الأعمال الشاقة.
وأيضا فلو كان حسن الاستحقاق لما حسن أن يبتدئ الإنسان بإيصاله إلى
نفسه، كما لا يحسن أن يعاقب نفسه.
وأيضا فإنه خال من استحقاق وإهانة، وذلك واجب في العقاب.
وإنما قلنا أنه متى وقع على وجه المدافعة كان حسنا، لأنه معلوم أن من
دافع غيره عن نفسه فوقع به من جهته ضرر لم يقصده بل قصد المدافعة فقط
لا يستحق به عوضها على المؤلم ولا يكون بذلك ظالما.
ولا يمكن أن يقال: إن ذلك مستحق، لأن من قصد إيلام غيره ولم يؤلمه
لا يستحق العقاب عليه.
وأيضا فلو كان مستحقا لقارنه استحقاق وإهانة وجاز أن يقصده، وكل ذلك
يدل على أنه لم يكن مستحقا.
ولا يمكن أن يقال: وجه حسنه ما فيه من العوض، لأنه تعالى لما حسن ذلك
في عقولنا ضمن العوض كما ضمن لما أباح لنا ذبح البهائم بالشرع، لأنه لو
كان الأمر على ما قالوه لوجب أن يكون من لا يعرف أن الله ضمن العوض لا يعرف
حسن المدافعة، كما أن من لا يعرف الشرع لم يعرف حسن ذبح البهائم.
والمعلوم خلافة.
85

وأيضا كان يجب أن يحسن أن يقصد إيلامه ولا يقصد دفعه، كما يجوز أن [يقصد
ذبح البهيمة، وقد علمنا أنه لا يحسن أن] 1) يقصده.
وإنما قلنا أن الألم يقبح لكونه عبثا، لأن العبث ما لا غرض فيه أو لا غرض
مثله فيه، والألم يكون عبثا إذا فعل لنفع يمكن الوصول إليه من دون الألم
ولا غرض له فيه زائدا على ذلك بدل على قبح ذلك أنا نعلم أنه يقبح من أحدنا
أن يواطئ غيره ويوافقه على أن يضربه لعوض يدفعه إليه يرضى بمثله في تحمل
ذلك الضرب، لأنه بالعوض خرج من كونه ظلما، وإنما قبح لأنه لا غرض
فيه حكمي.
وأما الألم إذا كان فيه مفسدة فمعلوم قبحه ضرورة لا شبهة فيه، ولا يجوز أن
يكون الألم قبيحا لكونه ألما على ما قالت الثنوية، لما بيناه من أن ههنا آلاما
حسنة للنفع ولدفع الضرر والاستحقاق، فبطل قولهم. ولا يجوز أن يقبح الألم
لكونه ضررا، لأنه لو كان كذلك لقبح العقاب لأن فيه ضررا لقبح العقاب،
وقد علمنا حسنه لكونه مستحقا. ومن قال العقاب ليس بضرر كان مكابرا.
والألم إذا كان فيه نفع يوفى عليه أو دفع ضرر أعظم منه لا يكون ضررا،
ومن قال إنه ضرر فقد أخطأ، لأنه يلزم أن يكون من خدش جلد غيره بإخراجه
من العرق وتخليصه من الهلاك أن يكون مضرا به، وهذا معلوم خلافه.
ولو كان العقاب لا يسمى ضررا لما جاز أن يقال في الله تعالى أنه ضار،
وأجمع المسلمون على إطلاق ذلك، والقديم تعالى لا يحسن أن يفعل الألم
إلا للنفع أو الاستحقاق لا غير، فأما لدفع الضرر فلا يجوز. والظن لا يجوز عليه
لأنه عالم لنفسه.
وإنما قلنا ذلك لأن من شرط حسن الألم لدفع الضرر أن يكون ذلك الضرر

1) الزيادة من ج.
86

لا يمكنه دفعه إلا بإدخال بعض الآلام عليه، والقديم تعالى يقدر على دفع كل ضرر
من غير أن يدخل عليه ألما، فلم يحسن لذلك.
والصحيح أن القديم تعالى لا يفعل ألما لا في المكلفين ولا في غيرهم في
دار التكليف إلا إذا كان فيه غرض يخرجه من كونه ظلما أو عوض يخرجه من
كونه عبثا، ولا يجوز أن يفعل الألم لمجرد العوض، لأن مثل العوض يحسن
الابتداء به ولا يجوز أن يفعله لأجل العوض.
ويفارق ذلك الثواب، لأن الثواب يستحق على وجه من التعظيم والاجلال ولا
يحسن الابتداء بمثله، وليس كذلك العوض لأنه مجرد المنافع. ولذلك لا يحسن
منا أن نستأجر غيرنا لينقل الماء من نهر إلى نهر ولا عوض لنا فيه غير إيصال الأجرة
إليه، وكذلك لا يحسن أن يوافقه على أن يضربه [ويعطيه عوضا من ضربه] 1)
لا لغرض غير إيصال العوض إليه، ومعلوم ضرورة قبح ذلك.
وليس لأحد أن يقول: الاستحقاق له مزية على التفضل في الشاهد فجاز
أن يفعل لذلك الألم، لأن الاستحقاق إنما يكون له مزية في الشاهد لما يلحق
المتفضل عليه من الآنفة وإن تميز المتفضل عليه بذلك أو يلحقه بعض الغضاضة،
ولذلك يختلف باختلاف أحوال المتفضل من جلاله وعظم قدره، وكل ذلك
مفقود مع الله تعالى، فلا مزية للاستحقاق على التفضل من جهته.
فأما من قال الألم لا يحسن إلا للاستحقاق من البكرية والتناسخية، حتى
قالت البكرية أن الأطفال والبهائم لا تألم أصلا لما رأت أنها غير مكلفة، وقالت
التناسخية أنه قد كان لهم فيما مضى زمان تكليف، فما ينالهم من الآلام في هذا الوقت
فباستحقاقهم لما عصوا في ذلك الوقت. والذي يدل على فساد قول الفريقين ما
قدمناه من أنه يحسن الآلام للمنافع الموفية عليها ولدفع ضرر أعظم منها،

1) الزيادة من ر.
87

وذلك يبطل قول الفريقين على كل حال.
ويبطل قول البكرية أيضا ما نعلمه ضرورة أنا كنا نتألم في حال الطفولة
بالأمراض والجراحات والدماميل التي لا يقدر عليها غير الله تعالى، فمن دفع
ذلك كان مكابرا.
وأيضا فإنا نعلم أن البهيمة تجوع وتعطش فتتألم بذلك، وذلك من فعل
الله تعالى. على أن ما نعلمه ضرورة من هرب البهيمة من الآلام والضرب،
يبطل قول من قال إنهم لا يألمون. ومما يبطل مذهب التناسخية أن من شرط ما
نفعل من الآلام المستحقة أن يقارنها استخفاف وإهانة، ومعلوم قبح ذلك بالبهائم
والأطفال، ومن استحسن ذلك كان جاهلا مكابرا للعقول.
وأيضا فالأنبياء تألم بالآلام، ولا يجوز أن يكونوا مستحقين للعقاب لا قبل
النبوة ولا بعدها، لقيام الدليل على عصمتهم.
وأيضا فلو كان ذلك مستحقا لوجب أن يذكر تلك الأحوال مع التذكر الشديد
وإنهم عصوا فيها، لأن العاقل لا يجوز أن ينسى مثل ذلك مع قوة التذكر، وإن نسي
بعضه فلا يجوز أن ينسى جميعه، ولو جاز أن ينسى بعض العقلاء ذلك لم يجز
أن ينساه جميعهم، ولو جاز أن ينسى كذلك لجاز أن ينسى أحدنا أنه ولي ولاية في
بلد بعينه سنين كثيرة وكثر فيه أعوانه وأتباعه ورزق فيه أولادا لكنه نسي، وذلك
تجاهل وطول المدة كقصرها، ولهذا نقول: إن أهل الجنة لا بد أن يذكروا
أحوال الدنيا أو أكثرها، وما يتخلل بين ذلك من زوال العقل ليس بأكثر مما
يتخلل بين ذلك بالنوم المزيل للعقل وأنواع الأمراض المزيلة للعقل، والزمان
الطويل في هذا الباب كالزمان القصير.
وليس لهم أن يقولوا كان زمان التكليف يسيرا. ألا ترى أن من دخل ساعة
88

من النهار بلدا لا فيلة ورأى أفيلة 1) وخرج منها وطالت مدته لا يجوز أن ينسى
ذلك ولا يذكره مع شدة تذكره. على أن هذا المذهب يؤدي إلى قبح التكليف
الذي لم يتقدمه تكليف آخر لا بد أن يكون فيه مشقة وإلا لم يصح التكليف،
فبأي شئ استحقت تلك المشقة فلا بد من المناقضة أو القول بتكليفات لا نهاية
لها، وكل ذلك باطل.
فأما الكلام في العوض
فأول ما نقول: إن العوض هو النفع [المستحق] 2) الخالي من تعظيم
وتبجيل. فبكونه نفعا يتميز مما ليس بنفع، وبكونه مستحقا يتميز من التفضل
وبخلوه من تعظيم وتبجيل يتميز من الثواب.
فإذا ثبت ذلك فكل ألم يفعله الله تعالى أو يفعل بأمره كالهدايا والأضاحي
وغير ذلك أو فعل بإباحة كإباحة ذبح البهائم فإن عوض ذلك أجمع على الله
تعالى، لأنه لو لم يكن فيه عوض لكان ظلما وذلك لا يجوز عليه تعالى، ولو كان على
المؤلم منا لما حسن الألم، لأن ما في مقابلته من الانتصاف لا يحسن الألم وإنما
تحسنه المنافع العظيمة الموفية عليه، وفي علمنا بحسن ذلك أجمع دليل على
أن عوضه عليه، وما يفعله الله تعالى من الآلام ويأمر به وجوبا أو ندبا فلا بد
فيه من العوض، والاعتبار على ما بيناه.
فأما ما يبيحه فوجه حسنه أنه لطف لغير الذابح، لأن الواحد منا لا يجب
عليه لطف الغير على ما بيناه، فإذا كان في ذلك لطف لغير الذابح فإن علم الله

1) كذا في ج وفي ر " بلدا لا قبله ورأى البلد وخرج منها ".
2) الزيادة ليست في ر.
89

تعالى أنه يفعل حصل الغرض وإن علم أنه لا يفعل فعل ما يقوم مقامه في باب
اللطف.
وقيل وجه الحسن في ذلك ما فيه من العوض والانتفاع به بالأكل، لأن
الغرض الديني والدنياوي يخرج ذلك من كونه عبثا، ومتى ألجأ الله تعالى غيره،
إلى الاضرار بحي فعوضه عليه تعالى، لأن الالجاء آكد من الأمر والإباحة.
فعلى هذا متى ألجأ بالبرد الشديد إلى العدو على الشوك طلبا للخلاص كان
العوض عليه تعالى فيما يناله من الألم بالشوك، وأما إذا ألجأه إلى الهرب من السبع
أو اللص أو العدو على الشوك فالعوض على الملجئ دون الله تعالى،
لأنه فعل السبب الموجب للهرب دون علمه بوجوب الهرب، لأن علمه بوجوب
ذلك كان حاصلا ولما ألجأه، فعلم أن السبب الملجئ هو وقوف السبع أو اللص
أو العدو دون الله تعالى الخالق للعلم بوجوب التحرز.
فركوب البهائم والحمل عليها طريق حسنه السمع والعوض عليه تعالى،
لأنه المبيح لذلك، وفي الناس من قال طريق حسن ذلك العقل، لما في مقابلة
ذلك من التكفل بمؤنتها من العلف وغيره. ولا يلزم القديم تعالى العوض من
حيث مكن من الألم، لأنه لو لزمه للزمنا إذا دفعنا سيفا إلى غيرنا ليجاهد به
العدو متى قتل مؤمنا، لأنه لولا دفع السيف لما تمكن منه وكان يلزم الحدادين
وصناع السيوف العوض، وكل ذلك باطل.
وكان يجب أن يقبح منا استرجاع ما غصبه الغاصب، لأنه بالتمكن قد ضمن
العوض وذلك باطل. والعوض على الواحد منا إذا فعله على وجه الظلم ويجب
أن يكون المعلوم من حاله أنه يستحق في الحال كمثل ما يستحق عليه لمكن
الانتصاف منه والانتصاف واجب.
وفي الناس من قال يجوز أن يتفضل الله عليه بذلك ويتقل عنه. وهذا غير
90

صحيح، لأن التفضل غير واجب والانتصاف واجب فكيف تعلق بما ليس
بواجب، وعلى هذا يجب أن يكون مستحقا في الحال لمثل ما يستحق عليه
دون أن يكون المعلوم من حاله أنه لا يخرج من دار الدنيا إلا وهو مستحق
له على ما ذهب إليه أبو هاشم، لمثل ما قلناه من أن الانتصاف واجب والتقية
ليست واجبة.
وأما ما يفعله الواحد منا بنفسه من الآلام فإنه لا يستحق عليها العوض، لأن
من شرط المستحق أن يكون غير المستحق عليه، وذلك لا يصح فيما بين
الإنسان ونفسه، غير أنه يستحق ذما إن كان قبيحا ومدحا إن كان حسنا له مدخل
في استحقاق المدح.
وليس من شرط من يستحق عليه العوض أن يكون عاقلا، لأن البهائم
تستحق عليها الأعواض، لأنا بينا أن العوض على المؤلم دون الممكن، ومن
ألجأ غيره إلى الاضرار استحق عليه العوض سواء أضر بنفسه أو بغيره، لأنه
في حكم ما فعله الملجئ بنفسه.
ومن وضع طفلا تحت البرد حتى هلك فالعوض على الواضع دونه تعالى
لأنه بتعريضه للهلاك كأنه فعل نفس الهلاك، ولذلك يذمه العقلاء على هلاك
الصبي وإن كان ذلك من فعل الله، لأنه بتعريضه للهلاك كأنه فعل نفس الهلاك
وقد ورد الخبر بأن الله تعالى ينتصف للشاة الجماء من الشاة القرناء 1)، فدل
ذلك على أن العوض على المؤلم وإن لم يكن عاقلا.
والعوض يستحق منقطعا، لأنه لو استحق دائما لما حسن تحمل ألم في
الشاهد لمنافع منقطعة كما لا يحسن منها تحمله من غير عوض وقد علمنا حسنه،

1) ورد في بحار الأنوار 7 / 245 حديث عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال
" ينتصف للجماء من القرناء ".
91

فدل على أن ما يستحق من العوض منقطع. ثم إنه ينظر فإن أمكن توفيته في دار
الدنيا توفت عليه كما توفت على الكفار، وإن تأخر إلى الآخرة فعل به مفرقا
على وجه إذا انقطع لا يحس بفقده فيغتم له.
وأيضا فلو كان المستحق دائما لما صح فعله بالكفار، والاحباط لا يدخل فيه
عندنا وعند أكثرهم في العوض، فدل على أنه منقطع.
ويجوز أن يوصل العوض إلى مستحقه وإن لم يعلم أنه مستحق لذلك،
[بخلاف الثواب الذي من شرطه أن يعلم المستحق أنه مستحق لذلك] 1).
وكل عوض يستحقه الواحد منا على غيره مما له المطالبة به في الدنيا
وله استيفاؤه، فإنه متى أسقطه بهبة أو إبراء فإنه يسقط كسائر حقوقه. فأما العوض
الذي يستحق على الله تعالى أو بعضنا على بعض على وجه يتأخر استيفاؤه
إلى الآخرة فليس يسقط بإسقاطه، لأن الله تعالى هو المستوفى له وهو كالمحجور
عليه، فالإسقاط تابع للمطالبة، فمن ليس له المطالبة ليس له الإسقاط. فعلى هذا
يؤثر التحليل والابراء في الحقوق التي لها المطالبة بها دون ما ليس لها المطالبة به.
ولما كان اللطف واجبا في التكليف على ما مضى القول فيه وكان من جملة
الألطاف معرفة الله على صفاته وجب أن نبين الكلام في المعارف على وجه
الاختصار، وأنا أذكر من ذلك جملة مقنعة في هذا الباب.
واعلم أن المعرفة هي العلم بعينه، والعلم هو ما اقتضى سكون النفس إلى
ما يتناوله، ولا يكون كذلك إلا وهو اعتقاد للشئ على ما هو به مع سكون
النفس، غير أنه لا يجب ذكره في الحد كما لا يجب ذكر كونه عرضا ومحدثا
وحالا في محل وغير ذلك، لأن الذي يتميز به سكون النفس فيجب أن يقتصر عليه.
والعلم على ضربين: ضروري، ومكتسب. فالضروري ما كان من فعل

1) الزيادة ليست في ر.
92

غيرنا فينا على وجه لا يمكننا دفعه عن نفوسنا.
والعلم الضروري على ضربين: أحدهما يحصل في العاقل ابتداء، والثاني
يحصل عند سبب. فالأول كالعلم بأن الموجود لا يخلو من أن يكون له أول أو لا
أول له، والمعلوم لا يخلو من أن يكون ثابتا أو منتفيا، وما شاكل ذلك مما هو
مذكور في أول العقل وقد بيناه.
وما يحصل عند السبب على ضربين: أحدهما يحصل وجوبا كالعلم بالمشاهدات
مع ارتفاع اللبس، والثاني يحصل عند سببه بالعادة.
وهو على ضربين: أحدهما العادة فيه مستمرة غير مختلفة كالعلم بالبلدان
والوقائع عند من قال هو ضروري، والثاني العادة فيه مختلفة كالعلم بالصنائع
عند الممارسة والعلم بالحفظ عند تكرار الدرس.
والمكتسب هو كل ما كان من فعلنا من العلوم، وهو على ضربين: أحدهما
يحصل متولدا عن نظر، والآخر يحصل من غير نظر. فما يحصل عن نظر
فسنذكر أوصافه، والثاني فنحو ما يفعله المنتبه من نومه وقد كان عالما بالله
وصفاته، فإذا انتبه وتذكر نظره فعل اعتقادا لما كان له معتقدا فيكون ذلك الاعتقاد
علما. ولا بد أن يفعل هذا الاعتقاد عند التذكر لأنه ملجأ إلى فعله، ولا يمكن أن
يكون واقعا عن نظر، لأنه لو كان كذلك لترتبت فحسن ترتب النظر في زمان
متراخ، والمعلوم خلافه.
والعلوم الكسبية من فعلنا، لوجوب وقوعها بحسب دواعينا وأحوالنا،
ففارقت بذلك العلوم الضرورية التي تحصل من فعل الله تعالى.
وسكون النفس الذي اعتبرناه هو ما يجده الإنسان من نفسه عند العلم
بالمشاهدات وأنه لا يضطرب عليه ولا يشك فيه، وإن كان طريقة الاستدلال أمكنه
حل كل شبهة تدخل عليه. فأما ما يحكى عن السوفسطائية من الخلاف فيه فلا اعتبار
93

به، لأن المعلوم ضرورة خلاف قولهم. على أن القوم إنما خالفوا في صفة العلم
وظنوا أن ذلك ظن وحسبان دون أن يكون ذلك علما يقينا.
والعلم بالفرق بين العلم والظن طريقه الدليل وإن كان في العلوم ما يقع
عن نظر فيحتاج أن نبين حقيقة النظر.
والنظر هو الفكر، ويجد الواحد منا نفسه كذلك ضرورة، ويفصل بين كونه
مفكرا وبين كونه مريدا أو كارها. والفكر هو التأمل في الشئ المفكر فيه والتمثيل
بينه وبين غيره، وبهذا يتميز من سائر الأعراض من الإرادة والاعتقاد.
وليس في المتعلقات بأغيارها شئ يتعلق بكون الشئ على صفة أو ليس
عليها غير النظر.
والناظر من كان على صفة مثل ما قلناه في كونه عالما ومريدا، وليس الناظر
من فعل النظر، بدلالة أنه يجد نفسه ناظرة ولا يجد نفسه فاعلة. ومن شأن الناظر
أن لا يكون ساهيا ويكون إما عالما أو ظانا أو معتقدا. ومن شرط الناظر أن يجوز
كون المنظور فيه على ما ظنه وأنه ليس عليه.
وهذا التحرير يحصل مع الشك والظن واعتقاد ليس بعلم، وإنما يرتفع
مع العلم أو الجهل الواقع عن شبهة، لأن الجاهل يتصور نفسه تصور العالم،
فلا يجوز كون ما اعتقده على خلاف ما اعتقده، وإن كان السكون لا يكون معه وإنما
يكون مع العلم.
ومن شأن النظر إذا كان مولدا للعلم أن يكون واقعا في دليل، وإذا كان
مقتضيا للظن أن يكون واقعا في أمارة ومتعلقا بها. ومن حق النظر المولد للعلم
أن يكون الناظر عالما بالدليل على الوجه الذي يدل ليصح أن يولد نظره العلم.
ومتى كان معتقدا للدليل غير عالم به صح أن يقع منه النظر، غير أنه لا يولد
نظره العلم، لأنه لو لم يكن عالما بالدليل لم يمتنع أن يكون عالما بأن زيدا قادر
94

من حيث صح منه الفعل مع ظنه أن الفعل يصح منه وهو غير عالم ومع الظن
تجويز كونه على خلاف ما ظنه، فلا يصح أن يكون قاطعا على كونه قادرا مع
تجويز أن يتعذر منه الفعل.
ومتى ولد النظر العلم وإنما يولده في الثاني ولا يصح أن يولده في الحال،
لأنه لا يجوز أن يكون في حال كونه ناظرا عالما بالمدلول على ما بيناه، فجرى
مجرى الاعتماد سواء.
والذي يدل على أنه يولد العلم، ما علمناه من أنه متى نظر في الدليل
من الوجه الذي يدل وتكاملت شروطه وجب حصول العلم، فلو لم يكن مولدا
له لما وجب ذلك.
وإنما قلنا أن ذلك واجب، لأنه محال أن ينظر في صحة الفعل من زيد
وتعذره على عمرو ولا يعلم أنه مفارق له، وفي وجوب حصول ذلك دليل على
أنه متولد.
ويدل أيضا على أنه مولد للعلم أنه يقع العلم بحسنه، لأن من نظر في
حدوث الأجسام علم حدوثها دون الطب والهندسة، وكذلك إذا نظر في صحة
الفعل من زيد علمه قادرا دون أن يعلم أن عمرا بتلك الصفة.
ولا يلزم على ذلك الادراك وأنه يحصل العلم بحسنه، لأن الادراك ليس
معنى. وأيضا فلو كان معنى فإنه يحصل في البهيمة والعلم مرتفع، فلو كان مولدا
لحصل على كل حال.
وأيضا فإنا نعلم أن العلم يكثر بكثرة النظر ويقل بقلته، فجرى مجرى الصوت
والألم، فكلما أن الضرب مولد للألم فكذلك النظر.
فإن قيل: لو ولد النظر العلم لولده لمخالفيكم مع أنهم ينظرون كنظركم.
قلنا: لو نظروا كنظرنا لولد لهم العلم كما ولدنا، فإذا لم يحصل لهم العلم
95

علمنا أنهم أخلو بشرط من شرائطه، ومتى فرضنا أنهم لم يخلوا بشئ من ذلك
فهم عالمون إلا أنهم مكابرون.
والنظر لا يولد الجهل، لأنه لو ولده لقبح النظر كله، لأن ما يؤدي إلى
القبيح قبيح، وقد علمنا حسن كثير من الأنظار. وإنما قلنا يؤدي إلى ذلك لأن
الناظر لا يفصل بين النظر المؤدي إلى العلم وبين النظر المؤدي إلى الجهل،
وكان ينبغي أن يقبح كله.
والتقليد قبيح في العقل، لأنه لو كان صحيحا لم يكن تقليد الموحد أولى
من تقليد الملحد مع ارتفاع النظر.
ولا يمكن أن يرجح قول الأكثر أو قول من يظهر الورع والزهد، لأن
جميع ذلك يتفق في المحق والمبطل، وقد استوفينا ذلك في أول الكتاب.
وأيضا فلو حسن التقليد لقبح إظهار المعجزات على أيدي الأنبياء، لأنها
كانت تكون عبثا، لأن التقليد على هذا المذهب جائز من دونها.
فإن قيل: كيف يكلف الله المعرفة وهي تجري مجرى الحدس والتخمين
لأن الناظر لا يدري أن نظره يولد علما أو غيره وإنما يعلم ذلك بعد حصول
العلم.
قيل له: إذا علمنا حسن النظر بل وجوبه علمنا أنه لا يثمر جهلا ولا قبيحا
فيأمن من عاقبته أن تكون غير محمودة، ولو قدح ذلك في وجوب المعرفة لقدح
في كل نظر، والمعلوم خلافه.
وبمثله نجيب من قال: كيف يجب علينا ما لا نعرفه ولا نميزه. بأن نقول:
تميز السبب ومعرفته تغني عن تميز المسبب على التفصيل، والعاقل يميز النظر
فكأنه ميز المعرفة.
ووجه وجوب النظر خوف المضرة من تركه وتأميل زوالها بفعله، فيجب
96

النظر تحرزا من الضرر كسائر الأفعال التي تجري هذا المجرى. ولا فرق
بين أن تكون المضرة معلومة أو مظنونة في وجوب التحرز منها، لأن جميع
المضار في الشاهد مظنونة ومع هذا يجب التحرز منها.
ولا يبلغ الخوف من ترك النظر إلى حد الالجاء المسقط للوجوب، لأن
المضرة إنما تلجئ إذا كانت عاجلة كبيرة والمضرة المخوفة بترك النظر دينية
آجلة فلا تكون ملجئة، فعلى هذا المحرك على النظر والمخوف من تركه بينه
على جهة الخوف وأمارته على ما سنذكره، فإذا خاف العقاب بتركه وأمل
زواله بالنظر وجب النظر وإن كثر وشق، لأن الذي يأمل زواله بالنظر أعظم
وأغلظ.
والعلم بوجوب النظر عند الخوف بالخاطر وغيره ضروري عام للعقلا،
وكل عاقل يعلم ذلك من نفسه. ولا يلزم على ذلك ما تقوله المقلدة وأصحاب
المعارف من أنا لا نخاف من ترك النظر على ما يدعونه، وذلك أن أول ما فيه
إنا لا نعرف من أصحاب المعارف من لا يجوز على مثل ادعاء ما يعلم من نفسه
خلافه.
فأما من ذهب إلى التقليد فإنما ينكر المناظرة دون النظر، والمناظرة غير
النظر، ومع هذا ربما التجؤا إلى المناظرة في كثير من الأحوال. على أنا نقول
العلم بوجوب النظر للفصل في طريق المعرفة إنما يحصل عند الخوف في ابتداء
التكليف ويحصل لبعض العقلاء في حال لا يحصل فيها لجميعهم لاختلاف أحوالهم
فلا يمتنع أن يدخل بعضهم على نفسه شبهة فيزول هذا الخوف. فلا يعلم وجوب
النظر عليه، لأن العلم بوجوب هذا النظر إنما هو علم بوجوب ما له صفة مخصوصة
يجوز أن يعترض شبهة فيها. وجرى ذلك مجرى إدخال الخوارج شبهة على
نفوسهم في قتل مخالفهم الذي هو ظلم على الحقيقة حتى اعتقدوا حسنه لما
جهلوا صفته المخصوصة.
97

وقيل أيضا: إن الخوف إذا كان مغمورا ببعض الأمور فلا يجده الإنسان
من نفسه، كما إن من أشرف على الموت وعليه حقوق ومظالم لا بد أن يخاف من
ترك الوصية وإهمالها، ومع هذا ربما ذهب عنها لبعض ما يغمره من الأمراض.
فإذا ثبت ذلك فأول فعل يجب على المكلف مما لا يخلو مع كمال عقله منه النظر
في طريق معرفة الله، فقلنا " أول " لئلا يلزم ما يتقدمه أو يقارنه: وقلنا " فعل " تحرزا من
الامتناع من القبائح، لأن ذلك ليس بفعل. ولا يحتاج أن يقال " مقصودا " تحرزا من
إرادة النظر، لأن العاقل عند الخوف ملجأ إلى فعل الإرادة كما هو ملجأ إلى
الخوف عند التنبيه على الإمارة وذلك خارج عن التكليف. وقلنا " مما لا يخلو مع
كمال عقله " لأن جميع الواجبات العقلية التي هي وجوب رد الوديعة والانصاف
وقضاء الدين وشكر النعمة قد يخلو العاقل من جميع ذلك وإن لم يخل من
وجوب النظر.
وأما الواجبات الشرعية
فإنها فرع على معرفة الله تعالى ومعرفة رسوله، فهي متأخرة لا محالة.
والخوف الذي يقف وجوب النظر عليه يحصل بأشياء:
(أحدها) أن ينشأ بين العقلاء ويسمع اختلافهم وتخويف بعضهم لبعض
فلا بد أن يخاف من ترك النظر في أقوالهم إذا ترك حب الشوق التقليد وأنصف
من نفسه وعمل بموجب عقله، أو يتنبه على ذلك من قبل نفسه إذا رأى إمارات
لائحة وجهات الخوف معترضة فلا بد أن يخاف. وهذا يجوز أن يكون حكم
الذي خلقه الله وحده، فإن لم يتفق ذلك أخطر الله تعالى ما يتضمن جهة الخوف
وإمارته والتنبيه عليها إما بكلام يسمعه داخل أذنه أو يفعله في الهواء أو يبعث
إليه من يخوفه، وكل ذلك جائز. فإذا حصل الخوف وجب النظر.
98

والذي يتضمن الخاطر هو التخويف من إهمال النظر، ولا بد أن يتنبه على
أمارة الخوف، لأن الخوف الذي لا أمارة له لا حكم له، غير أنه يجب تنبيهه
على جهة وجوب المعرفة ليعلم الحسن بهذا التخويف، لأن من هدد غيره على
أكل طعام بعينه بالقتل يجب عليه الامتناع من أكله ولا يعلم قبح الامتناع ولا حسنه
فإذا قال لا تأكله فإن فيه سما وينبهه على جهة أمارة كون السم فيه علم حسن إيجاب
الامتناع من الأكل.
فعلى هذا يجب أن يتضمن الخاطر أنك تجد في نفسك آثار الصنعة، فلا
تأمن أن يكون لك صانع صنعك ودبرك أراد منك معرفته لتفعل الواجب عليك
في عقلك وتنهى عن القبيح وأنت تجد في عقلك قبح أفعال فيها لك نفع عاجل
ووجوب أفعال عليك فيها مشقة عاجلة، وتعلم استحقاق الذم على القبيح فإن
الذم مما يضرك ويغمك فلا تأمن من أن تستحق مع الذم زائدا على العقاب والألم،
ومعلوم أن استحقاق أحدهما أمارة لاستحقاق الآخر.
ثم نقول: متى لم تعرف الله بصفاته وأنه قادر على مجازاتك على القبيح
بالعقاب كنت إلى فعل القبيح أقرب ومن تركه أبعد، وإذا عرفته تكون من فعل
القبيح أبعد وإلى فعل الواجب أقرب، فيجب عليك حينئذ النظر مع هذا
التنبيه على ما ذكرناه. وكل خاطر يعارض هذا الخاطر ويؤثر فلا بد أن يمنع
الله منه وما لا يعارضه ولا يؤثر فيه لا يجب المنع منه، لأن للعاقل طريقا إلى
دفعه بعقله.
ومعرفة الله تعالى واجبة على كل مكلف، لأن ما هو لطف للمكلف من
العلم باستحقاق الثواب والعقاب لا يتم إلا بها، وذلك عام في جميع المكلفين،
فيجب أن يكون معرفته واجبة على كل مكلف.
وإنما قلنا أن اللطف في التكلف لا يتم إلا معها لأن من المعلوم ضرورة أن من
99

علم استحقاق العقاب على المعاصي زائدا على استحقاق الذم كان ذلك صارفا له عن فعل
القبيح، وكذلك من علم استحقاق الثواب على الطاعة زائدا على المدح كان
ذلك داعيا إلى فعله، وإذا كان العلم باستحقاق الثواب والعقاب لا يتم إلا بعد
العلم بالله تعالى على صفاته من كونه قادرا عالما وجبت معرفته بهذه الصفة.
فيعلم كونه قادرا ليعلم أنه قادر على عقابه وثوابه، ويعلم أنه عالم ليعلم بمبلغ
المستحق، ويعلمه حكيما ليعلم أنه لا يخل بواجب من الثواب ولا يفعل القبيح
من عقاب غير مستحق.
فاللطف في الحقيقة هو العلم باستحقاق الثواب والعقاب. إلا أنه لا يتم
ذلك إلا بعد معرفته تعالى على صفاته وجبت معرفته على صفاته، ولما كانت معرفته
لا يوصل إليها إلا بالنظر وجب النظر.
والمعرفة الضرورية لا تقوم في ذلك مقام الكسيبة، لأنها لو قامت مقامها
لفعلها في الكافر، ونحن نعلم أن كثيرا من الكفار يموت على كفره، فعلم أن الضرورية
ليست لطفا.
ومن ادعى أن الكفار عارفون كابر، لأن المعلوم ضرورة موت كثير من
الخلق كأبي جهل وأبي لهب على كفرهم. وأيضا كان يجب أن يفعل فينا ونحن
نعلم من أنفسنا أنا لسنا مضطرين إلى معرفة الله، فبطل أن تكون الضرورية لطفا.
وقيل إنها لو كانت لطفا لكانت الكسبية آكد، لأن من تكلف مشقة ليبلغ
بها غرضا لا يكون تمسكه بذلك الشئ إذا وصل إليه كتمسكه إذا حصل له الشئ
من غير مشقة، وشبه ذلك بمن تكلف بناء دار وأنفق عليها ماله وأفنى زمانه لا
يكون في تمسكه بها كمن وهبت له تلك الدار، وكذلك من سافر في طلب العلم
وتحمل المشاق لا يكون حكمه في التعليم حكم من يقصده العلماء ويقعدون
قدامه، والعلم بذلك ضروري. وإذا كانت المكتسبة آكد وجبت دون الضرورية.
100

فإن قيل: لو كانت المعرفة لطفا لما عصى أحد.
قلنا: اللطف لا يوجب الفعل وإنما يدعو إليه ويقوى الداعي إليه ويسهله
فربما وقع عنده الفعل وربما يكون معه أقرب وإن لم يقع، والنوافل إنما لم تكن
واجبة لأنها مسهلة للواجبات مؤكدة للداعي. وعندي أنها إنما لم تجب لأنها
لطف في المندوبات العقلية، فهي تابعة لما هي لطف فيه.
ويجب أن يبقي الله تعالى المكلف قدرا من الزمان يتمكن فيه من تحصيل
كمال المعارف به وصفاته وتوحيده وعدله وبعده زمانا يمكنه فعل واجب أو
ترك قبيح، لأن الغرض بإيجاب المعرفة كونها لطفا في الواجبات العقلية فلا بد
من ذلك.
فصل
(في الكلام في الآجال والأرزاق والأسعار)
الأجل والوقت عبارتان عن معنى واحد، والوقت هو الحادث أو ما تقديره
تقدير الحادث الذي تعلق حدوث غيره به. لأنا نجعل طلوع الهلال وقتا لقدوم زيد
فإن كان عالما بطلوع الهلال وغير عالم بقدوم زيد فإن كان عالما بقدوم زيد وغير
عالم بطلوع الهلال جاز أن يوقت طلوع الهلال بقدوم زيد.
وما تقديره تقدير الحادث هو أن يقال قدم زيد حين قضى عمرو نحبه، لأن
" قضى نحبه " أمر متجدد فجرى مجرى حادث. وعلى هذا لا يجوز التوقيت
بالقديم والباقيات، لأنها لا حادثة ولا جارية مجرى الحادث.
فإذا ثبت ذلك فأجل الدين هو وقت حلوله واستحقاقه وأجل الإجارة عند
انقضاء المدة المعقود عليها، وأجل الموت هو وقت حصول الموت فيه، وأجل
القتل هو وقت حصول القتل، فإذا كان لا وقت لموته وقتله إلا واحدا وهو الذي
101

حدث فيه موته أو قتله وكذلك الأجل. فعلى هذا إذا علم الله تعالى أنه لو لم
يقتل فيه لعاش إليه لا يسمى أجلا، لأن الموت أو القتل لم يقع فيه وبالتقدير لا
يسمى أجلا كما لا يسمى بالتقدير وقتا إذا لم يقع فيه الموت أو القتل.
فعلى هذا لا يكون للانسان أجلان وأكثر، ولا يسمى بذلك إلا مجازا كما
لا يسمى بالتقدير شئ رزقا ولا ملكا إذا لم يرزق ولم يملك. ألا ترى أنه إذا
علم الله من حال زيد أنه لو بقاه لرزقه أولادا وأموالا وولي ولايات لا يقال إن له
أولادا وأموالا وولايات وإن كان لو وصل إليها لوصف بذلك.
وقوله " وهو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده " 1).
لا يدل على إثبات أجلين، لأنه تعالى لم يصرح بأنهما أجلان لأمر واحد.
ويحتمل أن يكون أراد بالأجل الأول أجل الموت في الدنيا والأجل الآخر
حياتهم في الآخرة، والحياة لها أجل كأجل الموت. وهذا يكون عاما في جميع
الخلق وما قالوه لا يكون إلا خاصا لأنه ليس لكل أحد أجلان عند المخالف بل ذلك
لبعضهم دون بعض.
وقوله تعالى " لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين " 2)
وقوله " يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى " 3) لا حجة فيه لأنه لا
يمتنع أن يسمى المقدور بأنه أجل مجازا، وإنما منعنا منه حقيقة بدلالة ما قدمناه.
فأما من قتل فالصحيح أنه لو لم يقتل لكان يجوز أن يعيش ولا يقطع على
بقائه ولا على موته على ما يذهب إليه طائفتان مختلفتان. وإنما قلنا ذلك لأن
الله تعالى قادر على إحيائه وإماتته، ولا دليل على القطع على أحدهما، فيجب

1) سورة الأنعام: 2.
2) سورة النساء: 77.
3) سورة نوح: 4.
102

أن يجوز كلا الأمرين ويشك فيه، لأنه لا يمتنع أن تتعلق المصلحة بكل واحد
من الأمرين.
ويلزم من قال بوجوب الموت لو لم يقتل أن كل من مات بسبب من جهة
الله من غرق أو هدم وما أشبههما، إنه لو لم يكن ذلك لمات لا محالة. ويلزم
أن يكون من ذبح غنم غيره بغير إذنه محسنا إليه ولا يكون مسيئا لأنه بالذبح
قد جعله بحيث ينتفع بها ولو لم يذبحها لماتت ولم ينتفع بها فكان ينبغي أن
يمدحه ولا يذمه، ولا يقبل العقلاء عذره إذا قال لو لم أذبحها لماتت فما أسأت
إليه، بل كلهم يذمونه ويقولون أسأت إليه.
ولا يلزمنا إذا جوزنا موتها مثل ذلك، لأن بالتجويز لا يخرج عن كونه مسيئا
وإنما بالقطع يخرج. ويجري ذلك مجرى تجويزنا فيمن سلب مال غيره وغصبه
إياه أن يكون الفقر أصلح له في دينه من الغنى، ولا يقتضي تجويزنا ذلك حين
سلب المال لأجل التجويز، وكذلك لا ينبغي أن يقطع على أنه لو لم يقتل لعاش
لا محالة، لأنه لولا يمتنع أنه لو لم يقتل لاقتضت المصلحة إماتته، فالشك هو
العرض. ولا يخرج هذا التجويز القاتل من كونه ظالما، لأنه أدخل ضررا
غير مستحق على غيره لا لدفع ضرر ولا اجتلاب نفع، وهذا حقيقة الظلم.
والقديم تعالى إذا أماته لا يقطع على أنه أدخل عليه ألما، ومتى أدخله
عوضه عوضا يخرجه من كونه ظلما. وليس كذلك إذا قلناه، لأن ذلك الألم
قبيح لا محالة. والعوض الذي ينتصف الله منه في مقابلته يعذر ولا يخرجه من
كونه ظلما.
فإن قيل: فيمن قتل خلقا عظيما أو ذبح غنما كثيرة في حالة واحدة فهل
تجوزون موتهم في حالة واحدة أو بقاءهم، فإن أجزتم موتهم في حالة واحدة
فالعادة بخلاف ذلك وإن لم تجيزوه بطل قولكم في التجويز.
103

قلنا: لا يجوز أن يتفق قتل الخلق العظيم في وقت يعلم الله تعالى أن الصلاح
احترام جميعهم لولا القتل، وليس ذلك بمبطل لما قلناه، لأن الكلام في كل
مقتول معين أن يجوز بقاؤه وموته على حد واحد، لأن الواحد ومن يجري
مجراه يجوز أن يتفق مثله في وقت كان يجوز أن تقتضي المصلحة إماتته لولا
القتل كما يجوز اتفاق الصدق من الواحد والاثنين في خبر بعينه وإن لم يكن
ذلك في الجماعة جائزا.
وأما الرزق
فهو ما صح الانتفاع به للمرزوق على وجه ليس لأحد منعه أو ما هو بالانتفاع
به أولى. والدليل على ذلك: أن ما اختص بهذه الصفة سمي رزقا وما لا يكن
كذلك لا يسمى رزقا.
ولا يصح الرزق عليه تعالى، لاستحالة المنافع عليه.
والبهائم مرزوقة لجواز الانتفاع عليها، وكل شئ ليس لنا منعها منه فهو
رزقها نحو شرب الماء من النهر الكبير أو ما تأخذ بفيها من الكلأ المباح. وقيل
ذلك لا يسمى زرقا لها، لأن لنا منعها منه بالسبق لها إليه، ومتى سمي الكلأ والماء
قبل التناول بأنه رزق لانسان أو بهيمة كان مجازا، ومعناه أنه يصير رزقا له إذا
تناوله.
والملك والرزق يتداخلان في الشاهد ولا ينفصلان، والقديم يوصف بأنه
مالك ولا يوصف بأنه مرزوق، لما قلناه من استحالة المنافع عليه، فصار من شرط
تسميته رزقا صحة الانتفاع به، وليس ذلك من شرط تسميته بالملك.
وفي الناس من قال الملك منفصل من الرزق لأنهم يقولون في الكلأ والماء
أنه رزق للبهائم ولا يسمونه بأنه ملك لها.
104

والصحيح الأول، وإنما لا يسمى رزق البهيمة ملكا لأن من شرط تسميته
بالملك أن يكون عاقلا أو في حكم العاقل من الأطفال والمجانين.
وقالوا أيضا: من أباح طعامه لغيره يوصف بأنه رزق له ولا يقال أنه ملكه
قبل تناوله.
قلنا: لا فرق بينهما، لأن قبل تناوله فهو رزقه وملكه وليس له منعه منه كالكلأ
والماء، ويجوز تسمية الولد بأنه رزق، وكذلك العقل لا يمتنع أيضا تسميته
بأنه ملك والمعنى أن له الانتفاع بولده وبعقله، فلا فرق بينهما.
وحقيقة الملك أن من يقدر على التصرف في شئ ليس للآخر منعه منه
فهو مالك له، ويسمى الله تعالى بأنه مالك يوم الدين لهذا المعنى، ولذلك
يوصف الإنسان بأنه يملك داره وعبده لأنه يقدر على التصرف فيهما وليس لأحد
منعه فيه، ولذلك لا تسمى دار غيره بأنها ملكه وإن كان قادرا على التصرف فيها
لأن للغير منعه منها.
فإذا ثبت ذلك فالحرام ليس برزق لنا، لأن الله تعالى منع عنه بالحظر
ويجب علينا المنع منه مع الامكان، ولو كان الحرام رزقا للزم أن يكون أموال
الناس رزقا للغاصبين والظالمين ويلزم فيمن وطئ زوجة غيره أن يكون ذلك
رزقا له كما أنه إذا وطئ زوجة نفسه يكون كذلك.
وقد أمر الله تعالى بالاتفاق من الرزق في قوله " وأنفقوا مما رزقناكم " 1)
ومدح عليه بقوله " ومما رزقناهم ينفقون " 2) ولا خلاف في أنه ليس له أن ينفق
من الحرام، وإذا أنفق لا يستحق المدح بل يستحق الذم. ويصح أن يأكل
الإنسان رزق غيره كما يصح أن يأكل مال غيره.

1) سورة المنافقون: 10.
2) سورة البقرة: 3.
105

والرزق يضاف إلى الله تعالى تارة وأخرى إلى العباد، فإذا أريد بالرزق
الجسم الذي يصح الانتفاع به أو بطعمه أو رائحته فمعلوم أن ذلك من خلق
الله تعالى فيضاف إليه لا محالة، ومتى عبر به عن تصرفنا فيه على الوجه الذي
ينتفع به فإنه أيضا يضاف إليه تعالى، لأنه لولاه لما صح منا التصرف والانتفاع
به، لأنه مكن منه بالقدرة والآلات، ولو لم يكن إلا خلق الحياة والشهوة لكفى
لأنهما الأصل في المنافع، فإضافته إليه تعالى من هذا الوجه واجبة.
وأما ما يضاف إلى الواحد منا فيجوز أن يهبه له أو يوصى له وما يجري
مجراه، فإنه يقال رزقه. ومن ذلك قولهم إن رزق السلطان جنده ولا يقال فيما
يملك بالمعاوضة بالبيع أنه رزق من البائع، لأنه قد أخذ عوضه، ولا يقال
في الميراث أنه رزق من الميت لأن سبب ذلك من غير جهته وبغير اختياره،
وكذلك لا يقال أن الغنائم رزق من الكفار لأنها بغير اختيارهم، بل كل ذلك
رزق من الله تعالى الذي حكم به.
وأما السعر
فإنه عبارة عن تقدير البدل فيما يباع به الأشياء، ولا يسمى نفس البدل بأنه
سعر، فلا يقولون فيمن معه دراهم ودنانير أن معه أسعارا وإن كانت أثمانا للمبيعات
وبوصف تقديرها بذلك فيقال هذا المتاع بكذا وكذا درهما.
ولا يلزم على ذلك قيم المتلفات أن يسمى سعرا، لأنا تحرزنا منه بقولنا
" فيما يباع به الأشياء ".
وفي الناس من شرط في حد السعر أن يكون ذلك على جهة التراضي، احترازا
من قيم المتلفات. وذكر البيع على ما قلناه يغني عن ذلك.
والسعر يكون غالبا ويكون رخيصا، فالرخص هو انحطاط السعر عما جرت
106

به العادة في وقت ومكان مخصوص، لأن انحطاط سعر الثلج في الجبال الباردة
لا يسمى رخيصا وكذلك في زمان الشتاء، فلذلك اعتبرنا الوقت والمكان.
والغلاء هو زيادة السعر على ما جرت به العادة والوقت والمكان واحد لمثل ما
قلناه في الرخص.
ويضاف الرخص والغلاء إلى من فعل سببهما، فإن كان سببهما من جهة الله
أضفنا إليه، وإن كان سببهما من جهة العباد أضيفا إليهم، فما يكون سببه من الله
تعالى في الرخص فهو تكثير الحبوب وتقليل الناس وتنقيص شهواتهم للأقوات
فيرخص عند ذلك فيضاف إلى الله تعالى، وسبب الغلاء عكس ذلك من تقليل
الحبوب وتكثير الناس وتقوية شهواتهم للأقوات، فيغلو فيضاف عند ذلك إلى
الله. وما يكون سببه من العباد في الرخص فنحو جلب الغلات وبيعها أو حمل
الناس على ذلك والزامهم إياهم بنقصان من السعر، وعكس ذلك الغلاء بأن يحتكروا
الغلات ويمنعوا من جلبها ويسعروها بأثمان غالية على العباد، فتنسب عند ذلك
الغلاء والرخص إلى العباد الذين سببوا ذلك.
فصل
(في الكلام في الوعد والوعيد وما يتصل بهما)
الوعد عبارة عن الإخبار بوصول نفع إلى الموعود له، والوعيد عبارة عن
الإخبار بوصول ضرر إليه. والمستحق بالافعال ستة أشياء مدح وذم وثواب
وعقاب وشكر وعوض:
فالمدح عبارة عن القول المتضمن لعظم حال الممدوح، ولا يصير مدحا
إلا بثلاثة شروط: أحدها أن يقصد به التعظيم، وثانيها أن يكون اللفظ موضوعا
للتعظيم في تلك اللغة، وثالثها أن يكون عالما بعظم حال الممدوح.
107

والظن والاعتقاد لا يقوم [مقام العلم في ذلك، لأن المدح لا يكون إلا مستحقا
ولا يصح] 1) ذلك إلا مع العلم بالإعظام، إما بأن يكون ثابتا نحو من يمدحه ويعلم
من حاله ما يقتضي تعظيمه نحو الأنبياء والمعصومين، أو يكون مشروطا كمدح
من غاب عنا بشرط بقائه على الحال الموجبة لتعظيمه.
والفعل لا يسمى مدحا حقيقة ويجوز أن يسمى بذلك مجازا.
والتعظيم يدخل في القول والفعل حقيقة كقيام الإنسان لغيره مع القصد إلى
تعظيمه أو تقبيل رأسه.
والمدح لا يكون إلا خبرا يحتمل الصدق أو الكذب: كقولك فلان عالم
فاضل مع القصد إلى تعظيمه. والذم هو القول المنبي عن اتضاع حال المذموم
وشروط كونه ذما مثل شروط المدح سواء من القصد إلى ذلك والعلم بحاله
وإن كان اللفظ موضوعا له، وما يرجع إلى الفعل يسمى ذما مجازا.
والاستخفاف والإهانة يكونان بالقول والفعل، لأن من لا يقوم لمن يجب أن
يقام له يسمى مستخفا به.
والثواب هو النفع المستحق المقارن للتعظيم والاجلال، فبكونه نفعا
يتميز مما ليس بنفع، وبكونه مستحقا يتميز من التفضل، وبمقارنة التعظيم
والتبجيل يتميز من العوض.
والعقاب هو الضرر المستحق، ومن شروطه أن يقارنه استخفاف وإهانة،
فبكونه ضررا يتميز من النفع، وكونه مستحقا يتميز من الألم الذي يفعل لمصلحة،
ويتميز أيضا بمقارنة الاستخفاف له والإهانة له.
والشكر هو الاعتراف بالنعمة مع ضرب من التعظيم، ولا يكون كذلك إلا
بالقصد. والشكر حقيقة ما يرجع إلى اللسان، وقد يسمى ما يرجع إلى القلب

1) الزيادة من ج.
108

من التفرقة بين المحسن والمسئ شكرا، وهو مجاز.
والعوض هو النفع المستحق الخالي من تعظيم وتبجيل، فبكونه نفعا
يتميز من الألم، وبكونه مستحقا من النفع المتفضل به، وبكونه خاليا من تعظيم
وتبجيل يتميز من الثواب على ما بيناه.
ويستحق المدح بفعل الواجب والندب وبالامتناع من القبيح وبإسقاط
الحقوق المستحقة كإسقاط العقاب من الله تعالى، وكذلك من أسقط دينه عن
غيره استحق المدح. ولا يستحق المدح إلا بهذه الأربعة أشياء، لأن فعل المباح
والقبيح لا مدخل له في استحقاق المدح.
ولا يستحق المدح بفعل الواجب إلا إذا فعل لوجه وجوبه أو لوجوبه، لأنه لو
فعله ساهيا لما استحق المدح، ولو فعله اتباعا للشهوة لما استحق عليه المدح أيضا.
والندب لا يستحق به المدح إلا إذا فعل لكونه ندبا، ومتى فعل لنفع
عاجل أو شهوة لم يستحق المدح. فعلى هذا لا يصح فعل الواجب والندب
على الوجه الذي يستحق به المدح إلا ممن كان عالما بوجوبه أو وجه وجوبه
وبكونه ندبا أو وجه كونه ندبا.
والقبيح لا يستحق المدح بتركه إلا إذا كان تركه لكونه قبيحا، ولا بد من
أن يكون عالما بالقبيح أو وجه القبيح حتى يصح منه تركه لذلك.
وكلما يستحق به المدح يستحق به الثواب، بشرط حصول المشقة فيه أو
في سببه أو ما يتصل به، لأن الواطي لزوجته يستحق المدح والثواب، وإن كان
فعل لذة لكن قصر النفس عليه والتزام النفقة والمؤنة عليه فيه مشقة. ولولا المشقة
لجاز أن يستحق المدح والثواب على فعل اللذات والمنافع، والمعلوم خلافه.
وأيضا لو لم يعتبر حصول المشقة في استحقاق الثواب للزم أن يستحق
القديم تعالى الثواب إذا فعل الواجب أو التفضل ولم يفعل القبيح، وذلك باطل.
109

والدليل على أن الفعل الشاق من الواجب والندب يستحق به الثواب هو
أنه لا فرق في العقول بين الالزام المشاق وبين إدخال المضار، فلما كان إلزام
المضار لم يحسن إلا للنفع - ولا بد في ذلك النفع من أن يكون عظيما وافرا حتى
يحسن إلزام المشاق لأجله ولا يجوز أن يكون ذلك النفع مدحا ولا عوضا لأن
نفس المدح ليس بنفع وإنما ينتفع بالسرور الذي يتبعه، وما يتبعه من السرور
لا يبلغ الحد الذي مقابل ما في فعل الواجب والامتناع من القبح من المشاق
العظيمة، وذلك معلوم ضرورة. على أن السرور هو اعتقاد وصول المنافع إليه
في المستقبل، سواء كان علما أو ظنا أو اعتقادا، ومتى رفعنا المنافع عن
أوهامنا فلا سرور يعقل.
وأما العوض هو خال من تعظيم وتبجيل، ويحسن الابتداء بمثله، ومن حق
ما يستحق على الطاعة أو يقارنه التعظيم، على أن من حق العوض أن يستحق بفعله
من يستحق عليه العوض. وهذا لا يصح ههنا، لأن الطاعة من فعلنا والثواب
يستحق عليه تعالى. ولا يجوز أن يكون المستحق عوضا، وإذا كان الملزم
للواجب وجاعله شاقا هو الله تعالى وجب أن يستحق الثواب عليه دون غيره.
وإذا ثبت استحقاق الثواب فليس في العقل ما يدل على أنه يستحق دائما،
وإنما يرجع في ذلك إلى السمع، وأجمعت الأمة على أن الثواب يستحق دائما
لا خلاف بينهم فيه.
وكل دليل يستدل به على دوام الثواب عقلا فهو معترض، قد ذكرنا
الاعتراض عليه في شرح الجمل لا نطول بذكره ههنا. وجملته أنهم قالوا
الثواب يستحق بما يستحق به المدح، وإذا كان المدح يستحق دائما وجب في
الثواب مثله. وقوى ذلك بأن قالوا ما أزال المدح أزال الثواب، فدل على
أن جهة الاستحقاق واحدة، فإذا كان أحدهما دائما وجب أن يكون الآخر مثله.
وهذا غير صحيح، لأنا لا نسلم أن جهة الاستحقاقين واحدة. ألا ترى
110

أن القديم يستحق المدح بفعل الواجب والتفضل وإن لم يستحق الثواب،
ولو فعل أحدنا الواجب على وجه لا يشق عليه لاستحق المدح وإن لم يستحق
الثواب، أن الثواب يستحق بالمشقة والمدح يستحق بوجه الوجوب، فكيف
يستحقان على وجه واحد.
ومتى قيل المشقة شرط والوجه هو كونه واجبا أو ندبا، قيل بعكس ذلك
ولقائل أن يقول: الوجه هو المشقة وكونه واجبا شرط. ثم يقال: ولم
إذا تساويا في الشرط والوجه وجب أن يتساويا في الدوام، لأنه إذا جاز أن
يتساويا في هذين مع اختلافهما في الجنس جاز أن يختلفا أيضا في الدوام
والانقطاع.
وقولهم " ما أزال أحدهما أزال الآخر " لا نسلمه، لأن عندنا لا يزيل ما يستحق
منها شئ على وجه على ما نبينه في بطلان التحابط. وهذا أقوى دليل استدلوا
به، وما عداه من أدلتهم ذكرناها بحيث أومأنا إليه لا نطول بذكره ههنا.
وأما الذم فإنه يستحق بفعل القبيح والاخلال بالواجب، لأن ما عدا ذلك
من أفعال المكلف من الواجب والندب والمباح لا يستحق به ذم على حال.
ولا يستحق فاعل القبيح والمخل بالواجب الذم إلا بعد أن يكون متمكنا من التحرز
منه، بأن يكون عالما بقبح القبيح ووجوب الواجب، أو متمكنا من العلم بقبحه.
وفي الناس من قال لا يستحق الذم إلا على فعل، وادعوا أن من أخل بواجب
لا بد أن يكون فاعلا لترك قبيح يستحق به الذم، لأنهم حدوا الواجب بأنه ما له
ترك قبيح. وهذا غير صحيح، لأن حد الواجب هو ما يستحق بالاخلال به
الذم على بعض الوجوه، لأن قبح الترك تابع لوجوب الوجوب فوجوب
الواجب هو الأصل.
وما ذكروه يؤدي إلى أن يتعلق وجوبه بقبح تركه وقبح تركه يتعلق بوجوبه
111

وفي ذلك تعلق كل واحد منهما بصاحبه. على أن في الواجبات ما لا ترك
له أصلا.
ولا يدخل الترك أيضا في فعل الله تعالى وإن كان الوجوب يدخلها. على
أنه قد يعلم الواجب واجبا من لا يعلم أن له تركا قبيحا، لأنا نعلم وجوب رد
الوديعة على من طولب بها ومتى لم يردها استحق الذم مع التمكن وإن لم يعلم
أنه فعل تركا، وإن علمناه أنه فاعل ترك علمناه بدليل وكان يجب أن من لا
يعلم أنه فعل الترك أن لا يذمه، والمعلوم خلافه.
وللترك والمتروك له شروط: منها أن يكون القادر عليها واحدا والوقت
الذي يفعلان فيه واحدا، أو يكونا مفعولين بالقدرة ويكونا ضدين مبتدأين.
وذلك أن تقول حد الترك ما ابتدئ بالقدرة بدلا من ضد له يصح ابتداؤه على
هذا الوجه.
فيكون قولنا " بدلا من ضده " مغنيا عن أن نشرط فيه كون الوقت واحدا
لأن مع تغاير الوقت لا يوصف بالبدل، لأن الفعل الواقع في وقت لا يمنع
من وقوع فعل في وقت آخر وإن تضادا، ومن شأن الترك والمتروك أن لا
يدخلا 1) في الوجود.
وقولنا " ابتدئ بالقدرة " يغني عن شرط أن يكون مباشرا، لأنه لا يبتدئ
بالقدرة إلا المباشر، وأغنانا عن أن نقول ما ابتدئ بالقدرة في محلها، لأن
القدرة لا يبتدئ بها الفعل إلا في محلها، وأغنى ذلك عن أن نقول والمحل
واحد، لأن قولنا بدل لا يصح إلا والمحل واحد والجملة واحدة، فما يتضاد
على المحل فكالأكوان والألوان، وما يتضاد على الحي فكالإرادة والكراهة،
لأن أحدنا لو فعل إرادة في جزء من قلبه لكانت بدلا من ضدها من الكراهة

1) كذا في ج، وفي ر " أن يدخلا ".
112

وتركا لها وإن كانت في محل آخر من أخرى القلب.
ولا اعتبار بأن تكون القدرة واحدة على الترك والمتروك، لأنا قلنا ما ابتدئ
بالقدرة ولم نقل بقدرة واحدة، لأن القدرة التي يفعل بها الإرادة في جزء [من
قلبه غير القدرة التي يفعل بها الكراهة في جزء آخر] 1) من القلب وإن كانت
الإرادة تركا للكراهة.
وعلى هذا التقدير لا يدخل الترك في أفعال الله تعالى، لأنا شرطنا فيه الابتداء
بالقدرة. ولا يدخل أيضا فيه المتولدات، لأنا شرطنا في الترك والمتروك أن
يكونا مبتدأين.
ويدل أيضا على أن الاخلال بالواجب يستحق به الذم أن العقلاء يذمون
من لم يفعل الواجب مع التمكن وإن لم يعلموا أنه فعل تركا له، فيجب أن
يكون ذلك كافيا في حسن الذم، لأن العلم بحسن الشئ أو قبحه تابع للعلم
بماله حسن أو قبح جملة أو تفصيلا فلولا أن كونه غير راد الوديعة جهة يستحق
بها الذم لما حسن ذمه عند العلم بما ذكرناه، ولو وجب أن يكونا عالمين بحسن
الذم وإن لم يعلم جهته، وذلك باطل نبين ذلك أنا إذا علمناه فاعلا لقبيح وجه
يستحق به الذم وكذلك في كونه مخلا بواجب سواء.
ويدل أيضا على ذلك أنه يحسن من كل عاقل أن يعلق الذم بأن القادر لم
يفعل ما وجب عليه، لأن من لم يرد الوديعة مع حصول شروط وجوبها يذمونه
ويقولون أنه لم يرد الوديعة، فلولا أن كونه غير راد لها جهة يستحق بها الذم
لما قالوا ذلك، كما لا يحسن أن يعلقوا الذم بوجه لا يستحق به ذلك من كونه
عرضا وحالا في محل وغير ذلك.
ويدل أيضا على ذلك أنا لو فرضنا أن القديم تعالى لم يفعل الواجب من

1) الزيادة ليست في ر.
113

الثواب والعوض واللطف لا يستحق به الذم، يتعالى عن ذلك. ولا يجوز الترك
عليه على ما مضى، فيجب أن يكون الاخلال بالواجب جهة يستحق بها الذم
كفعل القبيح، لأن جهات استحقاق القبح لا تختلف باختلاف الفاعلين على ما
يقوله المجبرة من نسبتهم القبائح إلى الله تعالى مع نفيهم عنه استحقاق الذم،
ومتى لم يراعى هذا الأصل أدى إلى الفساد.
وأما العقاب فيستحق بما يستحق به الذم من فعل القبيح والاخلال بالواجب
بشرط أن يكون فاعل القبيح أو المخل بالواجب اختاره على ما فيه منفعته ومصلحته
من فعل الواجب أو الاخلال بالقبيح. واعتبرنا هذا الشرط لئلا يلزم أن يستحق
القديم تعالى العقاب إن فرضناه فاعلا للقبيح أو مخلا بالواجب، يتعالى الله
عن ذلك.
ومن شرط من يستحق منه العقاب أن يكون عالما بقبح القبيح ووجوب
الواجب أو متمكنا من العلم بذلك، لأن مع كل واحد من الأمرين يمكنه التحرز
منه، والعقل لا يدل عندنا على استحقاق العقاب وإنما نعلم ذلك سمعا، وأجمع
المسلمون على أن القبيح يستحق به العقاب وإن اختلفوا في دوامه وانقطاعه.
وقال أكثر أهل العدل أن العقل دال على استحقاق فاعل القبيح والاخلال
بالواجب العقاب، قالوا: لأن الله تعالى أوجب علينا الواجبات على وجه يشق
علينا مع إمكان تعديه من المشقة وغرضنا للمشقة للثواب العظيم، ومجرد النفع
لا يحسن له إيجاب الفعل وإنما يؤثر في إيجابه حصول الضرر في الاخلال به
فيجب من ذلك أن يكون فاعلا لقبيح، والاخلال بالواجب مستحقا لضرر عليه
وهو العقاب.
وإنما قلنا أن مجرد النفع لا يكفي في إيجاب الفعل، لأن النوافل لا يحسن
إيجابها وإن كان في فعلها ثواب لأنه لم يكن في الاخلال بها ضرر، وكذلك
114

المكاسب والتجارات لا يحسن إيجابها لمجرد النفع ويحسن ذلك إذا كان في
تركها ضرر.
وهذا ليس بجيد، لأن لقائل أن يقول: إنه يكفي في حسن الايجاب وجه
وجوب الأفعال، لأنه تعالى بالايجاب فعلمنا وجوب الأفعال علينا وإنما يجب
علينا لوجه وجوبها، فالإيجاب إنما حسن لهذه الوجوه بأعيانها، فأما جعل
الفعل شاقا فبإزائه الثواب والايجاب إنما حسن لوجه الوجوب.
والنوافل إنما لم يحسن إيجابها لأنه ليس لها وجه وجوب كما أن للواجبات
وجه وجوب معقول يجب لأجلها، نحو كونها ردا للوديعة وقضاء الدين وما
أشبه ذلك. والتجارات مثل النوافل لا وجه لوجوبها فلذلك لم يحسن إيجابها.
والواحد منا وإن أوجب على غيره ما ليس له وجه وجوب نحو أن يهدده
بالقتل إن لم يدفع ماله إليه، فيجب عليه الدفع وإن لم يكن له وجه وجوب
إنما كان كذلك لأنه لم تثبت حكمته، والحكيم تعالى لا يحسن منه إيجاب ما ليس
له وجه وجوب، فبان الفرق بينهما.
فإن قيل: لو لم يستحق العقاب لكان مغرى بالقبيح مع حصول شهوته،
وإنما ينزجر لمكان العقاب، والذم لا ينزجر به العقلاء حتى يتركوا له المشتهيات
العاجلة.
قلنا: يخرج من الاغراء بتجويزه استحقاق العقاب على فعل القبيح
والاخلال بالواجب دون القطع عليه، كما يخرج بالتجويز عن الاغراء في زمان
مهلة النظر، لأنه لا طريق له هناك إلى القطع على استحقاق العقاب.
وقيل أيضا إنه يخرج عن الاغراء بفوت المنافع إذا فعل القبيح، لأنه يعلم
أنه يفوته الثواب بفعل القبيح والاخلال بالواجب، وفوت المنافع يجري مجرى
حصول المضار في باب الزجر.
115

والمستحق للعقاب هو الله تعالى دون العباد، لإجماع الأمة على أن الله
تعالى هو المستحق، مع إنا بينا أن نفس استحقاق العقاب لا يعلم عقلا وكيف
يعلم من المستحق له، ولو استحق بعضنا على بعض العقاب لكان ذلك عاما
في العقلاء وكان يجب أن يستحق عقاب فاعل القبيح جميع العقلاء وكل من
يمكن خلقه حتى لا يستقر على قدر.
وليس لأحد أن يقول يختص الاستحقاق بالمساء إليه، وذلك أن العقاب
إنما يستحق لكونه قبيحا كما يستحق الذم لذلك، وإذا كان استحقاق الذم
شائعا وجب أن يكون استحقاق العقاب شائعا، وقد بينا فساده. على أن العقاب
يستحق بما ليس باساءة من القبائح كالجهل والعبث والكذب وغير ذلك، فلا
يمكن في ذلك الاختصاص.
واعتماد المخالف في ذلك على أن ولي الدم يستحق القود وهو عقاب،
باطل لأن طريق ذلك الشرع، واستيفاء الولي لذلك بمنزلة استيفاء الإمام وإن
لم يكن الإمام مستحقا لعقابه بلا خلاف.
ثم كيف يستحق الولي العقاب والجناية إلى غيره، وإسقاط ولي الدم
حقه من القود لا يدل على أنه حقه لأن طريق ذلك أيضا السمع.
وإذا بينا أن استحقاق العقاب لا يعلم عقلا فما لا يعلم دوامه عقلا أولى
وأحرى لأن الدوام كيفية، وإذا كان نفس الاستحقاق لا يعلم فكيفيته أولى بذلك.
ومتى حملوا العقاب على الذم في دوامه فالكلام عليه مثل الكلام على
دوام الثواب حين حملوه على استحقاق المدح سواء، وقد تكلمنا عليه فالطريقة
واحدة.
ومتى قالوا لو جاز انقطاع العقاب للحق المعاقب راحة إذا تصور ذلك،
ومثل ذلك قالوا في الثواب أنه يتبعض على المثاب إذا تصور انقطاعه، وإنا
116

نتكلم عليه عند الكلام في الاحباط إنشاء الله.
والمعاصي على ضربين كفر وغير كفر، فالكفر يستحق به العقاب الدائم إجماعا
لا خلاف بين الأمة فيه، وما ليس بكفر ليس على دوامه دليل بل دل الدليل على
انقطاعه على ما سنبينه إنشاء الله.
ولا تحابط عندنا بين الطاعة والمعصية ولا بين المستحق عليها من ثواب
وعقاب، ومتى ثبت استحقاق الثواب فإنه لا يزيله شئ من الأشياء، والعقاب
إذا ثبت استحقاقه فلا يزيله شئ من الأشياء عندنا إلا التفضل.
ومن خالفنا يقول الثواب يزول بالندم على الطاعة والعقاب كثيرة يوفي على
الثواب. والعقاب يزول بالتفضل وبالندم الذي هو التوبة، وتكثر الطاعة إذا
زاد ثوابها على العقاب الحاصل.
والذي يدل على بطلان التحابط أنه لا تنافي بين الطاعة والمعصية ولا بين
المستحق عليهما من الثواب والعقاب ولا ما يجري مجراه التنافي، والشئ
ينافي غيره لتضاد بينهما أو ما يجري مجرى التضاد.
وإنما قلنا لا تضاد بين الطاعة والمعصية لأنهما قد ثبت أنهما من جنس واحد،
بل نفس ما يقع طاعة كان يجوز أن يقع معصية. ألا ترى أن قعود الإنسان
في دار غيره غصبا معصية، وهو من جنس قعوده فيها بإذنه، وهو جنس مباح،
وهما من جنس واحد. وكذلك لا تضاد بين المستحق عليهما لمثل ذلك بعينه،
لأن الثواب من جنس العقاب، بل نفس ما يقع ثوابا كان يجوز أن يقع
عقابا، لأن الثواب هو النفع الواقع على بعض الوجوه، ولا شئ يقع نفعا إلا
وكان يجوز أن يقع ضررا وعقابا، بأن يصادف نفارا.
ولو كان بينهما تضاد على تسليمه لما تنافى الثواب والعقاب وهما معدومان،
لأن الضد الحقيقي لا ينافي ضده في حال عدمه، لأن السواد والبياض قد يجتمعان
في العدم.
117

والتحابط عندهم بين المستحقين من الثواب والعقاب، وهما لا يكونان
إلا وهما معدومان، لأنهما إذا وجدا خرجا عن كونهما مستحقين.
وإن شئت قلت: قد ثبت استحقاق الثواب على الطاعة، فلا وجه يقتضي
إزالته، فيجب أن يكون ثابتا على ما كان، فإن ادعوا أن بينهما تنافيا تكلمنا عليه
فيما بعد.
وأيضا فالقول بالاحباط يؤدي إلى من جمع بين الاحسان والإساءة أن
يكون عند العقلاء بمنزلة من لم يحسن ولم يسئ إذا تساوى المستحقان من
المدح والذم أو يكون بمنزلة من لم يحسن إذا كان المستحق علي الإساءة أكثر
أو بمنزلة من لم يسئ إن كان المستحق على الطاعة أكثر، والمعلوم خلافه.
وقولهم " إن من شأن الثواب أن يقارنه تعظيم وإجلال ومن شأن العقاب
أن يقارنه استخفاف وإهانة، ومعلوم ضرورة استحالة تعظيم أحدنا لغيره مع
استحقاقه به في حالة واحدة إذا كان الذام والمادح واحدا والمذموم والممدوح
واحدا والوقت واحدا، وإذا تعذر فعله تعذر استحقاقه لأن الاستحقاق تابع
لصحة الفعل " باطل، لأنا نخالف في استحالة ذلك، فلا يمكن ادعاء الضرورة
فيه. وإن ادعوا أنه معلوم بدليل فينبغي أن يذكروه.
ثم لا يخلو ما ادعوا تنافيه من المدح والذم والتعظيم والاستحقاق أن يريدوا
ما يرجع إلى اللسان أو ما يعتقد بالقلب، فإن كان الأول فمعلوم أنه جائز، لأنه
لا يمتنع أن يمدح أحدنا غيره بلسانه على فعل ويذمه على فعل آخر بما يكتب
بيده، ولو خلق له لسانان لتأتي أن يمدح بأحدهما ويذم بالآخر. فعلم أنه
متى تعذر فلفقد آلة الكلام، ولذلك لا يصح أن يمدح زيدا أو يذم عمرا في
حالة واحدة وإن جاز اجتماع ذلك في الاستحقاق لما قلناه من فقد الآلة.
وإن أرادوا ما يرجع إلى القلب ففيه الخلاف. والمعلوم عندنا خلافه،
118

لأنا نجد من نفوسنا صحة اجتماع اعتقاد المدح على فعل مع استحقاقه الذم على
فعل آخر ولا تعذر في ذلك. اللهم إلا أن يريدوا أنه لا يصح اجتماع الاستحقاقين
على فعل واحد بوجه واحد، فيكون ذلك صحيحا لكنا لا نقول ذلك. وكل
ما يسأل على هذا ويفرع عليه فقد استوفيناه في شرح الجمل، وهو مستقصى
أيضا في مسألة الوعيد للمرتضى رحمة الله عليه.
واعتمادهم أيضا على أن من حق الثواب والعقاب أن يكونا صافيين من كل
شوب فلو استحقا في حالة واحدة وفعلا في حالة واحدة خرجا عن الصفة اللازمة
لهما وإن فعلا على البدل فمثل ذلك، لأن أيهما قدم على الآخر فالمفعول به
منتظر لوقوع الآخر، وذلك يوجب نفي الخلوص ويقتضي الشوب، لأنه إن
كان في عقاب وعلم انقطاعه استراح إلى ذلك، وإن كان في ثواب وتصور انقطاعه
تنغص عليه، وإذا امتنع فعلهما امتنع استحقاقهما أيضا. باطل، لأن أول ما نقوله إنا
لا نعلم بالعقل أن من شرط الثواب أو العقاب أن يكون خالصا صافيا، وإنما علمنا ذلك
بالسمع، وقد علمنا بالاجماع أنه لا يمتزج الثواب والعقاب، وعلمنا بالاجماع
أن الثواب لا يتعقبه عقاب. فأما العقاب فلا دلالة على أنه لا يتلوه ثواب إلا في
الكفار، فإنهم أجمعوا على أنه لا يتلو عقابهم ثواب، وأما فساق أهل الصلاة
فليس على ذلك دلالة.
ثم ليس الأمر على ما قالوه من أنه إذا تلا العقاب الثواب أن تلحقه راحة
لأنه يجوز أن يلهيه الله عن ذلك ويشغله عن الفكر فيه، لأن ما هو فيه من أليم
العقاب وعظيم موقعه يشغل بعضه عن الفكر في العاقبة، ولو علم انقطاعه لما
اعتد بذلك مع ما فيه من أنواع العقاب، وجرى ذلك مجرى ما يقوله من أن
أهل النار يعرفون الله ضرورة ويسقط عنهم مشاق النظر لكن لا يعتد به، وكذلك
يعلمون أولادهم وأعزاهم في الثواب وحصول أعدائهم في النار ومع ذلك لا
119

يعتد بسرورهم في ذلك. وكل شئ يقولون في ذلك فهو قولنا فيما قالوه بعينه.
وقولهم " ما استحال فعله استحال استحقاقه " إن أرادوا استحال استحقاقه
على الوجه الذي يستحيل فعله كان صحيحا، وإنما يستحيل فعل الثواب والعقاب
على وجه الجمع، ونحن لا نقول ذلك ولا يستحقان كذلك. وإن أرادوا أن ما
يصح فعله على البدل يستحيل استحقاقه على الجمع. فباطل، لأنه لا يصح أن
يكون القادر قادرا على الضدين وإن كان يستحيل فعلهما على الجمع وإنما يصح
فعل كل واحد منهما بدلا من صاحبه.
وليس لهم أن يقولوا: كيف يكون معاقبا في حال هو فيها يستحق الثواب.
لأن ذلك ليس بأبعد من أن يكون مستحقا للثواب في حال هو فيها مكلف وميت
وتراب وفي القبر وإلى أن يحييه الله، لأن الثواب يستحق عقيب الطاعة وإن
تأخر إلى زمان الفعل بأوقات كثيرة.
وقولهم " معلوم ضرورة قبح الذم على الإساءة الصغيرة نحو كسر قلم لمن
له إحسان عظيم وإنعام جليل نحو تخليص النفس من الهلاك والإغناء بعد الفقر
والإعزاز بعد الذل، ولم يقبح ذلك إلا لبطلانها في جنب ذلك الاحسان،
بدلالة أنها لو انفردت عنه لحسن ذمه على كسر القلم، وإذا ثبت ذلك في المدح
والذم ثبت مثله في الثواب والعقاب ". غير مسلم، لأن عندنا يجوز أن يذم
بالإساءة الصغيرة وإن استحق المدح بالاحسان الكثير. ألا ترى أنه لو ندم
هذا المسئ بالإساءة الصغيرة على إحسانه الكثير لحسن ذمه على الإساءة الصغيرة
فلو كان الحبط لما حسن ذلك، لأن ما انحبط لا يرجع عند المخالف.
وإذا قالوا " معلوم ضرورة أن حال هذا المسئ منفردا من الاحسان بخلاف
حاله إذا قارنه الاحسان العظيم ". قلنا: ذلك صحيح، لأنه إذا انفرد بالإساءة
استحق الذم لا غير وإذا جمع بينهما استحق المدح والذم، فافترق الحالتان.
120

على أنه يحسن ممن أحسن إليه بعض الناس وأساء إليه بالإساءة، لا يظهر
مزية إحداهما على الأخرى أن يمدحه على إحداهما ويذمه على الأخرى، بأن
يقول أحسنت إلي بكذا وكذا ويمدحه ويشكره ثم يقول لكنك أسأت إلي بكذا
وكذا ويعنفه ويبكته. وذلك يدل على اجتماع الاستحقاقين. وإذا اجتمعا في بعض
المواضع علم فساد القول بالاحباط وحمل عليه المواضع المشتبهة.
على أنا نعلم أنه يحسن فعل الثواب عقيب الطاعة، ولا يدل ذلك على سقوطه.
ومتى قالوا أن ذلك لا يحسن لما قلنا، وكذلك كثير استحقاق المدح مانع من
نفي استيفاء القليل من الذم وإن لم يسقط.
وكذلك نعلم أن من كان له على غيره مائة ألف دينار وله عليه ربع شعير
يحسن منه أن يطالبه بالربع من الشعير مع كون المال العظيم عليه ولا أحد
يقول إن ذلك يسقط. ألا ترى أنه لو وفاه ماله حسن منه أن يطالب بالربع من
الشعير فعلم أنه ثابت.
وكذلك لو كافأه هذا المحسن على إحسانه وقام بشكره حق القيام حسن أن
يذمه على كسر قلمه، فدل على أنه لم يسقط. وتعلقهم بالظواهر نحو قوله تعالى
" إن الحسنات يذهبن السيئات " 1) وقوله " لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى " 2)
وقوله " لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي " 3) إلى قوله " أن تحبط أعمالكم " 4)
وقوله " لئن أشركت ليحبطن عملك " 5) لا يصح لأن الظواهر يجب أن تبنى على
أدلة العقول، وقد بينا بطلان التحابط. فلو كان لهذه الآيات ظواهر لوجب

1) سورة هود: 114.
2) سورة البقرة: 264.
3) سورة الحجرات: 2.
4) سورة الحجرات: 2.
5) سورة الزمر: 65.
121

حملها على ما يطابق ذلك، وكيف ولا ظاهر لشئ منها بل هي شاهدة لمذهبنا،
لأن الاحباط والبطلان في جميعها يتعلق بالأعمال دون المستحق عليها، والمخالف
يقول التحابط بين المستحق عليها.
ونحن يمكننا حملها على ظاهرها، لأن معنى قوله تعالى " إن الحسنات
يذهبن السيئات " إن من استكثر من فعل الحسنات دعاه ذلك إلى الامتناع من
القبائح وكانت لطفا له، وهذا يوافق الظاهر لا يحتاج معه إلى تقدير الحرى فيه.
وأما باقي الآيات فالوجه فيها أن نقول: إبطال العمل وإحباطه عبارة عن
إيقاعه على خلاف الوجه الذي يستحق به الثواب، ألا ترى أن أحدنا لو ضمن
لغيره عوضا على نقل شئ من موضع إلى موضع بعينه فنقله إلى موضع غيره
فإنه لا يستحق الأجرة وجاز أن يقال: أحبطت عملك وأبطلته لأنك أوقعته على
خلاف الوجه المأمور به به ولم توقعه على الوجه الذي تستحق عليه الأجرة.
وليس أحد يقول أنه يستحق أجرة فأبطلها، بل المراد ما ذكرناه.
ولما كانت الصدقة متى قصد بها وجه الله تعالى استحق بها الثواب، ومتى
فعلها لوجه المن والأذى لم يستحق جاز أن يقال إنه أبطلها، وكذلك من رفع
صوته إجابة للنبي عليه السلام ومسارعة إلى إجابته استحق به الثواب ومتى رفعه
استخفافا به وعصيانا منه جاز أن يقال إنك أبطلته، وكذلك من عبد الله مخلصا
استحق الثواب فمتى أضاف إلى ذلك عبادة غيره جاز أن يقال أبطلت عملك.
فبان بجميع ذلك أنه لا متعلق للقوم في الآيات في صحة التحابط والعقاب
متى استحق، فإنه يحسن التفضل بإسقاط من غير توبة. يدل على ذلك أنه قد
ثبت بأوائل العقول حسن الاحسان وإيصال المنافع إلى الغير، ومن أحسن
الاحسان إسقاط المضار المستحقة، بل ربما كان إسقاط المضمرة أعظم من إيصال
المنفعة، فدافع حسن أحدهما كدافع الآخر.
122

وأيضا فقد ثبت أن العقاب حق لله تعالى إليه قبضه واستيفاؤه، لا يتعلق
بإسقاطه إسقاط حق لغيره منفصل منه، فوجب أن يسقط [بإسقاطه كالدين فإنه يسقط]
بإسقاط صاحبه لاختصاصه بهذه الأوصاف.
وإنما قلنا " حق لله " لئلا يلزم حق عليه من الثواب والعوض.
وقلنا " إليه قبضه واستيفاؤه " لأن كل حق ليس لصاحبه قبضه ليس له
إسقاطه كالطفل والمجنون لما لم يكن لهما استيفاؤه لم يكن لهما إسقاطه،
والواحد منا لم يكن له استيفاء ثوابه وعوضه في الآخرة لم يسقطا بإسقاطه،
فعلم بذلك أن الاسقاط تابع للاستيفاء، فمن لم يملك أحدهما لم يملك الآخر.
وقلنا " لا يتعلق بإسقاطه إسقاط حق لغيره منفصل عنه " احترازا من سقوط
الدم المستحق على القبيح لقبحه بإسقاطنا، لأن هذا الذم تابع للعقاب، فلا
يجوز زواله مع ثبوت العقاب، فلو سقط بإسقاطنا لسقط العقاب [وهو حق لغيرنا.
وراعينا الانفصال لأن الذم يسقط بإسقاط العقاب] 2) لأنه تابع له، فهو
كالحقوق المتعلقة بالدين من الأجل والخيار وغيرهما عند سقوط الدين، ولا
يسقط العقاب بإسقاط الذم، لأن العقاب ليس بتابع للذم.
على أن الذم ليس بحق خالص لنا، بل هو حق علينا، لما فيه من المصلحة
في الدين ونحن متعبدون به، ولأنه يردع المفعول به عن القبيح فكأنه حق له
فلم يخلص كونه حقا لنا.
فإن اختصرت ذلك فقلت العقاب حق لله إليه قبضه واستيفاؤه يتعلق باستيفائه
ضرر فوجب أن يسقط بإسقاطه كالدين، ولا يلزم على ذلك الثواب والعوض

1) الزيادة من ر.
2) الزيادة ليست في ر.
123

والمدح والشكر، لأنه لا ضرر في جميع ذلك باستيفائه. ولا يلزم الذم لأنه ليس بضرر حقيقي، ولأنه حق للفاعل والمفعول به على ما مضى بيانه.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون فيه وجه من وجوه القبح، فلا يحسن
بإسقاطه؟
قلنا: وجوه القبح معقولة، أما الظلم أو الكذب أو العبث أو المفسدة أو
الاغراء بالقبيح، وكل ذلك منتف ههنا، فوجب أن يكون حسنا.
وإنما قلنا " ليس بمفسدة ولا إغراء بالقبيح " لأن العفو إنما يقع في الآخرة
ولا تكليف هناك ولا مفسدة فيه.
وليس لأحد أن يقول: في الأطماع به إغراء. وذلك أن هذا باطل، لأن
في المكلفين من إذا ارتفع طمعه في العفو كان أقرب إلى ارتكاب القبائح وفيهم
من يكون بخلافه، فالأحوال مختلفة.
ومتى قالوا: إنه متى طمع خرج من كونه مزجورا.
قيل: هذا لا يجوز، لأن الزجر حاصل بتجويز عقابه، وكيف لا يكون
مزجورا. ولو أخرجه ذلك عن كونه مزجورا لكان في زمان مهلة النظر وتجويزه
أن لا يستحق العقاب أصلا مغرى بالقبائح ولا يكون مزجورا والمعلوم خلافه،
ويلزم أن يكون غير مزجور إذا طمع في العفو بالتوبة، وكل ذلك باطل.
فإذا ثبت أن العقاب يسقط بالعفو فالعفو أن يقول: أسقطت عقاب زيد
وسمحت بعقابه. فيسقط ويقبح مؤاخذته بعد ذلك ويجري مجرى المطالبة
بالدين بعد الابراء والاسقاط.
وأما التوبة فإنها تسقط العقاب عندها تفضلا من الله تعالى، وأجمع المسلمون
على سقوط العقاب عند التوبة، ولولا السمع لما علمنا ذلك، [وإنما نعلم
124

بالعقاب أن التوبة يستحق بها الثواب لأنها طاعة والطاعة يستحق بها الثواب] 1).
وإنما قلنا أنها لا تسقط العقاب عقلا أنها لو أسقطت لم يخلو أن يسقط
بكثرة المستحق عليها من الثواب أو لوجه آخر، فإن كان الأول فقد أفسدناه
من حيث أفسدنا القول بالاحباط، وإن كان إسقاطها من حيث كانت بدلا للجهود
- على ما يقولونه - فما الدليل على ذلك، لأنا لا نسلم.
ومتى حملوا التوبة على الاعتذار وأن الاعتذار يقبح معه المؤاخذة فنحن
نخالف في الاعتذار كما نخالف في التوبة.
ومتى قيل: لو لم يسقط العقاب لقبح تكليف الفاسق المستحق للعقاب،
لأن التكليف إنما يحسن تعريضا. والفاسق مع استحقاقه للعقاب لا يجوز أن
يستحق الثواب، فيجب له أن يكون له طريق إلى إسقاط عقابه لينتفع بالثواب
الذي عرض له، فليس ذلك إلا التوبة. وإذا فعلها اجتمع له استحقاقان معا،
والعقل غير مانع منه، وقد بيناه فيما مضى.
ولو صح لكم أنهما لا يجتمعان لصح ما قلتم، ولو صح لكم في التوبة فلا
ينبغي أن يبنى الشئ على نفسه.
ولو سلمنا أنه لا بد أن يكون له طريق إلى الانتفاع بما كلف فعله فقد فعل
الله له ذلك، بأن بين بالسمع أنه يعفو عند التوبة، فمن أين أن ذلك بحكم
العقل. ولو خلينا والعقل لما أوجبنا التوبة ولكن لما أجمعت الأمة على وجوب
التوبة قلنا بوجوبها وعلمنا أن لنا فيها مصلحة ولطفا، ولولا السمع لما علمناه.
فإذا ثبت أن بالسمع يعلم زوال العقاب عند التوبة فيجب أن نقول التوبة
التي يسقط العقاب بها ما أجمعت الأمة على سقوط العقاب عندها دون المختلف
فيه، والذي أجمعت عليه هو أنه إذا ندم على القبيح لكونه قبيحا وعزم على

1) الزيادة ليست في ر.
125

أن لا يعود إلى مثله في القبح فإنه لا خلاف بين الأمة أن هذه التوبة يسقط العقاب
عندها. وأما غيرها ففيه خلاف، لأن التوبة من القبيح لوجه القبح أو عظم
المستحق عليه فيه خلاف بين الأمة، والخلاف في ذلك فرع على وجوب سقوط
العقاب عندها عقلا، وقد بينا ما في ذلك.
فأما من جمع بين الإيمان والفسق فإنا لا نقطع على عقابه بل يجوز العفو
عنه وأن يسقط الله عقابه تفضلا.
وإنما قلنا ذلك لأنا دللنا على حسن العفو عنه من حيث عدمنا الدليل المانع
منه، وليس في السمع ما يمنع أيضا منه، لأنا سبرنا أدلة السمع أيضا فلم نجد
فيها ما يمنع منه، فيجب أن يكون التجويز باقيا على ما علمناه بالعقل، ولا يلزم
على ذلك الشك في عقاب الكفار، لأن السمع منع منه.
والمسلمون أجمعوا على أن الكفار معاقبون لا محالة، ومعلوم ذلك من دينه
عليه السلام، فلذلك قلنا به.
وأيضا فلا خلاف بين الأمة أن للنبي عليه السلام شفاعة وأنه يشفع، والشفاعة
حقيقتها في إسقاط المضار المستحقة، فوجب من ذلك القطع على جواز العفو
عن مستحق العقاب من أهل الضلالة، بل على وقوع ذلك بجماعة غير معينين
من حيث علمنا وقوع شفاعته وأنها حقيقة في إسقاط المضار دون زيادة المنافع.
والذي يدل على حقيقتها ما قلناه أنها لو كانت حقيقة في زيادة المنافع لكان
الواحد منا إذا سأل الله تعالى أن يزيد في كمالات النبي 1) عليه السلام ورفع
درجاته أن يكون شافعا فيه، وأحد من المسلمين لا يطلق ذلك لا لفظا ولا معنى.
وليس لأحد أن يقول: إنما لم يطلق ذلك لأن الشفاعة يراعى فيها الرتبة
كما يراعى في الأمر والنهي، وذلك أن الخطاب على ضربين: أحدهما يعتبر

1) في ر " كرامات النبي ".
126

فيه الرتبة، والآخر لا يعتبر فيه الرتبة. فما يعتبر فيه الرتبة يعتبر بين المخاطب
والمخاطب دون ما يتعلق به الخطاب، لأن الواحد منا يقول لغلامه الق الأمير
والق الحارس ويكون أمرا في الحالين، وإن كان من يتعلق به الأمر أحدهما
عال الرتبة والآخر دني الرتبة، وكذلك لو اعتبر في الشفاعة الرتبة لوجب اعتبارها
بين السائل والمسؤول دون من تناوله الشفاعة.
وليس لهم أيضا أن يقولوا: إنما لم يطلق ذلك لأنا لا نعلم أن سؤالنا فيه
مجاب على كل حال.
وذلك أن هذا باطل بقولهم " شفاعة مقبولة " و " شفاعة مردودة "،
[فيسمونها شفاعة سواء قبلت أو ردت. وأيضا وكل خطاب يعتبر فيه الرتبة] 1)
لا يدخل بين الإنسان وبين نفسه كالأمر والنهي، ويصح أن يكون الإنسان شافعا
لنفسه كما قال الشاعر:
* فهل لأنفس ليلى شفيعها *
وإنما يدخل بين الإنسان وبين نفسه ما لا يعتبر فيه الرتبة أصلا، ولذلك قال
النبي صلى الله عليه وآله حين قال لبريرة: تصالحي زوجك وارجعي إليه.
فقالت له: أتأمرني يا رسول الله. فقال: لا وإنما أنا شافع 2). فبين أنه شافع
إلى بريرة 3) وإن كانت دونه، فدل على أن الشفاعة لا يعتبر فيها الرتبة أصلا.
وأما تناولها لإسقاط المضار فلا خلاف أنها حقيقة في ذلك، ولو سلمنا أنها
حقيقة في الأمرين فخصصناهما بإسقاط الضرر بقوله: أدخرت شفاعتي لأهل
الكبائر من أمتي. وفي خبر آخر: أعددت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي 4).

1) الزيادة من ر.
2) انظر القصة في أسد الغابة 5 / 409.
3) في ر " إلى بريدة " وهو خطأ.
4) البحار 8 / 34، ولفظه فيه " إنما شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ".
127

وهذا خبر تلقته الأمة بالقبول، فلا يمكن أن يقال أنه خبر واحد.
وليس لهم أن يحملوا الخبر على زيادة المنافع لمن تاب لأمرين: أحدهما
أنا بينا أن حقيقة الشفاعة في إسقاط المضار، الثاني أنه لا يخلو أن يشفع فيهم
بعد التوبة، فلا يمكنهم الانتفاع بالمنافع مع أنهم في النار. وإن كان بعد التوبة
فلا يسمون أهل الكبائر كمال ا يسمى من تاب من كفره كافرا، فعلم أن المراد ما
قلناه في إسقاط الضرر.
ولا يعارض ذلك قوله تعالى " ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع " 1)
وقوله " وما للظالمين من أنصار " 2) وقوله " ولا يشفعون إلا لمن ارتضى " 3)
وقوله " ولا تقبل لهم شفاعة " 4) من وجوه:
أحدها أن العموم لا صيغة له على مذهب كثير من أصحابنا، فمن أين أنه
أراد العموم دون الخصوص، والكلام في ذلك مذكور في مواضع كثيرة لا
نطول بذكره ههنا. فعلى هذا تكون الآيات مختصة بالكفار، وقد سمى الله
تعالى الشرك ظلما في قوله " إن الشرك لظلم عظيم " 5). على أنه نفى في الآية
الأولى شفيعا مطاعا، ونحن لا نقول ذلك ولم ينف شفيعا مجازا. ولا يمكن
الوقف على قوله " ولا شفيع يطاع "، لأن ذلك خلاف جميع القراء. ثم لا
يمكن البدأة بقوله " يطاع " لأن الفعل لا يدخل على الفعل بعده قوله
" يعلم "، وإن قدر يطاع الذي يعلم كان ذلك تركا للظاهر، وعلى ما قلناه لا
يحتاج إلى تقدير.

1) سورة غافر: 18.
2) سورة البقرة: 270.
3) سورة الأنبياء: 28.
4) الصحيح في الآية " ولا يقبل منها شفاعة " سورة البقرة: 48.
5) سورة لقمان: 13.
128

والآية الثانية إنما نفي فيها أن يكون للظالمين أنصار، والنصرة غير الشفاعة،
لأن النصرة هي الدفع عن الغير على وجه الغلبة، والشفاعة هي مسألة يقترن
بها خضوع وخشوع.
وقوله " لا يشفعون إلا لمن ارتضى " 1) فمعناه ارتضى أن يشفع فيه، ونظيره
قوله " من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه " 2) وقوله " لا تغني شفاعتهم شيئا إلا
من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى " 3)، وليس هذا تركا للظاهر، لأن
المرتضى محذوف بلا خلاف، فهم يقدرون إلا لمن ارتضى أفعاله ونحن نقدر
إلا لمن ارتضى أن يشفع فيه، واستوى التقديران وسقطت المعارضة بها.
على أن الفاسق الملي يجوز أن يكون مرتضى، بمعنى ارتضى إيمانه
وكثير من طاعاته، كما يقول " هذا البناء مرتضى عندي " يريدون في البناء دون
غيره من أفعاله.
وقوله " ولا تنفعها شفاعة " 4) متروك الظاهر، لأن عند الجميع ههنا شفاعة
نافعة مقبولة، فإن منعوا من نفعها في إسقاط الضرر منعنا نفعها في زيادة المنافع.
أو نقول: لا تقبل الشفاعة ولا تنفع الشفاعة للنفس الكافرة.
فأما حسن رغبتنا في أن يجعلنا الله تعالى من أهل شفاعة النبي عليه السلام
فهو كرغبتنا في أن يجعلنا من التوابين والمستغفرين، فكما لا تكون الرغبة
في التوبة والاستغفار رغبة في فعل الكبائر [فكذلك الرغبة في الشفاعة لا تكون
رغبة في الكبائر] 5)، ولا فرق بينهما. والوجه في الأمرين هو الرغبة في

1) سورة الأنبياء: 28.
2) سورة البقرة: 255.
3) سورة النجم: 26.
4) سورة البقرة: 123.
5) الزيادة ليست في ر.
129

الشفاعة والتوبة. والاستغفار إن اتفق منا أو وقع ما يحتاج معه إلى التوبة
والشفاعة فذلك جائز مشروط.
ومتى قالوا: السمع منع من جواز العفو في آي كثيرة من القرآن نحو
قوله تعالى " ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها " 1)
وقوله " ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا " 2) و " من يعمل سوءا يجز به " 3) و " إن
الفجار لفي جحيم " 4) وما أشبه ذلك من الآيات.
قلنا: لنا في ذلك ثلاثة أوجه من الكلام:
(أحدها) أن نبين أن العموم لا صيغة له، بل الظاهر أنه يحتمل الخصوص
والعموم، فإذا احتمل ذلك جاز أن يراد بها الكفار دون فساق أهل الصلاة،
والكلام في ذلك ذكرناه في شرح الجمل وغير ذلك لا نطول بذكره ههنا.
(والثاني) أن يعارض هذه الآيات بآيات مثلها تتضمن القطع على الغفران،
كقوله تعالى " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " 5) وقوله
" إن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم " 6) وقوله " إن الله يغفر الذنوب جميعا " 7)
وغير ذلك.
(وثالثها) أن نبين أن الآيات متروكة الظاهر وانهم شرطوا فيها كبير المعصية
وعدم التوبة، فإذا شرطوا هذين الشرطين شرطنا شرطا ثالثا، وهو من لا يعفو عنه
ابتداءا أو بالشفاعة ويسلم باقي عمومها.

1) سورة النساء: 14.
2) سورة الفرقان: 15.
3) سورة النساء: 123.
4) سورة الانفطار: 14.
5) سورة النساء: 48.
6) سورة الرعد: 6.
7) سورة الزمر: 53.
130

ووجه المعارضة بقوله " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن
يشاء " أنه تعالى لم ينف غفران الشرك على كل حال، بل نفى أن يغفره تفضلا،
فكأنه قال لا يغفر أن يشرك به تفضلا بل استحقاقا، فيجب أن يكون المراد
بقوله " ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " أي يغفره بغير استحقاق بل تفضلا، لأن
موقع الكلام الذي يدخله النفي والاثبات وينظم إليه التعظيم والدون أن يخالف
الثاني الأول. ألا ترى أنه لا يحسن أن يقول القائل " أنا لا أركب إلى الأمير
إلا إذا ركب إلي وأركب إلى من هو دونه وإن لم يركب إلي " وكذلك إذا قال
" لا أتفضل بالكثير من مالي وأعطي اليسير إذا استحق علي " وإنما يحسن أن
يقول " وأعطي اليسير تفضلا من غير استحقاق ".
على أن قوله " ويغفر ما دون ذلك " يقتضي عمومه أنه يغفر كل ما دون
الشرك صغيرا كان أو كبيرا تاب منه أو لم يتب، لأن عموم ما يقتضي ذلك على
مدعاهم وليس لهم أن يخصوا عموم هذه الآية لتسلم عموم آياتهم، لأنا نعكس
ذلك فنخص عموم آيات الوعيد بالكفار لتسلم آيات العفو.
والشبهة إنما دخلت في الآية في أعيان المغفور لهم دون الغفران، وإنما
كانت تكون في الغفران لو قال يغفر ما دون ذلك إن شاء، والأمر بخلافه.
ونحن لا نقطع على أنه يغفر لكل أحد بل ذلك متعلق بمشيئته.
على أنه تعالى علق الغفران في الآية بالمشيئة، وظاهر ذلك أنه تفضلا،
لأن الواجب لا يتعلق بالمشيئة، لأنه لا يجوز أن يقول القائل: أنا أرد الوديعة
إن شئت. ويجوز أن يقول: أنا أتفضل إن شئت.
والآية الثانية الوجه فيها أنه تعالى أخبر أنه يغفر الذنوب على ظلمهم،
ومعناه في حال كونهم ظالمين. ويجري ذلك مجرى قولهم: لقيت فلانا على
أكله وأوده على عذره. ومتى شرطوا فيها التوبة كان ذلك تركا للظاهر.
131

والآية الثالثة تقتضي أنه يغفر جميع الذنوب إلا ما أخرجه الدليل من الكفر
والتوبة ليس لها ذكر في الآية، فمن شرطها فقد ترك الظاهر.
وقوله " وأنيبوا إلى ربكم " 1) كلام مستأنف لا يجب أن يشرط ذلك في
الآية الأولى، لأن عطف المشروط على المطلق لا يقتضي أن يصير مشروطا.
وأما الطريقة الثالثة فهي أن يقال: إنما شرطتم التوبة وكبر المعصية، لأن
التوبة تسقط العقاب وعظم الطاعة أيضا يسقط صغير المعصية، فما اقتضى هذين
الشرطين اقتضى شرط العفو، وكلامنا مع من يحسن العفو عقلا فأما من منع منه
وقال لا يحسن العفو عقلا فقد مضى الكلام عليه، وإذا كان العفو جائزا عقلا
مسقطا للعقاب وجب أن يشرط أيضا كما شرطنا الشرطين الآخرين.
وليس لهم أن يقولوا: العقل يقتضي إسقاط العقاب بالتوبة وزيادة الثواب،
وليس في العقل ما يدل على حصول العفو، وذلك أن العقل كما اقتضى سقوط
العقاب بالثواب وزيادة الثواب كذلك يقتضي سقوطه عند العفو، كما يجوز أن
يعفو مالك العقاب [يجوز أن لا يعفو، وكذلك يجوز أن يختار العاصي التوبة و] 2)
يجوز أن لا يختارها. وكذلك القول في عظم الطاعة، فينبغي أن يقابل بين
وقوع التوبة ووقوع العفو وبين الجواب في حصولها وحصول العفو، فإنهما
سواء لا ترجيح لأحدهما على الآخر.
ومتى قالوا عموم آيات الوعيد يدل على أنه تعالى لا يختار العفو. قلنا:
هلا منع ذلك من اختيار العاصي التوبة المسقط للعقاب أو عظيم الطاعة، لأنكم
إنما تمنعون بالظاهر اختيار العفو ليسلم وقوع العقاب، وهذا بعينه قائم في
التوبة وزيادة الثواب، فيبغي أن تقولوا الظواهر تمنع من وقوعها. وقد فرغنا

1) سورة الزمر: 54.
2) الزيادة من ر.
132

ما يسأل على ذلك في شرح الجمل، وفيما قلناه ههنا كفاية إنشاء الله.
فإن قيل: القول بجواز العفو يؤدي إلى أن لا يقام حد لا في السرقة ولا في
الزنا على وجه العقوبة. وذلك ينافي قوله " جزاءا بما كسبا نكالا من
الله " 1) وقوله " وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين " 2) فبين أنه عذاب ونكال،
ولو كان عقابا لبطل ذلك.
قلنا: لا يقطع أحد من السراق نكالا على وجه القطع والثبات، بل إنما
يقطعه بشرط كونه مستحقا للعقاب، ومتى فرضنا العفو عنه قطعناه امتحانا ولا بد
لكل أحد من ذلك، لأن شروط استحقاق العقاب ليست معلومة بالظاهر، لأنه
يحتاج أن يكون السارق عاقلا والشبهة مرتفعة ولا أن يكون ثابتا فيما بينه وبين
الله تعالى وأن يكون الشهود صادقين أو إقراره صحيحا، لأنه متى لم يحصل له
ذلك أو بعضه فإنما يقطعه امتحانا وكذلك إذا فرضنا حصول العفو فإنما يقطعه
امتحانا، ومتى فرضنا حصول جميع الشرائط وارتفاع العفو قطعناه عقوبة
فلا بد من الشرط.
ولا يمكن القطع على إقامة الحد عقوبة على القطع والثبات إلا في الكفار
وعلى ما بيناه من بطلان التحابط من كفره بعد إيمانه فإنه يدل على أن ما كان
أظهره لم يكن إيمانا، لأنه لو كان إيمانا لاستحق عليه الثواب الدائم، وإذا كفر
استحق على كفره العقاب الدائم بالاجماع وكان يجتمع الاستحقاقان، وذلك
خلاف الإجماع.
فإذا علم بذلك أن ما أظهره لم يكن إيمانا ولا يمكن أن يقال لم لا يجوز أن
يقال إنما أظهره من الكفر لم يكن كفرا ليسلم له الإيمان، لأن إظهار الإيمان ليس

1) سورة المائدة: 38.
2) سورة النور: 2.
133

بإيمان بلا خلاف وإظهار الكفر اختيار كفر بلا خلاف.
وفي أصحابنا من أجاز أن يكفر المؤمن كفرا لا يوافي به. وهذا ليس بصحيح
لأن هذا يؤدي إلى تجويز أن يكون من الكفار المرتدين من يستحق نهاية التعظيم
والتبجيل بما كان أظهره من الإيمان، وذلك خلاف الإجماع. فإذا الصحيح أن
المؤمن لا يكفر أصلا بل لا كفر يوافي به ولا بكفر لا يوافي به.
فأما الكافر فإنه يجوز أن يؤمن، لأن الإيمان يسقط عقاب الكفر إجماعا
سواء قلنا أنه دائم أو منقطع. ولا يحتاج أن يقسم بأن يقول: الكفر الذي
يوافي به يستحق عليه العقاب الدائم المنقطع، لأن مع حصول الإجماع على
سقوط عقابه بالإيمان والتوبة من الكفر لا يحتاج إلى ذلك.
فإذا ثبت فقوله " إن الذين آمنوا ثم كفروا " 1) معناه إن الذين أظهروا
الإيمان ثم كفروا. وجاز أن يسمى من أظهر الإيمان مؤمنا كما قال " فإن علمتموهن
مؤمنات " 2) يعني من أظهر الإيمان منهن، وقوله " فتحرير رقبة مؤمنة " 3) يعني
على الظاهر.
فعلى هذا من أظهر الكفر أو الفسق مختارا بلا تقية ولا أمر يحتمل التأويل
قطعنا على كونه كافرا وفاسقا، وليس كذلك من أظهر الإيمان أو الطاعة، لأنه
يجوز أن يكون في باطنه بخلافه.
وإذا ثبت ذلك فكل من كان مظهرا للكفر قطعنا على ثبوت عقابه وإن كان
فاسقا مصرا قطعنا على ارتفاع التوبة عنه وجوزنا أن يكون الله تعالى أسقط عقابه
تفضلا وإن لم نقطع به ونذمه عليه بشرط عدم العفو. ومتى غاب عنا من

1) سورة النساء: 137.
2) سورة الممتحنة: 10.
3) سورة النساء: 92.
134

قطعنا على عقابه وذمه من الكفار والفساق فإنا نذمه بشرط عدم التوبة وعدم العفو،
ومن غاب من الفساق نذمه بشرط عدم التوبة وعدم العفو، ويشترط الأمرين
في خبره.
وليس ههنا من يقطع على ثبوت ثوابه بإظهار الإيمان والطاعة إلا من أدل
دليل على عصمته وأمنا فعل القبيح والاخلال بالواجب من جهته.
فصل
(في ذكر أحكام المكلفين في القبر والموقف والحساب)
(وغير ذلك مما يتعلق بالوعيد)
أجمعت الأمة على عذاب القبر لا يختلفون فيه، وما يحكى عن ضرار بن
عمرو من الخلاف فيه لا يعتد به لأنه سبقه الإجماع وتأخر عنه وإن اختلفوا في
وقت عذاب القبر: فقال جمهور الأمة من أصحاب الحديث أنه حين الدفن،
وقال قوم يجوز أن يكون عند قيام الساعة.
والظواهر لا يمكن الاستدلال بها على ثبوت عذاب القبر، لأنها مجملة
نحو قوله " ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين " 1) وغير ذلك، وقد بينا القول فيها
في شرح الجمل.
وأنكر قوم عذاب القبر، فقالوا هو محال، ومنهم من قال هو قبيح.
وقولهما يبطل بحصول الإجماع على ثبوته وأنه واقع، وذلك يدل على جوازه
وحسنه أيضا، فالميت إذا أعيد حيا جاز أن يعاقب، فلا وجه لإحالته. فأما من
أحاله ربما ظن أنه يعاقب وهو ميت، وهذا لا يقوله أحد.

1) سورة غافر: 11.
135

وأما ضيق القبر عن العقاب فإنه يجوز أن يوسعه الله تعالى حتى يمكن
ذلك، وإن كان المتولي لذلك الملائكة فلا يحتاجون إلى سعة موضع.
وإذا كان العقاب مستحقا فإنه يجوز أن يكون في تقديم بعضه مصلحة للمكلفين
من البشر والملائكة، فيقدم منه بعضه في الدنيا كالحدود وبعضه في القبر، لما
في الإخبار به من المصلحة في دار التكليف.
ومتى قال لا حال ينبش فيها الميت إلا ويوجد على ما هو عليه، فأما من قال
ليس لعذاب القبر وقت لا يلزمه ذلك، ومن قال هو عقيب الدفن يقول لا يمتنع أن
لا يعقل إذا أردنا نبش القبر لما فيه من المصلحة.
ومتى قيل: لو عوقب لوجب أن يكون عاقلا قادرا على الكلام فكان
يسمع كلامه. قلنا: كمال العقل لا بد منه، فلا يجب أن يكون قادرا على الكلام
إما بأن لا يكون فيه قدرة أصلا أو يكون ممنوعا منه.
وأما الملكان النازلان عليه فإنما سميا منكرا ونكيرا اشتقاقا من استنكار
المعاقب لفعلهما أو نفوره عنهما، وليس بمشتق من الانكار.
وأما المحاسبة والمسألة في الموقف - وإن كان الله تعالى عالما بأحوالهم
لأنه عالم لنفسه - لا يمتنع أن يكون في تقديمه غرض، لأن بالمحاسبة والمسألة
وشهادة الجوارح يظهر الفرق بين أهل الجنة والنار ويتميز بعضهم من بعض
فيسر بذلك أهل الجنة ويكثر بذلك نفعهم، ويكون لنا في العلم به مصلحة في
دارا التكليف.
والاجماع حاصل على المحاسبة والقرآن يشهد به لقوله تعالى " وكفى
بنا حاسبين " 1).
وكذلك شهادة الجوارح ونشر الصحف مجمع عليه، والقرآن شاهد به،

1) سورة الأنبياء: 47.
136

لكن المسألة وإن كانت عامة فهي على المؤمنين سهلة وعلى الكافرين صعبة،
لما فيها من التبكيت والمناقشة.
وأما كيفية شهادة الجوارح فقال قوم بينها الله تعالى متى يشهد، وقيل إن
الله تعالى يفعل فيها الشهادة وأضافها إلى الجوارح مجازا، وكلا الأمرين مجاز.
وقيل إن الشاهد هو العاصي نفسه يشهد على نفسه بما فعله ويقربه ويكون ذلك
حقيقة، وقيل إنه تظهر فيه أمارة تدل على الفرق بين العاصي والمطيع. وكل
ذلك جائز.
فأما الميزان فقال قوم إنه عبارة عن العدل والتسوية والقسمة الصحيحة كما يقولون
كلام فلان موزون وأفعاله موزونة. وهذا وجه حسن يليق بفصاحة الكلام.
وقال قوم: المراد به الميزان والكفتين، وإن الأعمال وإن لم يصح وزنها والصحف
التي فيها هذه الأعمال يصح وزنها. وقيل: إنه يجعل النور في إحدى الكفتين
والظلمة في الأخرى، ويكون لنا في الإخبار عن ذلك مصلحة في التكليف.
وأما الصراط فقد قال قوم إنه طريق أهل الجنة والنار، وإنه يمهد لأهل
الجنة ويتسهل لهم سلوكه ويضيق على أهل النار ويشق عليهم سلوكه. وقال
آخرون المراد به الحجج والأدلة المفرقة بين أهل الجنة والنار المميزة
بينهم.
فأما أهل الآخرة فالتكليف عن جميعهم زائل مثابين كانوا أو معاقبين،
وإنما كان كذلك لأنهم لو كانوا مكلفين لجاز منهم وقوع التوبة فيسقط عقابهم،
وذلك يمنع منه الإجماع.
ويمنع أيضا من استحقاق ثواب أو عقاب لإجماعهم على أنه ليس بدار
استحقاق، ولأن من شأن الثواب أن يكون خالصا صافيا من أنواع الشوب
والكدر، والتكليف ينافي ذلك، فعلى هذا قوله " كلوا واشربوا " 1) صورته

1) سورة البقرة: 60.
137

صورة الأمر والمراد به الإباحة المحضة.
وقال قوم: إنه أمر لا يزيد في سرورهم إذا علموا أن الله يريد منهم
ذلك، إلا أنهم لا يختلفون أن ذلك ليس على وجه التكليف وأنه لا مشقة
عليهم في ذلك.
وأما شكرهم لنعم الله تعالى فما يرجع إلى الاعتقاد فهم مضطرون إليه،
لأن معارفهم ضرورية فهي خارجة عن التكليف، وما يرجع إلى اللسان فيجوز أن
يكون لأهل الجنة فيه سرور، ومعارف أهل الآخرة ضرورة، وهم ملجأون إلى أن لا
يفعلوا القبيح، ولا بد أن يعرفوا الله تعالى، لأن المثاب لا بد أن يعلم أن الثواب
واصل إليه على الوجه الذي يستحقه، ولا يصح ذلك إلا مع كمال العقل والمعرفة
بالله تعالى وحكمته، ليعلم أن ما فعله به هو الذي استحقه.
والقول في المعاقب مثله، لأن من شرط الثواب أن يصل إلى مستحقه مع
الاعظام والاكرام من فاعل الثواب [لأن الاعظام من غير فاعل الثواب] 1) لا
يؤثر فيه، والاعظام لا يعلم إلا مع القصد إلى التعظيم، ولا يجوز أن يعلم قصده من
لا يعلمه. وكذلك القول في العقاب، ووصوله على سبيل الاستخفاف والإهانة.
ولأن المثاب يجب أن يعلم أن ما فعل به يستحقه، ومتى لم يعلم ذلك جوز
أن يكون تفضلا فيعتقده فيكون معرضا لجهل، وكذلك لا يتم إلا بعد معرفة
الله تعالى.
وكذلك أهل النار متى لم يعلموا أن ما يصل إليهم يستحقونه جوزوا أن
يكون ظلما، وربما اعتقدوه كذلك، فيكونون معرضون للجهل، وذلك لا يجوز
ولقائل أن يقول: العاقل يعلم قبح اعتقاد لا يأمن كونه جهلا فهو إذا لم يعلم
الثواب مستحقا أو العقاب وجب عليه التوقف ولا يقدم.

1) الزيادة من ر.
138

فإذا وجبت معرفة الله تعالى فلا يخلو أن يعرفه ضرورة، أو يكون عن نظر
مختار، [أو ملجأ إلى فعله، أ وتذكر نظر، أو بأن يلجأ الفاعل إلى نفس المعرفة
من غير تقدم نظر] 1). ولا يجوز أن تكون واقعة عن نظر مبتدأ، لأن ذلك
تكليف ومشقة، وقد بينا أنه ليس هناك تكليف.
ولا يجوز أن يكونوا ملجئين إلى النظر، لأن الالجاء إلى النظر مع إمكان
الالجاء إلى المعرفة عبث، ولأن ذلك أيضا فيه مشقة. وما يمنع من الالجاء إلى
نفس المعرفة يمنع من الالجاء إلى سبب المعرفة.
ولا يجوز أن يقع عن تذكر نظر، لأن المتذكر يجوز أن يدخل عليه شبهة
فيلزمه حلها، وفي ذلك رجوع إلى التكليف الذي بينا فساده.
وليس لأحد أن يقول: لا تعترض الشبهات في الآخرة مع مشاهدة تلك
الآيات والأحوال، وذلك أن جميع ذلك لا يمنع من دخول الشبهة وأن تكون
المعرفة مكتسبة، كما أن من شاهد المعجزات لم يمنع من ذلك في دار الدنيا.
ولا يجوز أن يقع الالجاء إلى نفس المعرفة، لأن الالجاء إلى أفعال القلوب
التي لا يعلمها إلا الله لا يجوز أن تقع إلا من الله. وإذا وجب أن يكون الملجأ إلى
العلم عارفا بالله فقد استعصى بتقدم المعرفة عن الالجاء إليها.
وقد قيل: إن الالجاء إلى العلم إنما يكون بأن يعلم أنه متى خاف اعتقادا
غيره منع منه، فإقدامه على الاعتقاد الذي وصفنا حاله لا يكون لأجله الاعتقاد
علما، فلم يبق من الأقسام إلا أن تكون المعرفة ضرورية.
ولا يجوز أن يكون أهل الآخرة مضطرين إلى أفعالهم على ما حكي عن أبي
الهذيل، لأن الاضطرار إلى الأفعال ينقص من لذتها، لأن التخير في الأفعال أبلغ في
باب اللذة والسرور. وأيضا فإن الترغيب في الثواب هو على الوجه المألوف

1) الزيادة ليست في ر.
139

وذلك يكون مع التخير في الأفعال.
وإذا ثبت ذلك في المثاب وجب مثله في المعاقب، لأن أحدا لا يفرق
بينهما. على أن الله تعالى أخبر بأنهم يأكلون ويشربون ويفعلون، فأضاف الفعل
إليهم، وذلك يوجب اختيارهم. وقال " وفاكهة مما يتخيرون " 1)، وذلك
صريح بما قلناه.
فإذا ثبت أنهم مخيرون ولم يجز أن يكونوا مكلفين لما مضى فيهم، فهم
ملجأون إلى ترك القبيح، بأن يخلق الله فيهم العلم بأنهم متى راموا القبيح
منعوا منه.
ويمكن أن يقع الالجاء بأن يعلمهم الله بأنهم مستغنون بالحسن عن القبيح
فلا يكون لهم داع له إلى فعل القبيح ملجأ، وذلك أن الالجاء لا يجوز إلا على من
يجوز عليه المنافع والمضار، وإذا لم يجز على القديم لم يصح فيه معنى الالجاء.
فصل
(في الإيمان والأحكام)
الإيمان هو التصديق بالقلب، ولا اعتبار بما يجري على اللسان، وكل
من كان عارفا بالله وبنبيه وبكل ما أوجب الله عليه معرفته مقرا بذلك مصدقا به
فهو مؤمن.
والكفر نقيض ذلك، وهو الجحود بالقلب دون اللسان مما أوجب الله
تعالى عليه المعرفة به، ويعلم بدليل شرعي أنه يستحق العقاب الدائم الكثير.
وفي المرجئة من قال: الإيمان هو التصديق باللسان خاصة وكذلك الكفر
هو الجحود باللسان، والفسق هو كل ما خرج به عن طاعة الله تعالى إلى

1) سورة الواقعة: 20.
140

معصيته، سواء كان صغيرا أو كبيرا. وفيهم من ذهب إلى أن الإيمان هو
التصديق بالقلب واللسان معا، والكفر هو الجحود بهما.
وفي أصحابنا من قال: الإيمان هو التصديق بالقلب واللسان والعمل بالجوارح،
وعليه دلت كثير من الأخبار المروية عن الأئمة عليهم السلام.
وقالت المعتزلة: الإيمان اسم للطاعات، ومنهم من جعل النوافل والفرائض
من الإيمان، ومنهم من قال النوافل خارجة عن الإيمان.
والاسلام والدين عندهم شئ واحد، والفسق عندهم عبارة عن كل
معصية يستحق بها العقاب، والصغائر التي تقع عندهم مكفرة لا تسمى فسقا.
والكفر عندهم هو ما يستحق به عقاب عظيم، وأجريت على فاعله أحكام
مخصوصة، فمرتكب الكبيرة عندهم ليس بمؤمن ولا كافر بل هو فاسق.
وقالت الخوارج تقريب من قول المعتزلة إلا أنهم لا يسمون الكبائر كلها
كفرا 1)، وفيهم من يسميها شركا. والفضيلية منهم يسمي كل معصية كفرا صغيرة
كانت أو كبيرة.
والزيدية من كان منهم على مذهب الناصر يسمون الكبائر كفر نعمة،
والباقون يذهبون مذهب المعتزلة.
والذي يدل على ما قلناه أولا هو أن الإيمان في اللغة هو التصديق،
ولا يسمون أفعال الجوارح إيمانا، ولا خلاف بينهم فيه. ويدل عليه أيضا قولهم
" فلان يؤمن بكذا وكذا وفلان لا يؤمن بكذا " وقال تعالى " يؤمنون بالجبت
والطاغوت 2) " قال " وما أنت بمؤمن لنا " 3) أي بمصدق، وإذا كان فائدة هذه

1) في ر " اللهم إلا أنهم يسمون الكبائر كلها كفرا ".
2) سورة النساء: 51.
3) سورة يوسف: 17.
141

اللفظة في اللغة ما قلناه وجب إطلاق ذلك عليها إلا أن يمنع مانع، ومن ادعى
الانتقال فعليه الدلالة، وقد قال الله تعالى " بلسان عربي مبين " 1) وقال " وما أرسلنا من
رسول إلا بلسان قومه " 2) وقال " إنا أنزلناه قرآنا عربيا " 3) وكل ذلك يقتضي
حمل هذه اللفظة على مقتضى اللغة.
وليس إذا كان ههنا ألفاظ منتقلة وجب أن يحكم في جميع الألفاظ بذلك
وإنما ينتقل عما ينتقل بدليل يوجب ذلك. وإن كان في المرجئة من قال ليس
ههنا لفظ منتقل ولا يحتاج إلى ذلك.
ولا يلزمنا أن نسمي كل مصدق مؤمنا، لأنا إنما نطلق ذلك على من صدق
بجميع ما أوجبه الله عليه. والاجماع مانع من تسمية من صدق بالجبت والطاغوت
مؤمنا، فمنعنا ذلك بدليل وخصصنا موجب اللغة، وجرى ذلك مجرى تخصيص
العرف لفظ " الدابة " ببهيمة مخصوصة وإن كان موجب اللغة يقتضي تسمية كل
ما دب دابة، ويكون ذلك تخصيصا لا نقلا. فعلى موجب هذا يلزم من ادعى
انتقال هذه اللفظة إلى أفعال الجوارح أن يدل عليه.
وليس لأحد أن يقول: إن العرف لا يعرف التصديق فيه إلا بالقول، فكيف
حملتموه على ما يختص القلب؟
قلنا: العرف يعرف بالتصديق باللسان والقلب، لأنهم يصفون الأخرس بأنه
مؤمن، وكذلك الساكت، ويقولون " فلان يصدق بكذا وكذا وفلان لا يصدق "
ويريدون ما يرجع إلى القلب، فلم يخرج بما قلناه عن موجب اللغة. وإنما منعنا
إطلاقه في المصدق باللسان أنه لو جاز ذلك لوجب تسميته بالإيمان وإن علم
جحوده بالقلب، والاجماع مانع من ذلك.

1) سورة الشعراء: 195.
2) سورة إبراهيم: 4.
3) سورة يوسف: 2.
142

فأما السجود للشمس فعندنا وإن لم يكن كفرا فهو دلالة على الكفر وإن
فاعله ليس بمصدق في القلب، لحصول الإجماع على أن فاعله كافر ولم يجمعوا
على أن نفس السجود كفر لأن فيه الخلاف. وكلما يسأل من نظائر ذلك فالجواب
عنه ما قلناه.
واستدلت المرجئة على أن الطاعات ليست إيمانا، أنه لو كانت طاعة إيمانا
لكانت كل معصية كفرا أو بعض كفر، ولو جاز أن يكون في الإيمان ما ليس تركه
كفرا جاز أن يكون في الإيمان الكفر ما ليس تركه إيمانا.
وأيضا لو كانت كل طاعة إيمانا لم يكن أحد كامل الإيمان لا الأنبياء ولا غيرهم
لأنهم يتركون كثيرا من النوافل بلا خلاف، وعندهم يتركون من الواجب أيضا
ما يكون صغيرا.
وأيضا قال الله تعالى " الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم " 1) وقال
" والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شئ " 2) وقال " ومن يأته
مؤمنا قد عمل الصالحات " 3) [وذلك يدل على أنه يكون مؤمنا وأن يعمل
الصالحات] 4) من أفعال الجوارح. والمعتمد ما قدمناه، وما يتعلق به المخالف
قد بيناه في شرح الجمل لا نطول بذكره ههنا.
وأما الكفر فقد قلنا أنه عند المرجئة من أفعال القلوب، وهو جحد ما
أوجب الله تعالى معرفته مما عليه دليل قاطع كالتوحيد والعدل والنبوة وغير
ذلك، وأما في اللغة فهو الستر أو الجحود، وفي الشرع عبارة عما يستحق به
العقاب الدائم الكثير، ويلحق بفاعله أحكام شرعية كمنع التوارث والتناكح.

1) سورة الأنعام: 82.
2) سورة الأنفال: 72.
3) سورة طه: 75.
4) الزيادة ليست في ر.
143

والعلم بكون المعصية كفرا طريقه السمع لا مجال للعقل فيه، لأن مقادير
العقاب لا تعلم عقلا، وقد أجمعت الأمة على أن الاخلال بمعرفة الله تعالى و
توحيده وعدله وجحد نبوة رسله كفر، لا يخالف فيه إلا أصحاب المعارف
الذين بينا فساد قولهم. ولا فرق بين أن يكون شاكا في هذه الأشياء أو يكون
معتقدا لما يقدح في حصولها، لأن الاخلال بالواجب يعم الكل.
فعلى هذا المجبرة والمشبهة كفار، وكذلك من قال بالصفات القديمة،
لأن اعتقادهم الفاسد في هذه الأشياء ينافي الاعتقاد الصحيح من المعرفة بالله
تعالى وعدله وحكمته.
وأما الفسق فهو في اللغة عبارة عن خروج الشئ إلى غيره، ولذلك
يقولون " فسقت الرطبة " إذا خرجت عن قشرها، وسميت الفارة فويسقة من
ذلك لخروجها من نقبها، إلا أن بالعرف صار متخصصا بالخروج من حسن إلى
قبح. وأما في عرف الشرع فهو عندنا عبارة عن كل معصية سواء كانت صغيرة
أو كبيرة، ولأن معاصي الله تعالى كلها كبائر وإنما نسميها صغائر بالإضافة إلى
ما هو أكبر منها، وهي كبيرة بالإضافة إلى ما هو أصغر منها.
وشبهة المعتزلة في أن المؤمن لا يسمى به المصدق وإن قالوا كان ينبغي
أن لا يسمى بعد إيمانه بزمان أنه مؤمن كما لا يسمى بأنه ضارب لما تقدم من الضرب
لأن الأسماء المشتقة إنما تطلق في حال وقوع على ما اشتقت منه. باطلة، لأنا نقول
أن الاعتقاد بالقلب الذي هو الإيمان يتجدد حالا فحالا، لئلا يبقى فيما خرجنا عن
طريقة الاشتقاق.
وقولهم: إنه لو كان كذلك لوجب أن لا يسمى من هو في مهلة النظر بأنه
مؤمن، لأنه ما صدق بالله ولا بصفاته. فاسد، لأن من هو في مهلة النظر قد
صدق بجميع ما تجب عليه في تلك الحال فلذلك يسمى مؤمنا.
144

ومتى قالوا: يلزم من كل من صدق ما قلتموه يسمى مؤمنا وإن لم يترك
شيئا من القبائح إلا ارتكبه ولا شيئا من الواجبات إلا تركه، وهذا شنيع من
المقال.
قلنا: ذلك يقوله المرجئة، غير أن الذي نختاره أن يعتقد ذلك لئلا يوهم
فيقول هو مؤمن بتصديقه بجميع ما وجب عليه فاسق بتركه ما يجب عليه من
أفعال الجوارح فيعتد له الأمرين لئلا يوهم ارتفاع أحدهما إذا أطلقنا الآخر.
وما يتعلقون به من الظواهر تكلمنا عليه في شرح الجمل لا نطول بذكره ههنا.
وقول من قال من الزيدية أنه كافر نعمة. باطل، لأنه معترف بنعمة الله
تعالى معتقد لها، فكيف يكون جاحدا.
وأما قول الحسن أنه منافق. باطل، لأن المنافق هو من أظهر خلاف ما في
باطنه، ومن كان مظهرا للمعصية التي يستحق بها العقاب لا يكون منافقا.
وقول الخوارج واحتجاجهم على أن من يرتكب الكبيرة كافر بقوله
" ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " 1)
مبني على القول بالعموم
والذي بينا فساده. [ولنا أن نخص ذلك بما تقدم من الأدلة الموثقة] 2).
وقوله " فأنذرتكم نارا تلظى * لا يصلاها إلا الأشقى * الذي كذب وتولى " 3)
يفيد نارا مخصوصة، ولذلك خص بها الذي كذب وتولى وهم المرتدون، فأما
من كان كافرا ابتداءا فلا يدخل فيها.
وقوله " وجوه يومئذ مسفرة " إلى قوله " وجوه يومئذ عليها غبرة " 4) لا يمنع
أن يكون هناك قسم ثالث وإن لم يكن منطوقا به ويكون عليها سمة أخرى.

1) سورة المائدة: 44.
2) الزيادة من ر.
3) سورة الليل: 16 14.
4) سورة عبس: 40 38.
145

وقوله " يوم تبيض وجوه وتسود وجوه " 1) لا يمنع من أن يكون وجوه أخر
لا سوداء خالصة ولا بيضاء خالصة. على أن هذه الآية مخصوصة بالمرتدين،
لقوله " أكفرتم بعد إيمانكم ".
وقوله " وإن جهنم لمحيطة بالكافرين " 2) لا يمتنع من إحاطتها بالفساق كما
لا يمتنع من إحاطتها بالزبانية وخزنة النيران.
وقوله " وهل نجازي إلا الكفور " 3) لو حمل على عمومه لوجب الاثبات
المؤمن بحال على ذلك مخصوص بعقاب الاستيصال في دار الدنيا، وذلك مختص
بالكفار بدلالة أول الآية وسياقها إلى آخرها.
واستقصاء القول في ذلك مذكور حيث أشرنا إليه 4) وفي مسألة الوعيد للمرتضى
رحمه الله.
فصل
(في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان بلا خلاف بقول الأمة، وإن
اختلفوا في أنه هل يجبان عقلا أو سمعا:
فقال الجمهور من المتكلمين والفقهاء وغيرهم أنهما يجبان سمعا وأنه ليس
في العقل ما يدل على وجوبه وإنما علمناه بدليل الإجماع من الأمة وبآي من
القرآن وكثير من الأخبار المتواترة، وهو الصحيح.

1) سورة آل عمران: 106.
2) سورة التوبة: 49.
3) سورة سبأ: 17.
4) من شرح الجمل للمؤلف نفسه.
146

وقيل: طريق وجوبهما هو العقل.
والذي يدل على الأول أنه لو وجبا عقلا لكان في العقل دليل على وجوبهما
وقد سبرنا أدلة العقل فلم نجد فيها ما يدل على وجوبهما، ولا يمكن ادعاء العلم
الضروري في ذلك لوجود الخلاف.
وأما ما يقع على وجه المدافعة فإنه يعلم وجوبه عقلا، [لما علمنا بالعقل
وجوب دفع المضار عن النفس، وذلك لا خلاف فيه، وإنما الخلاف فيما عداه.
وكل وجه يدعى في وجوبه عقلا] 1) قد بينا فساده في شرح الجمل، وفيما ذكرناه
كفاية.
ويقوى في نفسي أنهما يجبان عقلا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لما
فيه من اللطف، ولا يكفي فيه العلم باستحقاق الثواب والعقاب، لأنا متى قلنا
ذلك لزمنا أن تكون الإمامة ليست واجبة، بأن يقال: يكفي في العلم باستحقاق
الثواب والعقاب وما زاد عليه في حكم الندب وليس بواجب فالأليق بذلك
أنه واجب.
واختلفوا في كيفية وجوبه: فقال الأكثر أنهما من فروض الكفايات إذا قام
به البعض سقط عن الباقين، وقال قوم هما من فروض الأعيان. وهو الأقوى
عندي، لعموم آي القرآن والأخبار، كقوله تعالى " ولتكن منكم أمة يدعون
إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر " 2) وقوله " كنتم خير أمة
أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر " 3) وقوله في لقمان

1) الزيادة ليست في ر.
2) سورة آل عمران: 104.
3) سورة آل عمران: 110.
147

" أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر " 1) في حكاية عن لقمان حين
أوصى ابنه.
والأخبار أكثر من أن تحصى ويطول بذكرها الكتاب.
والمعروف على ضربين: واجب، وندب. فالأمر بالواجب واجب و
المندوب مندوب، لأن الأمر لا يزيد على المأمور به نفسه. والمنكر لا ينقسم
بل كله قبيح فالنهي عنه كله واجب.
والنهي عن المنكر له شروط ستة: أحدها أن يعلمه منكرا، وثانيها أن
يكون هناك أمارة الاستمرار عليه، وثالثها أن يظن أن إنكاره مؤثر أو يجوزه،
ورابعها ألا يخاف على نفسه، وخامسها ألا يخاف على ماله، وسادسها ألا يكون
فيه مفسدة. [وإن اقتصرت على أربع شروط كان كافيا، لأنك إذا قلت لا
يكون فيه مفسدة] 2) دخل فيه الخوف على النفس والمال لأن ذلك مفسدة.
وإنما اعتبرنا العلم بكونه منكرا لأنه إن لم يعلمه منكرا جوز أن يكون
غير منكر، فيكون إنكاره قبيحا، فجرى مجرى الخبر في أنه لا يحسن إلا مع
العلم بالمخبر، ومتى لم يعلم المخبر جوز أن يكون خبره كذبا، فلا يحسن
منه الإخبار بذلك، وكذلك إنكار المنكر.
واعتبرنا الشرط الثاني لأن العرض بإنكار المنكر أن لا يقع في المستقبل فلا
يجوز أن يتناول الماضي الذي وقع، لأن ذلك لا يصح ارتفاعه بعد وقوعه وإنما يصح
أن يمنع مما لم يقع، فلا بد من أمارة على استمراره على فعل المنكر يغلب على
ظنه معها وقوعه وإقدامه عليه، فيحصل الانكار للمنع من وقوعه. وإمارات
الاستمرار معروفة بالعادة، ولا يجوز الانكار لتجويز وقوعه بلا أمارة، لأن ذلك

1) سورة لقمان: 17.
2) الزيادة ليست في ر.
148

يؤدي إلى تجويز الانكار على كل قادر، والمعلوم خلافه.
واعتبرنا الشرط الثالث من تجويز تأثير إنكاره لأن المنكر له ثلاثة
أحوال: حال يكون ظنه فيها بأن إنكاره يؤثر فإنه يجب عليه إنكاره بلا خلاف
والثاني يغلب على ظنه أنه لا يؤثر إنكاره، والثالث يتساوى ظنه في وقوعه
وارتفاعه. فعند هذين قال قوم يرتفع وجوبه، وقال قوم لا يسقط وجوبه.
وهو الذي اختاره المرتضى رحمه الله، وهو الأقوى، لأن عموم الآيات
والأخبار الدالة على وجوبه لم يخصه بحال دون حال. فأما إذا خاف على
نفسه أو ماله أو كان فيه مفسدة له أو لغيره فهو قبيح، لأن المفسدة قبيحة.
وفي الناس من قال: مع الخوف على النفس إنما يسقط الوجوب ولا
يخرج عن الحسن إذا كان فيه إعزازا للدين. وهذا غير صحيح، لما قلناه من
أنه مفسدة.
والخوف على المال يسقط أيضا الوجوب والحسن، لما قلناه من كونه
مفسدة، وفي الناس من قال هو مندوب إليه، وقد بينا فساده.
وجملته أنه متى غلب على ظنه أن إنكاره يؤدي إلى وقوع قبيح لولاه لم
يقع فإنه يقبح لا لأنه مفسدة، سواء كان ما يقع عنده من القبيح صغيرا أو كبيرا،
من قتل نفس أو قطع عضو أو أخذ مال كثير أو يسير، فإن الكل مفسدة.
ولا يلزم على ذلك سقوط فرض الصلاة والصوم عند الخوف على المال
كما يسقط عند الخوف على النفس، لأن الله تعالى لو علم أن في العبادات
الشرعية مفسدة في بعض الأحوال لأسقطها عنا، ولما علمنا وجوبها على كل حال
علمنا أن المفسدة لا تحصل في فعلها على حال. ولا يلزم مثل ذلك في إنكار
المنكر، لأنه لا خلاف أن وجوبه مشروط بأن لا يكون فيه مفسدة، وليس كذلك
العبادات الشرعية، لأن الأمة مجتمعة على وجوبها من غير شرط.
149

وأما المفسدة فإنما اعتبرت لأن كونه مفسدة وجه قبح، فلا يجوز أن يثبت
معه وجوب ولا حسن بلا خلاف.
والغرض بإنكار المنكر أن لا يقع، فإذا أثر القول والوعظ في ارتفاعه
اقتصر عليه، وإن لم يؤثر [جاز أن يغلظ في القول ويشدد، فإن أثر اقتصر
عليه، وإن لم يؤثر] 1) وجب أن يمنع منه ويدفع عنه وإن أدى ذلك إلى
إيلام المنكر عليه والاضرار به وإتلاف نفسه بعد أن يكون القصد ارتفاع المنكر
أن لا يقع من فاعله ولا يقصد إيقاع الضرر به. ويجري ذلك مجرى دفع الضرر
عن النفس في أنه يحسن وإن أدى إلى الاضرار بغيره.
غير أن الظاهر من مذهب شيوخنا الإمامية أن هذا الضرب من الانكار لا
يكون إلا للأئمة أو لمن يأذن له الإمام فيه، وكان المرتضى رضي الله عنه
يخالف في ذلك ويجوز فعل ذلك بغير إذنه، قال: لأن ما يفعل بإذنهم يكون
مقصودا، وهذا يخالف ذلك لأنه غير مقصود، وإنما القصد المدافعة والممانعة
فإن وقع ضرر فهو غير مقصود.
ويمكن أن ينصر الأول بأن يقال: إذا كان طريق حسن المدافعة بالألم
السمع فينبغي أن يدفعه على الوجه الذي قرره الشرع، وهو أن يقصد المدافعة
دون نفس إيقاع الألم والقصد إلى إيقاع الألم بإذن الشرع فيه، فلا يجئ منه
ما قاله.
ومن قال إن إنكار المنكر غير متعين، قال: يتعين في بعض الأحوال،
لأن المقصود أن لا يقع هذا المنكر، فإذا تساوى الكل في حكم هذا الانكار
فلا يكون الوجوب عاما لهم، فإذا قام به بعضهم سقط عن الباقين.
هذا إذا كان التمكن عاما في الجميع، فإن تعين الانكار في جماعة أو في

1) الزيادة ليست في ر.
150

شخص تعين عليه الوجوب. وعلى ما قلناه لا يحتاج إلى هذا التفصيل غير أن من
لا يتمكن سقط عنه الوجوب.
فصل
(في الكلام في النبوة)
النبي في العرف هو المؤدي عن الله تعالى بلا واسطة من البشر
ومعنى النبي في اللغة يحتمل أمرين:
أحدهما - المخبر، واشتقاقه يكون من " الإنباء " الذي هو الإخبار،
ويكون على هذا مهموزا.
والثاني - أن يكون مفيدا للرفعة وعلو المنزلة، واشتقاقه يكون من " النباوة "
التي هي الارتفاع. ومتى أريد بهذا اللفظ علو المنزلة فلا يجوز إلا بالتشديد
بلا همز. وعلى هذا يحمل ما روي عنه صلى الله عليه وآله أنه قال " لا تبروا
باسمي " 1) أي لا تهمزوه، لأنه أراد علو المنزلة.
ولا يلزم أن يكون كل عال المنزلة نبيا، لأن بالعرف صارت هذه اللفظة
مختصة بمن علت منزلته، لتحمله أعباء الرسالة والقيام بأدائها إذا كان من البشر
ولذلك لا توصف الملائكة بأنهم أنبياء وإن كان فيهم رسل من قبل الله تعالى.
ولا يمتنع أن يقال أيضا: يراد به الإخبار، إلا أنه مكروه لما ورد به الخبر.
وقولنا رسول يفيد في أصل اللغة أن من أرسله بشرط تحمله الرسالة، لأنه
لا يسمى بذلك من لا يعلم منه القبول لذلك. والعرف خصص هذا اللفظ بمن كان

1) كذا في النسختين، وهو غير صحيح، وأصله النبر بمعنى إدخال الهمز في الكلمة
فقوله صلى الله عليه وآله " لا تنبر باسمي " أي لا تجعل لفظة " النبي " مهمزة انظر النهاية
لابن الأثير (نبر).
151

رسولا من قبل الله، ولذلك إذا قيل " قال الرسول " لا يفهم إلا رسول الله وفي
غيره يكون مقيدا بأن يقال رسول فلان.
والمخالف في بعثة الرسل طوائف: منهم البراهمة الذين خالفوا في حسن
بعثة الرسل، ومنهم اليهود وهم فرق: منهم من خالف في جواز النسخ عقلا، ومنهم
من خالف في النسخ سمعا، ومنهم من أجاز النسخ وخالف في نبوة نبينا عليه
السلام.
ولنا في الكلام على هؤلاء طريقان:
أحدهما - أن يدل على أن الله تعالى بعث أنبياء وصحت نبوتهم، فلولا أنه
كان حسنا لما ثبت ذلك لأنه تعالى لا يفعل القبيح. ومتى تكلمنا على هذا الفصل
فينبغي أن نتكلم في صحة نبوة نبينا عليه السلام، لأنه المهم الذي نحتاج إليه
لتعلق مصالحنا بشرعه دون من بعدوا من الرسل الذين نسخ شرعهم. ومتى
ثبت لنا نبوته عليه السلام بطلت جميع الأقوال، قول من خالف في حسن البعثة
أو خالف في جواز النسخ عقلا أو شرعا أو خالف في نبوة نبينا، فصار الكلام
في ذلك أولى من غيره.
والطريقة الثانية - أن نتكلم على فرقة فرقة بكلام يخصهم، فنتكلم أولا في
حسن البعثة ليبطل مذهب البراهمة ثم نتكلم في نبوة نبينا عليه السلام.
والذي يدل على الفصل الأول من هذه الأقسام - وهو الكلام في حسن البعثة
هو أنهم يؤدون إلينا ما هو مصلحة لنا في التكليف العقلي، ولا يمكننا معرفة
ذلك بالعقل.
ولا يمتنع أن يعلم الله أن في أفعال المكلف ما إذا فعله دعاه إلى فعل الواجب
العقلي أو صرفه عن القبيح العقلي، أو ما إذا فعله دعاه إلى فعل القبيح أو الاخلال
بالواجب، فيجب أن يعلمنا ذلك، لأن الأول لطف لنا والثاني مفسدة، ويجب
152

عليه تعالى إزاحة علة المكلف في فعل اللطف على ما مضى القول فيه.
ولا يمكن إعلام ذلك إلا ببعثة الرسل الذين يعلمونا ذلك، لأنه لا يمكننا
الوصول إليه بضرورة العقل ولا باستدلال، ولا يحسن خلق العلم الضروري
بذلك لأنه ينافي التكليف، فلم يبق بعد ذلك إلا بعثة الرسل ليعرفونا ذلك.
وعلى هذا الوجه متى حسنت البعثة وجبت، ولا ينفصل الحسن من الوجوب.
وإنما قلنا " لا يحسن خلق العلم الضروري بذلك " لأنا بينا أن معرفة الله تعالى
إنما تكون لطفا إذا كانت كسبية، والعلم بالشرائع فرع على العلم بالله، فلا يجوز أن
يكون الفرع ضروريا والأصل كسبيا، فيكون الفرع أقوى من الأصل.
ويجوز أن يبعث الله تعالى نبيا ليؤكد ما في العقول وإن لم يكن معه شرع،
ولا يكون ذلك عبثا، لأنه لا يمنع أن يكون نفس بعثته لطفا للمكلفين.
فعلى هذا يجب إظهار المعجزات على يده، لأنا فرضنا أن في بعثته لطفا
ولو لم يكن في بعثته لطف لما كان أيضا عبثا، كما لا يكون نصب أدلة كثيرة
على شئ واحد عبثا وإن كان الدليل الواحد كافيا في هذا الباب.
وأما النظر في معجزة فإن كان معه شرع أو كان نفس بعثته لطفا فإنه يجب
علينا، وإن لم يكن كذلك بل بمجرد ما في العقل فإنه يحسن النظر في معجزه
وإن لم يجب. ومتى التزمنا على ذلك جواز إظهار المعجزات على يدي الأئمة
والصالحين فإنا نلتزمه، وسنتكلم عليه فيما بعد إنشاء الله.
ويحسن بعثة الأنبياء لأمور أخر، نحو تعريفنا القطع على عقاب الكفار،
وليعرفونا بعض اللغات، وليعرفونا الفرق بين السموم القاتلة والأغذية، وكثيرا
من مصالح الدنيا على ما بيناه وفرعناه في شرح الجمل. وإن لم يكن جميع
ذلك واجبا، لإمكان الوصول إلى هذه الأشياء من غير جهة الأنبياء، على ما
بيناه في الشرح.
153

وقول البراهمة: إن النبي لا يخلو أن يأتي بما يوافق العقل أو بما يخالفه
فإن أتى بما يوافقه فالعقل فيه كفاية، وإن أتى بما يخالفه فما يخالف العقل [لا
يلتفت إليه لأنه قبيح بالاتفاق. باطل، لأنا نقول: الشرع لا يأتي إلا بما يوافق
العقل] 1) على طريق الجملة لا على طريق التفصيل، وتفصيله لا يمكن معرفته
بالعقل، فيبعث الله تعالى نبيا ليعرفنا تفصيل ذلك.
فأما ما يعلم مفصلا بالعقل فلا يحتاج إلى بعثة الأنبياء فيه، وإنما قلنا
ذلك لأن العقل دال على وجه الجملة على أن ما دعا إلى فعل واجب مثله وما
صرف عن قبيح يجب فعله، وما يدعوا إلى قبيح أو إخلال بواجب يجب تجنبه.
وإذا كان هذا معلوما جملة ويحصل ذلك في بعض الأفعال التي لا نعلم بالعقل
كونه كذلك ويجب إعلامنا ذلك ولا يتم ذلك إلا ببعثة رسول على ما بيناه.
وإنما يكون منافيا لما في العقل أو نفي السمع ما أثبته العقل أو أثبت ما نفاه
والأمر بخلافه.
ومثل ذلك ما نعلمه عقلا وجوب دفع المضار عن النفس وقبح الظلم على
طريق الجملة، ثم يرجع في حصول بعض المضار في كثير من الأفعال إلى
التجربة والعادات أو إلى الخبر، فلا نكون بذلك مخالفين لما في العقل. وكذلك
القول في السمع.
وقولهم: إن الصلاة والصوم والطواف قبائح في العقل، لا يجوز أن يتغير كما لا
يجوز أن يتغير قبح الظلم والكذب وغير ذلك. باطل، لأن القبائح في العقل على
ضربين: أحدهما لا يجوز تغييره كالظلم والكذب والمفسدة والجهل وغير ذلك، ولا
يجوز أن يرد السمع بخلافه. والثاني ما يجوز أن يتغير من حسن إلى قبح ومن قبح
إلى حسن كالضرر الذي متى عري من استحقاق نفع أو دفع ضرر كان قبيحا ومتى حصل

1) الزيادة ليست في ر.
154

بعض هذه الأمور كان حسنا. والصلاة والصوم وجميع العبادات إنما يقبح في
العقل متى خلت من فائدة ومنفعة وغرض، فإذا عرض فيها نفع وغرض صحيح
فإنما يخرج من القبح إلى الحسن وإذا كان السمع ورد بأن لنا في هذه العبادات
منافع وجب أن يحسن، لأنا لو علمنا ذلك بالعقل لعلمنا حسنه.
ولا طريق إلى معرفة النبي إلا بالمعجز، والمعجز في اللغة عبارة عمن جعل غيره
عاجزا، مثل المقدور الذي يجعل غيره قادرا إلا أنه صار بالعرف عبارة عما يدل
على صدق من ظهر على يده واختص به، والمعتمد على ما في العرف دون
مجرد اللغة.
والمعجز يدل على ما قلناه بشروط: أولها أن يكون خارقا للعادة، والثاني
أن يكون من فعل الله أو جاريا مجرى فعله، والثالث أن يتعذر على الخلق جنسه
أو صفته المخصوصة، والرابع أن يتعلق بالمدعي على وجه التصديق لدعواه.
وإنما اعتبرنا كونه خارقا للعادة لأنه لو لم يكن كذلك لم يعلم أنه فعل
للتصديق دون أن يكون فعل بمجرى العادة. ألا ترى أنه لا يمكن أن يستدل
بطلوع الشمس من مشرقها على صدق الصادق ويمكن بطلوعها من مغربها،
وذلك لما فيه من خارق العادة.
واعتبرنا كونه من فعل الله لأن المدعي إذا ادعى أن الله تعالى يصدقه بما
يفعله فيجب أن يكون الفعل الذي قام مقام التصديق من فعل من طلب منه
التصديق وإلا لم يكن دالا عليه، وفعل المدعي كفعل غيره من العباد لأنه لا يدل
على التصديق، وإنما يدل فعل من ادعى عليه التصديق.
فإن قالوا: ليس لو كان القرآن من فعل النبي عليه السلام لدل على صدقه
وكذلك نقل الجبال وطفر البحار يكون معجزا، وإن كان جميع ذلك من
فعل المدعي للنبوة.
155

قلنا: لو كان القرآن من فعله وخرق العادة بفصاحته لكان المعجز في الحقيقة
اختصاصه بالعلوم التي يأتي منه بها هذه الفصاحة وتلك العلوم من فعل الله،
وكذلك طفر البحار ونقل الجبال إنما يكون المعجز اختصاصه بالقدر الذي
خلقها الله تعالى فيه التي يمكن بها من ذلك، وتلك من فعله تعالى ولم يخرج
عما قلناه.
هذا على مذهب من يقول بالصرفة، وأما من يعتبر مجرد خرق العادة
فقط فإنه يقول: إن ذلك الكلام الخارق للعادة أو حمل الجبال هو المعجز،
لأنه لو لم يكن كذلك لما مكن الله تعالى منه.
وإنما اعتبرنا أن يكون متعذرا في جنسه أو صفته لأنا متى لم نعلمه كذلك
لم نأمن أن يكون من فعل غير الله، وقد بينا أنه لا بد أن يكون من فعله وسوينا
بين تعذره في جنسه وصفته، لأن تعذر الجنس إنما دل من حيث كان ناقصا
للعادة لا من حيث كان مختصا به تعالى، وكذلك إذا كان متعذرا [في صفته] 1) وإن
كان جنسه مقدورا تصديقا لهذا المدعى.
وإنما يعلم كونه خارقا للعادة بالرجوع إلى العادات المستقرة المستمرة،
وذلك معلوم عند العقلاء، فإذا انتقضت بذلك لم يخف على أحد. ألا ترى
أن أحدنا لا يشك في طلوع الشمس من مشرقها ولا يعرفون خلقا ولد إلا من
وطي، فإذا شاهدوا طلوعها من مغربها أو خلق حي من غير ذكر أو أنثى علموا
أنه خارق للعادة. وعلى هذا افتتاح العادات لا تكون عادة.
ومتى خلق الله تعالى خلقا ابتداءا من مصلحته معرفة الشرائع ولم تعرف
العادة لم يحسن أن يكلف حتى يبقيه غير مكلف زمانا يعرف فيه العادات،
فإذا عرفها حينئذ كلفه وبعث إليه من يمكنه أن يستدل على صدقه بانتقاض ما عرف
من العادات قبل تكليفه.

1) الزيادة من ر.
156

والعادة قد تكون عامة، وقد تكون خاصة، وقد تكون في بعض البلاد دون
بعض. فعلى هذا الاعتبار بانتقاض من تلك العادة عادة له، وإنما نعلم أنه من فعله
إذا عرفنا تعذره علينا على كل حال مع ارتفاع الموانع المعقولة كالحياة والقدرة
وخلق الجسم، أو يقع على وجه مخصوص لا يقدر عليه أحد من الخلق كنقل
الجبال وفلق البحر.
والكلام الخارق للعادة بفصاحته، إنما نعلم اختصاصه بالمدعي بأن نعلمه
مطابقا لدعواه، فإن ادعى الدلالة على تصديقه طلوع الشمس من مغربها فطلعت
فذلك غاية المطابقة، ويجري مجرى أن يصدقه بكلام يتضمن تصديقه فعلم أنه
بكلامه، لأنه لا فرق في الشاهد. فمن ادعى على غيره أنه رسوله بين أن يقول
ذلك الغير صدقت وبين أن يقول المدعي الدليل على صدقي أنه يفعل فعلا من
الأفعال لم تجر عادته بذلك، ثم يفعل ذلك الغير ما اقترحه، فإنا نعلم أنه صدقه.
وليس لأحد أن يقول في التصديق بالقول مواضعة متقدمة وهو صريح في
التصديق، وليس في الفعل الذي التمسه مواضعة، فكيف يعلم أنه قصد التصديق
وذلك الكلام وإن كان فيه مواضعة متقدمة ففي الفعل ما يجري مجرى المواضعة
وهو طلب شئ مخصوص، فهذا يجري مجرى مواضعة متقدمة في ذلك على
التصديق.
لأنا قد بينا أنه لا يكون دالا لمساواته له في كونه خارقا للعادة.
وإنما قلنا أنه لا بد أن يختص بالمدعي، لأنا إن لم نراع ذلك لم يعلم
اختصاصه به ولا تعلقه. وجوزنا مع هذه المطابقة أن لا يكون فرقا بين التصديق
بالقول وبين فعل ما يلتمسه المدعي إذا لم تجربه عادة، والعقلاء لا يفرقون بينهما.
ومتى قيل: إن أحدنا يعلم قصده ضرورة بفعله، فيعلم أنه صدقه إذا فعل
عقيب الدعوى، وليس كذلك القديم تعالى، لأنه لا يعلم قصده ضرورة.
157

قلنا: لا نعلم قصد أحدنا ضرورة بالتصديق بفعل ما يطابق الدعوى من تصديق
بكلام أو فعل ملتمس به على وجه مخصوص، ومع هذا يعلم أنه صدقه ولو لم
يكن صدقه لكان قبيحا، فقد ساوى القديم في هذا الباب.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يفعل تعالى ما يخرق العادة للمصلحة دون التصديق
فلا يمكنهم أن يعلموا أنه فعل للتصديق.
قلنا: لا يجوز أن يفعل تعالى ما يخرق العادة إلا للتصديق، كما لا يجوز أن
يقول قولا يتضمن التصديق ولا يقصد التصديق بل يفعله للمصلحة.
ولا فرق بين القول والفعل في ذلك، ولذلك لو قال الواحد منا لمن
ادعى عليه أنه أرسله صدقت ولا يقصد تصديقه كان مقبحا وإن قصد إلى وجه
آخر. ألا ترى أنه لو قال عقيب ذلك أردت بذلك تصديق الله لم يعذره العقلاء
في ذلك بل يستقبحون منه ما فعله ويذمونه عليه.
ولا يجب في مدع النبوة أن يعين ما يلتمسه من المعجز وإن كان لو عين
لكان أبلغ، بل يكفي أن يلتمس ما يدل على صدقه على الجملة، فإذا فعل الله
تعالى عقيب ذلك ما يكون خارقا للعادة دل على صدقه كدلالة ما عينه، لأن المعين
إنما دل على صدقه من حيث كان خارقا للعادة ومطابقا للدعوى ومختصا به ومفعولا
عقيب الدعوى، وكل ذلك حاصل فيما ليس بمعين، فيجب أن يكون دالا
على صدقه.
ولا يلزم في مدعي النبوة أن يطلب المعجز بلسانه، لأن ادعاء النبوة يتضمن
وجوب تصديقه بالمعجز على مجرى العادة، فإن ادعى لفظا جاز كما لو عين
المعجز جاز وإن لم يكن ذلك واجبا على ما بيناه.
وإذا كان فائدة المعجز تصديق من ظهر على يده فيجب جواز ظهوره على
يد بعض الأئمة والصالحين إذا ادعوا الإمامة والصلاح وكانوا صادقين، فإنه
158

إذا كان مقتضاه تصديق من ظهر على يده فإن كان ذلك مدعيا للنبوة علمنا نبوته
وإن كان مدعيا للإمامة علمنا بها صدقه وإن ادعى صلاحا فمثل ذلك، لأنه لا بد
من دعوى يقترن بها.
وأيضا فلا وجه لقبح ظهور المعجز على يدي من ليس بنبي إذا كان صادقا
من كونه كاذبا أو ظلما أو عبثا أو مفسدة. وهذه هي وجوه القبح المعقولة في
العقل، فإن ادعوا وجها غير ذلك فليبينوه لنتكلم عليه.
وليس يمتنع أيضا أن يعترض في ظهور المعجز على يدي من ليس بنبي
وجه من وجوه المصلحة واللطف، فيجب إظهار ذلك.
ومتى قيل: إن المعجز يدل على النبوة على طريق الإبانة بخلاف سائر
الأدلة. قلنا: المعجز يدل على إبانة الصادق ممن ليس بصادق، فإن كان مدعيا
للنبوة علمناه نبيا، وإن ادعى إمامة أو صلاحا علمنا صدقة فيه وعلمناه كذلك.
هذا إذا سلمنا أنه يدل من جهة الإبانة، وقد بيناه في شرح الجمل، لأنه ليس
كذلك وأجبنا على كل ما يسأل عن ذلك لا نطول بذكره الكتاب.
ويجوز من إظهار المعجزات ما لا يؤدي إلى كونها معتادة، فينتقض وجه
دلالتها. فلا يلزم على ذلك إظهارها على كل صالح وكل صادق.
ولا يلزم أن نقول في من لم يظهر على يده معجز أنه ليس بإمام ولا صالح كما
يجب أن نقطع على أنه ليس بنبي، لأن المعجز إنما يبين مدعيا صادقا من مدع
غير صادق.
والإمام إذا لم يدع الإمامة والصالح إذا لم يدع الصلاح لا يجب إظهار
المعجز على يده، وإذا لم يظهر لا يجب نفي الصلاح عنه ولا نفي الإمامة، بل
لا يمتنع أن نعلمه إماما أو صالحا بغير المعجز. وليس كذلك النبي، لأنه لا طريق
لنا إلى معرفته إلا بالمعجز، فإذا لم يظهر على يده المعجز قطعنا على كذبه إن كان
159

مدعيا، وإن لم يدع علمنا أنه ليس بنبي، لأنه لو كان نبيا لوجب بعثته ووجب
عليه ادعاؤه ولوجب ظهور المعجز عليه. فبان الفرق بين النبي والإمام والصالح.
فعلى هذا لا يلزم أن يظهر الله على يد كل إمام معجزا، لأنه يجوز أن يعلم
إمامته بنص أو طريق آخر، ومتى فرضنا أنه لا طريق إلى معرفة إمامته إلا المعجز
وجب إظهار ذلك عليه وجرى مجرى النبي سواء، لأنه لا بد لنا من معرفته كما
لا بد لنا من معرفة النبي المتحمل لمصالحنا.
ولو فرضنا في نبي علمنا نبوته بالمعجز أنه نص على نبي آخر لأغنى
ذلك عن ظهور المعجز على يد النبي الثاني، بأن نقول: النبي الأول أعلمنا
أنه نبي كما يعلم بنص إمام على إمامته ولا يحتاج إلى معجز.
وليس لأحد أن يقول: تجويز إظهار المعجز على يد من ليس بنبي ينفر
عن النظر في معجز النبي. وذلك أن المعجز لا يكون إلا عقيب الدعوى، فإن
كانت الدعوى للنبوة وجب النظر فيما يدعيه من المعجز، فإن كان صحيحا
قطعنا [على صدقه وإن لم يكن صحيحا قطعنا] 1) على كذبه. ولا يجوز أن يكون
نبيا ولا إماما إذا ادعى الإمامة فمثل ذلك وليس ههنا موضع يظهر المعجز مع
ادعائه النبوة ويجوز كونه إماما، فيكون فيه تنفير.
على أن تجويزنا كونه إماما ليس بأكثر من تجويزنا كونه محرفا كذابا،
ومع ذلك يلزمنا النظر في معجزه فكيف يقال أن ذلك منفرا عنه.
فأما وجوب النظر في معجزه فإن كان مدعيا للنبوة فإنه يلزمنا ذلك لأنا لا نأمن
كونه صادقا، وكذلك إن ادعى كونه إماما يلزمنا مثل ذلك، لأن لنا في معرفة
الإمام مصالح وربما لا نعلم كثيرا من الشريعة إلا بقوله، وإن كان مدعيا للصلاح
لا يجب علينا النظر في معجزه وإن كان لا يحسن ذلك، لأن وجه وجب النظر في

1) الزيادة في ر.
160

معجزه ولأنه لا يلزمنا معرفة كونه صالحا.
ولا يلزمنا جواز إظهار المعجز على يد الفساق المتهتكين والكفار إذا كانوا
صادقين، لأن المعجز عند أكثر أصحابنا يدل على عصمة من ظهر على يده،
ومن لم يعتبر العصمة جوز إظهارها على مؤمن يستحق الثواب بإيمانه وإن كان
فاسقا بجوارحه بعد أن لا يكون سخيف المنزلة دني الرتبة، من حيث أن المعجز
يقتضي علو المنزلة وعظم الرتبة، وذلك لا يوجد في هؤلاء وإن كانوا مؤمنين.
ويجب أن يكون النبي معصوما من القبائح صغيرها وكبيرها قبل النبوة
وبعدها على طريق العمد والنسيان وعلى كل حال. يدل على ذلك أن القبيح
لا يخلو أن يكون كذبا فيما يؤديه عن الله أو غيره من أنواع القبائح، فإن كان
الأول فلا يجوز عليه، لأن المعجز يمنع من ذلك، لأنه ادعى النبوة على الله
وصدقه بالعلم المعجز جرى ذلك مجرى أن يقول له صدقت، فلو لم يكن صادقا
لكان قبيحا، لأن تصديق الكذاب قبيح لا يجوز عليه تعالى.
وأما الكذب في غير ما يؤديه وجميع القبائح الأخر فإنا ننزههم عنها لأن
تجويز ذلك ينفر عن قبول قولهم. ولا يجوز أن يبعث الله نبيا ويوجب علينا
اتباعه وهو على صفة تنفر عنه، ولهذا جنب الله تعالى الأنبياء الفظاظة والغلظة
والخلق المشينة والأمراض المنفرة لما كانت هذه الأشياء منفرة في العادة.
ومرادنا بالتنفير هو أن يكون معه أقرب إلى أن لا يقع منه القبول ويصرف
عنه وإن جاز أن يقع على بعض الأحوال، كما أن ما يدعو إلى الفعل قد لا يقع
معه الفعل. ألا ترى أن التبشير إلى وجه الضيف داع إلى حضور طعامه وربما لم
يقع معه الحضور، والعبوس ينفر وربما وقع منه الحضور وإن كان ذلك لا يقدح
في كون أحدهما داعيا والآخر صارفا، ولا يقع القبول من الواعظ الزاهد ويقع من
الماجن السخيف ولا يخرج ذلك السخف من كونه صارفا والزهد من كونه داعيا.
161

ودليل التنفير يقتضي نفي جميع القبائح عنهم صغيرها وكبيرها، والفرق
بينهما مناقضة.
وقولهم " حط الصغائر بتنقيص الثواب " ليس بصحيح إذا سلمنا الاحباط
لأنها وإن نقصت الثواب فهي فعل قبيح وإقدام عليه ومع ذلك يزيل ثوابا
حاصلا وفي ذلك من مرتبة عالية إلى ما دونها، وذلك لا يجوز على الأنبياء كما
لا يجوز أن يعزلوا عن النبوة بعد حصولها. ثم يلزم عليه تجويز الكبائر قبل
النبوة، لأن حطها نقصان الثواب، لأن عقابها قد زال بالتوبة والنبوة، وذلك
لا يقوله أكثر من خالفنا.
وأما ما يستدل من الظواهر التي يقتضي ظاهرها وقوع المعصية من الأنبياء
نحو قوله تعالى " وعصى آدم ربه فغوى " 1) فقد بينا الوجه فيه في التفسير
واستوفاه المرتضى في التنزيه لا يحتمل ذكر ذلك ههنا.
بل نقول: الظواهر تبنى على أدلة العقول ولا تبنى أدلة العقول على
الظواهر، وإذا علمنا بدليل العقل أن القبيح لا يجوز عليهم تأولنا الآيات إن
كانت لها ظواهر وإن كان أكثرها لا ظاهر له على ما بين هناك.
وأما الذي به يعلم أنه لا يجوز عليه الكتمان مما بعث لأدائه فهو أنا لو جوزنا
ذلك أدى إلى نقض الغرض في إرساله، فنؤل ما حمله وكلف أداه إلى من
هو مصلحة له حتى يكون مزيحا لعلتهم، فإذا علم أنه لا يؤدي انتقض الغرض
ولم تحصل إزاحة العلة في معرفة المكلفين. وليس ذلك بمنزلة تكليف من
علم الله أنه يكفر، لأن الغرض بتكليفه لا يتعداه.
ثم الغرض تعريضه لمنافع الثواب، فإذا لم يفعل أتي من قبل نفسه.
وتكليف النبوة الغرض فيه متعلق بغير النبي، وإن كان فيه غرض يرجع إليه

1) سورة طه: 121.
162

فعلى وجه التبع، فلا يجوز أن يكون الأمر على هذا ومع هذا فلا يؤديه، لأن
ذلك يخل بإزاحة علة المكلفين في تكليفهم، وذلك لا يجوز.
وأما الكلام في النسخ فقد حكينا أن الخلاف المشهور فيه مع اليهود
الذين منعوا النسخ، وهم ثلاث فرق: منهم من منع النسخ عقلا، ومنهم من
منعه سمعا، ومنهم من أجازه ومنع من صحة نبوة نبينا عليه السلام. ونحن
نتكلم عليهم واحدا بعد أن نبين حقيقة النسخ.
والنسخ في الشريعة عبارة عن كل دليل شرعي دل على أن مثل الحكم
الثابت بالنص الأول زائل في المستقبل على وجه لولاه لكان ثابتا بالنص الأول
مع تراخيه عنه.
وذكرنا " المثل " دون " العين " لأنه لو نهاه عن نفس ما أمره به لكان
ذلك قبيحا إما بأن يكون بداء أو فيه وجه آخر من وجوه القبح.
وخصصنا أدلة الشرع بذلك لأن ما يزيل وجوب الفعل في المستقبل من العجز
أو فقد الآلة أو ما يجري مجرى ذلك لا يوصف بأنه نسخ وإن كان مزيلا لوجوب
الفعل من حيث اختص هذا الوجه بأدلة الشرع.
وشرطنا التراخي لأن ما يقترن باللفظ من ذكر الغاية الدالة على زوال
الوجوب عندها لا يوصف بأنه ناسخ. ألا ترى أن قوله " ثم أتموا الصيام إلى
الليل " 1) لا يقال " إلى الليل " ناسخ لصوم النهار، وكذلك لو قال الزموا
السبت إلى وقت كذا لم يكن ما بعد ذلك الوقت ناسخا لما قبله وإن سقط
الغرض فيه، ولو قال ذلك مطلقا ثم دل بعد ذلك على سقوط لزومه سمي ذلك
نسخا للتراخي الذي قدمناه.
فإذا ثبت حقيقة النسخ في الشرع فالدليل على جوازه هو أن كل دليل

1) سورة البقرة: 187.
163

على حسن التعبد بالشرع فهو بعينه دال على جواز النسخ، لأن ما دل على
جواز التعبد بالشرع ما قدمناه من المصلحة المتعلقة بالعبادة واللطف فيها. وهذا
بعينه قائم في النسخ، لأنه لا يمتنع أن يصير ما كان مصلحة في وقت مفسدة في
وقت آخر وما هو مفسدة في وقت يصير مصلحة في غيره، وما هو مصلحة لزيد
يصير مفسدة لعمرو وما يكون مصلحة لعمرو يصير مفسدة لزيد. فإذا كان
ذلك غير ممتنع فلو فرضنا حصوله لمن هو عالم بالعواقب وجب أن يعلمنا
ذلك وينسخ عنا ما تغير الحال فيه، كما وجب أن يعلمنا ذلك في ابتداء العبادة.
وأي فرق بين أن يقول افعلوا هذه العبادة إلى وقت كذا واتركوا بعدها وبين
أن يقول افعلوا مطلقا ثم يعلمنا بعد ذلك الوقت الذي تغيرت المصلحة فيه،
وهل تجويز أحدهما إلا كتجويز الآخر.
ومتى قالوا: إن ذلك يؤدي إلى البداء. قلنا: ليس ذلك بداء، لأن البداء ما
جمع شروطا أربعة: أحدها أن يكون المأمور به هو المنهي عنه بعينه، وثانيها
أن يكون الوجه واحدا، وثالثها أن يكون الوقت واحدا، ورابعها أن يكون
المكلف واحدا. والنسخ بخلاف ذلك لأن الفعل المأمور به غير المنهي عنه،
لأن إمساك السبت في زمن موسى عليه السلام هو غير ما تناوله النهي عن إمساكه في
زمن نبينا صلى الله عليه وآله، وإذا تغاير الفعلان لم تتكامل شروط البداء.
وكذلك إذا كان الوقتين متغايرين.
ولو كان ذلك بداءا لوجب أن يكون إماتة الله الخلق بعد إحيائهم وإغناؤهم
بعد فقرهم وصحتهم بعد مرضهم يكون بداءا، فإذا لم يكن كذلك لتغير المصلحة
فيه فالنسخ مثله.
ويلزم عليه أيضا أن لا تختلف شرائع الأنبياء وقد علمنا اختلافها ولم يكن
ذلك بداء، لأنه كان في شرع آدم جواز تزويج الأخت من الأخ وفي شرع
164

إبراهيم إباحة تأخير الختان إلى وقت الكبر وفي شريعة إسرائيل جواز الجمع
بين الأختين، وكل ذلك مخالف لشرع موسى عليه السلام.
وقولهم " إن ذلك يؤدي إلى كون الشئ حسنا قبيحا " ليس بصحيح، لأنه
إنما يقتضي مثل الحسن قبيحا ولا يمتنع في المثلين ذلك، وذلك أكثر من أن
يحصى.
وأما من أجاز النسخ عقلا ومنع منه سمعا فالكلام عليه من وجهين:
أحدهما - أن نقول: ما الذي يدل على صحة هذه الدعوى وأن موسى
عليه السلام قال شريعتي لا تنسخ، فإن رجعوا إلى نقلهم الذي هو خبر الآحاد فإن
ذلك لا يقبل فيه خبر واحد، وإن ادعوا التواتر فالتواتر يوجب العلم الضروري
فكان ينبغي أن نعلم مع اختلاطنا بهم أن موسى عليه السلام قال ذلك، كما أنا
لما نقلنا عن نبينا عليه السلام أن شريعته لا تنسخ علم ذلك المخالف والموافق،
فإن اليهود لا يدفعون أن من دين محمد أن شرعه لا ينسخ وإنما خالفوا في صدق قوله.
على إنه ذكر الشيوخ أن نقل اليهود غير متصل بموسى، لأنهم انقرضوا
وقتلهم بخت نصر حتى لم يبق منهم إلا نفر لا يقطع بنقلهم العدد ولا يؤمن عليهم
الكذب. ولو سلمنا أن موسى عليه السلام قال شريعتي لا تنسخ لا بد أن يكون
ذلك مشروطا إذا لم تعتبر المصلحة أو ينسخها من ثبتت نبوته، وأما مع تغير
المصلحة وثبوت نبوته فهي صادقة فلا بد من نسخها.
والطريقة الثانية - أن يدل على نبوة نبينا عليه السلام، فإذا ثبتت نبوته
علمنا بطلان دعواهم أن موسى قال شرعي لا ينسخ، لأنه لو كان صحيحا لما
ثبتت نبوة من ينسخها.
فإن قيل: لم صرتم بأن تدلوا على نبوة نبيكم فيعلموا بطلان دعوانا فأولى
منا إذا دللنا على صحة خبرنا فيعلم بطلان دعواكم في صحة نبوة نبيكم.
165

قلنا: نحن أولى بذلك، لأن النظر في معجز النبي عليه السلام يبنى على
أمور عقلية لا يدخلها احتمال الاشتباه، لأنه مبني على ظهور القرآن وتحدي
العرب وأنهم لم يعارضوه، وذلك كله معلوم ضرورة. والعلم بأن هذه صورته
يكون معجزا ودالا على النبوة طريقه اعتبار العقل الذي لا يدخله الاحتمال،
وليس كذلك الكلام في الخبر، لأن الخبر كلام والكلام لا تدخله الحقيقة
والمجاز والعمل بظاهره تركه.
والخبر الذي يدعونه مبني على صحته، وصحته لا تعلم إلا بعد العلم بأن
صفة التواتر فيه ثابتة في جميع أسلاف اليهود وكل زمان. ثم إذا ثبت فهو
كلام تدخله الحقيقة والمجاز والخصوص والعموم والشروط والعدول عن
ظاهره. فعلم بذلك أن النظر في معجز النبي عليه السلام أولى، لأن في العلم
بصحته بطلان ما سواه، وإن لم يعلم صحة تكليف النظر في تصحيح خبرهم.
وأما من أجاز النسخ عقلا وشرعا ومنع من صحة نبوة نبينا عليه السلام
فالوجه فيه أن يدل على صحة نبوة نبينا لبطل قوله، ولنا في الكلام في ثبوته
طريقان: أحدهما الاستدلال بالقرآن على صحة نبوته، والآخر الاستدلال بباقي
معجزاته عليه السلام.
والاستدلال بالقرآن لا يتم إلا بعد بيان خمسة أشياء: أحدها ظهوره عليه
السلام بمكة وادعاؤه النبوة، وثانيها تحديه العرب بهذا القرآن وادعاؤه أن الله
أنزل عليه وخصه به، وثالثها أنه لم يعارضوه في وقت من الأوقات، ورابعها
أنهم لم يعارضوه للعجز، وخامسها أن هذا لتعذر خرق العادة.
فإذا ثبت ذلك دل على أن القرآن معجز، سواء كان معجزا خارقا للعادة
بفصاحته فلذلك لم يعارضوه أو لأن الله تعالى صرفهم عن معارضته ولولا
الصرف لعارضوا، وأي الأمرين ثبت ثبتت صحة نبوته عليه السلام، لأنه تعالى
166

لا يصدق كذابا ولا يخرق العادة لبطل.
فأما الفصل الأول - وهو ظهوره صلى الله عليه وآله بمكة وادعاؤه
النبوة - فمعلوم ضرورة لا ينكره عاقل سمع الأخبار.
وظهور هذا القرآن على يده أيضا معلوم مثل ذلك ضرورة، فالشك في
أحدهما كالشك في الآخر.
وأما الذي يدل على أنه تحدى بهذا القرآن، فهو أن معنى التحدي أنه
عليه السلام كان يدعي أن الله تعالى خصه بهذا القرآن وآياته وأن جبريل كان
يهبط عليه فيه، وذلك معلوم ضرورة ولا يمكن أحد دفعه. وهذا غاية التحدي
في المعنى والبعث على إظهار معارضته إن كان مقدورا.
وأيضا فمعلوم أنه عليه السلام ادعى النبوة ودعا الناس كافة إلى الاقرار
بنبوته والعمل بشرعه، ومن ادعى هذه المنزلة لا بد أن يحتج بأمر يجعله حجة
على دعواه صحيحا كان أو فاسدا، لأنه لو عري دعواه من حجة أو شبهة
لسارع الناس إلى تكذيبه وطالبوه بما يدل على صدق قوله، فلما لم يكن
ذلك منهم دل على أنه احتج بهذا القرآن أو بما هذا القرآن أظهر منه.
وأيضا فآيات التحدي في القرآن ظاهرة، نحو قوله تعالى " فأتوا بعشر
سور مثله مفتريات " 1) وقوله " فأتوا بسورة من مثله " 2) وفي موضع آخر
" بسورة مثله " 3) وقوله " قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل
هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا " 4) وهذا صريح بالتحدي.
وأما الذي يعلم به أنه لم يعارض فهو أنه لو كان عورض لوجب أن ينقل،

1) سورة هود: 13.
2) سورة البقرة: 23.
3) سورة يونس: 38.
4) سورة الإسراء: 88.
167

ولو نقل لعلم كما علم نفس القرآن، فلما لم يعلم دل على أنها لم تكن. وإنما
قلنا ذلك لأن كل أمر لو كان لوجب أن ينقل فإذا لم ينقل قطعنا على أنه لم
يكن. وبهذا يعلم أنه ليس بين بغداد والبصرة بلد أكبر منهما وأنه ليس في
الشريعة صلاة سادسة ولا حج إلى بيت بخراسان، لأنها لو كانت لوجب نقلها
مع سلامة الأحوال.
وإنما قلنا كان يجب نقل المعارضة لو كانت لأن الدواعي كانت تتوفر إلى
نقلها، لأنها لو كانت تكون هي الحجة دون القرآن، ونقل الحجة أولى من
نقل الشبهة.
على أن الذي دعى إلى المعارضة داع إلى نقلها وإظهارها، والداعي
لهم إلى ذلك طلب التخليص مما ألزموه من ترك أديانهم ومفارقة عاداتهم
وبطلان الرياسات التي ألفوها، ولذلك نقلوا كلام مسيلمة والأسود العنسي
وطليحة مع ركاكته وسخافته وبعده عن دخول الشبهة فيه، وكيف لم ينقل ما
هو حجة في نفسه إذ فيه شبهة قوية.
ولا يمكن أن يدعى فيه الخوف فيه من أنصاره وأتباعه فمنع ذلك من
معارضته، لأن الخوف لا يقتضي انقطاع النقل بالكلية وإنما يمنع من المظاهرة
به والمجاهرة، فكان يجب أن ينقل على وجه الاستسرار كما نقل ما يدعيه من
النص الجلي وغيره.
على أن كثرة المسلمين وكثرة أنصاره كانوا بعد الهجرة، فهلا عارضوه
قبل ذلك بمكة. ثم لم لم يعارضوه ويظهروه في بلاد الكفر كالروم وبلاد الفرس
والهند وغيرها، فإن الكفر فيها إلى يومنا هذا، وكيف لم يمنع الخوف من
نقل هجائه وسبه ومنع نقل معارضته، والكلام في ذلك استوفيناه في شرح الجمل.
ولا يمكن أن يدعى وقوع المعارضة من واحد أو اثنين وأنه قيل فلم يسمع
168

وذلك أنه إذا كانت المعارضة متعذرة على الفصحاء المعروفين والشعراء والخطباء
المبرزين كفى ذلك في باب خرق العادة وثبوت كونه معجزا، إما بأن يكونوا
مصروفين على مذهب من قال بالصرفة أو لأن القرآن فقط فصاحته خرق العادة.
وأيهما كان وجب تساوي الكل فيه وأن أحدا لم يتمكن من المعارضة، وذلك
يمنع من التجويز الذي سألوا عنه.
وإذا ثبت أنهم لم يعارضوه [فإنما يعلم أنهم لم يعارضوه] 1) للعجز - لأن كل
فعل لم يقع مع توفر الدواعي لفاعله وشدة تداعيه عليه - قطعنا على أنه لم يفعل
للتعذر، ولذلك قطعنا على أن الجواهر والألوان ليست في مقدورنا مع علمنا
بتوفر الدواعي إلى فعلها وانتفاء الموانع المعقولة، فيخرج من هذا أن نقطع
على أن جهة ارتفاع ذلك للتعذر لا غير. [لأنا علمنا أن العرب تحدوا بالقرآن
وتوفرت دواعيهم إلى معارضته ولم يكن هناك مانع فوجب القطع على أن ذلك
للتعذر لا غير] 2).
وكيف وقد علمناهم تكلفوا المشاق من بذل النفوس والأموال والحروب
العظيمة التي أفنتهم طلبا لإبطال أمره، فلو كانت المعارضة مباينة لما تكلفوا ذلك
لأن العاقل لا يترك الأمر السهل الذي يبلغ به الغرض ويفعل الأمر الشاق الذي
لا يبلغ مع الغرض، ومتى فعل ذلك دل على أنه مختل العقل سفيه الرأي،
والقوم لم يكونوا بهذه الصفة.
وليس لأحد أن يقول: إنهم اعتقدوا أن الحرب انجع من المعارضة
فلذلك عدلوا إليها. وذلك أن النبي عليه السلام لم يدع النبوة فيهم بالغلبة
والقهر وإنما ادعى معارضة مثل القرآن تتعذر عليهم وأنه المختص بذلك ولا

1) الزيادة من ر.
2) الزيادة ليست في ر.
169

ينفع مع ذلك الحرب لو غلبوا فكيف وهم كانوا أكثر الأوقات مغلوبين مقتولين
مغلوبين وكان يجب مع هذا أن يقدموا المعارضة فإن أنجعت وإلا عدلوا إلى
الحرب أو كان يجب أن يجمع بينهما فيكون أبلغ وأنجع، وفي عدولهم عنها
دليل على أنهم كانوا عاجزين.
وليس لهم أيضا أن يدعوا أنهم التبس عليهم الحال فلم يعرفوا ما أراد
بالتحدي من المعارضة بالمثلية، وذلك أنه لو كان كذلك لاستفهموه وقالوا له
ما الذي تريد بذلك، فكيف وهم كانوا عارفين في تحدي بعضهم بعضا
بالشعر والخطب وكيف التبس عليهم الأمر ههنا.
فإن قالوا: خافوا أن يلتبس الأمر فيظن قوم أنه ليس مثله. قيل: هذا هو
المطلوب لن يختلف العقلاء فيه وطائفة يقولون إنه مثله وطائفة يقولون إنه
ليس مثله، فيحصل الخلاف وتقع الشبهة، وذلك أولى من ترك المعارضة
التي تقوى معها الشبهة بالعجز.
وليس لهم أن يقولوا: إنه لم تتوفر دواعيهم إلى ذلك. وذلك أن هذا
باطل، وكيف لم تتوفر دواعيهم وهم تكلفوا من المشاق العظيمة من القتال
وإنفاق الأموال ما هو معروف، والعاقل لا يتكلف ذلك فيما لا تتوفر دواعيه إلى
إبطاله.
فإن قالوا: إنما لم يعارضوه لأن في كلامهم ما هو مثله أو مقارنة. قلنا:
هذا غير مسلم، ولو سلم لما يقع، لأن التحدي إنما وقع لعجزهم عن معارضته
في المستقبل لا بأنه ليس في كلامهم مثله، ولو كان في كلامهم مثله لكان ترك
المعارضة في المستقبل أبلغ وأعظم في باب العجز.
فإن قيل: واطأه قوم من الفصحاء. قيل: هذا باطل، لأنه كان ينبغي أن
يعارضه من لم يواطئه، فإنهم وإن كانوا أدون منهم في الفصاحة كانوا يقدرون
170

على ما يقاربه، لأن التفات بين الفصحاء لا ينتهي إلى حد يخرق العادة. على
أن الفصحاء المعروفين والبلغاء المشتهرين في وقته كلهم كانوا منحرفين
عنه، كالأعشى الكبير الذي هو في الطبقة الأولى ومن أشبهه مات على كفره،
وكعب بن زهير أسلم في آخر الأمر وهو في الطبقة الثانية وكان من أعدى
الناس له عليه السلام، ولبيد بن ربيعة والنابغة الجعدي من الطبقة الثالثة أسلما
بعد زمان طويل، ومع هذا لم يحظيا في الاسلام بطائل. على أنه لو كان ينبغي
أن يوافقوه على ذلك ويقولون له الفصحاء المبرزون واطأوك ووافقوك، فإن
الفصحاء في كل وقت لا يخفون على أهل الصناعة.
فإن قيل: لم لا يكون النبي عليه السلام أفصح العرب فلذلك تأتى منه القرآن
وتعذر على غيره، أو تعمل ذلك في زمان طويل فلم يتمكنوا من معارضته في
زمان قصير.
قيل: هذا لا يتوجه على من يقول بالصرفة، لأن القائلون بها يقولون إن مثل
ذلك كان في كلامهم وخطبهم وإنما صرفوا عن معارضته في المستقبل، فلا معنى
لكونه أفصح. ومن قال جهة الاعجاز الفصاحة يقول كونه أفصح لا يمنع من أن
يقارنوه أو يدانوه، وذلك هو المطلوب المعتاد بينهم في المعارضة، فإن جعلوه
أفصح وإنه خرق العادة بفصاحته كفى ذلك لأهل الاعجاز. على أن كونه أفصح لا يمنع
من مساواته ومقارنته في قليل من الكلام الذي يتأتى به سورة قصيرة بذلك خرق
العادة. ألا ترى أن المتقدمين من الشعراء وإن كانوا أفصح من المتأخرين لا يمنع
أن يقع منهم البيت والبيتان من مثل فصاحة أولئك.
ثم لو كان الأمر على ما قالوه لوافقوه على ذلك وقالوا له أنت أفصحنا
فلذلك تأتى منك ما تعذر علينا، فيكون في ذلك إبطال أمره وإن كان فيه اعتراف له
بفضل لا يضرهم وإنما يضرهم السكوت عنه.
171

وقولهم: إنه تعمل. باطل، لأنه كان يجب أن يتعملوا مثله وإنما بقي ثلاثة
وعشرين سنة بينهم يتحداهم وفي ذلك تكثير يمكن التعمل.
وإذا ثبت بهذه الجملة أن القرآن معجز لم يضرنا أن لا نعلم من أي جهة كان
معجزا، لأنا إذا علمناه معجزا خارقا للعادة علمنا ثبوته ولو شككنا في جهة
إعجازه لم يضرنا ذلك، غير أنا نومي إلى جملة من الكلام فيه:
كان المرتضى علي بن الحسين الموسوي رحمة الله عليه يختار أن جهة
إعجازه الصرفة، وهي أن الله تعالى سلب العرب العلوم التي كانت تتأتى منهم
بها الفصاحة التي هي مثل القرآن متى راموا المعارضة، ولو لم يسلبهم ذلك
لكان يتأتى منهم. وبذلك قال النظام وأبو إسحاق النصيبي أخيرا.
وقال قوم: جهة الاعجاز الفصاحة المفرطة التي خرقت العادة من غير
اعتبار النظم. ومنهم من اعتبر النظم والأسلوب مع الفصاحة، وهو الأقوى.
قال الفريقان: إذا ثبت أنه خارق للعادة بفصاحته دل على نبوته، لأنه إن كان
فعل الله فهو دال على نبوته وإن كان من فعل النبي عليه السلام لم يتمكن من
ذلك إلا بعلوم فيه خارق للعادة يدل على نبوته، فإذا قال إنه من فعل الله دون
فعلي قطعنا على أنه من فعل الله لثبوت صدقه.
وقال قوم: هو معجز لاختصاصه بأسلوب مخصوص ليس في شئ من كلام
العرب.
وقال قوم: تأليف القرآن ونظمه مستحيل من العباد كاستحالة الجواهر
والألوان.
وقال قوم: كان معجزا لما فيه من العلم بالغائبات.
وقال آخرون: كان معجزا لارتفاع الخلاف والتناقض فيه مع جريان العادة
بأنه لا يخلو كلام طويل من ذلك.
172

وأقوى الأقوال عندي قول من قال إنما كان معجزا خارقا للعادة لاختصاصه
بالفصاحة المفرطة في هذا النظم المخصوص دون الفصاحة بانفرادها ودون
النظم بانفراده ودون الصرفة، وإن كنت نصرت في شرح الجمل القول بالصرفة
على ما كان يذهب إليه المرتضى رحمه الله من حيث شرحت كتابه فلم يحسن
خلاف مذهبه.
والذي يدل على ما قلناه واخترناه أن التحدي معروف بين العرب بعضهم
بعضا ويعتبرون في التحدي معارضة الكلام بمثله في نظمه ووصفه لأنهم لا يعارضون
الخطب بالشعر ولا الشعر بالخطب والشعر لا يعارضه أيضا إلا بما كان يوافقه
في الوزن والروي والقافية فلا يعارضون الطويل بالرجز ولا الرجز بالكامل ولا
السريع بالمتقارب، وإنما يعارضون جميع أوصافه. فإذا كان كذلك فقد ثبت أن
القرآن جمع الفصاحة المفرطة والنظم الذي ليس في كلام العرب مثله، فإذا
عجزوا عن معارضته فيجب أن يكون الاعتبار بهما.
فأما الذي يدل على اختصاصها بالفصاحة المفرطة فهو أن كل عاقل عرف
شيئا من الفصاحة يعلم ذلك وإنما في القرآن من الفصاحة ما يزيد على كل فصيح
وكيف لا يكون كذلك وقد وجدنا الطبقة الأولة قد شهدوا بذلك وطربوا له كالوليد
ابن المغيرة والأعشى الكبير وكعب بن زهير ولبيد بن ربيعه والنابغة الجعدي،
ودخل كثير منهم في الاسلام ككعب والنابغة ولبيد، وهم الأعشى بالدخول
في الاسلام فمنعه من ذلك أبو جهل وفزعه وقال إنه يحرم عليك الأطيبين الزنا
والخمر، فقال له: أما الزنا فلا حاجة لي فيه لأني كبرت وأما الخمر فلا صبر لي
عنه وأنظر، فأتته المنية واخترم دون الاسلام.
والوليد بن المغيرة تحير حين سمعه فقال: سمعت الشعر وليس بشعر والرجز
وليس برجز والخطب وليس بخطب وليس له اختلاج الكهنة فقالوا له: أنت شيخنا
فإذا قلت هذا ضعف قلوبنا، ففكر وقال قولوا هو سحر معاندة وحسدا للنبي عليه
173

السلام فأنزل الله تعالى هذه الآية " ثم فكر وقدر * فقتل كيف قدر " إلى قوله
" إن هذا إلا سحر يؤثر ".
فمن دفع فصاحة القرآن لم يكن في حيز من يكلم.
وأما اختصاصه بالنظم معلوم ضرورة لأنه مدرك مسموع وليس في شئ من
كلام العرب ما يشبه نظمه من خطب ولا شعر على اختلاف أنواعه وصفاته،
فاجتماع الأمرين منه لا يمكن دفعهما.
فإن قيل: لو كان القرآن خارقا للعادة بفصاحته لوجدنا الفرق بين كلام
أفصح العرب وبينه كما وجدنا الفرق بين كلام شعراء المتقدمين وبين شعراء
المحدثين الركيك وهما معتادان وكان ذلك أولى من حيث كان أحدهما معتادا
والآخر خارقا للعادة. وإذا لم نجد ذلك دل على أنه ليس بخارق للعادة بفصاحته.
قلنا: هذا السؤال إنما يلزم من ادعى خرق العادة بفصاحته فقط دون من
اعتبر الفصاحة والنظم وليس يمكن اجتماعهما في شئ من كلام العرب فيعلم
كيفية الفصاحة والفرق بينهما.
فإن قيل: النظم مقدور لكل أحد وإنما الفصاحة هي المعتبرة.
قلنا: أول ما نقول أن النظم أيضا يحتاج إلى علم مخصوص ولذلك تختلف
الأحوال فيه، فيتأتى من بعضهم الخطب ولا يتأتى منه الشعر والآخرون يتأتى
منهم الشعر ولا يتأتى منهم الخطب، ولا يكفي في النظم مجرد القدرة ولم نجدهم
نظموا شيئا مثل هذا القرآن، فمن أين لنا أنه كان يتأتى منهم.
على أنه لو كان النظم مقدورا لم يمتنع أن يكونوا متى أرادوا الفصاحة
المفرطة في هذا النظم لم يتأت منهم وإن تأتت منهم في الشعر والخطب. ألا
ترى أن في الناس من يكون أخطب الناس وأبلغهم فيها فإذا نظم الشعر كان
ركيكا، وكذلك من قال الشعر البليغ الذي فيه الغاية لا يحسن أن يكتب كتابا
174

فإذا تكلفه رك كلامه، ولذلك تفاضل الشعراء في أوزان الشعر: فمنهم من
يقوى على الطويل دون الرجز، ومنهم من لا يتأتى منه غير الرجز ولو تكلف
الطويل لرك كلامه. والرجال المفرطون في الفصاحة معروفون كالعجاج ورؤبة
وغيرهما وإن لم يكن لهما قصيد، وإن كان فلم يشبه الرجز ولا قاربه.
وإذا ثبت ذلك فليس في وجود كثير من كلام العرب ما يدل على أنهم لو
تكلفوه بهذا النظم لكان مثله، لما عدلوا عن المعارضة وتعذرت عليهم إما
لفقد علمهم بالنظم وإن كان فصيحا أو لعلمهم بأنهم لو تكلفوا ذلك لوقعوا دونه
دل ذلك على أن القرآن خارق للعادة بمجموع الأمرين.
على أن اشتباه كثير من كلام العرب على الفصحاء لا يدل على أنه مثله، لأنه
قد يشتبه الشيئان على أصحاب الصنائع وإن كان بينهما بون بعيد، كاللؤلئين
الغاليين في الثمن والمشتبهين المنهرجين حتى أنه لا يدخل الشبه بينهما ويتم
الأغلاط، وإن كان لا يشتبه عندهم لؤلؤة حقيرة مع مختلفة.
ومن الناس من قال: إن المطبوعين على الفصاحة الذين هم في الطبقة
الأولى وجدوا الفرق بين فصيح كلام العرب وبين القرآن وإنما كابروا في
ذلك، وكل من يجري مجراهم فهو مثلهم. فأما من لم يبلغ تلك المنزلة فهو
لا يعلم الفرق فربما قلد وأحسن الظن أو اعتقد اعتقادا ليس بعلم، فلا يمكن ادعاء
العلم الضروري في ذلك، وعلم أنه لو كان وجه الاعجاز سلب العلوم لكانت
العرب إذا سلبوا هذه العلوم خرجوا عن كمال العقل.
وبهذا أجبنا من قال لم لا يجوز أن يكون من تأتى منه الفعل المحكم
معتقدا أو ظانا دون أن يكون عالما. بأن قلنا: ما لأجله تأتى الفعل المحكم هو
أمر يلزم مع كمال العقل، فلا يخرج عنه إلا باختلال عقله. والعلم بالفصاحة
175

من هذا الباب، فلو سلبهم الله هذه العلوم لكانوا خرجوا من كمال العقل، ولو
كان كذلك لظهر واشتهر وكان يكون أبلغ في باب الاعجاز من غيره. ولما لم
يعلم كونهم كذلك وأن العرب لم يتغير حالهم في حال من الأحوال دل ذلك
على أنهم لم يسلبوا العلوم، وإذا لم يسلبوها وهم متمكنون من مثل هذا القرآن
كان يجب أن يعارضوا، وقد بينا أن ذلك كان متعذرا منهم، فبطل هذا القول.
فإن قيل: هل لا جعل القرآن في غاية الفصاحة التي لا تشتبه على أحد ممن سمع.
قلنا: المصلحة معتبرة في ذلك، ولو لزم ذلك للزم أن يقال المعتبر هو
الصرف لم لم يجعل القرآن من أرك الكلام وأقله فصاحة فكان يكون أبلغ
في باب الاعجاز. وليس يلزم في المعجز أن يبلغ الغاية القصوى. ألا ترى
أن الله تعالى لم يجب قريشا إلى جعل الصفا ذهبا والى إحياء عبد المطلب ونقل
جبال تهامة من مواضعها وإلى تفجير الأرض لهم ينبوعا، لأن المصلحة
معتبرة مع كونها خارقة للعادة وليس تكون المعجزات على قدر الأماني
والشهوات.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون القرآن من فعل بعض الجن ألقوه إلى النبي
صلى الله عليه وآله ليضل به الخلق، يمكنهم أن يدعوا أن فصاحة الجن ليس
فصاحة العرب ولا أنه ليس لهم علم بكيفية هذا النظم المخصوص، لأنه لا طريق
لكم إلى ذلك بل يكفي التجويز في هذا الباب، لأن معه لا يمكن القطع على
أنه من فعل الله تعالى. وأيضا فإن النبي يدعي أن ملكا نزل عليه بهذا القرآن،
فلم لا يجوز أن يكون ذلك الملك كاذبا ولا يمكنهم ادعاء عصمة الملائكة، لأن
ذلك معلوم بالسمع الذي لم يثبت بعد صحته، وعادة الملائكة أيضا في
الفصاحة غير معلومة.
قلنا: الجواب على هذا السؤال من وجوه:
176

أحدها - أنه لو طعن هذا السؤال في إعجاز القرآن لطعن في سائر
المعجزات ولا يكون لنا طريق إلى العلم بصدق الصادق، لأنا متى قلنا أن ما
يختص القديم بالقدرة عليه متى فعله على وجه يخرق العادة يكون دالا وكان
لقائل أن يقول: لم لا يكون في عادة الجن إنه إذا قرب جسم من جسم ميت
عاش، كما أجري العادة في الإنس إذا قربنا الحجر المغناطيس إلى الحديد
جذبه، ومتى جوزنا ذلك لم يكن في إحياء الميت على مدعي النبوة دليل على
صدقه، لأنه لا يأمن أن يكون بعض الجن نقل إليه ذلك الجسم وإحياء الله تعالى
ذلك لمكان عادتهم.
فإن قيل: إحياء الله تعالى الميت عند تقريب الجسم بيننا وفي عادتنا خرق
منه تعالى لعادتنا، فجرى مجرى تصديق الكذاب، وذلك لا يجوز عليه،
وليس إذا جاز أن يفعل ذلك في عادة الجن بحيث لا نعلمه جاز أن يفعله في
عادتنا، لأن فعله في عادتهم لا وجه لقبحه وفعله في عادتنا فيه وجه قبح لأنه
استفساد. وليس كذلك نقل الكلام، لأن الجني إذا نقل الكلام الذي لم تجر
عادتنا بمثل فصاحته فنفس نقله خرق عادتنا وليس له تعالى في ذلك صنع،
وإذا نقل الجسم المشار إليه فنفس نقله للجسم لم يخرق عادتنا، وإنما الخارق
لها إحياء الميت عند تقريب الجسم، فالفرق بين الأمرين واضح.
قيل: السؤال لا يلزم من وجهين، وهذا الانفصال ليس بصحيح:
أحدهما - أن الجني إذا أحضر الجسم الذي أجرى الله عادتهم بإحياء
الميت عنده فلا يخلو أن يحيي الميت عنده أو لا يحييه، فإن أحياه فهذا تجويز
كونه كاذبا وأنه إنما أحياه لمكان عادتهم، وإن لم يحيه كان في ذلك خرق
عادة الجن بفعل المعجز خرق عادتهم في رفع الإحياء عند هذا الجسم الذي
177

كان يحييه عندهم بمجرى عادتهم، وفي ذلك تصديق الكذاب. ولا جواب
عن ذلك إلا بأن يقال: إنه استفساد يجب المنع منه كما نقوله في الجواب الآخر.
والوجه الثاني - أن القرآن إذا كان خارقا للعادة بفصاحته فإنما تأتى من الجني
ذلك بأن يجدد الله تعالى له العلوم بالفصاحة حالا بعد حال، لأن العلوم لا تبقى،
فيصير خلق هذه العلوم هو الخارق للعادة، وجرى ذلك مجرى ما يقول صاحب
الصرفة في مواضع أن ثبت لو ادعى النبوة وجعل معجزه نقل الجبال أو طفر
البحار لكان خلق القدر التي يتمكن من ذلك هو الخارق للعادة، وهو المعجز
لا نفس النقل، لأن فعلنا لا يكون عنده دليلا على التصديق، وإنما يدل على
التصديق ما يختص تعالى بالقدرة عليه.
ومتى رجع إلى أن قال: القرآن لم يخرق العادة بفصاحته. سقطت
معارضته بسؤال الجن وصار الكلام في هل هو خرق العادة أو ليس بخارق لها،
وقد مضى الكلام على صحة ذلك.
والجواب الثاني عن سؤال الجن أنه لو كان القرآن من فعل الجن لمنع
الله تعالى منه، لأن ذلك مفسدة ولا يجوز التمكين من ذلك على الله تعالى.
فإن قيل: إنما لا يجوز عليه تعالى أن يفعل نفس الاستفساد، وأما المنع
من الاستفساد فلا يجب، ولو وجب ذلك لوجب أن يمنع تعالى كل شبهة من
الممخرقين والمشعبذين من كل ما يدخل فيه الشبهة على الخلق، فالمنع من
الشبهات وفعل القبائح مع التكليف لا يجب، وليس إذا لم يجز عليه تعالى
الاستفساد لم يجز عليه التمكين منه، [كما إذا لم يجز عليه القبيح لم يجب
عليه المنع منه] 1)، وكان يلزم أن يمنع الله تعالى زرداشت وماني والحلاج
وغيرهم من الممخرقين الذين فسد بهم خلق من الناس ولولاهم لما فسدوا إن
وجب المنع من الاستفساد.

1) الزيادة ليست في ر.
178

قلنا: الجواب عن ذلك من وجهين:
أحدهما: أن تمكين هؤلاء المذكورين من الفساد ليس باستفساد لأنه تمكين
وتعريض الثواب أعظم من الثواب الذي عرضوا له مع عدم هؤلاء، فصار
خلق هؤلاء وتمكينهم من الشبهات من تكليف أشق وتعريضا لثواب
أعظم، فخرج بذلك من الاستفساد، لأن حد الاستفساد ما يقع عنده الفساد
ولولاه لم يقع من غير أن يكون تمكينا، وهذا تمكين فخرج من الاستفساد.
وليس لأحد أن يقول: تمكين الجن من القاء القرآن إلينا تمكين وليس
باستفساد. لأنا بينا أن ذلك يسد علينا الباب الموصل إلى الفرق بين الصادق
والكاذب، وذلك باطل بالاتفاق.
والثاني: أن كل من فسد بدعاء إبليس وهؤلاء الممخرقين كان يفسد وإن لم
يكن إبليس ولا أحد من هؤلاء، فلم يكن ذلك استفساد، كما يقول فيمن بطل عند
متشابه القرآن وخلق إبليس وغيره. ولا يمكن ادعاء العلم الضروري في خلافه
لأن ذلك غير معلوم، ولا يمكن مثل ذلك في القاء الجن القرآن، لما بيناه من
أن ذلك يؤدي إلى سد الطريق في الفرق بين الصادق والكاذب.
وهذا القدر كاف ههنا، فإن استيفاءه يطول به الكتاب، وقد أجبت عن
سؤال الجن بأن قلت: بأن ذلك يؤدي إلى أن انشقاق القمر وطلوع الشمس
من مغربها وقلع الجبال من أماكنها وطفر البحار العظام وفلق البحر لا يكون
شئ من ذلك معجزا، لأن جنسه داخل تحت مقدور القدر، ولا يمتنع أن يكون
جميع ذلك من فعل بعض الجن. ومن ارتكب فقال جميع ذلك لا يدل على
النبوة، كفاه ما فيه من الشناعة.
ومتى قالوا: حمل الأجسام العظيمة وقلع الجبال تحتاج إلى أن يكون من
حمل ذلك على بنية كثيفة تحتمل القدر الكثير، لأن الأجسام المتخلخلة لا يحملها
مثل قدر الفيل ولا تحمل النملة من القدر ما تحمل الجبال، ولو حصل من له بنية
179

كثيفة لوجب أن يرى ولو رأي لعلم أنه ليس من فعل الله، فلا يكون [فيه] دلالة.
قيل: هذا أصل فيه نزاع، ففي الناس من قال يكفي في احتمال المحل
القدرة أن يكون محل الحياة فقط، ومتى حصلت بنية الحياة جاز أن يوجد
في البنية القدرة العظيمة، وليس ذلك بأبعد من جواز حلول الاعتمادات بقدر
ما يوازى به الجبال في الذرة، فإن استبعاد أحدهما كاستبعاد الآخر، ولذلك
تقلع الريح مع تخلخلها الأجسام الثقال وتقصم الأشجار الصلبة، وقد أهلك
الله تعالى الأمم بالريح. فإذا جاز ذلك في الاعتماد لم لا يجوز مثله في القدر،
وإذا كان ذلك جائزا فسؤال الجن متوجه في هذه الأشياء، ولا مخلص من
ذلك إلا بأن يقال: إن ذلك استفساد والله تعالى لا يمكن منه.
فأما من قال: إن القرآن جنسه ليس بمقدور كالجواهر والألوان. فقوله
باطل، لأن جنس القرآن الحروف والأصوات، وذلك من مقدورنا، والكلام
يكون كلاما بأن يوجد بعضها في أثر بعض، فالجنس مقدور وإنما يتعذر لفقد
العلم في بعض المواضع.
فأما من قال: مجرد النظم هو المعجز. فقوله باطل، لأنا لو فرضنا وقوع
مثل هذا الأسلوب - وهو في غاية السخف والركاكة - لما كان ذلك معارضة
عند أحد من العقلاء. والسبق إلى الأسلوب أيضا لا يكون معجزا كما لا يكون
السبق إلى نظم الشعر وقول الخطب وغير ذلك من العلوم معجزا.
ومن قال: جهة إعجازه ما تضمنه من الإخبار بالغايبات. ليس بصحيح،
لأن التحدي وقع بسورة غير معينة، وأكثر السور وخاصة القصار ليس فيها
أخبار بالغايبات، فلو كان ذلك مراعى لعارضوا بما ليس فيها ذلك وكانوا معارضين
وذلك باطل.
ومن قال: جهة الاعجاز ارتفاع الاختلاف والتناقض. فبعيد، لأن لقائل
180

أن يقول: إن العاقل إذا تحفظ وتيقظ حتى لا يقع في كلامه تناقض لم يقع،
فمن أين أنه خارق للعادة. ولو جعل ذلك من فضائل القرآن ومراتبه لكان جيدا.
فأما معجزاته التي هي سوى القرآن 1) كمجئ الشجرة حين قال لها أقبلي
فأقبلت تخد الأرض خدا 2) ثم قال لها ارجعي فرجعت، ومثل الميضاة وأنه
وضع يده في الإناء فغار الماء من بين أصابعه حتى شربوا ورووا، ومثل
إطعام الخلق الكثير من الطعام اليسير، ومنها حنين الجذع الذي كان يستند
إليه إذا خطب لما تحول إلى المنبر فلما جاء إليه والتزمه سكن، ومنها تسبيح
الحصى في كفه وكلام الذراع وقولها له لا تأكلني فإني مسمومة، ومنها أنه لما
استسقى فجاء المطر فشكوا إليه تهدم المنازل فقال حوالينا ولا علينا وأشار إلى
السحاب فصار كالإكليل حول المدينة والشمس طالعة في المدينة، [ومنها
انشقاق القمر وقد نطق القرآن به، ومنها شكوى البعير] 3) ومنها قوله لأمير
المؤمنين عليه السلام " تقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين " وقوله له
" إنك تقتل ذا الثدية " وقوله لعمار " تقتلك الفئة الباغية ". وغير ذلك من
الآيات الباهرات التي هي معروفة مذكورة.
وليس يمكن أن يقال: هذه الأخبار آحاد لا يعول على مثلها. لأن المسلمين
تواتروها وأجمعوا على صحتها، ونحن وإن قلنا أنها لا تعلم ضرورة فهي
معلومة بالاستدلال بالتواتر على ما يذهب إليه.
ولا يمكن أيضا ادعاء الحيل في ذلك، لأن كثيرا منها يستحيل ذلك فيه،
كانشقاق القمر والاستسقاء وإطعام الخلق الكثير من الطعام اليسير وخروج
الماء من بين أصابعه وإخباره بالغائبات ومجئ الشجرة إليه ورجوعها عنه،

1) انظر تفاصيل هذه المعجزات في بحار الأنوار.
2) تخد الأرض: تشقها.
3) الزيادة من ر.
181

لأن جميع ذلك لا تتم فيه الحيلة، وإنما يمكن الحيلة في الأجسام الخفيفة التي
تحدث بالناقل ولا تتم في الشجرة العظيمة، وحنين الجذع لا يمكن أن يدعى
كان لتجويف فيه دخله الريح، لأن مثل ذلك لا يخفى وكان لا يستكن بمجئ
النبي إليه ويحن إذا فارقه بل كان يكون ذلك بحسب الريح.
فأما كلام الذراع قيل فيه وجهان: أحدهما أن الله تعالى نبأها تنبيه الحي
وجعل له آلة النطق فتكلم بما سمع وكان ذلك خارقا للعادة، والآخر إن الله
تعالى فعل فيه الكلام وأضافه إلى الذراع مجازا.
ومن قال: لو انشق القمر لرآه جميع الخلق. ليس بصحيح، لأنه لا يمتنع
أن يكون الناس في تلك الحال مشاغيل بالنوم وغيره، فإنه كان بالليل فلم
يتفق لهم مراعاته، فإنه بقي ساعة ثم التأم. وأيضا فلا يمتنع أن يكون هناك
غيم حال بينه وبين جميع من لم يره ولا شاهده فلذلك لم يره الجميع. والله
أعلم بذلك.
(الكلام في الإمامة)
الكلام في الإمامة في خمس فصول:
أولها - الكلام في وجوب الإمامة.
والثاني - الكلام في صفات الإمام.
والثالث - الكلام في أعيان الأئمة.
والرابع - الكلام في أحكام البغاة.
والخامس - الكلام في الغيبة.
ونحن نبين فصلا فصلا من ذلك على وجه الايجاز إنشاء الله.
182

فصل
(في الكلام في وجوب الإمامة)
المخالف في وجوب الإمامة طائفتان: إحداهما تخالف في وجوبها عقلا،
والأخرى تخالف في وجوبها سمعا.
فالمخالف في وجوبها سمعا شاذ لا يعتد به لشذوذه لأنه لا يعرف قائلا به.
وعلماء الأمة المعروفون مجموعون على وجوب الإمامة سمعا، والخلاف
القوي في وجوب الإمامة عقلا، فإنه لا يقول بوجوبها عقلا غير الإمامية والبغداديين
من المعتزلة وجماعة من المتأخرين، والباقون يخالفون في ذلك ويقولون
المرجع فيه إلى السمع.
ولنا في الكلام في وجوب الإمامة عقلا طريقان: إحداهما أن نبين وجوبها
عقلا سواء كان هناك سمع أو لم يكن، والثانية أن نبين أن مع وجود الشرع
لا بد من إمام له صفة مخصوصة لحفظ الشرع باعتبار عقلي.
والذي يدل على الطريقة الأولى: إنه قد ثبت أن الناس متى كانوا غير
معصومين ويجوز منهم الخطأ وترك الواجب إذا كان لهم رئيس مطاع منبسط
اليد يردع المعاند ويؤدب الجاني ويأخذ على يد السفيه والجاهل وينتصف
للمظلوم من الظالم كانوا إلى وقوع الصلاح وقلة الفساد أقرب، ومتى خلوا من
رئيس على ما وصفناه وقع الفساد وقل الصلاح ووقع الهرج والمرج وفسدت
المعايش.
بهذا جرت العادة وحكم الاعتبار، ومن خالف في ذلك لا يحسن مكالمته
لكونه مركوزا في أوائل العقول. بل المعلوم أن مع وجود الرؤساء وانقباض
أيديهم وضعف سلطانهم يكثر الفساد ويقل الصلاح، فكيف يمكن الخلاف فيه.
183

وليس لأحد أن يقول: إنما يحصل من الصلاح عند الرؤساء أمور دنياوية
ولا يجب اللطف لأجلها وليس فيها أمر ديني يجب اللطف لأجله، وذلك إنما
يحصل عند الرؤساء أمر ديني، وهو قلة الظلم ووقوع الفساد ومن تغلب القوي
على الضعيف، وهذه أمور دينية يجب اللطف لأجلها وإن حصل فيها أمر دنياوي
فعلى وجه التبع.
ولا يبلغ الخوف من الرؤساء إلى حد الالجاء، لأنه لو بلغ حد الالجاء
لما وقع شئ من الفساد، لأن مع الالجاء لا يقع فعل ما ألجئ إليه، وكان يجب
أن لا يستحق [تارك القبيح وفاعل الواجب مدحا لأن ما يقع على وجه الالجاء
لا يستحق به] 1) مدحا، والمعلوم أن العقلاء يستحقون المدح بفعل الواجب وترك
القبيح مع وجود الرؤساء.
ولا يقدح فيما قلنا وقوع كثير من الفساد عند نصب رئيس بعينه، لأنه إنما
يقع الفساد لكراهتهم رئيسا بعينه، ولو نصب لهم من يؤثرونه ويميلون إليه
لرضوا به وانقادوا له، وذلك لا يقدح في وجوب جنس الرئاسة.
ولا يلزم أيضا نصب رؤساء جماعة، لأن بهذه الطريقة إنما يعلم وجوب جنس
الرئاسة، فأما عددهم وصفاتهم فإنا نرجع إلى طريقة أخرى غير اعتبار وجوب
الرئاسة في الجملة.
والعقل كان يجوز نصب أئمة كثيرين في كل زمان، وإنما منع السمع والاجماع
من أنه لا ينصب من يسمى إماما في كل زمان إلا واحدا ويكون باقي الرؤساء
من قبله.
والذي يقطع به أن الرئاسة لطف في أفعال الجوارح التي يظهر قلتها بوجود
الرؤساء وكثرتها بعدمهم، وأما أفعال القلوب فلا طريق لنا إلى كون الرئيس

1) الزيادة من ر.
184

لطفا فيها، ولا يلزم إذا كان الإمام لطفا في بعض التكاليف أن لا يكون لطفا أصلا
لأن أحكام الألطاف تختلف فبعضها عام من كل وجه وبعضها خاص وبعضها
عام من وجه وخاص من وجه آخر، فلا ينبغي أن يقاس بعضها على بعض.
ألا ترى أن المعرفة عامة في جميع التكاليف إلا ما تقدمها في زمان مهلة النظر.
وأما العبادات الشرعية فليس يخفى الاختصاص فيها، لأن الصلاة تجب على
قوم دون قوم فإن الحائض لا تجب عليها، والزكاة لا تجب على من لا يملك النصاب
والصوم لا يجب إلا على من يطيقه فأما من به عطاش أو قلة صبر عن الطعام لفساد
مزاج فلا يجب عليه، وكذلك جميع العبادات فلا يجب قياس بعضها على بعض
فأما خلق الأولاد والصحة والسقم والغنى والفقر فالأمر في اختصاصه ظاهر.
ومن هو معصوم مأمون منه القبيح وترك الواجب لا يحتاج إلى إمام يكون
لطفا له في ذلك وإن احتاج إليه من وجوه أخر، نحو أخذ معالم الدين عنه
وغير ذلك.
واللطف في الحقيقة هو تصرف الإمام وأمره ونهيه وتأديبه، فإن حصل
انزاحت به العلة.
وحسن التكليف وإن لم يحصل بأمر يرجع إلى المكلفين لا يجب سقوط
التكليف عنهم، لأنهم يؤتون في ذلك. من قبل نفوسهم لا من قبل خالقهم. وإنما
يجب على الله تعالى خلق الإمام وإيجابه علينا طاعته ليتمكن من التصرف، فإذا
لم يمكنه لم يجب سقوط التكليف عنا، لأنا نكون أتينا من قبل نفوسنا.
فإذا ثبتت هذه الجملة فلا يلزم إذا كان الإمام غائبا أن يسقط التكليف عنا
لأنا أتينا من قبل نفوسنا بأن أخفناه وأحوجناه إلى الاستتار، ولو أطعناه ومكناه
لظهر وتصرف فحصل اللطف.
وكل من لم يظهر له الإمام فلا بد أن تكون العلة ترجع إليه، لأنه لو رجع
185

إلى غيره لأسقط الله تكليفه، وفي بقاء التكليف عليه دليل على أن الله تعالى أزاح
علته وبين له ما هو لطف له فعل هو أم لم يفعل، كما نقول: إن الصلاة لطف
لكل مكلف فمن لم يصل لم يجب سقوط تكليفه لأنه أتي من قبل نفسه، وكذلك ههنا.
ولا يلزم على جواز الغيبة جواز عدمه، لأنه لو كان معدوما لما أمكننا طاعته
ولا تمكينه فلا تكون علتنا مزاحة وإذا كان موجودا أمكن ذلك فإذا لم يظهر تكون
الحجة علينا وإذا كان معدوما تكون الحجة على الله تعالى، فبان الفرق بين وجوده
غائبا وبين عدمه، فالوجود أصل لتمكيننا إياه ولا يمكن حصول الفرع بلا
حصول الأصل.
وأولياء الإمام ومن يعتقد طاعته فاللطف بمكانه حاصل لهم في كل وقت عند
كثير من أصحابنا، لأنهم يرتدعون بوجوده من كثير من القبائح، ولأنهم لا يأمنون
كل ساعة من ظهوره وتمكينه فيخافون تأديبه كما يخافونه وإن لم يكن معهم في
بلدهم بينهم وبينه بعد، بل ربما كانت الغيبة أبلغ، لأن معها يجوز أن يكون
حاضرا فيهم مشاهدا لهم وإن لم يعرفوه بعينه.
وفيهم من قال: إنه إذا لم يظهر لهم فالتقصير يرجع إليهم أو لما يعلم الله
تعالى من حالهم أنه لو ظهر لهم لأشاعوا خبره أو شكوا في معجزه بشبهة تدخل
عليهم فيكفرون به فلذلك لم يظهر لهم.
ولا يجوز أن تكون للإمامة بدل يقوم مقامها في باب اللطف كما لا يجوز
مثله في المعرفة، وإن جاز كثير من الألطاف أن يكون له بدل. وإنما قلنا ذلك
لأنه لو كان بدل لم يمتنع أن يفعل الله ذلك البدل فيمن ليس بمعصوم،
فيكون حاله مع فقد الرئيس كحاله مع وجوده في باب الانزجار عن القبيح
والتوفر على فعل الواجب، والمعلوم ضرورة خلافه على ما بيناه.
والكلام في تفريع هذا الباب استوفيناه في تلخيص الشافي وشرح الجمل
وفيما ذكرناه ههنا كفاية.
186

(وأما الطريقة الثانية) وهو أنه لا بد من إمام بعد ورود الشرع أنه إذا ثبت
أن شريعة نبينا عليه السلام مؤبدة إلى يوم القيامة وإن من يأتي فيما بعد يلزمه
العمل بها كما لزم من كان في عصر النبي عليه السلام فلا بد من أن تكون
علتهم مزاحة [كما كانت علة من شاهد النبي مزاحة في زمانه، ولا تكون العلة
مزاحة] 1) إلا بأن تكون الشريعة محفوظة، فلا تخلو من أن تكون محفوظة
بالتواتر أو الإجماع أو الرجوع إلى أخبار الآحاد والقياس أو بوجود معصوم
عالم بجميع الأحكام في كل عصر يجري قوله مثل قول النبي عليه السلام،
فإذا أفسدنا الأقسام كلها إلا وجود معصوم ثبت أنه لا بد من وجوده في كل وقت
ولا يجوز أن تكون محفوظة بالتواتر، لأنه ليس جميع الشريعة متواتر بها بل
التواتر موجود في مسائل قليلة نزرة، فكيف يعمل بها في باقي الشريعة.
على أن ما هو متواتر يجوز أن يصير غير متواتر، بأن يترك في كل وقت
جماعة من الناقلين نقله إلى أن يصير آحادا، إما لشبهة تدخل عليهم أو اشتغال
بمعاش وغير ذلك من القواطع ولا مانع من ذلك أو يعتمدوا تركه
لأنهم ليسوا معصومين لا يجوز عليهم ذلك.
ولا يجوز أن تكون محفوظة بالاجماع، لأن الإجماع ليس بحاصل في
أكثر الأحكام بل هو حاصل في مسائل قليلة والباقي كله فيه خلاف فكيف يعول
عليه. على أن الإجماع إن فرضنا أنه ليس فيهم معصوم - على ما يقولونه -
فليس بحجة، لأن حكم اجتماعهم حكم انفرادهم، فإذا كان كل واحد منهم
ليس بمعصوم فكيف يصيرون باجتماعهم معصومين، ولو جاز ذلك جاز أن
يكون كل واحد منهم لا يكون مؤمنا فإذا اجتمعوا صاروا مؤمنين، أو يكون
كل واحد منهم يهوديا فإذا اجتمعوا صاروا مؤمنين، أو يكون
كل واحد منهم يهوديا فإذا اجتمعوا صاروا مسلمين، وذلك باطل.

1) الزيادة من ر.
187

ومتى قيل: في العقل وإن كان الأمر على ما قلتموه، فإن أدلة الشرع
لزمتنا من جواز اجتماعهم على خطأ من آيات وأخبار.
قلنا: لا دلالة في شئ من الآيات والأخبار على ما تدعونه وبيننا وبينكم
السير والاعتبار، وقد استوفينا الكلام في ذلك في أصول الفقه وتلخيص الشافي
وشرح الجمل لا نطول بذكره ههنا. فأما أخبار الآحاد والقياس فلا يجوز أن
يعمل عليهما عندنا، وقد بينا ذلك في أصول الفقه وغيره من كتبنا، فلم يبق
من الأقسام إلا وجود معصوم يجري قوله كقول النبي عليه السلام.
فإن قيل: يلزم على هذا أن يكون من لا يعرف الإمام لا يعرف أحكام
الشرع، والمعلوم خلافه.
قلنا: من لا يعرف الإمام لا يجوز أن يعرف من الشريعة إلا ما تواتر النقل به
أو دل دليل قاطع عليه من ظاهر قرآن أو اجتمعت الأمة عليه، فأما ما عدا ذلك فإنه
لا يعلمه وإن اعتقده فإنما يعتقده اعتمادا ليس بعلم، فلم يخرج من موجب
الدلالة. والشرع يصل إلى من هو في البلاد البعيدة وفي زمن النبي أو الإمام بالنقل
المتواتر الذي من ورائه حافظ معصوم، ومتى انقطع دونهم أو وقع فيه تفريط
تلافاه حتى يصل إليهم وينقطع عذرهم.
فأما إذا فرضنا النقل بلا حافظ معصوم من وراء الناقلين فإنا لا نثق بأنه وصل
جميعه، وجوزنا أن يكون وقع فيه تقصير أو كتمان لشبهة أو تعمد، وإنما
نأمن وقوع شئ منه لعلمنا أن من ورائه معصوما متى وقع خلل تلافاه.
وهذه حالنا في زمن الغيبة، فإنا متى علمنا بقاء التكليف وعلمنا استمرار
الغيبة علمنا أن عذرنا منقطع ولطفنا حاصل. لأنه لو لم يكن حاصلا لسقط التكليف
أو أظهر الله تعالى الإمام ليبين لنا ما وقع فيه من الخلل فلا يمكن التسوية بين
نقل من وراءه معصوم وبين نقل ليس من وراءه ذلك، فيسقط الاعتراض.
188

فصل
(في صفات الإمام)
يجب أن يكون الإمام معصوما من القبائح والاخلال بالواجبات، لأنه لو
لم يكن كذلك لكانت علة الحاجة قائمة فيه إلى إمام آخر، لأن الناس إنما
احتاجوا إلى إمام لكونهم غير معصومين، ومحال أن تكون العلة حاصلة
والحاجة مرتفعة، لأن ذلك نقص العلة.
ولو احتاج إلى إمام لكان الكلام فيه كالكلام في الإمام الأول، وذلك يؤدي
إلى وجود أئمة لا نهاية لهم أو الانتهاء إلى إمام معصوم ليس من ورائه إمام،
وهو المطلوب.
وإنما قلنا " أن علة الحاجة هي ارتفاع العصمة " لأن الذي دلنا على الحاجة
[دلنا على جهة الحاجة. ألا ترى أن دليلنا] 1) في وجوب الرئاسة هو أن الفساد
تقل عند وجوده وانبساط سلطانه وتكثر الصلاح، وذلك لا يكون إلا ممن
ليس بمعصوم لأنهم لو كانوا معصومين لكان الصلاح شاملا أبدا والفساد
مرتفعا، فلم يحتج إلى رئيس يعلل ذلك. فبان أن علة الحاجة هي ارتفاع
العصمة ويجب أن تكون مرتفعة عن الإمام وإلا أدى إلى ما بينا فساده.
وليس يلزم على ذلك عصمة الأمراء والحكام وإن كانوا رؤساء، لأنهم
إذا لم يكونوا معصومين فلهم رئيس معصوم، وقد أشرنا إليه فلم ينتقض علينا.
والإمام لا إمام له ولا رئيس فوق رياسته، فلذلك وجب أن يكون معصوما.
فإن قالوا: الأمة أيضا من وراء الإمام متى أخطأ عزلته وأقامت غيره مقامه.

1) الزيادة ليست في ر.
189

قلنا: هذا باطل، لأن علة الحاجة إلى الرئيس ليست هي وقوع الخطأ
بل هي جواز الخطأ عليهم، ولو كان العلة وقوع الخطأ لكان من لم يقع منه
الخطأ لا يحتاج إلى إمام، وذلك خلاف الإجماع. ثم على ما قالوه كان يجب
أن تكون الأمة إمام الإمام، وذلك خلاف الإجماع. ومع هذا فلا يجوز أن
يكون الشئ يحتاج إلى غيره في وقت يحتاج ذلك الغير إليه بعينه، لأن ذلك
يؤدي إلى حاجة الشئ إلى نفسه، وذلك لا يجوز.
وكل علة تدعى في الحاجة إلى الإمام من قيامه بأمر الأمة وتولية الأمراء
والقضاة والجهاد وقبض الأخماس والزكوات وغير ذلك، فإن جميع ذلك
تابع للشرع وكان يجوز أن يخلو التكليف العقلي من جميع ذلك مع ثبوت
الحاجة إلى إمام، للعلة التي قدمناها.
فإن قيل: لو كانت علة الحاجة ارتفاع العصمة وجب أن يكون من هو
معصوم لا يحتاج إلى إمام يكون لطفا له في ارتفاع القبيح من جهة وإن احتاج
إليه لعلة أخرى غيرها من أخذ معالم الدين عنه وغير ذلك، كما نقوله في من
هو أهل للإمامة في زمن إمام قبله أنه يجب أن يكون معصوما وله إمام، لما
قلناه من العلة لا لتقليل القبيح أو ارتفاعه من جهته.
ويجب أن يكون الإمام أفضل من كل واحد من رعيته في كونه أكثر ثوابا
عند الله وفي الفضل الظاهر، يدل على كونه أكثر ثوابا ما بيناه من وجوب عصمته
وإذا ثبتت عصمته فكل من أوجب العصمة له قطع على كونه أكثر ثوابا، لأن
أحدا لا يفرق بين المسلمين.
وأيضا فالإمام يستحق من التعظيم والتبجيل وعلو المنزلة في الدين ما لا
يستحقه أحد من رعيته، وهذا الضرب من التعظيم والتبجيل لا يجوز أن تفضلا، بدلالة أنه
لا يجوز فعله بالبهائم والأطفال، وإذا وجب أن يكون مستحقا دل على أنه أكثر
190

ثوابا لأن التعظيم ينبي عنه. فإذا ثبتت عصمته على ما قدمناه قطعنا على حصول
هذه المنزلة عند الله من غير شرط، بخلاف ما شرطه في تعظيم بعضنا لبعض.
وأيضا فقد دللنا على أن الإمام حجة في الشرع، فوجب أن يكون أكثر
رعيته ثوابا كالنبي صلى الله عليه وآله، فإنه إنما وجب ذلك فيه لكونه حجة في الشرع.
وأما الذي يدل على أنه يجب أن يكون أفضل في الظاهر ما نعلمه ضرورة
من قبح تقديم المفضول على الفاضل. ألا ترى أنه يقبح من ملك حكيم أن يجعل
رئيسا في الخط على مثل ابن مقلة ونظرائه من يكتب خطوط الصبيان والبقالين
ويجعل رئيسا في الفقه على مثل أبي حنيفة والشافعي وغيرهما. والعلم بقبح
ذلك ضروري لا يختلف العقلاء فيه، ولا علة لذلك إلا أنه تقديم المفضول على
الفاضل فيما كان أفضل منه فيه. وإذا كان الله تعالى هو الناصب للإمام يجب أن
لا ينصب إلا من هو أفضل في ظننا وعلمنا.
وإنما قلنا " إنه يجب أن يكون أفضل فيما هو إمام فيه " لأنه يجوز أن يكون
في رعيته من هو أفضل منه فيما ليس هو إمام فيه ككثير من الصنائع والمهن
وغير ذلك، والمعتبر كونه أفضل فيما هو إمام فيه.
وبذلك نجيب من قال: إن النبي صلى الله عليه وآله قدم عمرو بن العاص
على فضلاء الصحابة وقدم زيدا على جعفر [وهو أفضل منه وقدم خالدا أيضا على
جعفر] 1). وذلك أن كل هؤلاء إنما قدموا في سياسة الحرب وتدبير الجيوش
وهم أفضل في ذلك ممن قدموا عليه، وإن كانوا أولئك أفضل في خصال دينية
أو دنياوية، فسقط الاعتراض.
ولا يجوز تقديم المفضول على الفاضل لعلة وعارض، لأن تقديمه عليه وجه
قبح، ومع حصول وجه القبح لا يحسن ذلك كما لا يحسن الظلم، وإن عرض
فيه وجه من وجوه الحسن - ككونه نفعا للغير - لأن مع كونه ظلما - وهو

1) الزيادة ليست في ر.
191

وجه القبح - لا يحسن على حال. ولو جاز أن يحسن ذلك لعلة لجاز أن يحسن
تقديم الفاسق المتهتك على أهل الستر والصلاح، وتقديم الكافر على المؤمن
لمثل ما قالوه، وذلك باطل.
ويجب أن يكون الإمام عالما بتدبير ما هو إمام فيه من سياسة رعيته والنظر
في مصالحهم وغير ذلك بحكم العقل.
ويجب أن يكون أيضا بعد الشرع عالما بجميع الشريعة، لكونه حاكما في
جميعها. يدل على ذلك أنه لا يحسن من حكيم من حكماء الملوك أن يولي وزارته
والنظر في مملكته من لا يحسنها أو لا يحسن أكثر من ذلك، ومتى فعل ذلك
كان مضيعا لمملكته واستحق الذم من العقلاء. وكذلك لا يحسن من أحدنا أن
يوكل انسانا على النظر في أمر ضيعته وأهله وولده وتدبير أموره من لا يعرف
شيئا منها أو أكثرها، ومتى فعل ذلك ذموه العقلاء وقالوا له: ضيعت أمر أهلك
وضيعتك والتولية في هذا الباب. بخلاف التكليف، لأن أحدا يحسن منه أن يعرض
ولده ليعلم العلوم وإن لم يحسنها ولا يحسن منه أن يجعله رئيسا فيها وهو لا يحسنها.
فبان الفرق بينهما.
ولا يلزم إذا قلنا أنه يجب أن يكون عالما بما أسند إليه، أن يكون عالما
بما ليس هو إماما فيه كالصنائع وغير ذلك، لأنه ليس هو رئيسا فيها. ومتى
وقع فيها تنازع من أهلها ففرضه الرجوع إلى أهل الخبرة والحكم بما يقولونه.
وكل من ولي ولاية صغرت أو كبرت كالقضاء والإمارة والجباية وغير ذلك
فإنه يجب أن يكون عالما فيما أسند إليه ولا يجب أن يكون عالما بما ليس
بمستند إليه، لأن من ولي القضاء لا يلزم أن يكون عالما بسياسة الجند، ومن
ولي الأمارة لا يلزم أن يكون عالما بالأحكام، وهكذا جميع الولايات، ولا يلزم
أيضا أن يكون عالما بصدق الشهود والمقرين على أنفسهم، لأنه إنما جعل إماما
192

في الحكم بالظاهر دون الباطن.
وإنما يجب أن يكون الإمام عالما بما أسند إليه في حال كونه إماما، فأما قبل
ذلك فلا يجب أن يكون عالما. ولا يلزم أن يكون أمير المؤمنين عليه السلام
عالما بجميع الشرع في حياة النبي صلى الله عليه وآله، أو الحسن والحسين
عليهما السلام عالمين بجميع ذلك في حياة أبيهما، بل إنما يأخذ المؤهل للإمامة
العلم ممن قبله شيئا بعد شئ ليتكامل عند آخر نفس من الإمام المتقدم عليه
بما أسند إليه.
ولو جاز أن يعلم الإمام كثيرا من الأحكام ويستفتي العلماء لجاز أن لا يعلم
شيئا منها ويستفتيهم، وإلا فما الفرق. والمخالف يعتبر أن يكون من أهل الاجتهاد.
ويدل أيضا على كونه عالما بجميع الشرع، أنا قد دللنا على كونه حافظا
للشرع، فلو لم يكن عالما بجميعه لجوزنا أن يكون وقع فيه خلل من الناقلين
أو تركوا بعض ما ليس الإمام عالما به، فيؤدي إلى أن لا يتصل بنا ما هو
مصلحة، ولا تنزاح علتنا في التكليف لذلك، وذلك باطل بالاتفاق.
ويجب أن يكون الإمام أشجع رعيته، لأنه فيهم والمنظور إليه، فلو
لم يكن أشجع لجاز أن ينهزم فينهزم بانهزامه المسلمون، فيكون فيه بوار
المسلمين والاسلام، فإذا يجب أن يكون أشجعهم وأربطهم جأشا وأثبتهم
قلبا. غير أن هذا يجب مع فرض العباد بالجهاد، فأما إن لم يكن متعبدا بالجهاد
فلا يجب مع فرض ذلك.
ويجب أن يكون الإمام أعقل رعيته، والمراد بالأعقل أجودهم رأيا و
أعلمهم بالسياسة.
ويجب أن يكون على صورة غير منهرة ولا مشينة، ولا يلزم أن يكون أحسن
الناس وجها.
193

ويجب أن يكون منصوصا عليه، لما قدمناه من وجوب عصمته. ولما
كانت العصمة لا تدرك حسا ولا مشاهدة ولا استدلالا ولا تجربة ولا يعلمها
إلا الله تعالى، وجب أن ينص عليه ويبينه من غيره على لسان نبي، أن المعجز
لا بد أن يظهر على يده علما معجزا عليه بينة من غيره. غير أن المعجز لا بد أن
يستند إلى نص متقدم، لأن الإمام لا يعلم أنه إمام إلا ينص عليه نبي، فإذا نص
عليه النبي أو ادعى هو الإمامة جاز أن يظهر الله تعالى على يده علما معجزا،
كما نقوله في صاحب الزمان إذا ظهر، فصار النص هو الأصل.
فإن قيل: هلا جاز أن يكلف الله تعالى الأمة اختيار الإمام إذا علم الله تعالى
أن اختيارهم لا يقع إلا على معصوم، فيحسن تكليفهم ذلك.
قلنا: لا يعتبر بالعلم في ذلك، لأن علمه تعالى بأنهم لا يختارون إلا المعصوم
لا يكفي في حسن هذا التكليف، لأنه إذا لم يكن طريقا إلى الفرق بين المعصوم
وغيره وكلفوا اختيار المعصوم كان في ذلك تكليف لما لا دليل عليه، وهو تكليف
ما لا يطاق الذي بينا قبحه. ويلزم على ذلك اختيار الأنبياء واختيار الشرائع إذا
علم الله تعالى أنه لا يقع اختيارهم إلا على نبي وعلى ما وهو مصلحة لهم، ويلزم
حسن تكليف الإخبار عن الغائبات إذا علم أنهم يخبرون بالصدق، وذلك باطل.
ومن ارتكب حسن ذلك كموسى بن عمران عليه السلام، قيل له: لم لا يكلف
الله تعالى اعتقاد معرفته ولم ينصب عليه دليلا إذا علم أنه يتفق لهم معرفته من
غير دليل. ويلزم حسن تكليف الإخبار عن المستقبل وإن لم يتعلق بالشرائع،
ومعلوم قبح ذلك ضرورة.
فإن قيل: لو نص الله تعالى على صفة وقال من كان عليها فاعلموا أنه معصوم
لكان يجوز أن يكلف الاختيار لمن تلك صفته.
قلنا: يجوز ذلك إذا كان هناك طريق إلى معرفة تلك الصفة، لأن هذا نص
194

على الجملة، والنص على الصفة يجري مجرى النص على الغير، ولأجل هذا
نص الله تعالى في الشرعيات على صفات الأفعال دون أعيان الأفعال، وكان ذلك
جائزا لأن العلة تنزاح به.
فعلى هذا لو كلف الله تعالى الأمة أن يختاروا من ظاهره العدالة ثم قال
لهم إن كان كذلك كان معصوما، والأمارات على العدالة ظاهرة منصوبة معلومة
بالعادة، فإن ذلك جائز، كما جاز تكليفنا تنفيذ الحكم عند شهادة الشهادتين
إذا ظننا عدالتهم ويكون تنفيذ الحكم معلوما وإن كانت العدالة مظنونة، وكذلك
كون المختار معصوما يكون معلوما إذا اخترنا من ظاهره العدالة، وذلك لا ينافي
النص والمعجز.
ويمكن مثل هذا الترتيب في اعتبار كثرة الثواب وكونه أفضل عند الله
تعالى، لأنه لا يعلم ذلك إلا الله كالعصمة فلا بد أن ينص عليه أو يظهر معجزا.
ويمكن أن يعرف أعيان الأئمة بضرب من التقسيم، بأن يقول إذا ثبت
وجوب الإمامة والأمة في ذلك بين أقوال ثلاثة مثلا فيفسد القسمين منها فيعلم
صحة القسم الآخر على ما سنبينه في أمير المؤمنين عليه السلام والأئمة من بعده،
ولا يحتاج مع ذلك إلى نص ولا معجز.
غير أن هذا إنما إذا كانت الأحوال على ما هي عليه في شرعنا، ويمكن أن
يقال قول من قال بإمامة من ثبتت إمامته لا بد أن يستند إلى دليل، لأنه لا بد أن
يكون صادرا عن دليل، فهو إما أن يكون نصا أو معجزا، فقد عاد الأمر إلى
ما قلناه.
فإن قيل: كيف تدعون وجوب النص أو المعجز، ومعلوم أن الصحابة
لما حاجوا في الإمامة فكل طلبه من جهة الاختيار ولم يقل أحد أنه لا تثبت الإمامة
إلا بالنص أو المعجز.
195

قيل: لم نسلم ذلك بل نحن نبين أنهم اختلفوا في نفس الاختيار أيضا
فيما بعد، ولو سلمنا لكان إنكارهم واختلافهم في غير المختار، ويحتمل أن يكون
إنكارا لنفس الاختيار ويحتمل أن يكون لغيره، وإذا احتمل أمرين سقط السؤال.
الكلام في ذكر أعيان الأئمة
(عليهم السلام)
الإمام بعد النبي صلى الله عليه وآله بلا فصل أمير المؤمنين علي بن أبي
طالب عليه السلام. يدل على ذلك أنه إذا ثبت بما قدمناه من الدلالة أن من شرط
الإمام أن يكون مقطوعا على عصمته فالأمة بين قائلين: فكل من قال شرط الإمام
العصمة قطع على أن الإمام بعد النبي علي عليهما السلام، ومن خالف في
إمامته خالف في أن من شرط الإمام أن يكون معصوما، وليس فيهم من قال
الإمام يجب أن يكون معصوما وقال الإمام غيره، فالقول بذلك خروج عن
الإجماع، ومتى نازعوا في أن من شرط الإمام العصمة كلموا بما تقدم.
فإن قيل: ومن أين تعلمون أن عليا عليه السلام معصوم.
قلنا: إذا ثبت أنه الإمام بالاعتبار الذي ذكرناه قطعنا على عصمته، لما
ثبت من أن الإمام يجب أن يكون معصوما.
فإن قيل: فقد صرتم لا تعلمون عصمته إلا بعد أن تعلموا إمامته، ولا تعلموا إمامته
إلا بعد أن تعلموا عصمته، فقد بنيتم كل واحد منهما على صاحبه، فلا يصح
أن تعلموا واحدا منهما.
قلنا: ليس الأمر على ذلك، لأنا إنما علمنا إمامته بطريقة القسمة، إذ بنينا
على أن من شرط الإمام أن يكون معصوما على الجملة - أي إمام كان ولم
نعينه - فإذا علمنا بذلك إمامته علمنا عصمته على التعيين، والكلام في الجملة
196

غير الكلام في التعيين. ومثل ذلك إذا علمنا أن من شرط النبي أن يكون معصوما
في الجملة ثم علمنا نبوة نبي بعينه قطعنا على عصمته.
ولك أن ترتب على وجه آخر فنقول: إذا ثبت أن من شرط الإمام أن يكون
معصوما ووجدنا الأمة بعد النبي صلى الله عليه وآله بين ثلاثة أقوال: [قائل
يقول بإمامة أبي بكر] 1)، وقائل يقول بإمامة العباس، وقائل يقول بإمامة علي عليه
السلام. ولا قول رابع يعرف، وكل من قال بإمامة أبي بكر أو بإمامة
العباس لم يجعل من شرط الإمامة العصمة، فينبغي أن نسقط قول الفريقين
ويبقي قول القائلين بإمامة علي، وإلا خرج الحق عن الأمة وذلك لا يجوز.
ولك أن ترتب مثل هذا في كونه أكثر ثوابا عند الله، ولا أحد من الأمة يقطع
على أن أبا بكر أو العباس أكثر ثوابا عند الله، لأن القائلين بكون أبي بكر أفضل
يقولون إنه أفضل في الظاهر وعلى غالب الظن، فأما على القطع والثبات
عند الله فليس بقول لأحد، ومتى نازع فيه منازع دللنا على أن عليا عليه السلام
أفضل الصحابة ليسقط خلافه.
ولك أن ترتب مثل ذلك في كونه أعلم الأمة بالشرع وتقول: إذا ثبت
أن من شرط الإمام العلم بجميع أحكام الشريعة فليس في الأمة من يذهب إلى
إمامة من هو أعم الأمة وأنه عالم بجميع أحكام الشرع إلا القائلون بإمامة علي
عليه السلام، لأن القائلين بإمامة أبي بكر لا يدعون فيه ذلك وإنما يقولون هو
من أهل الاجتهاد، وكذلك القائلون بإمامة العباس، بل ليس عندهم من شرط
الإمام أن يكون أعلم الأمة.
وهذه طرق عقلية اعتبارية لا يمكن إفسادها إلا بالمنازعة في الأصل الذي
بني عليه، والخلاف في ذلك يكون كلاما في مسألة أخرى.

1) الزيادة من ج.
197

دليل من القرآن على إمامته
(عليه السلام)
ويدل أيضا على الإمام بعد النبي عليه السلام قوله تعالى " إنما وليكم
الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون " 1).
ووجه الاستدلال من الآية أن معنى " وليكم " في الآية من كان مستحقا للأمر
وأولى القيام به وتجب طاعته، وثبت أيضا أن المراد ب‍ " الذين آمنوا " أمير المؤمنين
عليه السلام، وإذا ثبت الأمران ثبتت إمامته عليه السلام.
وهذه الجملة تحتاج إلى بيان أشياء: أولها أن لفظة " ولي " تفيد الأولى
في اللغة. وثانيها أن المراد بها في الآية ذلك. وثالثها أن المراد ب‍ " الذين
آمنوا " أمير المؤمنين دون غيره.
والدليل على الأول - استعمال هذه اللفظة في اللغة، لأنهم يقولون " فلان
ولي المرأة " إذا كان أولى بالعقد عليها، و " فلان ولي الدم " إذا كان له المطالبة بالقود
والدية أو العفو ويقولون " فلان ولي عهد المسلمين " للمرشح للخلافة. وقال الكميت:
ونعم ولي الأمر بعد وليه * ومنتج التقوى ونعم المؤدب
ويعني بالولي الأولى بالقيام بالأمر وتدبيره. وقال المبرد: الولي هو
الأحق، والمولى والأولى عبارة عن شئ واحد.
والدليل على أن المراد في الآية ذلك أنه إذا ثبت أن المراد ب‍ " الذين
آمنوا " من كان مؤتيا للزكاة في حال الركوع، لأنه تعالى لما وصفه بالإيمان
وصفه بإيتاء الزكاة في حال الركوع، فيجب أن يراعى ثبوت الصفتين، وقد
علمنا أن أحدا لم يعط الزكاة في حال الركوع غير علي عليه السلام، فوجب

1) سورة المائدة: 55.
198

أن يكون هو المعني بها دون غيره.
وأيضا فإنه تعالى نفى أن يكون وليا غير الله ورسوله والذين آمنوا بلفظة
" إنما "، وهي تفيد تحقيق ما ذكر ونفي الصفة عمن لم يذكر، بدلالة قولهم.
" إنما لك عندي درهم " يريدون ليس لك عندي إلا درهم، ويقولون " إنما
النحويون المدققون البصريون " يريدون نفي التدقيق عن غيرهم، ويقولون
" إنما الفصاحة في الجاهلية " يريدون نفي الفصاحة عن غيرهم. وقال الأعشى:
ولست بالأكثر منهم حصى * وإنما العبرة للأكاثر
وإنما أراد نفي العبرة عمن ليس بكاثر.
وإذا ثبت [أن المراد بالولاية التخصيص ثبت] 1) ما أردناه من معنى الإمامة
والتحقيق بالأمر، لأن ولاية المحبة والموالاة الدينية عامة في جميع الأمة
للاجماع عليه، والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض.
والذي يدل على أن المراد ب‍ " الذين آمنوا " علي عليه السلام أمران:
أحدهما - أنه إذا ثبت أن المراد بالولي الأولى والأحق، فكل من قال
بذلك قال هي متوجهة إليه عليه السلام، لأن من خالف في ذلك حملها على
الموالاة في الدين لجميع المؤمنين.
والثاني - أنه قد ورد الخبر من طريق العام والخاص بنزول الآية فيه عليه
السلام عند تصدقه بخاتمه في حال الركوع، والقصة في ذلك مشهورة 2).
فإذا ثبت أنه المختص بالآية ثبتت إمامته دون غيره، [لأن كل من قال إن
الآية تفيد الإمامة قال هو المخصوص دون غيره] 3)، ومن قال الآية نزلت في

1) الزيادة ليست في ر.
2) راجع تلخيص الشافي 2 / 11.
3) الزيادة من ج.
199

عبادة بن الصامت فالكلام عليه من وجهين:
أحدهما: إن هذه رواية شاذة أكثر الأمة يدفعها، وما قلناه في نزولها فيه
مجمع عليه.
والثاني: أنه روي أن عبادة كان محالفا لليهود، فلما أسلم قطعت اليهود
محالفته، فاشتد ذلك عليه فأنزل الله تعالى فيه الأية تسلية له وتقوية لقلبه.
ومن قال: إن الآية نزلت في أقوام كانوا في الصلاة في الركوع وأرادوهم
راكعون في الحال لا أنهم آتوا الزكاة في حلال الركوع وإنما أراد أن ذلك
طريقتهم وهم في الحال راكعون. فقوله باطل، لأنه ذلك يخالف العربية ووجه
الكلام، لأن المفهوم من قول القائل " يستحق المدح من جاد بماله وهو ضاحك "
و " فلان يغشى لإخوانه وهو راكب " معنى الحال، وكذلك لو قال " لقيت فلانا
وهو يأكل " لم يعقل منه إلا لقاؤه في حال الأكل.
على أنه لو حمل على ما قالوه لكان ذلك تكرارا، لأن قوله " ويقيمون
الصلاة " دخل فيه الركوع فلا معنى لتكرير قوله " وهم راكعون "، لأنه عبث.
على أن هذا القول لم يقله أحد غير الجبائي ولا ذكره أحد من أصحاب
الأخبار، لأن الآية لو كانت في قوم معينين لنقل وسطر، وفي تعري الأخبار من
ذلك دليل على أن ذلك لا أصل له.
فإن قيل: حمل لفظ " الذين " على الواحد مجاز، وحمل قوله " ويؤتون
الزكاة " في الحال مجاز آخر لأن حقيقتها الاستقبال، فلم لا يجوز أن يحمل
على مجاز واحد.
فنقول: المراد من صفتهم إيتاء الزكاة ومن صفتهم أنهم راكعون، ولا
يجعل إحدى الصفتين حالا للأخرى.
قلنا: أما لفظ " الذين " وإن كان لفظ جمع فقد صار بعرف الاستعمال
200

يعبر به عن واحد معظم له، ولذلك نظائر كقوله " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له
لحافظون " 1) وقوله " إنا أرسلنا " 2) و " لقد أرسلنا " 3) وغير ذلك من الألفاظ.
وقال أهل التفسير: إن قوله تعالى " الذين قال لهم الناس " 4) المراد به واحد
معروف.
وأما لفظ " يؤتون " فمشترك بين الحال والاستقبال، وإنما يختص بالاستقبال
بدخول السين أو سوف عليه، وهي بالحال أشبه، لأنهم يقولون " مررت برجل "
يقوم " كما يقولون " مررت برجل قائم "، ولو تساويا لكان الحمل على كل
واحد منهما حقيقة ولم يكن مجازا.
على أن من مذهب من خالفنا من أهل العدل أن الله كان ولا شئ ثم أحدث
الذكر، فعلى هذا حمل الآية على الاستقبال حقيقة.
على أن مجازنا له شاهد في الاستعمال ومجازهم لا شاهد له في عرف ولا
لغة، يؤدي أيضا إلى أن لا نستفيد بالآية شيئا، لأن الموالاة الدينية معلومة بغيرها.
على أن الخصوص في قوله تعالى " والذين آمنوا " لا بد منه، لأنه لو
حمل على العموم لأدى إلى أن يكون كل واحد من المؤمنين ولي نفسه، فإذا
لا بد أن يكون المراد بقوله " وليكم " غير المراد بقوله " والذين آمنوا " ليستقيم
الكلام.
وإذا وجب تخصيص الآية فكل من خصصها حملها على من قلناه دون غيره.
وليس لأحد أن يقول: المراد بالركوع في الآية الخشوع والخضوع

1) سورة الحجر: 9.
2) سورة المزمل: 15.
3) سورة الحديد: 25.
4) سورة آل عمران: 173.
201

دون الركوع في الصلاة، وذلك أن المعروف في اللغة من معنى الركوع هو
التطأطؤ المخصوص وشبه به الخضوع والخشوع، وقد نص على ذلك أهل
اللغة، أنشد صاحب كتاب العين للبيد:
أخبر أخبار القرون التي مضت * أدر كأني كلما قمت راكع
وقال صاحب الجمهرة: الراكع الذي يكبو لوجهه، ومنه الركوع في
الصلاة. فإذا كانت الحقيقة ما قلناه فلا يجوز حملها على المجاز.
وليس إعطاء الخاتم في الصلاة فعلا يفسد الصلاة، لأنه لا خلاف أن الفعل
اليسير مباح. وأيضا فقد مدح الله تعالى والنبي " ص " على ذلك، فلو كان
نقصا لما مدحاه بذلك.
وقول من قال: أن أمير المؤمنين عليه السلام لم يجب عليه زكاة لقلة ذات
يده فكيف يحمل على ذلك. باطل، لأنه لا يمتنع أن يملك عليه السلام أول
نصاب من المال نحو مائتي درهم، لأن من ملك ذلك لا يسمى غنيا، فلا وجه
لاستبعاد ذلك.
ويجوز أن يكون المراد زكاة التطوع، وليس في الآية أنه زكاة فرض دون
التطوع. والنية بدفع الزكاة لا بد منها، وهي لا تنافي الصلاة، لأنها من أفعال
القلوب لا تؤثر في الصلاة.
وليس لأحد أن يقول: لو اقتضت الآية الإمامة لوجب أن يكون إماما في
الحال. وذلك أنا قد بينا أن المراد بالآية فرض الطاعة وقد كان له ذلك في
الحال، [فلا يمكن ادعاء الإجماع على خلافه. ولو اقتضى الإمامة في الحال] 1)
لاقتضاها فيما بعد إلى حين وفاته، فإذا قام الدليل على أنه لم يكن إماما في الحال
ثبت ما بعد النبي صلى الله عليه وآله.

1) الزيادة من ج.
202

وليس لأحد أن يقول: هل حملتموها على بعد عثمان. وذلك أن هذا
يسقط بالاجماع، لأن أحدا لم يثبت له الإمامة بعد عثمان من دون ما قبلها بالآية
بل أثبتوا الإمامة بالاختيار، ومن أثبت إمامته في تلك الحال بالنص في الآية
وغيرها أثبتها له أيضا بعد النبي بلا فصل، فالفرق بين الأمرين خلاف الإجماع.
دليل آخر على إمامته
(عليه السلام)
ومما يدل على إمامته عليه السلام بعد النبي صلى الله عليه وآله بلا فصل
ما تواترت به الشيعة ونقلته مع كثرتها وانتشارها في البلاد واختلاف آرائها
ومذاهبها وتباعد ديارها واختلاف هممها خلفا عن سلف إلى أن تصل بالنبي
عليه السلام أنه قال: " علي إمامكم " و " خليفتي عليكم من بعدي " 1) و " سلموا
عليه بإمرة المؤمنين " 2). وغير ذلك من الألفاظ الصريحة التي لا تحمل التأويل
وأنهم علموا من قصده ضرورة أنه أراد استخلافه من بعده بلا فصل.
فلا يخلو أن يكونوا صادقين أو كاذبين، فإن كانوا صادقين فقد ثبتت إمامته
على ما قلناه، وإن كانوا كاذبين لم يخل كذبهم من أمور: إما أن يكون اتفق لهم
الكذب فوضعوه أو تواطؤا عليه إما باجتماع وموافقة أو بمكاتبة ومراسلة، أو
حصل فيه ما يجري مجرى التواطؤ، أو حصل أحد هذه الأسباب في الوسائط
التي بيننا وبين النبي عليه السلام، أو كان القائل به في الأصل واحدا ثم انتشر
القول وكثر معتقدوه، فإذا ثبت جميع ذلك دل على أن الخبر متصل.
ولا يجوز أن يكون اتفق لهم الكذب فوضعوه، لأن ما هم عليه من الكثرة

1) تلخيص الشافي 2 / 57.
2) بحار الأنوار 35 / 290.
203

يمنع من جواز ذلك عليهم، لأن العلم باستحالة خبر واحد عن شئ واحد
من الخلق الكثير على وجه أحد من غير تواطئ مستحيل في العادة. ألا ترى
أنه يستحيل من جماعة من الشعراء أن يتواردوا في قصيدة واحدة في معنى واحد
وغرض واحد وقافية واحدة وروي واحد، ويجري ذلك مجرى استحالة
اجتماعهم على طعام واحد وزي واحد. وإذا كان ذلك مستحيلا في العادة
وجب المنع منه.
وليس الكذب في هذا الباب يجري مجرى الصدق، لأن الصدق يجوز
أن يتفق من الخلق الكثير من غير تواطئ، لأن العلم بكونه صدقا داع إلى
نقله، وليس كذلك الكذب، لأن العلم بكونه كذبا صارف عن نقله، فيحتاج
إلى داع غير ذلك يحمل على نقله. ولا يجوز أن يكونوا تواطؤا عليه، لأن
ذلك مستحيل منهم، لتباعد ديارهم وانتشارهم في الأرض، ولو تواطؤا بالاجتماع
لما خفي ولعلم في أوجز مدة.
وكذلك يستحيل منهم المراسلة والمكاتبة لأن أكثرهم لا يتعارفون وصحة
المراسلة فرع على التعارف، وإذا كانوا لا يتعارفون فكيف يصح منهم المكاتبة
ولو صح أيضا لكان يجب أن يظهر في أوجز مدة، بذلك قضت العادات وحكم
الاعتبار ولو ظهر لعلم.
وأما ما يجري مجرى التواطؤ فهو إما رغبة في الدنيا أو رهبة، وكلاهما
منفيان عمن ادعى له النصر، لأنه لو لم يكن له دينا فيطمع فيها فيكذب له بالنص
ولم يبسط يده فيخاف منه فيدعو ذلك إلى وضع النص، بل الدواعي كلها
إلى كتمانه وجحده والصوارف عن نقله وإظهاره، فكيف يكون هناك ما يجري
مجرى التواطؤ.
ولو كان ذلك ممكنا لما دعاهم إلى وضع فضيلة بعينها، بل كان يدعو
204

الناس إلى وضع فضيلة غير الذي يدعو عليها الآخر، لأن الاتفاق في مثل ذلك
مستحيل في العادة على ما بيناه.
ولو كان أحد هذه الأشياء حصل في الوسائط الذين بيننا وبين النبي عليه
السلام لعلم ذلك، كما لو كان في الطرف الذي بيننا لعلم. ولو كان الأصل فيهم
واحدا ثم انتشر لعلم الوقت الذي حدث فيه ومن المحدث له وما الذي دعاه
إليه، كما علم سائر المذاهب الحادثة بعد استقرار الشرع، كمذهب الخوارج
والمعتزلة والجهمية والكلابية والنجارية وغير ذلك من الفرق، وكما علم
فقه أبي حنيفة ومالك والشافعي وأنه لم يتقدمهم أحد قال به على ما ذهبوا
إليه وجمعوه، فكان يجب أن يعلم النص مثل ذلك ومن القائل به، وإذا لم يعلم
ذلك دل على أنه متصل.
وقولهم: إنه علم ذلك وإنه وضعه في هشام بن الحكم وابن الراوندي.
باطل، لأن القائلين بالنص كانوا قبل هشام وكتبهم معروفة في ذلك، وأما
ابن الراوندي فهو متأخر كثيرا وشيوخ الإمامية قبله معروفون، ولو كان الأمر
على ما قالوه لما حسن مكالمتهم كما لا يحسن مكالمة من يحدث مقالة فيقول
بإمامة ابن مسعود وأبي هريرة أو غير ذلك، لأن الإجماع سبقهم فلا يلتفت
إليه، وفي حسن مكالمتهم لنا ووضعهم الكتب علينا دليل على فساد قولهم هذا
فإن قيل: لو كان هذا النص صحيحا لعلم صحته ضرورة كما علمت هجرة
النبي صلى الله عليه وآله إلى المدينة، وكما علم أن في الدنيا مكة وبلد الروم
وغير ذلك من أخبار البلدان.
قلنا: ليس العلم بمجرد الإخبار عندنا ضرورة، بل هو مكتسب عند أكثر
أصحابنا، وعند قوم أنه مشكوك فيه. فأما العلم بالنص فمستدل عليه قطعا ويجري
العلم به كالعلم بمعجزات النبي عليه السلام التي هي سوى القرآن، وليس إذا
205

إذا لم يعلم باقي المعجزات - كما علمنا البلدان والوقائع - وجب القطع على
بطلانها لكونها معلومة بالاستدلال، وكذلك النص إذا لم يكن معلوما بالضرورة
وكان معلوما بالاستدلال لم يجب القطع على بطلانه.
على أن العلم بالبلدان والوقائع لم يمتنع أن يكون حصل لما لم يقابل
وأتوا به بالتكذيب ولم يعرض فيه ما عرض في النص، فسلم نقله فحصل
العلم به. والنص بخلاف ذلك، لأنه عرض في نقله وانتهازه موانع ولقي
راويه بالتكذيب واعتقد ضلالته وخطأوه ويدعي في روايته، فكيف يحصل
العلم مع هذه الموانع.
وهكذا الجواب إذا قالوا: لم لا يعلم النص كما علمنا الصلوات الخمس
والحج إلى الكعبة وصوم شهر رمضان وغير ذلك من أركان الشرائع. لأن
الأسباب التي عرضت في الإمامة لم تعرض في شئ من العبادات، فسلم نقله
فحصل العلم به، ولما عرض ما قلناه في النص غمض طريق العلم به.
وليس لأحد أن يقول: قد ادعيتم حصول موانع من نقل النص فما
دليلكم عليها؟.
قلنا: لا خلاف أن النص عقد الأمر على خلاف متضمنه وإن اعتقد في
ناقله أنه ضال مبتدع ولقوا بالتكذيب، ويزيد المخالف على ذلك ويقول: هذا
هو الواجب فكيف يمكن أن يدعى أنه لم يكن هناك صارف.
على أن ههنا أمورا كثيرة في الشرع منصوصا عليها وليس العلم بها كالعلم
بما ذكروه من العبادات. ألا ترى أن صفات الإمام وعدد العاقدين وكونه
من قريش، كل ذلك طريقه النص ومع هذا العلم به كالعلم بما قالوه،
وكذلك العلم بمعجزات النبي صلى الله عليه وآله التي هي سوى القرآن
ليست مثل العلم بالقرآن وبأصول الشريعة، فكيف تسوى بين المنصوصات
206

عليها في الشرع على اختلاف طرقها وغموض بعضها وظهور بعض، وهل
يكون من سوى بين الكل في كيفية العلم إلا غير منصف متحامل متعصب،
وذلك لا يليق بالعلماء.
فإن قيل: يلزم على هذه الطريقة قول البكرية والعباسية إذا ادعوا النص
لأصحابهما وادعوا مثل ما ادعيتم بعينه، وإلا فما الفرق؟
قلنا: الفرق بيننا وبين هؤلاء: إن الشيعة معروفون وعلماءهم كثيرون
ولهم كتب مصنفة ومقالات ظاهرة، وليس كذلك البكرية، لأنا لم نشاهد
قط بكريا ولا عباسيا، ولسنا نعني بالبكرية من ذهب إلى إمامة أبي بكر بل
نريد من ادعى النص عليه. وأيضا هذا حكاية عن بعض من تقدم يعرف ببكر بن
أخت عبد الواحد، فنسبوا إليه ولم ينسبوا إلى أبي بكر، والقائلون بإمامة
أبي بكر من علماء الأمة يذهبون إلى إمامته بالاختيار والاجماع الذي يدعونه،
وليس منهم من يقول كان منصوصا عليه كما يقوله الشيعة في علي عليه السلام.
وأما القائلون بإمامة العباس فلا يعرف واحد منهم أصلا، ولولا أن الجاحظ
حكى هذه المقالة وصنف فيهم كتابا وإلا ما كان يعرف هذا القول لا قبله ولا بعده.
على أن ما دللنا به على أن من شرط الإمام أن يكون مقطوعا على عصمته،
يبطل هذين القولين، لأنهما لا يدعيان ذلك لأصحابهما على ما بيناه. على
أنه قد ظهر منهما ومن غيرهما من الصحابة ما يدل على أنهما لم يكونا
منصوصا عليهما، فروي عن أبي بكر لما احتج على الأنصار يوم السقيفة
قال " الأئمة من قريش " ولو كان منصوصا عليه لقال أنا منصوص علي فأين
يذهب بكم.
ولا يلزمنا مثله في أمير المؤمنين عليه السلام، لأنه أولا لم يحضر الموضع فيحتج
وثانيا أن الفريقين قصدوا إلى أن يدفعوا الأمر عنه فكيف يحتج عليهم، وربما
207

ادعوا نسخ الخبر أو جحدوه وكانت تكون البلية العظمى. وليس يدعي
المخالف مثل ذلك، لأنهم يقولون كان الموضع موضع بحث واحتجاج.
فعلى قولهم كان يجب أن يذكر النص على نفسه.
ومنها أنه قال للأنصار " بايعوا " أي أحد هذين شئتم يعني أبا عبيدة الجراح
وعمر، ولو كان منصوصا عليه لما جاز ذلك.
ومنها قوله " أقيلوني " ولو كان منصوصا عليه لما جاز منه استقالتهم.
ومنها ما روي أنه قال عند موته: ليتني كنت سألت رسول الله هل للأنصار
في هذا الأمر نصيب فكنا لا ننازعهم. ولا يتمنى مثل هذا من يعلم أنه
منصوص عليه.
ومنها قول عمر لأبي عبيدة " أمدد يدك أبايعك "، ولو كان أبو بكر منصوصا
عليه لما قال ذلك.
ومنها قوله " كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله شرها، فمن عاد إلى مثلها
فاقتلوه ".
ومنها قوله حين قيل له: استخلف، قال: إن استخلف فقد استخلف من
هو خير مني - يعني أبا بكر - وإن أترك فقد ترك من هو خير مني - يعني
رسول الله.
ومنها أن جميع ما يدعى من النص عليه لا دلالة فيه لكونه خبر واحد وأنه
ليس في تصريحه ولا فحواه دلالة النص، وقد ذكرنا الوجه في جميع ذلك
في تلخيص الشافي وشرح الجمل لا نطول بذكره ههنا.
وكذلك ما تتعلق به العباسية قد بينا الوجه فيه. على أن العباس دعا أمير
المؤمنين عليه السلام إلى مبايعته وقال له: أمدد يدك أبايعك فيقول الناس بايع
عم رسول الله ابن عمه فلا يختلف عليك اثنان. ولو كان منصوصا عليه لما
قال ذلك.
208

فإن قيل: إذا كان هو عالما بأن عليا منصوص عليه فلم أراد مبايعته؟
قلنا: أراد أن يحتج عليهم من الطريق الذي سلكوه، لأنهم طلبوا الإمامة
من جهة الاختيار والبيعة دون النص فأراد أن يحتج عليهم بما أقروا به وعلموه
دون ما لم يذكروه.
ومتى قال: إنه أولى بالمقام لأنه عمه والعم وارث. باطل، لأن الإمامة
ليست مورثة بلا خلاف لأنها تابعة للمصالح كما أن البيعة مثل ذلك.
فإن قيل: لو كان أمير المؤمنين منصوصا عليه لوجب أن يحتج به وينكر
على من دفعه بيده ولسانه، ولما جاز أن يصلي معهم ولا أن ينكح سبيهم ولا
يأخذ فيئهم ولا يجاهد معهم، وفي ثبوت جميع ذلك دليل على بطلان ما
قلتموه.
قلنا: المانع لأمير المؤمنين عليه السلام من الاحتجاج بالنص عليه الخوف بما
ظهر له من الإمارات التي بانت له من إقدام القوم على طلب الأمر والاستبداد
به واطراح عهد الرسول مع قرب عهدهم به وعزمهم على إخراج الأمر عن
مستحقه، فأيسه ذلك من الانتفاع بالحجة وخاف أن يدعو النسخ لوقوع النص،
فتكون البلية به أعظم والمحنة به أشد، ولا يتبين لكل أحد أن نسخ الشئ قبل
فعله لا يجوز.
وربما ادعوا أيضا أن ما ذكروا من النص لا أصل له فتعظم البلية، لأن
النص الجلي لم يكن بمحضر الجمهور بل كان بمحضر جماعة لو نقلوه لا نقطع
بنقلهم الحجة، فلو جحدوه لدخلت الشبهة على الباقين.
وأما ترك النكير عليهم باليد فلأنه لم يجد ناصرا ولا معينا، ولو تولاه
بنفسه وخواصه لربما أدى إلى قتله وقتل أهله وخاصته، فلذلك عدل عنه، وقد
بين عليه السلام ذلك بقوله: أما والله لو وجدت أعوانا لقاتلتهم. وقوله بعد بيعة
209

الناس له ونكث أهل البصرة بيعته: والله لولا حضور الناصر ولزوم الحجة
وما أخذ الله على أوليائه أن لا يقروا على كظة ظالم أو شغب مظلوم لا لقيت
حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم عندي
أهون على من عفطة عنز.
فبين أصحابه عليه السلام قابل من قابل أهل البصرة وغيرهم لقيام الحجة عليه
بحضور الناصر، وكان في ذلك بيان أنه لم يقاتل الأولين لعدم الناصر، فلو
قاتلهم لربما أدى إلى ارتداد أكثرهم وفي ذلك بوار الاسلام، وقد بين ذلك
في خطبته بقوله: لولا قرب عهد الناس بالكفر لقاتلتهم.
فأما الانكار باللسان فقد أنكره في مقام بعد مقام بحسب الحال من القوة
والضعف، نحو قوله عليه السلام: لم أزل مظلوما منذ قبض رسول الله " ص ".
وقوله: اللهم إني أستعديك على قريش فإنهم ظلموني حقي ومنعوني إرثي.
وقوله: اللهم إني أستعديك على قريش فإنهم ظلموني في الحجر والمدر.
وقوله: والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب
من الرحى، ينحدر عني السيل ولا يرقى إلي الطير - إلى آخر الخطبة. وذلك
صريح بالانكار والتظلم على من منعه حقه.
فأما الصلاة خلفهم فإنه عليه السلام كان يصلي معهم في مسجد رسول الله
لا مقتديا بهم بل لنفسه وإن كان يركع بركوعهم ويسجد بسجودهم، وذلك ليس
بدليل الاقتداء بلا خلاف.
فأما الجهاد مع القوم فلا يمكن أحد يدعي أنه جاهد معهم أو سار تحت رايتهم
وإنما روي أنه قاتل أهل الردة دفاعا عن المدينة وعن حرم رسول الله صلى
الله عليه وآله لما دنوا منها، وإن كان ذلك أيضا شاذا لا يعرف في السير، ولو
صح لكان ذلك واجبا عليه وعلى كل أحد بحكم العقل والشرع وإن لم يكن
هناك من يقتدى به.
210

فأما أخذه من فيئهم فإنما كان يأخذ بعض حقه، ومن له حق له أن يتوصل
إلى أخذه بجميع الوجوه، ولم يكن يأخذ من أموالهم ولا من أموال
المسلمين.
وأما نكاح سبيهم فقد اختلف في ذلك، فروى قوم أن النبي عليه السلام
كان وهب له الحنفية فاستحل فرجها بقوله، وقال آخرون أسلمت فتزوجها
أمير المؤمنين " ع " وقال قوم اشتراها فأعتقها ثم تزوجها. فكل ذلك ممكن.
على أن سبي أهل الضلال يجوز أن يشترى ويحل وطؤ الفرج بذلك،
لأن المراعى استحقاق المسبي بالسبي ولا اعتبار بالسابي، ولذلك يجوز شراء
ما يسبيه الكفار من دار الحرب وإن أغار بعضهم على بعض أو يسرقونه، وهذا
يسقط السؤال.
فإن قيل: لو كان النص عليه صحيحا لما جاز له الدخول في الشورى ولا
الرضا به، لأنها باطلة على مذهبكم.
قيل: لأصحابنا على ذلك أجوبة:
أحدها: أنه إنما دخل فيها تقية وخوفا، ولو لم يدخلها لقتل، إنما يمتنع
ذلك لتوهم أن الحق لك فحمله على الدخول فيها ما حمله على البيعة للمتقدمين.
والثاني: أنه إنما دخلها ليتمكن من إيراد حججه وفضائله ونصوصه،
لأنه أورد في ذلك اليوم جل مناقبه، ولو لم يدخلها لما أمكنه ذلك، فدخلها
ليؤكد الحجة عليهم.
والثالث: أنه إنما دخلها تجويزا لأن يختارونه فيتمكن من القيام بالأمر،
ومن له حق له أن يتوصل إليه بجميع الوجوه.
فإن قيل: لو كان منصوصا عليه لكان دافعه ضالا مخطئا، وفي ذلك تضليل
أكثر الأمة ونسبتهم إلى معاندة الرسول واطراح أمره، وذلك منفي عن الصحابة
211

قلنا: لا نقول إن جميع الصحابة دفعوا النص مع علمهم بذلك، وإنما
كانوا بين طبقات: منهم من دفعه حسدا وطلبا للأمر، ومنهم من دخلت عليه
الشبهة فظن أن الذي دفعوه لم يدفعوه إلا بعهد عهد الرسول " ع " وأمر عرفوه
ومنها أنه لما روي لهم قوله " الأئمة من قريش " ظنوا أن الأخذ باللفظ العام
أولى من الخاص فتركوا الخاص وعملوا بالعام، وبقي قوم على الحق متمسكين
بما هم عليه [فلم يمكنهم مخاصمة الجمهور ولا مخالفة الكل فبقوا متمسكين
بما هم عليه] 1)، قصاراهم أن ينقلوا ما علموه إلى أخلاقهم، فلا يجب من ذلك
نسبة الأكثر إلى الضلال.
على أن الله تعالى أخبر عن أمة موسى وهم أضعاف أمة النبي عليه السلام أنهم
ارتدوا حتى مضى موسى إلى ميقات ربه وعبدوا العجل مع مشاهدتهم لفلق
البحر وقلب العصا حية واليد البيضاء وغير ذلك من المعجزات الباهرات،
وما غاب عنهم موسى إلا أياما قلائل، فكيف يتعجب من طائفة قليلة تدخل عليهم
الشبهة ويندفع قوم منهم لدفع الحق، وقد قال الله تعالى " ومن آمن وما
آمن معه إلا قليل " 2) وقال " ولكن أكثرهم لا يعلمون " 3)، " ولكن أكثرهم
للحق كارهون " 4)، وقال " وقليل من عبادي الشكور " 5)، فلم يذكر الكثير
إلا ذمه ولم يذكر القليل إلا مدحه.
فأين التعجب من ذلك وقد قال الله تعالى " وما محمد إلا رسول قد خلت

1) الزيادة من ج.
2) سورة هود: 40.
3) سورة الأنعام: 37.
4) سورة المؤمنون: 70.
5) سورة سبأ: 13.
212

من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم " 1) وقال النبي " ص ":
لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة، حتى أنه لو دخل
أحدهم جحر ضب لدخلتموه. فقالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى، فقال
عليه السلام: فمن إذا.
وقال صلى الله عليه وآله بينا أنا على الحوض عرضه ما بين بصرى إلى العدن إذ
يجاء بقوم من أصحابي فيجلسون دوني، فأقول: يا رب أصحابي. فيقال: لا تدري
ما أحدثوا بعدك، إنهم لا يزالوا على أعقابهم القهقرى.
والأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى، فأين التعجب من وقوع الخطأ
من القوم، وقال: ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة فرقة ناجية والباقون
في النار.
فإن قيل: لو كان الأمر على ما ذكرتموه من النص لما زوج أمير المؤمنين عليه
السلام بنته من عمر، وفي تزويجه إياها دليل على أن الحال بينهم كانت عامرة
بخلاف ما تدعونه ويدعي كثير منكم أن دافعه كافر.
قلنا: في أصحابنا من أنكر هذا التزويج، وفيهم من أجازه وقال فعل
ذلك لعلمه بأنه يقتل دونها، والصحيح غير ذلك وأنه زوجها منه تقية، لأنه
جرت ممانعة إلى أن لقي عمر العباس وقال له ما هو معروف، فجاء العباس
إلى أمير المؤمنين " ع " فقال: ترد أمرها إلي. ففعل فزوجها منه حين ظهر له
أن الأمر يؤول إلى الوحشة. وروي عن الصادق " ع " في ذلك ما هو معروف.
على أن من أظهر الشهادتين وتمسك بظاهر الاسلام يجوز مناكحته، و
ههنا أمور متعلقة في الشرع بإظهار كلمة الاسلام كالمناكحة والموارثة والمدافنة
والصلاة على الأموات وغير ذلك من أحكام أخر، فعلى هذا يسقط السؤال.
فإن قيل: كيف يكون النص صحيحا ويقول العباس له: تعال حتى نسأل

1) سورة آل عمران: 144.
213

النبي عليه السلام عن هذا الأمر، فإن كان فينا عرفناه وإن كان في غيره أوصاه
بنا. ويقول له في دفعة أخرى: أمدد يدك أبايعك فيقول الناس عم رسول الله
بايع ابن عمه فلا يختلف علين اثنان ولو كان منصوصا عليه لما احتاج إلى
ذلك وكان لا يخفى على العباس.
قلنا: أما رغبته إلى سؤال النبي لم يكن لشك في مستحق الأمر، وإنما قال
ذلك ليعلم هل يثبت ذلك فيهم ويسلم لهم أم لا، فلذلك أراد مسألته لا عن موضع
الاستحقاق. وأما مبايعته فقد بينا أنه إنما طلب ذلك لما رأى أن القوم يتحادثون
الأمر من جهة الاختيار وتركوا النص ودخلت إليه شبهة بين الأكثر أراد أن
يحتج عليهم بمثل ما هم يطلبون، فلم يجبه أمير المؤمنين عليه السلام لما علمه
من جهة النبي وما يؤول الأمر إليه فلذلك لم يجب العباس إلى ما دعاه إليه.
فإن قالوا: كيف يكون منصوصا عليه وهو يعينهم في كثير من الأحكام
مستفهما ومستفتيا، فكان يجب أن ينقض أحكامهم لما أفضى إليه الأمر وكان ينبغي
أن يسترد فدكا إلى أربابها، وفي عدوله عن ذلك دليل على بطلان ما تدعونه.
قلنا: أما فتياه لهم فمما لا يسوغ له الامتناع منه، لأن عليه إظهار الحق
والفتوى إذا لم يخف وآمن الضرر، ولا سؤال على من أظهر الحق وإنما
السؤال فيمن أبطن. وأما إقراره أحكام القوم فإنه لم يمكن خلاف ذلك وإنما
أفضي الأمر إليه بالاسم دون المعنى، وأكثر من بايعه كان معتقدا لإمامة القوم،
فكيف يتمكن من نقض أحكامهم، ولذلك قال لقضاته وقد سألوه: بم نحكم؟
فقال: اقضوا بما كنتم تقضون حتى يكون الناس جماعة أو أموت كما مات
أصحابي - يعني من مات من شيعته - وخالف في مسائل علم شاهد الحال بأن الخلاف
فيها لا يوحش وأمسك عما يورث الوحشة.
وأما فدك فإنما لم يردها لما قلناه من التقية وإن ردها يؤدي إلى تظلم القوم
214

وتخطئتهم فعدل عن ذلك. على أن فدكا كانت حقا له ولمن له عليه ولاية، ومن
له حق له أن يترك المطالبة به لبعض الأغراض. وفي أصحابنا من قال: الخصم
في فدك كانت فاطمة عليها السلام وأوصت إليه بأن لا يتكلم فيها لتكون هي
المخاصمة يوم القيامة لما جرى بينها وبين من دفعها من الكلام المعروف حتى
قالت له: ستجمعني وإياك يوم يكون فيه فصل الخطاب. فأما الكلام في
استحقاق فاطمة عليها السلام فدك بالنحلة أو الميراث فقد استوفيناه في تلخيص
الشافي وطرف منه في شرح الجمل لا نطول بذكره ههنا.
وأما ما يعارضون به ويذكرونه من الآيات نحو قوله تعالى " والسابقون
الأولون من المهاجرين والأنصار " 1) وقوله " لقد رضي الله عن المؤمنين إذ
يبايعونك تحت الشجرة " 2) وغير ذلك من الآيات، وأن ذلك يمنع من وقوع
خطأ منهم يدفع النص. فقد بينا الوجه فيها مستوفى في تلخيص الشافي وطرفا
منه في شرح الجمل والمفصح في الإمامة وغير ذلك من كتبنا لا نطول بذكره
ههنا، وفيما ذكرناه كفاية إنشاء الله.
دليل آخر على إمامته
(عليه السلام)
ومما يدل على إمامته عليه السلام الخبر المعروف الذي لم يدفعه أحد من أهل
العلم يعتد بقوله، أن النبي " ص " حين انصرف من حجة الوداع وبلغ الموضع
المعروف بغدير خم نزل ونادى في الناس الصلاة جامعة، فاجتمع الناس،
فلما رآهم رقى الرحال وخطب خطبة معروفة ثم أقبل على الناس فقال: ألست

1) سورة التوبة: 101.
2) سورة الفتح. 18.
215

أولى منكم بأنفسكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. فقال عاطفا على ذلك: فمن
كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره
واخذل من خذله 1).
فأتى بلفظ " أولى " وقررهم بها على فرض طاعته ثم عطف بجملة أخرى
عليها محتملة لها ولغيرها، فوجب حملها على مقدميها بموجب استعمال أهل
اللغة، فوجب بذلك أن يكون أمير المؤمنين عليه السلام مفترض الطاعة كما كان
النبي " ص " كذلك، وفرض الطاعة يفيد الإمامة فوجب أن يكون إماما.
وهذه الجملة تحتاج إلى بيان أشياء: أحدها أن نبين صحة الخبر، والثاني
أن نبين أن لفظة " المولى " تفيد أولى في اللغة، ثم نبين أنها أرادت ذلك في
الخبر دون غيره من الأقسام.
والذي يدل على صحة الخبر تواتر الشيعة به خلفا عن سلف على ما بيناه
في التواتر بالنص الجلي، وكلما يسأل عليه من الأسئلة فالجواب عنه ما تقدم.
وأيضا فقد رواه أصحاب الحديث من طرق كثيرة لم يرد في الشريعة خبر
متواتر أكثر طرقا منه، فإنه روى الطبري من نيف وسبعين طريقا وابن عقدة
من ماءة وخمس وعشرين طريقا. فإن لم يثبت بذلك صحته فليس في الشرع
خبر صحيح.
[وأيضا فأمير المؤمنين عليه السلام احتج به يوم الشورى فلم ينكره أحد
ولا دفعه، فدل على صحته] 2).
وأيضا أجمعت الأمة على صحته وإن اختلفوا في معناه، وما يحكى عن
ابن أبي داود من جحده له ليس بصحيح، لأنه إنما أنكر المسجد المعروف
0

1) انظر تفصيل قصة الغدير ورواتها كتاب الغدير الجزء الأول.
2) الزيادة ليست في ر.
216

بغدير خم ولم يجحد نفس الخبر، وخلافه أيضا لا يعتد به لأنه سبقه الإجماع
وتأخر عنه.
وأيضا إذا ثبت أن مقتضاه الإمامة على ما ثبت ثبتت صحته، لأن الأمة بين
قائلين: قائل يقول مقتضاه الإمامة فهو يقطع على صحته، وقائل يقول ليس
مقتضاه الإمامة فيقول هو خبر واحد.
وأما الذي يدل على أن " مولى " يفيد الأولى قول أهل اللغة: قال أبو عبيدة
معمر بن المثنى في قوله تعالى " النار مولاهم " 1) قال: معناه أولى بهم، واستشهد
ببيت لبيد:
قعدت كلى الفرجين يحسب أنه * مولى المخافة خلفها وإمامها
وقول أبي عبيدة حجة في اللغة، وقال الأخطل يمدح عبد الملك بن مروان:
فأصبحت مولاهم من الناس كلهم * وأحرى قريش أن تهاب وتحمدا
أي أولى الناس بها.
وروي عن النبي " ص " أنه قال " أيما امرأة نكحت بغير إذن مولاها فنكاحها
باطل " 2) وفي خبر آخر " بغير إذن وليها "، وأراد بذلك من هو أولى بالعقد
عليها. وقد حكينا عن المبرد أنه قال: مولى وولي وأولى وأحق بمعنى واحد
فمن عرف عادة أهل اللغة عرف صحة ما قلناه.
وإذا ثبت ذلك فالذي يدل على أن المراد به في الخبر الأولى ما قلناه من
أن النبي عليه السلام قدم جملة ثم عطف عليها بأخرى محتملة لها ولغيرها
فوجب حملها على مقدمتها وإلا أدى إلى أن يكون عليه السلام ملغوا في كلامه
واضعا له في غير موضعه، وذلك لا يليق به عليه السلام.

1) الحديد: 15، والآية صحيحها " مأواكم النار هي مولاكم ".
2) مسند أحمد بن حنبل 6 / 44.
217

ألا ترى أن القائل إذا أقبل على جماعة فقال: ألستم تعرفون عبدي سالما،
فإذا قالوا بلى، قال فاشهدوا أن عبدي حر. لم يفهم من كلامه إلا عتق العبد
الذي تقدم تقريرهم على معرفته، ولو أراد غيره لكان ملغوا، وإذا قال لهم:
ألستم تعرفون ضيعتي الفلانية، فإذا قالوا بلى قال لهم فاشهدوا أن ضيعتي وقف
لم يحمل ذلك إلا على الضيعة التي قررهم على معرفتها. هذا هو المعهود من
الكلام الفصيح.
وليس لأحد أن يقول: أليس لو قال مصرحا بعد تقريرهم على فرض
طاعته " فمن يجب عليه طاعتي فيحب عليا " كان جائزا، فهلا جاز ذلك في غير
المصرح، وذلك أنه ليس كلما حسن في التصريح حسن في الاحتمال. ألا
ترى أنه لو قال: ألستم تعرفون ضيعتي الفلانية، فإذا قالوا بلى، قال بعد ذلك
فاشهدوا أن ضيعتي التي تحتها وقف. مصرحا بها كان ذلك جائزا مفيدا، أو لا
يجوز ذلك مثل ذلك إذا قال كلاما محتملا على ما مضى بيانه، والفرق بين
المصرح به والمكنى عنه واضح.
والذي يدل على أن لفظة " أولى " تفيد الإمامة وفرض الطاعة استعمال
أهل اللغة، لأنهم يقولون " السلطان أولى بتدبير رعيته من غيره " و " ولد الميت
أولى بميراثه من غيره ممن ليس بولد " و " المولى أولى بعبده من غيره " يعني
بفرض طاعته عليه، ولا خلاف بين المفسرين أن قول النبي صلى الله عليه وآله
" أولى بالمؤمنين من أنفسهم " 1) المراد به ومعناه أولى بتدبيرهم وفرض طاعتهم
ولا يكون أحد أولى بتدبير الأمة إلا من كان نبيا أو إماما، وإذا لم يكن نبيا
وجب أن يكون إماما.
وأيضا فلا خاف أن النبي عليه السلام كان أولى بنا من حيث فرض الطاعة،

1) سورة الأحزاب: 46.
218

وإذا حصل له هذه المنزلة وجب أن يكون مفترض الطاعة علينا، وإنما يعلم
وجوب فرض طاعته على جميع الأمة في جميع الأشياء من حيث أن النبي عليه
السلام كان كذلك وقد جعله بمنزلته فوجب أن يثبت له ذلك.
وأيضا فكل من أوجب لأمير المؤمنين عليه السلام بهذا الخبر فرض الطاعة
في شئ من الأشياء أثبته في جميع الأشياء، والتفرقة بينهما خلاف الإجماع.
وليس لأحد أن يقول: كيف يكون المراد به الإمامة وهي لم تثبت في
الحال، والخبر يوجب ثبوت المنزلة في الحال، فلا دلالة لكم في الخبر.
وذلك أنا إذا قلنا المراد به فرض الطاعة واستحقاق لها فذلك كان حاصلا
له في الحال، فسقط السؤال. فإذا قلنا المراد به الإمامة فإنه وإن اقتضاها في
الحال فهو يقتضيها في الحال وفيما بعده إلى وقت خروجه من الدنيا، فإذا
علمنا أنه لم يكن مع النبي عليه السلام في حال حياته إمام بالاجماع بقي ما بعده
على جملته.
ولا يمكن حمله على بعد عثمان، لأن أحدا لم يثبت له الإمامة بعد عثمان
بهذا الخبر إلا وأثبتها قبله بعد النبي، ومن خصصه ببعد عثمان أثبت إمامته
بالاختيار لا بهذا الخبر، واستحقاقه عليه السلام، الإمامة بهذا الخبر مثل استحقاق
الوصي الوصية بقول الموصي " فلان وصيي "، فإنه تثبت له الوصية في الحال
وإن كان التصرف ليس له إلا بعد الوفاة. وكذلك استحقاق الإمامة كان
حاصلا في الحال وإن وقف التصرف على بعد الوفاة، لأن وجود النبي " ص "
كالمانع من التصرف في حال وجوده، مثل قول المستخلف " فلان ولي عهدي "
فإنه يثبت استحقاقه في الحال وإن كان التصرف واقعا على بعد الوفاة.
219

(طريقة أخرى)
وهي أن نقول: إذا بينا أقسام المولى كلها وأفسدناها عدا الأول دل على
أنه المراد وإلا بطلت فائدة الخبر وذلك لا يجوز.
من أقسامه المعتق والمعتق والحليف والجار والصهر والإمام والخلف،
وهذا كله معلوم بطلانه، فلا يحتاج إلى إفساده.
ومن أقسامه ابن العم، ولا يجوز أن يكون ذلك مرادا، لأنه معلوم ضرورة
أنه ابن عمه ولا فائدة في ذلك.
ومن أقسامه الموالاة في الدين، ولا يجوز أن يكون ذلك مرادا، لأنه
ليس فيه تخصيص له، لأنها واجبة لجميع المؤمنين بالاجماع وبقوله تعالى
" والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض " 1).
ومن أقسامه ولاء العتق، فلا يجوز أن يكون مرادا، لأن ذلك معلوم من
دينه، وكان قبل الشرع أيضا معلوما أن ولاء العتق يستحقه ابن العم، وبذلك
ورد الشرع. ولا يليق ذلك لمثل ذلك الوقت والمكان، وقول عمر " بخ بخ
يا علي أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة " ولا يليق شئ من ذلك.
وليس لأحد أن يقول: احملوه على الموالاة ظاهرا وباطنا. وذلك أن
هذا ليس بمستعمل في اللغة ولا يفهم من كلامهم، ولا يجوز أن يحمل اللفظ
على ما لم يوضع له في اللغة.
ومتى قيل: يحمل على ذلك، لأنه أثبت الموالاة كما أثبتها لنفسه. قيل:
إنما وجب الموالاة للنبي عليه السلام ظاهرا وباطنا من حيث كان نبيا، وإذا كانت

1) سورة التوبة: 17.
220

النبوة مرتفعة عنه لم تجب الموالاة له باطنا. على أنه إنما يجب حمله على
ما قالوه إذا لم يمكن حمله على ما تقتضيه اللغة، وقد بينا أنه إذا حمل على
أنه مفترض الطاعة وأولى بتدبير الأمة كان محمولا على ما تشهد له اللغة ولا
يحتاج إلى هذا التمحل.
فإذا فسدت الأقسام كلها لم يبق إلا أنه أراد فرض الطاعة والاستحقاق
للإمامة. وقد قيل: أنه إذا كان من أقسامه فرض الطاعة والأولى بتدبير الأمة
وجب حمل ذلك على جميعه إلا ما أخرجه الدليل. وأيضا فقد روي عن جماعة
من الصحابة أنهم فهموا من الخبر فرض الطاعة والإمامة، منها قول عمر الذي
قدمناه وذلك لا يليق إلا بما قلناه، ومنها قول حسان بن ثابت:
يناديهم يوم الغدير نبيهم * بخم وأسمع بالرسول مناديا
يقول ومن مولاكم ووليكم * فقالوا ولم يبدوا هناك التعاديا
إلهك مولانا وأنت ولينا * ولن تجدن منا لك اليوم عاصيا
فقال له قم يا علي فإنني * رضيتك من بعدي إماما وهاديا
فمن كنت مولاه فهذا وليه * فكونوا له أنصار صدق مواليا
هناك دعا اللهم وال وليه * وكن للذي عادى عليا معاديا
وقال قيس بن سعد بن عبادة:
قلت لما بغى العدو علينا * حسبنا ربنا ونعم الوكيل
حسبنا ربنا الذي فتح البصرة * بالأمس والحديث طويل
وعلي إمامنا وإمام * نسواننا أتى به التنزيل
يوم قال النبي من كنت * مولاه فهذا مولاه خطب جليل
وقول حسان كان بمرأى من النبي صلى الله عليه وآله ومستمع منه، فلو لم
يرد به الإمامة لأنكر عليه وقال له غلطت ما أردت ذلك وأردت به كيت وكيت،
221

فلما لم ينكر ذلك دل على ما قلناه. واستقصاء الكلام على هذا الخبر ذكرناه في
كتاب تلخيص الشافي وشرح الجمل وغير ذلك، فلا نطول به ههنا.
(دليل آخر على إمامته عليه السلام)
ومما يدل على إمامته عليه السلام ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم من قوله " أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي "
فأثبت له جميع منازل هارون من موسى إلا ما استثناه لفظا من النبوة، وعرفنا
بالعرف أنه لم يكن أخاه لأبيه وأمه، وقد علمنا أن من منازل هارون من موسى
أنه كان مفترض الطاعة على قومه وأفضل رعيته ممن شد الله به أزره، فيجب
أن تكون هذه المنازل ثابتة له، وفي ثبوت فرض طاعته ثبوت إمامته.
وقد نطق القرآن ببعض منازل هارون من موسى، قال الله تعالى حكاية
عن موسى أنه سأله تعالى فقال " اجعل لي وزيرا من أهلي * هارون أخي *
أشدد به أزري * وأشركه في أمري " 1) وفي آية أخرى " أخلفني في قومي
وأصلح " 2) وقال الله تعالى " قد أوتيت سؤلك يا موسى " 3)، فوجب بتلك ثبوت
هذه المنازل لأمير المؤمنين عليه السلام.
والطريق الذي به صح هذا الخبر هو ما قدمناه في خبر الغدير من تواتر
الشيعة به ونقل المخالفين له على وجه التواتر والاجماع على نقله وإن اختلفوا
في تأويله، واحتجاجه به في يوم الدار والاجماع على نقله، وكل ذلك
موجود ههنا.

1) سورة طه: 32 29.
2) سورة الأعراف: 142.
3) سورة طه: 36.
222

وأيضا فقد ذكره البخاري ومسلم بن الحجاج في صحيحيهما، 1) والطريق
إلى تصحيح الأخبار هو ما قلناه.
وأيضا فإذا ثبت أن مقتضاه ما قلناه قطع على صحته، ومن لم يقطع لم
يقل أن مقتضاه فرض الطاعة، والفرق بين القولين خروج عن الإجماع.
وهارون وإن مات في حياة موسى عليه السلام فكان ممن لو عاش لبقي على
ما كان عليه من استحقاق فرض الطاعة على قومه، وإذا جعل النبي عليه السلام
منزلة علي مثل منزلته سواء وبقي عليه السلام إلى بعد وفاته، وجب أن تثبت
له هذه المنزلة.
وليس لأحد أن يقول: لو بقي هارون إلى بعد وفاته لكان مفترض الطاعة
لمكان نبوته لا بهذا القول، وإذا كان علي عليه السلام لم يكن نبيا فكيف يثبت له
فرض الطاعة، وذلك أن فرض الطاعة ثبت في النبي والإمام، وهي منفصلة
من النبوة فلا تجب بانتفاء النبوة انتفاؤها، بل لا يمتنع أن تنتفي النبوة ويثبت
فرض الطاعة، [وإذا كان النبي عليه السلام قد أثبت له هذه المنزلة وانتفت
النبوة لم يجب انتفاء فرض الطاعة] 2).
ألا ترى أن القائل لو قال لوكيله: أعط فلانا كذا لأنه استحق علي من
ثمن مبيع، ثم قال: وأنزل فلانا آخر بمنزلته. فإنه يجب أن يعطيه مثل ذلك
وإن لم يكن استحق من ثمن مبيع، بأن يكون استحقه عليه من وجه آخر أو
ابتداءا هبة منه، وليس للوكيل منعه وأن يقول: ذلك استحقه من ثمن المبيع
وأنت فما بعته شيئا فلا تستحق، لأن العقلاء يوجبون على الوكيل العطية ولا
يلتفتون إلى هذا الاعتذار ولا هذا القول.
فإن قيل: تقديره أن هارون لو بقي لاستحق فرض الطاعة، والخلافة

1) صحيح البخاري 5 / 19، صحيح مسلم 4 / 1871.
2) الزيادة من ج.
223

منزلة مفردة لا توصف بأنها منزلة، كما لا توصف صلاة سادسة بأنها من الشرع
على تقدير أنه لو تعبدنا بها لكانت من الشرع.
قلنا: المقدر إذا كان له سبب استحقاق يوصف بأنه منزلة. ألا ترى أن
الدين المؤجل يوصف بأنه يستحق كما يوصف الدين الحال بذلك، ولا توصف
الصلاة السادسة بأنها من الشرع لأن ليس بها سبب وجوب، ولو قال إذا كان
بعد سنة فصلوا صلاة سادسة لوصفت بأنها من الشرع، وفرض الطاعة بعد
الوفاة له سبب وجوب في الحال فجاز أن يوصف بأنه منزلة. ونظير ذلك
أن يستخلف الخليفة ولي عهد بعده جاز أن يوصف بأن ذلك منزلة لولي العهد
وكذلك من أوصى إلى غيره جاز أن يوصف بأنه يستحق الوصية إن كان
التصرف واقفا إلى بعد الوفاة.
وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وآله جعل هذه المنازل لأمير المؤمنين بعده بقوله
" لا نبي بعدي "، وكما أن من حق الاستثناء أن يخرج الكلام ما لولاه لكان
ثابتا. ألا ترى أن القائل إذا قال " ضربت غلماني كلهم إلا زيدا في الدار " أفاد
ضرب من ضربه في الدار وترك من تركه مثل ذلك، وإذا كان النبي عليه السلام
جعل استثناء هذه المنازل بعده فيجب أن يثبت له ما عدا الاستثناء بعده.
والمعتاد من لفظة " بعدي " في العرف بعد الموت، كما يقولون: هذا
وصيي بعدي وولي عهدي بعدي وأنت حر بعدي. فليس لأحد أن يقول: إن
المراد ب‍ " بعدي " بعد نبوتي، لما لو سلمنا أنه لو أراد بعد نبوتي لدخل فيه
الأحوال كلها ومن جملتها بعد وفاته.
فإذا قيل: يلزم أن يكون مفترض الطاعة في الحال وأن يكون إماما.
قلنا: أما فرض الطاعة قد كان حاصلا له في الحال، وإنما لم يأمر لوجود
النبي عليه السلام، وكونه إماما وإن اقتضاه في الحال فإنه يقتضيه أيضا بعد الوفاة
224

فأخرجنا حال الحياة منها لمكان الإجماع على أنه لم يكن مع النبي عليه السلام
إمام وبقي الباقي على عمومه.
وليس لأحد أن يحمله على بعد عثمان، لأن ذلك خلاف الإجماع، فإن
أحدا من الأمة لم يثبت إمامته بهذا الخبر بعد عثمان دون ما قبله، ومن أثبت
ذلك أثبته بالاختيار، ومن أثبت إمامته بهذا الخبر أثبتها بعد النبي إلى آخر عمره،
فالفرق بين الأمرين خلاف الإجماع.
وليس لأحد أن يقول: قوله " أنت مني بمنزلة هارون من موسى " يقتضي
إثبات منزلة واحدة، لأنه لو أراد أكثر من ذلك لقال أنت مني بمنازل.
وذلك أن هذا يفسد من وجهين: أحدهما أنه لو أراد منزلة واحدة فدخول
الاستثناء عليه دليل على أنه أراد أكثر من منزلة واحدة. والثاني أن الأمة بين
قائلين: قائل يقول أن الخبر خرج على سبب فهو يقصره عليه، وقائل يقول
المراد جميع المنازل. وإذا بينا فساد خروج الخبر على سبب ثبت القول الآخر.
والذي يدل على فساد ذلك أن رواية ما يذكره من السبب طريقه الآحاد،
والخبر معلوم، ولو صح السبب لما وجب قصر الخبر على سببه عند أكثر
المحققين.
وأيضا فقد روي هذا الخبر وأن النبي صلى الله عليه وآله قاله في
مقام بعد مقام وفي أوقات لم يكن فيها السبب المدعي.
فإن قيل: لو أراد الخلافة لقال " أنت مني بمنزلة يوشع بن نون "، لأن
هذه المنزلة كانت حاصلة ليوشع من موسى بعد وفاته.
قلنا هذا فاسد من وجوه:
أحدها: إذا كان الخبر دالا على ما قلناه على المراد فتمني أن يكون على
وجه آخر اقتراح في الأدلة، وذلك لا يجوز وكان ذلك يلزم في أكثر الأدلة
225

وأكثر الظواهر، وذلك باطل بالاتفاق.
ومنها: أن خلافة يوشع ليست معلومة وإنما يذكرها قوم من اليهود،
وخلافة هارون من موسى نطق بها القرآن. وقيل: إن يوشع كان نبيا موحى
إليه لم يعترف موسى بعد بخلافته بالوحي والخلافة كانت في ولد هارون.
ومنها: أن النبي عليه السلام جمع له المنازل زيادة على الاستخلاف،
فلم يجز أن يشبه ذلك بيوشع.
وقد تكلمنا على ما يتفرع على هذه الجملة في هذا الخبر والذي قبله في
تلخيص الشافي وشرح الجمل، فلا نطول بذكره ههنا لأن فيما ذكرناه كفاية
إنشاء الله.
فصل
(في أحكام البغاة على أمير المؤمنين عليه السلام)
ظاهر مذهب الإمامية أن الخارج على أمير المؤمنين عليه السلام والمقاتل
له كافر، بدليل إجماع الفرقة المحقة على ذلك، وإجماعهم حجة لكون
المعصوم الذي لا يجوز عليه الخطأ داخلا فيهم، وأن المحاربين له كانوا
منكرين لإمامته ودافعين لها، ودفع الإمامة عندهم وجحدها كدفع النبوة وجحدها
سواء، بدلالة قوله صلى الله عليه وآله " من مات وهو لا يعرف إمام زمانه مات
ميتة جاهلية ".
وروي عنه عليه السلام أنه قال لعلي: حربك يا علي حربي وسلمك سلمي
وحرب النبي كفر بلا خلاف، فينبغي أن يكون حرب علي مثله، لأنه عليه السلام
أراد حكم حربي، وإلا فمحال أن يريد أن نفس حربك حربي
لأن المعلوم خلافه.
فإن قيل: لو كان ذلك كفر لا جري عليهم أحكام الكفر من منع الموارثة
226

والمدافنة والصلاة عليهم وأخذ الغنيمة واتباع المدبر والإجازة على المجروح
والمعلوم أنه عليه السلام لم يجر ذلك عليهم، فكيف يكون كفرا.
قلنا: أحكام الكفر مختلفة كحكم الحربي والمعاهد والذمي والوثني،
فمنهم من تقبل منهم الجزية ويقرون على دينهم، ومنهم من لا يقبل، ومنهم
من يناكح وتؤكل ذبيحته ومنهم من لا تؤكل عند المخالف. ولا يمتنع أن
يكون من كان متظاهرا بالشهادتين وأن حكم بكفره حكمه مخالف لأحكام
الكفار، كما تقول المعتزلة في المجبرة والمشبهة وغيرهم من الفرق الذين
يحكمون بكفرهم وإن لم تجر هذه الأحكام عليهم، فبطل ما قالوه.
فأما من خالف الإمامة فمنهم: من يحكم عليهم بالفسق، ومنهم من يقول
هو خطأ مغفور، ومنهم من يقول إنهم مجتهدون وكل مجتهد مصيب. فمن
حكم بفسقهم من المعتزلة وغيرهم منهم من يدعي توبة القوم ورجوعهم. ونحن
نبين فساد قولهم.
والذي يدل على بطلان ما يدعونه من التوبة أن الفسق معلوم ضرورة،
وما يدعونه من التوبة طريقه الآحاد، ولا نرجع عن المعلوم إلى المظنون.
وأيضا فكتاب أمير المؤمنين عليه السلام إلى أهل الكوفة والمدينة بالفتح
يتضمن فسق القوم وأنهم قتلوا على خطاياهم وأنهم قتلوا على النكث والبغي،
ومن مات تائبا لا يوصف بذلك، والكتب معروفة في كتب السير.
وروي أيضا أنه لما جاءه ابن جرموز برأس الزبير وسيفه تناول سيفه وقال
عليه السلام: سيف طال ما جلى به الكرب عن وجه رسول الله ولكن الحين
ومصارع السوء 1). ومن كان تائبا لا يوصف مصرعه بأنه مصرع سوء.
وروى حبة العرني قال: سمعت عليا عليه السلام يقول: والله لقد علمت

1) مروج الذهب 3 / 373.
227

صاحبة الهودج أن أصحاب الجمل ملعونون على لسان النبي الأمي وقد خاب
من افترى.
وروى البلاذري بإسناده إلى جويرة بن أسماء قال بلغني أن الزبير لما ولى
اعترضه عمار بن ياسر وقال: أبا عبد الله والله ما أنت بجبان ولكني أحسبك
شككت. فقال: هو ذاك. والشك خلاف التوبة، لأنه لو كان تائبا لقال تحققت
أن صاحبك على الحق وأنا على الباطل، وأي توبة لشاك.
وأما طلحة فقتل بين الصفين، متى تاب، وكتاب أمير المؤمنين عليه السلام
يدل على إصراره. وروي عنه أنه قال حين يجود بنفسه. ما رأيت مصرع
شيخ أضيع من مصرعي 1) وذلك دليل الاصرار. وروي عن علي عليه السلام
أنه مر عليه وهو مقتول فقال: أقعدوه، فأقعدوه فقال: كانت سابقة ولكن
الشيطان دخل منخرك وأوردك النار 2).
وأما إصرار عائشة فكتاب أمير المؤمنين عليه السلام وما روي من المحاورة
بين عبد الله بن العباس وبينها وامتناعها من تسميته بأمرة المؤمنين 3) دليل
واضح على الاصرار.
وروى الواقدي أن عمارا دخل عليها وقال: كيف رأيت ضرب بنيك
على الحق. فقالت: استبصرت من أجل أنك غلبت. فقال: أنا أشد استبصارا
من ذلك، والله لو ضربتمونا حتى تبلغونا سعفات هجر لعلمنا أنا على الحق
وأنكم على الباطل. فقالت عائشة: هكذا يخيل إليك، اتق الله يا عمار أذهبت
دينك لابن أبي طالب.
وروى الطبري في تاريخه أنه لما انتهى قتل أمير المؤمنين عليه السلام إلى

1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 9 / 113.
2) شرح نهج البلاغة 1 / 248.
3) تاريخ اليعقوبي 2 / 159.
228

عائشة قالت:
فألقت عصاها واستقر بها النوى * كما قر عينا بالإياب المسافر
ثم قالت: من قتله؟ فقيل: رجل من مراد. فقالت:
فإن يك تائبا فلقد نعاه * غلام ليس في فيه تراب
وهذا كله صريح بالاصرار وفقد التوبة.
وروي عن ابن عباس أنه قال لأمير المؤمنين عليه السلام حين أبت عائشة
الرجوع إلى المدينة: دعها في البصرة ولا ترحلها. فقال عليه السلام: إنها
لا تألو شرا ولكني أردها إلى بيتها.
وروى محمد بن إسحاق أنها وصلت إلى المدينة راجعة من البصرة لم تزل
تحرض الناس على أمير المؤمنين عليه السلام، وكتبت إلى معاوية وأهل الشام
مع الأسود بن البحتري تحرضهم عليه.
ونظائر ذلك كثيرة ذكرنا منها في كتاب تلخيص الشافي لا نطول بذكره
ههنا، فأي توبة مع ما ذكرناه.
وأما من نفى عنهم الفسق فما قدمناه من الأدلة يفسد قولهم. وما تدعيه
المعتزلة من الأخبار في توبة طلحة والزبير وعائشة فهي كلها أخبار آحاد لا
يلتفت إليها، وليس أيضا فيها تصريح بالتوبة. وأدل الدليل على عدم التوبة
أنهم لو تابوا لسارعوا إلى أمير المؤمنين عليه السلام والدخول في عسكره
والجهاد معه.
فمما تعلقوا به رجوع الزبير عن الحرب، ونفس الرجوع ليس بدليل
التوبة لأنه يحتمل غير التوبة، وقد قيل إنه لما لاحت له أمارات الظفر لأمير المؤمنين
عليه السلام وأيس من الظفر رجع، وقال قوم إنه رجع ليتوجه إلى معاوية.
229

وقيل: إنه لما انصرف وبخه ابنه فقال: حلفت ألا أقاتله. فقال: كفر عن
يمينك، فأعتق مملوكا له ورجع إلى القتال.
وما روي من قوله " ما كان من أمر قط إلا عرفت أين أضع قدمي إلا هذا
الأمر فإني لا أدري أمقبل أنا أم مدبر " فليس فيه دليل التوبة، بل هو صريح
في الشك المنافي للتوبة.
وما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال " بشر قاتل ابن صفية بالنار "
لا يدل على توبته أيضا، لأنه يجوز أن يستحق قاتله النار لأمر سوى قتله، كما
قال النبي صلى الله عليه وآله لقرمان رجل قاتل الكفار يوم أحد وأبلي معه
صلى الله عليه وآله " قرمان رجل من أهل النار " لعله أحرى. وقيل السبب
في ذلك أن ابن جرموز خرج مع الخوارج يوم النهروان فقتل في جملتهم.
وما روي عن طلحة أنه قال حين أصابه السهم:
ندمت ندامة الكسعى لما * رأت عيناه ما فعلت يداه 1)
لا يدل أيضا على التوبة بل يدل على عدمها، لأنه جعل ندامته غير نافعة له
كما أن ندامة الكسعى لم تنفعه، وقصته في ذلك مشهورة.
وقوله حين يجود بنفسه " اللهم خذ لعثمان مني حتى ترضى " دليل الاصرار
أيضا، لأنه أقر بأنه سبب قتل عثمان وكان ينسبه إلى علي عليه السلام، وذلك
خلاف ما أقربه على نفسه.
وما يروى من حديث البشارة أن النبي صلى الله عليه وآله قال " عشرة
من أصحابي في الجنة وطلحة والزبير منهم " 2) لا يدل على توبتهم أيضا،
لأنه خبر واحد ضعيف مقدح في سنده. وأدل دليل على فساده أن النبي عليه

1) صحاح اللغة (كسع).
2) ذكره جماعة فكذبوه انظر ميزان الاعتدال 1 / 467، تاريخ بغداد 9 / 339.
230

السلام لا يجوز أن يقول لمن ليس بمعصوم " أنت في الجنة لا محالة " لأن في
ذلك إغراء بالقبيح. وقيل: إن راويه سعيد بن زيد، وهو أحد العشرة، فلا
يقبل خبره لأنه يشهد لنفسه.
فأما ما روي من بكاء عائشة وتلهفها وتمنيها أنها كانت مدرة أو شجرة
وقولها " لئلا أكون شهدت ذلك اليوم أحب إلي من أن يكون لي من رسول
الله صلى الله عليه وآله عشرة أولاد كعبد الرحمن بن الحارث بن هشام " لا يدل
على التوبة، لأن مثل ذلك قد يقوله من ليس بتائب كما حكى الله عن مريم
" يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا " 1). وقد يقول مثل هذا من أراد
أمرا لم يبلغه وفاته غرضه ويتحسر عليه فيتمنى الموت عند ذلك ويود أنه لم
يتعرض له لئلا يشمت به، ولا يدل جميع ذلك على التوبة. واستيفاء ذلك
ذكرناه في غير موضع.
فصل
(في تثبيت إمامة الاثني عشر عليهم السلام)
إذا ثبت بما قدمناه أن الزمان لا يخلو من إمام وأن من شرطه أن يكون مقطوعا
على عصمته أو يكون أكثر ثوابا عند الله أو أعلمهم بجميع أحكام الشريعة،
سهل الكلام على إمامة إمام بعد أمير المؤمنين عليه السلام، لأنه نعتبر أقوال
الأمة في عصر كل إمام فنجدها بين أقوال:
قائل يقول لا إمام، وما دللنا به من أن الزمان لا يخلو من إمام يفسد قوله.
وقائل يقول بإمامة من لا يقطع على عصمته بل لا يجعلها من شرط الإمامة،
وذلك يبطل بما قدمناه من وجوب القطع على عصمة الإمام.

1) سورة مريم: 23.
231

وقائل يقول بإمامة من يدعى عصمته لكنه يذهب إلى إمامة من لا يدعى
النص عليه ولا المعجز، وقد بينا أنه لا طريق إلى معرفة المعصوم إلا بأحد هذين،
فقوله يفسد أيضا بذلك.
ومن ادعى النص إما صريحا أو محتملا فإنه يذهب إلى إمامة من علمنا
موته كالكيسانية القائلين بإمامة ابن الحنفية والناووسية والواقفة على جعفر بن
محمد والفطحية القائلين بإمامة عبد الله بن جعفر الصادق وكالواقفة القائلين
بإمامة موسى بن جعفر وأنه لم يمت. وأقوال هؤلاء تبطل بما علمنا من موت
هؤلاء ظاهرا مكشوفا.
وأيضا فأدل دليل على فساد هذه الفرق انقراضهم وأنه لم يبق لهم باقية
ولو كانوا على حق ما انقرضوا.
وهذه الجملة إذا اعتبرتها في إمام إمام من عهد الحسين بن علي عليهما
السلام وإلى عهد القائم ابن الحسن عليه السلام وجدتها صحيحة لا يمكن الطعن
عليها إلا بالمنازعة في بعض الأصول التي ذكرناها، ومتى نازعوا في شئ من
ذلك كان الكلام في تصحيح ذلك الأصل أولا ثم في فرعه.
والكلام على الزيدية داخل في جملة ذلك، لأنهم لا يقطعون على عصمة
زيد، ولا يدعون أن من شرط الإمام أن يكون مقطوعا على عصمته، ومن
حمل نفسه على ادعاء ذلك أخيرا مخالف للاجماع، ومع ذلك يفسد قوله
لأنه لا يدعي نصا عليه ولا ظهور معجز.
وشرح هذه الجملة والكلام على فريق فريق بيناه في تلخيص الشافي وجملته
ما قلناه فلا نطول بذكره الكتاب.
فأما الكلام في الغيبة وسببها فهو أنه إذا ثبتت هذه الأصول التي قدمناها
وأن كل زمان لا يخلو من إمام وأن من شرطه القطع على عصمته ووجود النص عليه
232

فوجب إمامة من يدعى إمامته، لأن الناس في عصرنا بين أقوال، منهم من يدعى
إمامة من لا يدعى القطع على عصمته فقوله يبطل لما قدمناه، فلم يبق بعد ذلك إلا
القول بإمامته وإلا خرج الحق عن الأمة.
فإذا ثبتت إمامته ووجدناه لم يظهر علمنا أن لاستتاره سببا مبيحا له ذلك
ولولاه لم يجز له الاستتار لكونه معصوما. ولا يلزم أن يعلم ذلك السبب مفصلا
كما نقول لمن طعن في إثبات الصانع بخلق المؤذيات وفعل الآلام وغير
ذلك بأن نقول: إذا ثبتت حكمته تعالى علمنا أن هذه الأشياء لها وجه حكمة
وإن لم نعلمه مفصلا.
وبذلك نجيب من طعن في متشابه القرآن، وإن تكلفنا الكلام في تفصيل
ذلك فللاستظهار والقوة وإلا فالقدر الذي ذكرناه كاف في الحجة.
وإذا ثبتت ووجدنا التكليف دائما على المكلف كان علمنا أن استتاره لشئ
يرجع إليهم، لأنه لو لم يكن يرجع إليهم لما حسن تكليفهم.
ولا يلزم أن نعلم ذلك الأمر مفصلا، كما نقول لمن أخل بشرط من شروط
النظر فلم يحصل له العلم بالله: إنك قد أخللت بشرط من شروط النظر فتحتاج
إلى أن تراجع وتعود فيه أبدا حتى يحصل لك العلم. وكذلك من لم يظهر له
الإمام ينبغي أن يراجع نفسه ويصلح سيرته، فإذا علم الله تعالى منه صدق النية
في نصرة الإمام وأنه لا يتغير عن ذلك ظهر له الإمام.
وقيل في ذلك: أنه لا يمتنع أن يكون من لم يظهر له الإمام المعلوم من
حاله أنه إذا ظهر له سيرته وألقى خبره إلى غيره من أوليائه وإخوانه فربما انتهى
إلى شياع خبره وفساد أمره.
وقيل أيضا: أنه لا يمتنع إذا ظهر وظهر على يده علم معجز فإنه لا بد من ذلك
لأن غيبته غير معلومة، وإذا كان كذلك دخلت عليه شبهة فيعتقد أنه مدع لما لا
233

أصل له فيشيع خبره ويؤدي إلى الاغراء به. وغير ذلك من العلل.
فهذه العلة نطلبها فيمن لم يظهر له من شيعته وإن كانت علته مزاحة من
حيث أن لطفه حاصل له لأنه يعتقد وجوده ويجوز تمكينه في كل حال فهو
يخافه، واللطف به حاصل له وبمكانه أيضا يثق بوصول جميع الشرع إليه،
لأنه لو لم يصل إليه ذلك ساغ له الاستتار إلا بسقوط التكليف عنهم، فإذا
وجدنا التكليف باقيا والغيبة مستمرة علمنا أن جميع الشرع واصلا إليه.
فأما المخالف فسبب استتاره عنه اعتقاده بطلان إمامته. وإن من ادعى هذا
المنصب ممن أشرنا إليه ضال مضل ولا يحتاج أن يخرج علة في الاستتار عنه.
والفرق بين الاستتار وظهور آبائه عليهم السلام لم يكن المعلوم من حالهم
أنهم يقومون بالأمر ويزيلون الدول ويظهرون بالسيف ويقومون بالعدل ويميتون
الجور، وصاحب الزمان بالعكس من ذلك، ولهذا يكون مطلوبا مرموقا،
والأولون ليسوا كذلك.
على أن آباءه ظهروا لأنه كان المعلوم أنهم لو قتلوا لكان هناك من يقوم
مقامهم ويسد مسدهم، وليس كذلك صاحب الزمان، لأن المعلوم أنه لو هلك
لم يكن هناك من يقوم مقامه ولا يسد مسده. فبان الفرق بينهما.
وطول غيبة الإمام كقصرها، فإنه ما دامت العلة الموجبة حاصلة فإنه مستتر
إلى أن يعلم الله تعالى زوال العلة، فيعلم ذلك بما وقفه عليه آباؤه من الوقت
المعلوم. وبالأمارات اللائحة للنصر وغلبة الظن يقوم مقام العلم في ذلك،
وخاصة إذا قيل لك: إذا ظهرت لك أمارات النصر فاعلم أنه وقت الخروج.
وكل ذلك جائز.
وطول عمر صاحب الزمان - وإن كان خارقا للعادة - فالله تعالى قادر
عليه بلا خلاف بيننا وبين من خالفنا من الأمة، وخرق العادات على من ليس
بنبي قد بينا جوازه، فلا وجه لاستبعاد ذلك وقد استتر النبي عليه السلام في
234

الشعب تارة وفي الغار أخرى، فلا ينبغي أن يتعجب من ذلك.
وليس لهم أن يقولوا أن استتار النبي عليه السلام كان مدة يسيرة. وذلك
أن استتاره في الشعب كان ثلاث سنين، وإذا جاز الاستتار ولو يوما واحدا
لعلة جاز الاستتار الطويل مع استمرار العلة، فلا فرق بين الطول والقصر، بل
المراعى حصول العلة وزوالها.
وليس لهم أيضا أن يقولوا: أن النبي صلى الله عليه وآله استتر بعد
أداء الشرع. وذلك أن وقت استتاره في الشعب لم يكن إذا حل الشريعة،
لأن معظم الشريعة نزل بالمدينة، على أن في كون النبي عليه السلام بين الخلق
لطفا ومصلحة فأي شئ قالوه في ذلك فهو قولنا بعينه. والحدود المستحقة في
حال الغيبة في جواب أصحابها والذم لا حق بمن أحوج الإمام إلى الغيبة.
ومثل ذلك يلزم المعتزلة الذين يقولون أهل الحل والعقد ممنوعون من
اختيار الإمام، فما لهم إلا مثل ما عليهم.
ويدل على إمامة الاثني عشر - على ما نذهب إليه - ما تواترت به الشيعة
من نص النبي صلى الله عليه وآله على الاثني عشر في الجملة، ورووه أيضا
عن إمام إمام على من يقوم مقامه. وترتيب ذلك كترتيب النص على أمير المؤمنين
عليه السلام، والأسئلة على ذلك قد مضى الجواب عنها.
وأيضا فقد روى المخالف عن النبي عليه السلام أخبارا كثيرة ذكرناها في
المفصح وغيره من كتبنا أن الأئمة بعده اثنا عشر.
فإذا ثبت العدد فالأمة بين قائلين: قائل يقول بالاثني عشر فهو يقطع على
أنهم هؤلاء بأعيانهم، ومن لم يقل بإمامتهم لم يقصرها على عدد مخصوص.
فإذا ثبت العدد بما رووه ثبت الأعيان بهذا الاعتبار.
235

والكلام في فروع الغيبة وأسئلتها استوفيناه في تلخيص الشافي لا نطول
بذكره ههنا، وهذا القدر كاف ههنا إنشاء الله.
* * *
قد امتثلت ما رسم الشيخ الأجل - أطال الله بقاه - وسلكت الطريق الذي
طلبه من الاختصار والايجاز، وأرجو أن يكون موافقا لغرضه ملائما لإرادته.
وأنا الآن أذكر جملة من العبادات لا يستغنى عنها، وأجري على هذا المنهاج
في الاختصار والايجاز إنشاء الله.
236

القسم الثاني
العبادات الشرعية
237

بسم الله الرحمن الرحيم
الكلام في العبادات الشرعية
عبادات الشرع خمس: الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والجهاد.
وآكدها وأعمها فرض الصلاة، لأنها لا تسقط في حال من الأحوال مع
ثبات العقل وإن تغيرت أوصافها من قيام إلى قعود إلى غير ذلك، وباقي العبادات
قد تسقط على بعض الوجوه عن قوم دون قوم، فلذلك نبدأ به في كتب العبادات
ثم نعقبه بباقي العبادات.
ونحن نذكر واحدا واحدا منها على وجه الاختصار، فإن استيفاء ما
يتعلق بكل واحد منها قد بسطناه في النهاية والمبسوط، والغرض ههنا ذكر ما لا بد
منه على كل حال. والله الموفق للصواب.
فصل
(في ذكر أفعال الصلاة)
أفعال الصلاة على ضربين: أحدهما يتقدم الصلاة، والثاني يقارنها.
239

فما يتقدمها على ضربين: مفروض، ومسنون.
فالمفروض: الطهارة، والوقت، والقبلة، ومعرفة أعداد الصلاة، وستر
العورة، ومعرفة ما يجوز الصلاة فيه [من اللباس والمكان، ومعرفة ما يجوز
السجود عليه] 1) وما لا يجوز، وتطهير الثياب والمكان من النجاسات.
والمسنون: الأذان، والإقامة.
ونحن نذكر لكل ذلك فصلا إنشاء الله تعالى.
فصل
(في ذكر حقيقة الطهارة وبيان أفعالها)
الطهارة في الشرع عبارة عن إيقاع أفعال مخصوصة على وجه مخصوص
في البدن يستباح به الدخول في الصلاة.
وهي على ضربين: طهارة بالماء، وطهارة بالتراب.
فالطهارة بالماء هي الأصل، وإنما يعدل إلى التراب عند عدم الماء أو
تعذر استعماله.
وهي على ضربين: أحدهما وضوء، والآخر غسل.
ونحن نبين كل واحد منهما على حدته ونذكر ما ينبغي أن يعمل فيه إنشاء الله.
فصل
(في ذكر الوضوء وأحكامه)
الوضوء عبارة عن إيقاع أفعال في أعضاء مخصوصة من البدن على وجه

1) الزيادة من ج.
240

مخصوص يستباح به الدخول في الصلاة. وله مقدمات مفروضة ومسنونة.
فمقدماته: إذا أراد الإنسان قضاء حاجته ينبغي أن يتخلى بحيث لا يراه
أحد فيطلع على سوءته، فإذا أراد الدخول إلى الموضع الذي يتخلى فيه
فليغط رأسه ويدخل رجله اليسرى قبل اليمنى ويقول " بسم الله وبالله وأعوذ
بالله من الرجس النجس الخبيث المخبث الشيطان الرجيم ".
فإذا قعد لحاجته فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها ببول أو غائط إلا أن يكون
الموضع مبنيا على وجه لا يتمكن فيه من الانحراف، وهذا واجب.
ولا يستقبل الشمس ولا الريح ولا القمر بالبول، ولا يحدث في الماء الجاري
ولا الراكد، ولا الشوارع، ولا تحت الأشجار المثمرة، ولا فئ النزال ولا أفنية
الدور، ولا المشارع، ولا المواضع التي يتأذى المسلمون بحصول نجاسة
فيها، ولا يبولن في حجرة الحيوان، ولا يطمح 1) ببوله في الهواء ولا يبولن
في الأرض الصلبة، ولا يتكلم في حال الخلاء، ولا يستاك ولا يأكل ولا يشرب.
فإذا فرغ حاجته فليستنج. والاستنجاء فرض، ويجوز بالأحجار
والماء، والجمع بينهما أفضل، والاقتصار على الماء أفضل من الاقتصار على
الحجارة، والاقتصار على الحجارة مجز أيضا ولا يستنج بأقل من ثلاثة أحجار،
فإن نقى بواحدة استعمل الثلاثة سنة مؤكدة. ولا يستنج بالعظم ولا الروث،
ويجوز أن يستنجى بالخرق والمدر وغير ذلك، ولا يستنج باليمين إلا عند
الضرورة، ولا يستنج وفي يده خاتم عليه اسم من أسماء الله مكتوب بل يحوله.
وإذا استنجى قال " اللهم حصن فرجى واستر عورتي ووفقني لما يرضيك
عني يا ذا الجلال والاكرام ". فإذا فرغ من الاستنجاء قام من موضعه ومسح
على بطنه وقال " الحمد لله الذي أماط عني الأذى وهنأني طعامي وعافاني من

1) أي لا يرش.
241

البلوى " فإذا أراد الخروج أخرج رجله اليمنى وقال " الحمد لله الذي عرفني
لذته وأبقى في جسدي قوته وأخرج عني أذاه، يا لها نعمة، يا لها نعمة، يا لها
نعمة ".
ثم يقعد في موضع نظيف للوضوء و يجعل الإناء على يمينه ويقول إذا أراد
الوضوء " الحمد لله الذي جعل الماء طهورا ولم يجعله نجسا ".
ثم يغسل يده من البول أو النوم مرة قبل إدخالها الإناء سنة، ومن الغائط
مرتين ومن الجنابة ثلاث مرات إذا كانت نظيفة وإن كانت نجسة وجب غسلها
وإلا فسد الماء، ثم يأخذ كفا من الماء فيتمضمض به ثلاثا سنة ويقول " اللهم
لقني حجتي يوم ألقاك وأطلق لساني بذكرك " ويستنشق ثلاثا ويقول " اللهم
لا تحرمني طيبات الجنان واجعلني ممن يشم ريحها وروحها وريحانها ".
ثم يأخذ كفا من الماء فيغسل به وجهه من قصاص شعر الرأس إلى محادر 1) شعر
ذقنه طولا وما دارت عليه الابهام والوسطى عرضا دفعة واحدة فريضة ودفعتين
سنة وفضيلة ولا يجوز الثالثة مع الاختيار 2)، ويقول إذا غسل وجهه " اللهم
بيض وجهي يوم تسود فيه الوجوه ولا تسود وجهي يوم تبيض فيه الوجوه ".
ثم يأخذ كفا من الماء فيديره إلى يساره ويغسل به يده اليمنى من المرفق إلى
أطراف الأصابع مرة فريضة ودفعتين فضيلة ولا تجوز الثالثة، ويقول " اللهم
اعطني كتابي بيميني والخلد في الجنان بشمالي وحاسبني حسابا يسيرا ".
ثم يغسل يده اليسرى مثل ذلك من المرفق إلى أطراف الأصابع مرة فريضة
ومرتين سنة، ولا يستقبل الشعر في غسل اليدين بل يبتدئ من المرفق إلى أطراف
الأصابع، ويقول إذا غسل يده اليسرى " اللهم لا تعطني كتابي بشمالي ولا تجعلها
مغلولة إلى عنقي ".

1) قصاص الشعر: مكان قصه. والمحادر: الانحدار.
2) فإن الثالثة بدعة.
242

ثم يمسح بما يبقى في يده من النداوة رأسه من مقدم الرأس مقدار ثلاث
أصابع مضمومة ويقول " اللهم غشني رحمتك وبركاتك " ولا يستقبل بشعر الرأس
أيضا في المسح عليه.
ثم يمسح بما بقي في يديه من النداوة رجليه من رؤوس الأصابع إلى
الكعبين - وهما الناتئان في وسط القدم - ويقول " اللهم ثبت قدمي على
الصراط يوم تزل فيه الأقدام " فإذا فرغ من ذلك قال " الحمد لله رب العالمين ".
والنية في الطهارة فرض إذا أراد الشروع في غسل الأعضاء، وهي بالقلب
ينوي القربة إلى الله واستباحة الصلاة.
والترتيب أيضا واجب في الوضوء، يبدأ أولا بغسل وجهه ثم بيده اليمنى
ثم اليسرى ثم يمسح برأسه ثم برجليه، فإن خالفه لم يجزه.
والموالاة أيضا واجبة فيه، لا ينقضها إلا لعذر، فإن نقضها لعذر أو لانقطاع
الماء ينظر فإن نشف ما تقدم غسله أعاد وإن كانت فيه نداوة بنى عليه.
فصل
(في ذكر نواقض الوضوء)
نواقض الوضوء على ثلاثة أقسام: أحدها يوجب إعادة الوضوء، وثانيها
يوجب الغسل، وثالثها تارة يوجب الوضوء وأخرى يوجب الغسل.
فالذي يوجب الوضوء البول والغائط والريح والنوم الغالب على السمع
والبصر وكل ما يزيل العقل من إغماء أو جنون أو سكر.
وما يوجب الغسل فالجنابة والحيض ومس الأموات من الناس بعد بردهم
بالموت وقبل تطهيرهم، فإن هذه الأشياء توجب الغسل على كل حال.
243

وما يوجب الوضوء تارة وأخرى الغسل فالاستحاضة، فإنها إذا كانت
قليلة أوجبت الوضوء وإن كانت كثيرة أوجبت الغسل، على ما نبينه إنشاء الله.
فصل
(في ذكر الجنابة)
الجنابة تكون بشيئين: أحدهما إنزال الماء الدافق الذي هو المني على
كل حال سواء كان بجماع أو غيره أو احتلام وسواء كان بشهوة أو غير شهوة
وعلى كل حال، والآخر بالتقاء الختانين أنزل أو لم ينزل.
فإذا صار جنبا فلا يدخل شيئا من المساجد إلا عابر سبيل إلا عند الضرورة
ولا يضع فيها شيئا، ولا يقرأ من القرآن سور العزائم 1) ويجوز قراءة ما سواها
ولا يمس كتابة المصحف، ولا بأس أن يمس أطراف الأوراق، ولا يمس أيضا
شيئا فيها اسم من أسماء الله مكتوب في لوح أو فضة أو قرطاس.
ويكره له الأكل والشرب إلا عند الضرورة، وإذا أرادهما تمضمض
ويستنشق. ويكره له النوم والخضاب إلا عند الضرورة، وإذا أرادهما تمضمض
ويستنشق 2).
فإذا أراد الاغتسال فليستبرئ نفسه بالبول، فإن لم يفعل ورأى بعد الغسل
بللا أعاد الغسل.
وأن يغسل جميع جسده ابتداءا، أولا يغسل رأسه ثم جانبها الأيمن ثم
الأيسر، يرتب هكذا، فإن خالف لم يجزه، ويوصل الماء إلى جميع بدنه

1) سور العزائم هي السور التي فيها سجدة واجبة، وهي سورة السجدة وفصلت
والنجم والعلق.
2) أعبد في النسختين هنا " ويكره له النوم والخضاب ".
244

وإلى أصول شعره، ويميز الشعر بأنامله.
وإن ارتمس في الماء ارتماسة أو وقف تحت الميزاب أو النزال 1) أو
المطر أجزأه.
والنية لا بد منها، ينوي بالغسل استباحة الصلاة أو استباحة ما لا يجوز
للجنب من دخول المساجد وقراءة العزائم ومس كتابة المصحف وغير ذلك.
والمضمضة والاستنشاق سنتان فيه وليسا بفرضين. ويقول إذا أراد الاغتسال
" اللهم طهرني وطهر قلبي واشرح لي صدري وأجر الخير على لساني يا ذا الجلال
والاكرام يا أرحم الراحمين ".
فصل
(في ذكر الحيض والاستحاضة والنفاس)
الحيض عبارة عن الدم الخارج من فرج المرأة بحرارة على وجه يتعلق
به أحكام مخصوصة، ولقليله حد.
فإذا رأت هذا الدم حرم عليها جميع ما يحرم على الجنب ويحل لها ما
يحل له سواء. ويحرم عليه وطؤها في الفرج، ومتى وطئها وجب عليه التعزير
ولزمه الكفارة: دينارا إن كان في أوله، وإن كان في وسطه نصف دينار، وإن
كان في آخره ربع دينار.
ويسقط عنها فرض الصلاة، ولا يصح منها الصوم، ويلزمها قضاء الصوم
دون الصلاة، ولا يصح طلاقها ولا اعتكافها.
وأقل الحيض ثلاثة أيام، وأكثره عشرة أيام، وفيما بين ذلك بحسب
العادة.

1) هو الماء الذي ينزل من الأعلى إلى الأسفل.
245

فإذا انقطع عنها الدم ورأت نقاءا صحيحا وجب عليها الغسل، وكيفيته
مثل كيفية غسل الجنابة، إلا أن غسل الجنابة يسقط فيه الوضوء وهذه لا بد لها
من وضوء إذا أرادت الصلاة.
وينبغي أن تستبرئ نفسها قبل الغسل، فإن رأت دما يسيرا فليست تعد
طاهرا. هذا إذا كان انقطاع الدم دون العشرة، فإن استوفت العشرة فما زاد.
يكون دم استحاضة على كل حال.
والمستحاضة هي التي ترى الدم الأصفر البارد ولا تحس بخروجه منها،
أو تراه بعد العشرة أيام من الحيض أو النفاس، فإنه يكون أيضا دم استحاضة
على أي وصف كان.
وحكم المستحاضة حكم الطاهر، ولا يحرم عليها شئ مما يحرم على الحائض
ويصح منها الصوم والصلاة، ويحل لزوجها وطؤها إذا فعلت ما تفعله المستحاضة.
ولها ثلاثة أحوال: " أحدها " ترى الدم القليل، فعليها تجديد الوضوء
عند كل صلاة وتغيير القطنة والخرقة، وحد القليل إذا لم يظهر على القطنة.
[" والثاني " أن يظهر على القطنة ولا يسيل] 1)، فعليها غسل لصلاة الفجر وتجديد
الوضوء لباقي الصلوات مع تغيير القطنة والخرقة. " والثالث " أن ترى الدم
أكثر من ذلك، وهو أن يظهر ويسيل، فعليها ثلاثة أغسال في اليوم والليلة:
غسل لصلاة الظهر والعصر، وغسل للمغرب والعشاء الآخرة، وغسل لصلاة
الفجر.
ولا تخلو المستحاضة من أن تكون مبتدأة أولها عادة، فإن كانت لها عادة
فلترجع إلى عادتها وتعمل عليه، فإن تغيرت عادتها واضطربت رجعت إلى
صفة الدم، فإذا رأته بصفة دم الحيض كانت حائضا، وإذا رأته بصفة دم الاستحاضة

1) الزيادة ليست في ر.
246

كانت مستحاضة، فإن لم يتميز لها الدم تركت الصلاة والصوم في كل شهر سبعة
أيام، أو تترك في الشهر الأول أكثر أيام الحيض عشرة أيام وفي الثاني ثلاثة
أيام أقل أيام الحيض إلى أن يزول عنها ذلك.
وإن كانت مبتدأة تعود إلى صفة الدم، فإن لم يتميز لها بالصفة رجعت إلى
نساء أهلها، فإن لم يكن لها نساء رجعت إلى أقرانها، فإن لم يكن هناك
نساء أو كن مختلفات تركت الصلاة والصوم في كل شهر سبعة أيام مثل الأول
سواء.
والنفساء هي التي ترى الدم عند الولادة، فإذا كانت كذلك فحكمها حكم
الحائض سواء في جميع الأحكام في أكثر أيام النفاس وغيره من الأحكام،
وتفارقها في أقل النفاس، فإنه ليس لقليله حد، ويجوز أن يكون ساعة واحدة.
فصل
(في ذكر غسل الأموات)
غسل الأموات فرض واجب، وهو فرض على الكفاية.
وينبغي إذا حضر الإنسان الوفاة أن يوجه إلى القبلة ويلقن الشهادتين
والاقرار بالنبي والأئمة عليهم السلام، ويلقن أيضا كلمات الفرج " لا إله إلا الله
الحليم الكريم، لا إله إلا الله العلي العظيم، سبحان الله رب السماوات السبع ورب
الأرضين السبع وما فيهن وما بينهن وما تحتهن ورب العرش العظيم، والحمد
لله رب العالمين ".
فإذا قضى نحبه غمض عيناه ويطبق فوه ويمد يداه ورجلاه ويكون عنده
من يذكر الله تعالى ويقرأ القرآن.
ويؤخذ في أمره، فيحصل أولا أكفانه، والمفروض منها ثلاثة أثواب
247

مئزر وقميص وإزار، والمسنون خمسة يزاد لفافة أخرى إما حبرة 1) أو ما يقوم
مقامها، وخرقة يشد بها فخذاه. ويستحب أن يزاد أيضا عمامة، وإن كان امرأة
زيدت لفافة أخرى، وروي أيضا نمط 2).
ويحصل الكافور وزن ثلاثة عشر درهما وثلث مما لم تمسه النار، فإن لم
يمكن فأربعة مثاقيل، فإن لم يمكن فمثقال أو ما يتمكن منه.
ويحصل أيضا شيئا من السدر للغسلة الأولى وقليل كافور للغسلة الثانية.
وشئ من القطن ليحشى به دبره والمواضع التي يخاف خروج شئ منها،
وشئ من الذريرة المعروفة بالقمحة فينثر بين الأكفان.
ويكتب على الأكفان " فلان يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله
وأن عليا أمير المؤمنين والحسن والحسين وعلي بن الحسين - ويذكر الأئمة
إلى آخرهم - أئمته أئمة الهدى الأبرار " بتربة الحسين أو بالأصبع، ولا
يكتب بالسواد.
ويستحب أن يكون الكفن قطنا محضا، والكتان مكروه، والإبريسم أو
ما خالطه الإبريسم لا يجوز.
وإذا أراد غسله ترك على سرير متوجها إلى القبلة، فيغسله ثلاث غسلات:
الأولى بماء السدر، والثاني بماء حلال الكافور 3)، والثالث بالماء القراح.
وكيفية غسله مثل غسل الجنابة سواء، يغسل الغاسل يدي الميت ثلاث
مرات، ثم ينجيه بقليل اشنان وآخر يقلب عليه الماء، وإذا نجاه بدأ فغسل رأسه
ولحيته ثلاث مرات، ثم يغسل جانبه الأيمن ثلاث مرات، ثم الأيسر ثلاث

1) نوع خاص من الأثواب اليمنية.
2) ثوب من صوف فيه خطط تخالف لونه شامل لجميع البدن.
3) أي بماء يحل ويجعل فيه الكافور.
248

مرات. وآخر يقلب عليه الماء، ثم يقلب بقية ماء السدر ويغسل الأواني ويطرح
ماءا آخر ويطرح القليل من الكافور ويضربه ثم يغسله الغسلة الثانية مثل ذلك،
ثم يقلب بقية ماء الكافور ويغسل الأواني ويطرح فيها الماء القراح، ويغسله
الغسلة الثالثة مثل ذلك بالماء القراح.
ويمسح الغاسل يده على بطنه في الغسلتين الأوليين، ولا يمسح في الغسلة
الثالثة، وكلما قلبه استغفر الله وسأله العفو ثم ينشفه بثوب نظيف.
ويغتسل الغاسل فرضا واجبا، إما في الحال أو فيما بعد.
ثم يكفنه، فيأخذ الخرقة التي هي الخامسة ويترك عليها شيئا من القطن
وينثر عليها شيئا من الذريرة ويشد بها فخذيه ويضمها ضما شديدا، ويحشو
القطن في دبره ويستوثق من الخرقة، ثم يؤزره ويلبسه القميص وفوق القميص
الإزار.
ويترك معه جريدتين إما من النخل أو شجر آخر رطب، ويكتب عليهما
ما كتب على الأكفان، ويضع إحداهما عند حقوه من جانبه الأيمن يلصقها بجلده
والأخرى من الجانب الأيسر بين القميص والأزار.
ويضع الكافور على مساجده جبهته ويديه وعيني ركبتيه وطرف أصابع
الرجلين، فإن فضل منه شئ تركه على صدره، ولا يجعل في عينيه ولا في أنفه
شيئا من الكافور.
ثم يحمل إلى المصلى فيصلى عليه على ما نذكره في كتاب الصلاة.
وأفضل ما يمشي المشيع للجنازة خلفها وعن جنبيها، ولا يتقدمها مع الاختيار.
فإذا صلي عليه حمل إلى قبره، فيترك عند رجلي القبر إن كان رجلا وقدام
القبر إن كانت امرأة، ثم ينزل إلى القبر من يأمره الولي بحسب الحاجة،
فيؤخذ الميت من عند رجلي القبر والمرأة من قدامه فيسل سلا ويوضع في
لحده ويحل عنه عقد كفنه، ويلقنه الذي يدفنه الشهادتين والاقرار بالنبي والأئمة
249

عليهم السلام ثلاث مرات، ثم يضع معه شيئا من تربة الحسين عليه السلام في وجهه
ويضع خده على التراب، ثم يشرج اللبن عليه 1) ويخرج من عند رجلي القبر
ويطم القبر ويرفع من الأرض مقدار أربع أصابع مفرجات ولا يعلى أكثر من
ذلك ولا يطرح فيه من غير ترابه.
ويستحب لمن حضره أن يطرح بظهر كفه ثلاث مرات التراب ويترحم
عليه، فإذا فرغ من تسوية القبر رش الماء على القبر من جوانبه ويترحم عليه
من حضر وينصرف ويتأخر الولي أو من يأمره الولي فيعيد عليه التلقين فإنه
يكفي مسألة القبر إنشاء الله.
فصل
(في ذكر الأغسال المسنونة)
المسنونات من الأغسال يوم الجمعة، وليلة النصف من رجب، ويوم
السابع والعشرين منه، وليلة النصف من شعبان، وأول ليلة من شهر رمضان،
وليلة النصف وليلة سبع عشرة وليلة تسع عشرة وليلة إحدى وعشرين وليلة
ثلاث وعشرين وليلة الفطر، ويوم الفطر، ويوم الأضحى.
وغسل الإحرام، وعند دخول الحرم، وعند دخول مسجد النبي عليه
وآله السلام، وعند زيارة النبي، وعند زيارة الأئمة عليهم السلام، ويوم الغدير
ويوم المباهلة، وغسل التوبة، وغسل المولود، وغسل قاضي صلاة الكسوف
إذا احترق القرص كله وتركها متعمدا، وعند صلاة الحاجة، وعند صلاة
الاستخارة.

1) أي ينضد اللبن تنضيدا حتى لا يصل التراب إليه لو أهالوه عليه.
250

فصل
(في ذكر التيمم وأحكامه)
التيمم طهارة ضرورة ولا يجوز فعله إلا عند عدم الماء أو عدم ما يتوصل
به إلى الماء من آلة ذلك أو ثمنه أو المرض المانع من استعماله أو عند الخوف
من استعماله من البرد أو العدو، إما على النفس أو المال.
فإذا حصل شئ من هذه الأشياء جاز التيمم، غير أنه لا يجوز التيمم قبل
دخول الوقت ولا بعد دخول الوقت إلا في آخر الوقت، وحين الخوف من
فوت الصلاة.
ولا بد من طلب الماء يمينا وشمالا وحيث يغلب في الظن وجود الماء فيه
مع زوال الخوف ويصح التمكن.
ولا يصح التيمم إلا بما يسمى أرضا بالإطلاق من الحجر والمدر والتراب.
وإذا أراد التيمم فليضرب بيده جميعا على الأرض، سواء كان عليها تراب
أو لم يكن، مفرجا أصابعه، وينفضهما ويمسح بهما وجهه من قصاص شعر
الرأس إلى طرف أنفه، ويمسح بباطن كفه اليسرى ظهر يده اليمنى من الزند
إلى أطراف الأصابع.
هذا إذا كان عليه وضوء، وإذا كان عليه غسل فليضرب بيديه دفعتين، دفعة
يمسح بهما وجهه على ما قلناه، وثانية يمسح بهما يديه على ما وصفناه.
والترتيب واجب فيه أيضا، وكذلك النية، غير أنه لا ينوي رفع الحدث
فإن الحدث باق وإنما ينوي استباحة الدخول في الصلاة.
ويستبيح بالتيمم كلما يستبيح بالوضوء أو الغسل من صلوات الليل والنهار
251

ما لم يحدث، وكلما ينقض الوضوء ينقض التيمم، وينقضه زائدا عليه التمكن
من استعمال الماء.
فصل
(في ذكر المياه وأحكامها)
الماء على ضربين: مطلق، ومضاف.
فالمضاف كلما استخرج من جسم أو كان مرقة، نحو ماء الباقلي وماء الآس
وماء الخلاف وغير ذلك. وما كان مرقة - نحو ماء الباقلي - فالمضاف لا يجوز
استعماله في إزالة حدث ولا إزالة خبث ويجوز استعماله فيما عدا ذلك ما لم
ينجس، فإذا نجس فلا يجوز استعماله قليلا كان أو كثيرا.
والمطلق هو ما يسمى ماءا بالإطلاق، سواء كان عذبا أو ملحا وعلى كل
حال.
وهو على ضربين: جار، وراكد.
فالجاري بنفسه طاهر مطهر لا ينجسه شئ إلا نجاسة تغير لونه أو طعمه أو
رائحته، فإذا تغير شئ من ذلك فلا يجوز استعماله.
والواقف على ضربين: ماء البئر المعينة، وماء غير البئر. فماء غير البئر
على ضربين: قليل وكثير. فالقليل ما نقص عن كر، والكثير ما بلغه أو زاد عليه.
والقليل ينجس بأي نجاسة تحصل فيه، ولا يجوز استعماله بحال، سواء
تغير أحد أوصافه أو لم يتغير. والكثير لا ينجس بنجاسة تحصل فيه إلا إذا غيرت
أحد أوصافه، فإذا تغير أحد أوصافه فلا يجوز استعماله بحال.
252

والكر ألف ومائتا رطل بالعراقي 1)، أو ما كان قدره ثلاثة أشبار ونصف
طولا في عرض في عمق. وفي أصحابنا من اعتبر أرطال المدينة، وبالأول
تشهد الروايات.
وماء البئر المعينة فإنها تنجس بما يحصل من النجاسة فيها تغير ماؤها أو لم
يتغير، غير أنه يمكن تطهيرها بنزح بعضها.
وما يقع فيها على ضربين:
أحدهما يوجب نزح جميعها، نحو الخمر وكل شراب مسكر والفقاع
والمني ودم الحيض والاستحاضة والنفاس والبعير إذا مات فيه وكل نجاسة
تغير أحد أوصاف الماء.
وما يوجب نزح بعضه. وكل شئ له مقدار معين قد ذكرناه في النهاية
وغير ذلك من كتبنا لا نطول بذكره ههنا.
فصل
(في ذكر النجاسات ووجوب إزالتها عن الثياب والأبدان)
النجاسة على ثلاثة أضرب: أحدها يجب إزالة قليلها وكثيرها، والثاني
لا يجب إزالة قليلها ولا كثيرها، والثالث يجب إزالتها على وجه دون وجه.
فما يجب إزالة القليل والكثير فالبول والغائط والمني من كل حيوان وكل
شراب مسكر خمرا كان أو نبيذا والفقاع ودم الحيض والنفاس والاستحاضة.
وما لا يجب إزالة قليله ولا كثيره نحو دم السمك ودم البق والبراغيث ودم
القروح الدامية والجراح اللازمة.

1) ثلاثمائة وثلاث وثمانين كيلو وتسعمائة وست غرامات.
253

وما يجب إزالته على وجه دون وجه هو باقي الدماء من الرعاف والفصد
وسائر دماء الحيوان.
وكل ما لا يؤكل لحمه وما أكل لحمه من البهائم والطيور، لا بأس ببوله
وذرقه إلا ذرق الدجاجة خاصة فإنه يجب إزالته.
ويجب غسل الإناء من سائر النجاسات ثلاث مرات، ومن ولوغ الكلب
مثل ذلك، غير أن إحداها - وهي الأولى - بالتراب. وتغسل أواني الخمر
سبع مرات، وروي مثل ذلك في الفأرة إذا ماتت في الإناء، وما لا نفس له
سائلة لا ينجس الماء إذا مات فيه.
والحيوان على ضربين: ابن آدم، وغير ابن آدم. فابن آدم طاهر السؤر
إلا من كان محكوما بكفره فإنه نجس السؤر، سواء كان كافر أصل أو كافر ملة.
وغير ابن آدم على ضربين: طير، وغير طير. فسؤر الطير كله طاهر إلا
ما أكل الجيف أو كان في منقاره أثر دم.
وغير الطير على ضربين: نجس العين، ونجس الحكم. فنجس العين
هو الكلب والخنزير، فإنه نجس العين نجس السؤر نجس اللعاب.
وما عداه على ضربين: مأكول، وغير مأكول. فما ليس بمأكول كالسباع
وغيرها من المسوخات مباح السؤر وهو نجس الحكم، وهو مباح الأكل
فهو طاهر مباح السؤر مباح اللعاب طاهر الروث والبول، وما هو مكروه الأكل
فهو مكروه السؤر مكروه البول والروث. وتفصيل ذلك ذكرناه في كتبنا.
254

كتاب الصلاة
فصل
(في ذكر أعداد الصلاة)
الصلوات المفروضات في اليوم والليلة خمس صلوات سبع عشرة ركعة
في الحضر وفي السفر إحدى عشرة ركعة: الظهر أربع ركعات بتشهدين
وتسليمة في الرابعة، وفي السفر ركعتان بتشهد وتسليم بعده، وكذلك العصر
والعشاء الآخرة، والمغرب ثلاث ركعات بتشهدين وتسليم في الثالثة، والغداة
ركعتان بتشهد وتسليمة بعده في السفر والحضر لا يقصران على الحال.
والنوافل في الحضر أربع وثلاثون ركعة، وفي السفر سبع عشرة ركعة
فنوافل الظهر والعصر ست عشرة ركعة ثمان قبل الفرض وثمان بعد الفرض
كل ركعتين بتشهد وتسليم بعده، ويسقط جميعه في السفر. ونوافل المغرب
أربع ركعات بتشهدين بعده في السفر والحضر، وركعتان من جلوس بعد
255

العشاء الآخرة تعدان بركعة يسقطان في السفر، وإحدى عشرة ركعة صلاة الليل
كل ركعتين بتشهد بعده، والمفردة من الوتر بتشهد وتسليم بعده، وركعتان
نوافل الفجر يثبت جميع ذلك في الحضر والسفر.
فصل
(في ذكر المواقيت)
لكل صلاة من الفرائض الخمس وقتان أول وآخر: فأول الوقت هو
الأفضل، وهو وقت من لا عذر له. والآخر وقت من له عذر.
فأول وقت الظهر إذا زالت الشمس، وآخره إذا زاد الفئ أربعة أسباع
الشخص أو يصير ظل كل شئ مثله.
وأول وقت العصر عند الفراغ من فريضة الظهر، وآخره إذا صار ظل
كل شئ مثليه، وعند العذر إلى أن يبقى من النهار مقدار ما يصلي أربع ركعات.
وأول وقت المغرب إذا غابت الشمس، وعلامة غروبها زوال الحمرة
من ناحية المشرق، وآخره إذا غاب الشفق، وهو زوال الحمرة من المغرب
وعند الضرورة إلى ربع الليل.
وأول وقت العشاء الآخرة ذهاب الشفق الذي وصفناه، وآخره ثلث الليل
وروي نصف الليل.
وأول وقت فريضة الغداة عند طلوع الفجر الثاني، وآخره طلوع الشمس.
خمس صلوات تصلى على كل حال ما لم يتضيق وقت فريضة حاضرة،
ومن فاتته صلاة فريضة فوقتها حين يذكرها ما لم يدخل وقت فريضة والصلاة
الكسوف وصلاة الجنازة وركعتا الإحرام وركعتا الطواف.
ويكره ابتداء النافلة في خمسة أوقات: بعد فريضة الغداة عند طلوع
256

الشمس، وعند وقوف الشمس في وسط السماء إلا يوم الجمعة، وبعد العصر
وعند غروب الشمس.
وأما صلاة لها سبب كتحية المسجد أو زيارة مسجد أو قضاء نافلة فلا بأس
بها في هذه الأوقات.
فصل
(في ذكر القبلة وأحكامها)
الكعبة قبلة من كان في المسجد الحرام، والمسجد قبلة من كان في الحرم،
والحرم قبلة من كان في الآفاق.
فأهل العراق ومن يصلي إلى قبلتهم يتوجهون إلى الركن العراقي، وعليهم
التياسر قليلا، وليس على من يتوجه إلى غير هذا الركن ذلك، فإن أهل اليمن
يتوجهون إلى الركن اليماني، وأهل المغرب إلى الركن المغربي، وأهل
الشام إلى الركن الشامي.
ويمكن أهل العراق أن يعرفوا قبلتهم بكون الجدي خلف منكبهم الأيمن
أو كون الشفق محاذيا للمنكب الأيمن، أو الفجر محاذيا للمنكب الأيسر، أو
عين الشمس عند الزوال بلا فصل على حاجبه الأيمن.
فإذا فقدت هذه الأمارات صلى صلاة واحدة أربع مرات إلى أربع جهات
فإن لم يقدر صلى إلى أي جهة شاء.
ومن صلى على الراحلة نافلة استقبل بتكبيرة الإحرام القبلة. ثم يصلي إلى
رأس الراحلة. ومن صلى في السفينة ودارت صلى مثل ذلك، ومن صلى صلاة
شدة الخوف صلى مثل ذلك.
257

فصل
(في ستر العورة)
العورة عورتان: مغلظة، ومخففة. فالمغلظة السوءتان، فمن شرط صحة
الصلاة سترهما على الرجال. والمخففة ما بين السرة إلى الركبة فإنه مستحب
ستر جميع ذلك.
وأما المرأة الحرة فإن جميع بدنها عورة يجب عليها ستره في الصلاة،
ولا تكشف غير الوجه فقط. فإن كانت مملوكة جاز أن تصلي مكشوفة الرأس.
وإن صلى الرجل في ثوب صفيق 1) فهو أفضل.
فصل
(في ذكر ما تجوز الصلاة فيه من المكان واللباس)
الأرض كلها مسجد تجوز الصلاة فيها إلا ما كان مغصوبا أو نجسا، فإن كان
موضع السجود طاهرا جازت الصلاة فيها ما لم تتعد النجاسة إلى بدنه لكونه
رطبة.
وتكره الصلاة بين المقابر وفي أرض الرمل والسبخة 2) ومعاطن الإبل 3)
وقرى النمل وجوف الوادي وجواد الطريق 4) والحمامات، وفي طريق مكة
بوادي ضجنان ووادي الشقرة والبيداء وذات الصلاصل.

1) هو خلاف السخيف.
2) التي يعلوها الملح وأمثال ذلك مما لم يستقر عليه مسجد الإنسان.
3) من العطن، بمعنى محل بروك الإبل.
4) جمع الجادة، الشارع العام.
258

وتكره الفريضة جوف الكعبة، والنوافل تستحب فيها.
وينبغي أن يجعل الإنسان بينه وبين ما يمر به ساترا ولو عنزة 1).
ولا يجوز السجود إلا على الأرض أو ما أنبتته الأرض مما ليس بمأكول
ولا ملبوس لبني آدم بمجرى العادة. ومن شرطه أن يكون مباح التصرف فيه،
وأن يكون خاليا من نجاسة.
وتجوز الصلاة في اللباس ما كان من قطن أو كتان وجميع ما ينبت في
الأرض، وفي الخز الخالص وفي الصوف والشعر والوبر مما يؤكل لحمه.
وفي جلد ما يؤكل لحمه إذا كان مذكى، وإن كان ميتا فلا يجوز، وإن دبغ فإنه
لا يطهر بالدباغ. وينبغي أن يكون ملكا أو في حكم الملك، ويكون خاليا من
نجاسة مانعة من الصلاة فيها مما قدمنا ذكره.
وما لا تتم الصلاة فيه منفردا كالتكة والجوراب والقلنسوة والخف جاز أن
يكون فيها نجاسة، والتنزه عن ذلك أفضل.
فصل
(في الأذان والإقامة)
هما مسنونان مؤكدان في الصلوات الخمس، واجبان في صلاة الجماعة
لا تنعقد الجماعة إلا بهما، ولا يفعلان لشئ من النوافل.
وهما خمس وثلاثون فصلا: الأذان ثمانية عشر فصلا، والإقامة سبعة عشر
فصلا. فالأذان أربع تكبيرات في أوله، والاقرار بالتوحيد مرتين، والاقرار
بالنبي مرتين، والدعاء إلى الصلاة مرتين، وإلى الفلاح مرتين، وإلى خير
العمل مرتين، وتكبيرتان في آخره، والتهليل مرتين. والإقامة مثل ذلك،

1) العصا التي يأخذها الإنسان بيده.
259

وتسقط تكبيرتان من أوله، ويردد بدلهما " قد قامت الصلاة " مرتين، ويسقط
التهليل مرة.
والترتيب فيهما واجب.
ويستحب أن يكون المؤذن على طهارة، ويستقبل القبلة، ولا يتكلم في
خلاله مع الاختيار، ولا يكون ماشيا ولا راكبا، ويرتل الأذان ويحدر الإقامة 1)،
ولا يعرب أواخر الفصول، ويفصل بين الأذان والإقامة بجلسة أو سجدة أو خطوة.
وكل هذه سنة غير واجبة، وأشدها تأكيدا في الإقامة. ومن شرط صحتها
دخول الوقت.
فصل
(فيما يقارن حال الصلاة)
أول ما يجب من أفعال الصلاة المقارنة لها النية، ووقتها حين يريد استفتاح
الصلاة. وكيفيتها أن ينوي الصلاة التي يريد أن يصليها - فرضا كان أو نفلا
- ويعين الفرض أيضا فرض الوقت أو القضاء. مثاله: أن يريد صلاة الظهر
فينبغي أن ينوي صلاة الظهر على وجه الأداء دون القضاء متقربا بها إلى الله،
وكذلك باقي الصلوات. وينبغي أن يستديم حكم هذه النية إلى وقت الفراغ
من الصلاة، ولا يعقد في خلال الصلاة نية تخالفها فإنه يفسد ذلك صلاته.
ويستفتح الصلاة بقوله " الله أكبر "، ولا تنعقد الصلاة إلا بهذا اللفظ المخصوص،
ولا تنعقد بغيره من الألفاظ وإن كان بمعناه. وتكبيرة الإحرام فريضة بها تنعقد
الصلاة، فإن أراد السنة في الفضيلة كبر ثلاث مرات، ويرفع عند كل تكبيرة

1) الترتيل: إطالة الوقوف على أواخر الفصول. والتحدير: الإسراع وتقصير
الوقوف على الفصول.
260

يديه إلى حد شحمتي أذنيه، ويقول بعد الثلاث تكبيرات " اللهم أنت الملك
الحق لا إله إلا أنت، عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب
إلا أنت ".
ثم يكبر تكبيرتين أخريين مثل ما قدمناه ويقول " لبيك وسعديك والخير
في يديك والشر ليس إليك لا ملجأ ولا منجا ولا مفر إلا إليك، سبحانك وحنانيك
سبحانك رب البيت ".
ثم يكبر تكبيرتين أخريين ويقول بعدهما " وجهت وجهي للذي فطر
السماوات والأرض على ملة إبراهيم ودين محمد وولاية أمير المؤمنين وما أنا
من المشركين، قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك
له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين ".
والفرض من ذلك تكبيرة واحدة، وهي التي ينوي بها الدخول في الصلاة،
والأولى أن تكون الأخيرة، ثم يتعوذ فيقول " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم "،
ثم يستفتح الحمد فيقول " بسم الله الرحمن الرحيم " يرفع بها صوته سواء
كانت الصلاة يجهر فيها أو لم يجهر، فإن ثلاث صلوات يجب فيها الجهر
بالقراءة المغرب وعشاء الآخرة وصلاة الغداة، وصلاتان لا يجهر فيهما بالقراءة
وهما الظهر والعصر، فما يجهر فيها وجوبا يجب فيها الجهر ب‍ " بسم الله الرحمن
الرحيم " وما لا يجهر يستحب فيها ذلك.
ثم يقرأ الحمد، لا بد منها في كل صلاة فرضنا كانت أو نفلا، لا تصح
الصلاة إلا بقراءتها. وفي الفرض يجب قراءة الحمد وسورة لا أقل منها ولا أكثر
في الركعتين الأوليين والأخيرتين، والثالثة من المغرب هو مخير بين قراءة.
الحمد وبين قول " سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر " ثلاث مرات
أيها فعل فقد أجزأه.
261

والسورة التي يقرأه مع الحمد ليست معينة، بل يقرأ ما شاء من السور،
إلا أربع سور، وهي: ألم تنزيل، وحم السجدة، والنجم، واقرأ باسم ربك.
فإن فيها سجودا فرضا لا يقر أن في الفرائض. ولا يقرأ أيضا سورة طويلة يخرج
الوقت بقراءتها، بل يقرأ سورة وسطا من المفصل، وأفضل ما يقرأ " الحمد " و " إنا
أنزلناه " وفي الثانية " قل هو الله أحد ".
وقد خص غداة الاثنين والخميس بهل أتى على الإنسان، وفي ليلة الجمعة
في المغرب بسورة الجمعة وقل هو الله أحد، وفي العشاء الآخرة الحمد وسورة
الأعلى، وفي غداة يوم الجمعة قل هو الله أحد، وفي الظهر والعصر بالجمعة
والمنافقين، وفي باقي الصلوات ما شاء من السور إلا أنه يكون في صلاة الغداة
وفي العشاء الآخرة أدون منها، وفي المغرب سوره خفيفة، ومثل ذلك في الظهر
والعصر والغداة لا تصح الصلاة إلا معها مع الاختيار والامكان.
وينبغي أن يكون في حال قيامه ناظرا إلى موضع سجوده ولا يلتفت يمينا
ولا شمالا فإن ذلك نقصان في الصلاة، ولا يلتفت إلى ما وراءه فإنه يفسدها،
ولا يتمط في صلاته ولا يتثأب ولا يفرقع أصابعه ولا يعبث بلحيته ولا بشئ من
جوارحه، ولا يفعل فعلا كثيرا ينافي الصلاة.
فإذا فرغ من القراءة فليركع بالتكبير، والركوع ركن في الصلاة،
ويطأطئ رأسه ويسوي ظهره ويمد عنقه ويكون نظره إلى ما بين رجليه ويسبح
فيقول " سبحان ربي العظيم وبحمده " ثلاث مرات، وإن قالها خمسا أو سبعا
كان أفضل وواحدة تجزي، ولا يجوز تركها، ومن لم يذكر شيئا أصلا مع الامكان
فسدت صلاته.
ثم يرفع رأسه فيقول " سمع الله لمن حمده " وينتصب قائما فيقول " الحمد
لله رب العالمين ".
262

ثم يرفع يده بالتكبير ويهوي بها إلى السجود ويتلقى الأرض بيديه مع
الاختيار، ويسجد على سبعة أعظم فريضة الجبهة واليدين والركبتين وأطراف
أصابع رجليه، ويرغم بأنفه سنة، ويقول في سجوده " سبحان ربي الأعلى
وبحمده " ثلاث مرات أو خمسا أو سبعا، وواحدة تجزي، وإن لم يقل شيئا فسدت
صلاته. وإن جمع بين دعاء الركوع ودعاء السجود في الركوع والسجود وبين
التسبيح كان أفضل.
ثم يرفع رأسه بالتكبير ويستوي جالسا ويقول " اللهم اغفر لي وارحمني
وأجرني واهدني وارزقني فإني لما أنزلت إلي من خير فقير ".
ثم يرفع يديه بالتكبير ويعود إلى السجدة الثانية ويفعل فيها ما فعل في
الأولى سواء.
ثم يرفع رأسه بالتكبير ويجلس ثم يقوم، وإن قام من السجود إلى الركعة
الثانية كان جائزا، فإذا استوى قائما قرأ الحمد وسورة.
ثم يرفع يده بالتكبير للقنوت ويدعو بما أراد في قنوته، وأفضل ما يقول
فيه كلمات الفرج، وهي " لا إله إلا الله الحليم الكريم، لا إله إلا الله العلي العظيم،
سبحان الله رب السماوات السبع ورب الأرضين السبع وما فيهن وما بينهن وما تحتهن
ورب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين "، وإن قال غير ذلك كان جائزا.
ثم يكبر للركوع ويصلي الركعة الثانية كما وصفناه للركعة الأولى.
ثم يجلس للتشهد، وينبغي أن يكون جلوسه متوركا على وركه الأيسر
ويجعل ظاهر قدم رجله اليمنى على باطن رجله اليسرى، ثم يتشهد. والتشهد
فرض الأول والثاني، وأقل ما يجزي فيه الشهادتان والصلاة على النبي وآله
عليهم السلام، وإن قال " بسم الله وبالله، والأسماء الحسنى كلها لله، أشهد ألا إله
إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل على
263

محمد وآل محمد، وتقبل شفاعته في أمته وارفع درجته " كان أفضل.
ثم يسلم إن كانت الصلاة ثنائية كالغداة، وإن كانت ثلاثية كالمغرب أو رباعية
كالظهر والعصر والعشاء الآخرة قام إليها فيتم صلاته. فإذا جلس في التشهد
الثاني قال ما ذكرناه، وإن زاد فيه التحيات كان فيه فضل.
ثم يسلم إن كان إماما تسليمة واحدة تجاه القبلة ويومي بطرف أنفه إلى يمينه
وإن كان منفردا مثل ذلك، وإن كان مأموما سلم يمينا وشمالا إن كان على يساره
إنسان، وإن لم يكن على يساره أحد أجزأه التسليم عن يمينه، وإن كانت
الصلاة نافلة يسلم في كل ركعتين، ولا يصل أكثر منهما بتشهد ولا بتسليم
على حال.
فإذا سلم في الفرائض عقب بعد التسليم بما أراد من الدعاء لنفسه ولاخوانه
ولدينه ودنياه، ولا يترك تسبيح الزهراء عليها السلام، وهو أربع وثلاثون تكبيرة
وثلاث وثلاثون تسبيحة وثلاث وثلاثون تحميدة تمام المائة.
فإذا فرغ من التعقيب سجد سجدتي الشكر، ويقول فيها ثلاث مرات " شكرا
لله شكرا لله "، فإن قال مائة مرة كان أفضل.
وعلى هذا الشرح يصلي الخمس صلوات فرائضها ونوافلها، لا نطول بذكر
صلاة صلاة، فإن فيما ذكرناه كفاية إنشاء الله.
فصل
(في ذكر قواطع الصلاة)
كل شئ ينقض الوضوء متى عرض في خلال الصلاة فإنه يقطعها ويجب
منها استينافا، وقد قدمنا ذكر ما ينقض الطهارة فلا وجه لإعادته.
ويقطع الصلاة الكلام متعمدا، والفعل الكثير الذي ليس من أفعال الصلاة
264

والتكتف يقطع الصلاة من غير تقية ولا خوف وهو وضع اليمين على الشمال
وقول " آمين " آخر الحمد مثل ذلك، والالتفات بالكلية مثل ذلك، والقهقهة
مثل ذلك، والتأفيف والتأنين مثل ذلك. كل هذه الأشياء يفسد الصلاة.
وأما الالتفات يمينا وشمالا والتثاءب والتمطي والعبث باللحية أو بشئ
من جوارحه وفرقعة الأصابع والاقعاء بين السجدتين والتبصق والتنخم ونفخ
موضع السجود ومدافعة الأخبثين، فإن جميع ذلك نقصان في الصلاة وإن لم
يفسدها.
فصل
(في حكم السهو)
غلبة الظن لفعل الصلاة يقوم مقام العلم فيبنى عليه، ولا حكم للسهو عليه
معه فإنما يكون السهو حكم تساوي الظن أو الشك المحض، وعند ذلك فهو
على خمسة أقسام: أحدها يوجب الإعادة، والثاني يوجب التلافي، والثالث
لا حكم له، والرابع يوجب الاحتياط، والخامس يوجب سجدتي السهو.
والذي يوجب الإعادة على كل حال من صلى بغير طهارة، أو صلى قبل
دخول الوقت، أو صلى مستدبر القبلة، أو صلى إلى يمينها أو شمالها مع بقاء
الوقت. ومن صلى في مكان مغصوب مع العلم به مختارا، ومن صلى في
ثوب نجس مع تقدم علمه بذلك، ومن ترك النية أو تكبيرة الإحرام أو ترك
الركوع حتى يسجد، ومن ترك سجدتين في ركعة حتى يركع فيما بعدهما
في الأوليين، ومن زاد ركوعا أو زاد سجدتين في الأولتين، ومن زاد ركعة
ومن شك في الأولتين من الرباعية فلا يدري كم صلى أو شك في الغداة أو
المغرب أو صلاة السفر أو صلاة الجمعة مثل ذلك. ومن نقص ركعة فصاعدا
265

حتى يتكلم أو استدبر القبلة، ومن شك فلا يدري كم صلى فهؤلاء يجب عليهم
الاستيناف.
وأما ما يوجب التلافي - إما في الحال أو فيما بعد - من سها عن قراءة
الحمد حتى قرأ سورة أخرى قرأ الحمد وأعاد سورة، ومن سها عن قراءة
سورة بعد الحمد قبل أن يركع قرأ ثم ركع، ومن شك في القراءة وهو قائم
قرأ، ومن سها في تسبيح الركوع وهو راكع سبح، ومن شك في الركوع
وهو قائم ركع، فإن ذكر أنه كان ركع أرسل نفسه ولا يرفع رأسه، ومن شك
في السجدتين أو واحدة منهما قبل أن يقوم سجدهما أو واحدة، ومن ترك
التشهد الأول وذكر وهو قائم رجع فتشهد، فإن لم يذكر حتى ركع مضى
في صلاته ثم قضاه بعد التسليم، ومن نسي التشهد الأخير حتى يسلم قضاه
بعد التسليم.
وأما ما لا حكم له يبني على ما شاء، والبناء على الأقل أفضل. ومن سها
في سهو فلا حكم له، ومن سها في صلاة خلف إمام يقتدى به لا سهو عليه،
وكذلك لا سهو على الإمام إذا حفظ عليه من خلفه، ومن شك في شئ وقد انتقل
إلى غيره فلا حكم له، نحو من شك في تكبيرة الإحرام في حال القراءة أو في
القراءة في حال الركوع أو في الركوع في حال السجود أو في السجود وقد قام إلى
الثانية أو شك في تسبيح الركوع أو السجود وقد رفع رأسه منهما أو شك في التشهد
الأول وقد قام إلى الثالثة، ومن سها عن ركوع الأخيرتين وسجد بعده ثم
ذكر حذف السجود وأعاد الركوع، وكذلك من ترك السجدتين في واحدة
منهما بنى على الركوع في الأولى وسجد السجدتين.
وأما ما يوجب الاحتياط فمثل من شك فلا يدري صلى ركعتين أو أربعا
بنى على الأربع وسلم ثم صلى ركعتين من قيام، إن كان صلى أربعا كانت
266

هاتان نافلة وإن كان صلى اثنتين كانت هاتان تمام الصلاة. وكذلك إن شك بين
الثلاث والأربع أو بين الثنتين والثلاث بنى على الأكثر، فإذا سلم قام فصلى
ركعة من قيام أو ركعتين من جلوس لمثل ما ذكرناه. وإن شك بين الثنتين
والثلاث والأربع بنى على الأربع وصلى ركعتين من قيام وركعتين من جلوس
لمثل ما قلناه.
وأما ما يوجب سجدتي السهو فمثل من تكلم في الصلاة ساهيا أو سلم
في التشهد الأول من الرباعيات أو المغرب، ومن ترك واحدة من السجدتين
حتى يركع فيما بعد قضاها بعد التسليم وسجد سجدتي السهو، ومن شك بين
الأربع والخمس بنى على الأربع وسجد سجدتي السهو في هذه المواضع.
وموضع سجدتي السهو بعد التسليم، يقول فيهما " بسم الله وبالله السلام
عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته "، ويتشهد بعدهما تشهدا خفيفا يقتصر على
الشهادتين والصلاة على النبي وآله ويسلم.
وفي أصحابنا من يقول: سجدتي السهو في كل زيادة أو نقصان على
وجه السهو.
فصل
(في حكم الجمعة)
صلاة الجمعة فريضة بلا خلاف، إلا أن لها شروطا منها: حضور السلطان
العادل أو من نصبه السلطان العادل للصلاة بالناس، ويجتمع العدد سبعة وجوبا
أو خمسة ندبا، وأن يكون بين الجمعتين ثلاثة أميال فصاعدا، وأن يخطب
خطبتين. وأقل ما يخطب به أربعة أشياء: الحمد لله، والصلاة على النبي وآله
والوعظ، وقراءة سورة خفيفة من القرآن بين الخطبتين.
267

ويسقط فرض الجمعة عن المرأة، ومن ليس بكامل العقل من الصبيان
والمجانين، وعن المملوك، وعن المريض، وعن الأعمى، وعن الأعرج
الذي لا يقدر على المشي، وعن الشيخ الكبير الذي لا يقدر على الحضور، وعن
المسافر، وعمن بينه وبين الموضع أكثر من فرسخين.
فصل
(في ذكر الجماعة)
صلاة الجماعة فيها فضل كثير وثواب جزيل، وروي أنها تفضل على صلاة
المنفرد بخمس وعشرين صلاة، إلا أنها ليست بفريضة بلا خلاف إلا في الجمعة
على ما بيناه.
ولا تنعقد الجماعة إلا بشرطين: أحدهما الأذان والإقامة، الثاني أن يكونا
اثنين فصاعدا.
فإذا أرادوا صلاة الجماعة فليس يخلو أن يكونا اثنين أو ما زاد عليهما،
فإن كانا اثنين لم يخلو أن يكونا رجلين أو امرأتين أو رجلا وامرأة، فإن كان
رجلين مستوري العورة قام المأموم عن يمين الإمام، وإن كان رجلا وامرأة
قامت المرأة خلف الإمام، وإن كانا امرأتين قامت المأمومة عن يمين الإمامة.
وإن كانوا جماعة ليس يخلو أن يكونوا رجالا بلا نساء أو نساءا بلا رجال
أو رجالا ونساءا، فإن كانوا رجالا بلا نساء لا يخلو أن يكونوا عراة أو مستوري العورة
فإن كانوا مستوري العورة أو فيهم من هو مستور العورة تقدم فصلى بهم وصلى الباقون
خلفه من جلوس إن كان يصلح للإمامة، وإن كانوا كلهم عراة صلوا من جلوس ووقف
الإمام في وسطهم ويبرز عنهم بمقدار ركبتيه ويصلون كلهم من جلوس يركعون
ويومون إلى السجود، وإن كانوا رجالا ونساءا قام النساء خلف الرجال، وإن
268

كن نساءا بلا رجال قامت الإمامة في الوسط ولا تتقدمهن بحال.
وينبغي أن يكون الإمام مؤمنا عدلا مرضيا اقرأ الجماعة، فإن كانوا سواء
في القراءة فأفقههم، فإن كانوا في الفقه سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا فقهاء
سواء فأسنهم، فإن كانوا في السن سواء فأصبحهم وجها.
ولا يؤم بالناس ولد الزنا، ولا المحدود، ولا المفلوج بالأصحاء، ولا
المقيد بالمطلقين، ولا القاعد بالقيام، ولا المجذوم بالأصحاء، ولا الأبرص
بمن ليس بأبرص، والأعرابي بالمهاجرين، ولا المتيمم بالمتوضين، ولا
المسافر بالحاضرين.
فصل
(في صلاة الخوف)
صلاة الخوف على ضربين: أحدهما صلاة شدة الخوف، والآخر صلاة
الخوف.
فصلاة شدة الخوف هو إذا كان في المسلمين قلة لا يمكنهم أن ينقسموا
قسمين، فعند ذلك يصلون فرادى إيماءا ويكون سجودهم على قربوس سرجهم
فإن لم يتمكنوا من ذلك ركعوا وسجدوا بالإيماء ويكون سجودهم أخفض من
ركوعهم، فإن زاد على ذلك أجزأهم عن كل ركعة تسبيحة واحدة " سبحان
الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ".
وإن لم يبلغ الخوف إلى ذلك الحد وأرادوا أن يصلوا فرادى صلى كل
واحد منهم صلاة تامة الركوع والسجود.
وإن أرادوا أن يصلوا جماعة نظروا فإن كان العدو في جهة القبلة وأمكنهم
أن يصلوا موضعا واحدا عليهم أسلحتهم، فإذا ركع الإمام بقوم وقف قوم،
269

وإذا وقف بقوم وقفت طائفة، فإذا قاموا من السجود سجد من خلفهم ولحقوهم
فيصلي بهم الإمام واحدة على هذا الوصف.
وإن كان العدو في خلاف وجه القبلة فإن كان في المسلمين كثرة يمكنهم
أن ينقسموا قسمين انقسموا كذلك على كل فرقة سلاحهم، فتقف فرقة بإزاء
العدو والأخرى خلف الإمام، فيستفتح بهم الإمام ويصلي بهم ركعة، فإذا
قام في الثانية طول في قراءته وخفف من خلفه الركعة الثانية وتشهدوا وسلموا
وقاموا إلى موقف أصحابهم ويجئ أولئك فيستفتحون الصلاة، فيصلي بهم
الإمام الركعة الثانية له وهي أولة لهم، فإذا جلس للتشهد طول وقام من خلفه
وصلوا ركعة أخرى، فإذا جلسوا سلم بهم الإمام. فتكون للفرقة الأولى تكبيرة
الإحرام وركعة وللأخرى الركعة الثانية مع التسليم.
هذا إذا كانت الصلاة الرباعية فإنها تقتصر بنفس الخوف من غير سفر
وكذلك صلاة الغداة، وإن كانت صلاة المغرب صلى بالفرقة الأولى ركعة
وبالأخرى ركعتين، وإن صلى بالأولى ركعتين وبالفرقة الثانية ركعة كان جائزا
والأول أحوط. وإن كان فيهم قلة صلى كل واحد منهم على الانفراد.
فصل
(في ذكر صلاة العيد والاستسقاء)
صلاة العيد عندنا واجبة عند تكامل شروطها، وشروطها شروط الجمعة
سواء، وكل موضع تجب فيه الجمعة تجب فيه صلاة العيد، وكل موضع
تسقط الجمعة تسقط صلاة العيد لا فرق بينهما.
وهي مستحبة على الانفراد، وإذا كانت لا يجب قضاؤها ولا بدل لها.
ووقتها من انبساط الشمس إلى زوال الشمس، فإذا زالت فقد فات وقتها.
270

ليس لها أذان ولا إقامة، بل يقول المؤذن ثلاث مرات " الصلاة الصلاة
الصلاة "، وهما ركعتان باثنتي عشرة تكبيرة: سبع في الأولى منها تكبيرة
الإحرام وتكبيرة الركوع، وفي الثانية خمس منها تكبيرة الركوع.
يستفتح الصلاة بتكبيرة الإحرام، ويقرأ الحمد وسورة الأعلى أو غيرها
من السور، ثم يكبر ويقنت بعدها بما شاء، ثم يكبر ثانية وثالثة ورابعة وخامسة
مثل ذلك، ثم يكبر تمام السابعة ويركع بها. فإذا قام إلى الثانية قرأ الحمد
والشمس وضحاها أو غير ذلك، ثم يكبر أربع تكبيرات يقنت بعد كل تكبيرة
ويكبر الخامسة ويركع بعدها.
والخطبتان فيها بعد الفراغ من الصلاة، ويستحب استماعهما وإن لم يكن
ذلك واجبا، وهي مثل خطبة الجمعة سواء.
وتصلى هذه الصلاة في الصحراء في سائر البلاد، إلا بمكة فإنها تصلى
في المسجد الحرام.
وصلاة الاستسقاء سنة مؤكدة، وهي مثل صلاة العيد في العدد والصفة
والكيفية سواء، والخطبة فيها أيضا بعد الصلاة، فإذا سلم كبر الله مائة مرة
تجاه القبلة، ويحمده مائة مرة عن يمينه، ويسبح الله مائة مرة عن يساره،
ويستقبل الناس ويهلل الله مائة مرة، ويفعل ذلك معه كل من حضر، ثم يخطب
حسب ما قدمناه.
ويستحب أن يخرج الصبيان والبله والشيوخ الكبار والبهائم فيستسقى
بهم، ولا يخرج اليهود والنصارى، فإنهم مسخوط عليهم وكتابهم منسوخ
بالقرآن.
271

فصل
(في صلاة الكسوف)
صلاة الكسوف واجبة عند كسوف الشمس وخسوف القمر والزلازل
المتواترة والظلمة الشديدة. ومتى احترق القرص كله، فمن تركها متعمدا كان
عليه القضاء مع الغسل وإن تركها ناسيا [أعادها بلا غسل، وإن احترق بعض
القرص وتركها متعمدا قضاها بلا غسل وإن تركها ناسيا] 1) لا يجب عليه قضاؤها.
ووقت هذه الصلاة إذا ابتدأ في الاحتراق، وآخر الوقت إذا ابتدأ في
الانجلاء. وينبغي أن يكون مقدار زمان الصلاة مقدار زمان الكسوف، فإذا فرغ
منها قبل الانجلاء أعادها استحبابا، وإلا جلس في موضعه يحمد الله ويسبحه.
وهي عشر ركعات بأربع سجدات، يستفتح الصلاة بتكبيرة الإحرام ويقرأ
الحمد وسورة، ويستحب أن تكون من السور الطوال كالانعام والكهف
والأنبياء، فإذا ركع طول ركوعه بمقدار قراءته، ثم يرفع رأسه بتكبيرة
ويعود إلى القراءة، إن كان ختم السورة قرأ الحمد وسورة أخرى، وإن
لم يختمها قرأ من الموضع الذي انتهى إليه وهكذا خمس ركعات، ويقول
في الخامسة " سمع الله لمن حمده "، ثم يسجد سجدتين ثم يقوم إلى الأخرى
فيصلي خمس ركعات مثل ذلك ويقول في العاشرة " سمع الله لمن حمده ".
ويقنت في كل ركعتين بعد القراءة قبل الركوع مثل سائر الصلوات.

1) الزيادة من ج.
272

فصل
(في ذكر نوافل شهر رمضان)
(وجملة من الصلوات المرغبة فيها)
يستحب أن يزاد في نوافل شهر رمضان زيادة على سائر الشهور ألف ركعة
فيصلي من أول ليلة إلى عشرين ليلة كل ليلة عشرين ركعة، ثمان بعد الفراغ
من فريضة المغرب ونافلتها كل ركعتين بتشهد وتسليم، واثنتي عشرة ركعة بعد
العشاء الآخرة، ويزيد في ليلة تسع عشرة مائة ركعة بعد الفراغ من جميع
صلاته ويختم صلاته بالركعتين من جلوس، ويصلي في العشر الأواخر كل
ليلة ثلاثين ركعة ثمان بعد المغرب واثنتين وعشرين ركعة بعد العشاء الآخرة
ويصلي في ليلة إحدى وعشرين وثلاث وعشرين - زيادة على ما فيها - مائة
ركعة كل ليلة، فيكون تمام الألف ركعة.
ويستحب أن يزيد في ليلة النصف مائة ركعة زيادة على الألف.
ويصلي ليلة الفطر بعد الفراغ من صلاته كلها ركعتين، يقرأ في الأولى
الحمد مرة واحدة وقل هو الله أحد ألف مرة، وفي الثانية الحمد مرة ومرة
واحدة قل هو الله أحد.
ويستحب أن يصلي في الجمعات أوقات النشاط صلاة أمير المؤمنين عليه
السلام، وهي أربع ركعات، يقرأ في كل ركعة الحمد مرة وقل هو الله أحد
خمسين مرة.
ويستحب أيضا صلاة فاطمة عليها السلام، وهما ركعتان، يقرأ في الأولى
منهما الحمد مرة ومائة مرة إنا أنزلناه، وفي الثانية الحمد مرة وقل هو الله أحد
مائة مرة.
ويستحب صلاة التسبيح، وهي صلاة جعفر بن أبي طالب عليه السلام،
273

وهي أربع ركعات بثلاثمائة مرة " سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله
أكبر "، وترتيبها أن يستفتح الصلاة ويقرأ الحمد وإذا زلزلت ويقول ذلك
خمس عشرة مرة، ثم يركع ويقول عشر مرات، ويرفع رأسه فيقول عشر
مرات، ويسجد فيقول عشر مرات، ويرفع رأسه فيقول عشر مرات، ويسجد
ثانيا فيقول عشر مرات، ويرفع رأسه فيقول عشر مرات. فذلك خمس
وسبعون مرة في هذه الركعة، ثم يقوم فيصلي أربع ركعات بتشهدين وتسليمين
على هذا الترتيب، ويقرأ في الثانية والعاديات بعد الحمد، وفي الثالثة إذا جاء
نصر الله، وفي الرابعة الحمد وقل هو الله أحد.
ويستحب أن يصلي ليلة النصف من شعبان أربع ركعات، يقرأ في كل
ركعة الحمد مرة ومائة مرة قل هو الله أحد.
وإذا أراد أمرا من الأمور لدينه أو دنياه ينبغي أن يستخير الله فيغتسل فيصلى
ركعتين يقرأ فيهما ما شاء، فإذا فرغ دعا الله وسأله أن يخير له فيما يريد،
ويسجد فيقول في سجوده مائة مرة " أستخير الله تعالى في جميع أموري خيرة
في عافية " ثم يفعل ما يقع في قلبه.
وإذا كان ليلة المبعث أو يومه - وهو السابع والعشرين من رجب يوم مبعث
النبي صلى الله عليه وآله - صلى ضحوة اثنتي عشرة ركعة، فإذا فرغ عقب
بما أراد وقرأ سبع مرات المعوذتين والاخلاص وقل يا أيها الكافرون وإنا أنزلناه
وآية الكرسي، ثم يقول " الله الله ربي لا أشرك به شيئا " ويسأله ما أراد.
وإذا كان يوم الغدير - وهو الثامن عشر من ذي الحجة - وبقي بينه وبين
الزوال نصف ساعة اغتسل وصلى ركعتين، يقرأ في كل ركعة الحمد مرة وعشر
مرات قل هو الله أحد وعشر مرات إنا أنزلناه وعشر مرات آية الكرسي، فإذا
سلم عقب ودعا بدعاء يوم الغدير.
274

وإذا كانت له حاجة إلى الله صام يوم الأربعاء والخميس والجمعة، ثم يغتسل
يوم الجمعة ويخرج إلى موضع خال ويصلي ركعتين على ترتيب صلاة التسبيح
غير أنه يجعل بدل التسبيح قراءة قل هو الله أحد خمس عشرة مرة في حال
القيام والركوع ورفع الرأس والسجود وفي جميع الأحوال، فإذا سلم سأل
الله تعالى حاجته، فإذا قضيت حاجته صلى ركعتين شكرا لله تعالى على ما أنعم
به عليه.
والصلوات المرغبة فيها كثيرة جدا ذكرناها في مصباح المتهجد في عمل
السنة، وفيما ذكرناه ههنا كفاية إنشاء الله.
فصل
(في ذكر الصلاة على الميت)
كل ميت مسلم أو بحكم الاسلام ممن كان له ست سنين فصاعدا فإنه تجب
الصلاة عليه ولا يترك بلا صلاة.
وهي فرض على الكفاية، فإذا قام به قوم سقط عن الباقين.
وأقل من يسقط به الفرض واحدا فصاعدا.
ومن لم يبلغ ست سنين صلى عليه استحبابا.
وأحق الناس بالصلاة على الميت أولاهم بميراثه من الرجال أو من يقدمه
الولي، والزوج أحق بالصلاة على المرأة من جميع قرابتها عصبة كانوا أو
غير ذلك. وإذا حضر رجل من بني هاشم كان أولى بالتقدم وعلى الولي تقديمه
فإن لم يفعل كان الولي أحق.
ولا يجوز التقدم على الإمام العادل، ويقف الإمام من الجنازة إن كانت
لامرأة عند صدرها وإن كانت لرجل في وسطه.
275

وإن كان عليه حذاء نزعه، وإن كان خف أو شمشك صلى فيها.
ويكبر على الميت خمس تكبيرات بعدد الخمس صلوات، يكبر أولا
ويشهد أن لا إله إلا الله، ثم يكبر ثانية ويصلي على النبي عليه السلام، ثم يكبر
ثالثة ويدعو للمؤمنين والمؤمنات، ويكبر الرابعة فيدعو بعدها للميت إن كان
مؤمنا وعليه إن كان منافقا، وإن كان طفلا سأل الله أن يجعله له ولأبويه فرطا،
وإن كان مستضعفا دعا له بدعاء المستضعفين، فيقول " ربنا اغفر لنا ولاخواننا
الذين سبقونا بالإيمان " إلى آخرها، وإن كان لا يعرفه سأل الله أن يحشره مع
من كان يتولاه.
ويستحب أن يكون على طهارة، وإن فاجأته تيمم وصلى عليها.
وليس في هذا الصلاة قراءة ولا تسليم، بل هي دعاء على ما قدمناه 1).

1) ولذا يقال إنها ليست بصلاة حقيقية وإنما يطلق عليها هذا الاسم مسامحة.
276

كتاب الزكاة
الزكاة المفروضة في شرع الاسلام في تسعة أشياء: في الدراهم، والدنانير،
والإبل، والبقر، والغنم، والحنطة، والشعير، والتمر، الزبيب.
ولا تجب الزكاة في شئ سوى هذه الأجناس، ولا تجب الزكاة في هذه
الأجناس - سوى الغلات - إلا إذا حال عليها الحول في الملك وتكون نصابا 1)
كاملا من أول الحول إلى آخره، وأما الغلات فإنه تجب الزكاة فيها حين حصولها
ولا يراعى فيها الحول.
ولا تجب في شئ من الغلات سوى الأجناس الأربعة التي ذكرناها زكاة
وجوبا، ويستحب إخراج الزكاة في جميع ما يدخل تحت الكيل.
ولا تجب في شئ من الحيوان سوى الأجناس الثلاثة المقدم ذكرها،
وإنما تستحب الزكاة في الخيل في كل سنة في العتاق 2) منها ديناران إذا كانت
أنثى مرسلة للنتاج، وفي البراذين 3) دينار واحد مثل ذلك، وليس ذلك بواجب.

1) النصاب هو القدر المعين في ما يؤخذ منه الزكاة.
2) هو النجيب النفيس من الخيل.
3) جمع البرذون بكسر الباء وفتح الذال هو التركي من الخيل، وخلافها العراب.
277

فأما الأموال فكل ما لم يكن دراهم أو دنانير لا يجب فيها زكاة وجوبا وإن كان
ذلك فيها ندبا واستحبابا، فمال التجارة على هذا إذا حال عليه الحول أخرجت
الزكاة عن قيمتها دراهم أو دنانير.
والذهب والفضة إذا كان مصاغا أو حليا لا زكاة فيها إلا إذا فر بها من الزكاة،
وإنما تجب الزكاة فيما كان دنانير أو دراهم مضروبة أو منقوشة، وما كان
بخلاف ذلك استحب فيها الزكاة.
والزكاة من الدراهم والدنانير تجب على كل حر مالك للنصاب إذا كان
كامل العقل، فأما من ليس بكامل العقل من الأطفال والمجانين فلا يجب في مالهم
الصامت زكاة.
وما عداهما من الغلات والمواشي يجب على كل مالك، فإن كان عاقلا
وجب عليه إخراجه، وإن لم يكن عاقلا كان على وليه الاخراج من ماله.
ومال الدين والقرض إن كان على ملي باذل أي وقت طلبه منه فإن فيه الزكاة،
وإن كان على ملي مطول أو غير ملي لا يجب فيه الزكاة حتى يرجع إلى ملكه،
فإن عاد إليه وحال عليه الحول وجب عليه فيه الزكاة.
ومتى وجبت الزكاة في مال وجب إخراجها على الفور، فإن أخره مع
وجود المستحق كان ضامنا له إن هلك المال، سواء كان من وجب عليه في ماله
أو وليا يجب عليه الاخراج من مال من له عليه ولاية، الباب واحد.
فصل
(في زكاة الذهب والفضة)
إذا ملك الحر العاقل عشرين دينارا مضروبة منقوشة وحال عليها الحول
بكمالها وجب عليه فيها نصف دينار، وليس فيما زاد على العشرين شئ حتى
278

يصير أربعة دنانير، فإذا زادت أربعة دنانير كان فيها عشر دينار، ثم على هذا
الحساب كلما زادت أربعة دنانير كان فيها عشر دينار بالغا ما بلغ، وما بين النصابين
عفو لا يتعلق به شئ.
وأما الدراهم فإذا ملك مائتي درهم وجب فيها خمسة دراهم، ثم ليس فيها
شئ حتى تزيد أربعين درهما، فإذا زادت ذلك وجب فيها درهم آخر، ثم
هكذا كلما زادت أربعون درهما كان فيها زيادة درهم بالغا ما بلغ، وما بين
النصابين عفو.
وإذا رأى هلال الثاني عشر وجب في المال الزكاة، وإن قدم على ذلك
لمستحق جعل قرضا عليه يحتسب به من الزكاة إذا تكامل الحول.
والمعطى على حال يجب معه عليه الزكاة، ومن أعطاه على صفة يجوز له أخذ
الزكاة فإن تغير أحدهما عن ذلك لم يجز ذلك عن الزكاة. وإن أخر انتظارا
للمستحق لم يكن عليه ضمان، وإن كان المستحق حاضرا وأخره في ذمته إلى
أن يخرج منه وحمل الزكاة من بلد إلى بلد مع وجود المستحق يجوز بشرط
الضمان، ومع عدم المستحق يجوز على كل حال.
فصل
(في زكاة الإبل والبقر والغنم)
لا زكاة في شئ من هذه الأجناس حتى يملكها الإنسان نصابا كاملا ويحول
عليها الحول وهي مرسلة سائمة، وأما المعلوفة منها فلا يتعلق بها زكاة، وما لم
يحل عليها الحول لا يعد فيما تجب فيه الزكاة لا بانفرادها ولا مع أمهاتها.
فأول نصاب في الإبل خمس يجب فيها شاة، وليس فيها بعد ذلك شئ
حتى تصير عشرا ففيها شاتان، إلى خمس عشرة ففيها ثلاث شياة، إلى عشرين
279

ففيها أربع شياة، إلى خمس وعشرين ففيها خمس شياة، فإذا صارت ستا وعشرين
كان فيها بنت مخاض وهي التي حملت أمها بالبطن الثاني وضربها الطلق، أو
ابن لبون ذكر وهو الذي ولدت أمه وصار بها لبن.
ثم ليس فيها شئ إلى ست وثلاثين ففيها بنت لبون ذكر وهو الذي ولدت
أمه وصار بها لبن، ثم ليس فيها شئ حتى تصير ستا وأربعين ففيها حقة وهي التي
دخلت في السنة الرابعة فاستحقت الركوب أو أن يطرقها الفحل.
وليس فيها بعد ذلك شئ حتى تصير إحدى وستين ففيها جذعة وهي التي
دخلت في السادسة، إلى ست وسبعين ففيها ابنتا لبون، إلى إحدى وتسعين
ففيها حقتان، إلى مائة وإحدى وعشرين فيسقط هذا الاعتبار ويخرج من كل
أربعين بنت لبون ومن كل خمسين حقة بالغا ما بلغت.
فإذا وجبت بنت مخاض وعنده بنت لبون أخذت منه وردت عليه شاتان
أو عشرين درهما، وإن وجبت عليه بنت لبون وعنده بنت مخاض أخذ منه
وأخذ منه أيضا عشرون درهما أو شاتان، وما بين بنت لبون والحقة مثل ذلك،
وبين الحقة والجذعة مثل ذلك.
وأما غير ذلك من الأسنان فليس بمنصوص عليه، ويجوز أن يؤخذ بالقيمة
لأن القيمة يجوز أخذها في سائر أجناس الزكاة عندنا.
وأما البقر فليس فيها زكاة حتى يصير ثلاثين ففيها تبيع أو تبيعة وهو الذي
تم له سنة ويتبع أمه، بعد إلى أن يصير أربعين ففيها مسنة وهي التي دخلت في
السنة الثانية، وعلى هذا الحساب في كل أربعين مسنة بالغا ما بلغ وفي كل ثلاثين
تبيع أو تبيعة. وما بين النصابين عفو.
وأما الغنم فليس فيها زكاة حتى يصير أربعين ففيها شاة، إلى مائة وإحدى
وعشرين ففيها شاتان، إلى مأتين وواحدة ففيها ثلاث شياة، إلى ثلاثمائة
280

وواحدة ففيها أربع شيات، إلى أربعمائة فسقط هذا الاعتبار وأخرج من كل
مائة شاة بالغا ما نقص عن النصاب. وما بين النصابين كله عفو.
ولا يعد في الزكاة إلا ما حال عليه الحول بانفراده ولا مع الأمهات، ولا يؤخذ
في الزكات ذات عوار ولا المهزولة ولا السمينة في الغاية بل وسطا من جميع
الأجناس.
والمال وإن كان نصابا إذا كانا من خليطين لا تجب فيه الزكاة حتى يكون
لكل واحد نصاب، ولو كان في ملك واحد نصاب في مواضع متفرقة كان عليه
زكاة على كل حال.
فصل
(في زكاة الغلات)
قد بينا أنه لا زكاة واجبة في الغلات إلا في الأجناس الأربعة التي قدمنا
ذكرها، وليس فيها زكاة حتى تبلغ نصابا، وهو خمسة أوسق، والوسق ستون
صاعا، والصاع تسعة أرطال بالعراقي بعد إخراج المؤن كلها من الخراج وحق
الأكرة والثلث وغيره، فإذا فضل بعد ذلك القدر الذي ذكر أخرج منه الزكاة
وفيما زاد على الخمسة تخرج منه الزكاة قليلا كان أو كثيرا لأنه ليس يراعى
نصاب آخر بعد النصاب الأول.
ثم ينظر في صفة الأرض: فإن كانت تسقى سيحا 1) أو كان عذيا 2) أو كان
الشجر بعلا يشرب بعرقه فلا يلزم على شئ من ذلك مؤنة مجحفة كان فيها
العشر، فإن كانت تسقى بالدوالي والنواضح والدواب والغنم وما يلزم عليه المؤن
الثقيلة ففيه نصف العشر.

1) ما شرب بالماء الجاري.
2) العذى ما سقته السماء.
281

وما عدا الأجناس الأربعة من المكيلات الزكاة فيها مستحبة على هذا
الحساب، وما نقص عن الخمسة أوسق لا تتعلق به الزكاة [إذا كان كل جنس
بحاله نصاب كامل وإن كان لو جمع كان نصابا وأكثر] 1)، إلا إذا قصد الفرار
بذلك من الزكاة ففرقه كذلك فحينئذ تلزمه الزكاة.
فصل
(في مستحق الزكاة ومقدار ما يعطى منه)
مستحق الزكاة هم الثمانية الأصناف الذين ذكرهم الله تعالى في آية الزكاة
في قوله " إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم
وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل " 2).
فالفقير هو الذي لا شئ له، والمسكين هو الذي له بلغة من العيش لا تكفيه،
وقيل بالعكس من ذلك، غير أنهما يستحقان جميعا سهما من الزكاة. والعاملين
عليها هم السعاة الذين يجمعون الزكاة ويجبونها، والمؤلفة قلوبهم قوم كفار
إنهم جميل في الاسلام يستعان بهم على قتال أهل الحرب ويعطون سهما من
الصدقة، والرقاب هم المكاتبون وعندنا يدخل فيه المملوك الذي يكون في
شدة يشترى من مال الزكاة ويعتق ويكون ولاؤه لأرباب الزكاة لأنه اشتري
بمالهم، والغارمين هم الذين ركبتهم الديون في غير معصية ولا سرف، وفي
سبيل الله هو الجهاد ويدخل فيه جميع مصالح المسلمين، وابن السبيل هو المنقطع
به وإن كان في بلده ذا يسار.
ويراعى فيهم أجمع - إلا المؤلفة - الإيمان والعدالة، ولا يكونون من بني
هاشم في حال تمكنهم من الخمس، ولا يكونون ممن يلزمه نفقته من ولد أو

1) الزيادة ليست في ر.
2) سورة التوبة: 60.
282

والدين نزلا أو صعدا ولا زوجة ولا مملوك.
ويجوز وضع الزكاة في فرقة من هذه الفرق، وإن كان الأفضل أن يجعل
لكل صنف منهم جزءا ولو قليلا، ويجوز أيضا أن يفضل بعضهم على بعض.
وأقل ما يعطى الفقير ما يجب في نصاب من الدراهم خمسة دراهم، وبعد
ذلك عشر دينار. وليس لكثيره حد، بل يجوز أن يعطي زكاة ماله كله لواحد يغنيه.
فصل
(في ذكر ما يجب فيه الخمس وبيان مستحقه وقسمته)
يجب الخمس في الغنائم التي تؤخذ من دار الحرب، وفي المعادن كلها الذهب
والفضة والحديد والصفر والنحاس والرصاص والزيبق والكحل والزرنيخ
والنفط والقير والكبريت والموميا والغوص والياقوت والزبرجد والبلخش
والفيروزج والعقيق والعنبر، وفي الكنوز من الذهب والفضة وغير ذلك،
وفي أرباح التجارات والمكاسب، وفيما يفضل من الغلات عن قوت السنة
لصاحبه ولعياله، وفي المال الذي يختلط حلاله بحرامه ولم يتميز، وفي أرض
الذمي إذا اشتراها من مسلم.
ويجب الخمس في هذه الأجناس عند حصولها، ولا يراعى فيه نصاب إلا
الكنوز، فإنه يراعى فيها نصاب زكاة المال، والغوص يراعى فيه مقدار دينار
وما عدا ذلك يخرج من قليله وكثيره.
والمستحق له من ذكره الله تعالى في قوله " واعلموا أنما غنمتم من شئ
فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل " 1)،
فسهم الله لرسوله إذا كان باقيا، وإذا مضى رسول الله فهذان السهمان مع
سهم ذوي القربى لمن قام مقام الرسول من الأئمة يصرفه في مؤنته ومؤنة

1) سورة الأنفال: 40.
283

من يلزمه نفقته، وسهم اليتامى والمساكين وابن السبيل مصروف إلى من كان
بهذه الصفات من أهل بيت رسول الله " ص " خاصة دون سائر الناس، فإن
لأولئك الزكاة التي تحرم على هؤلاء على ما بيناه.
فصل
(في ذكر الأنفال)
الأنفال كانت لرسول الله صلى الله عليه وآله، وهي لمن قام مقامه من
الأئمة، وهي كل أرض خربة باد أهلها، وكل أرض لم يوجف عليها بخيل
ولا ركاب، وكل أرض أسلمها أهلها طوعا، ورؤوس الجبال وبطون الأودية
والموات التي لا مالك لها، والأجام، وصواف الملوك وقطائعهم إذا لم تكن
غصبا، وميراث من لا وارث له.
ومن الغنائم الجارية الحسناء والفرس الفارة والثوب المرتفع وما لا
نظير له من رقيق أو متاع، ما لم يستغرق الغنيمة أو يجحف بالغانمين.
ومتى قاتل قوم أهل حرب من غير إذن الإمام فغنموا، كل ذلك للإمام
خاصة.
فصل
(في ذكر زكاة الفطرة)
تجب زكاة الفطرة على كل حر بالغ ملك النصاب تجب فيه الزكاة،
يخرجه عن نفسه وجميع من يعوله من والد وولد وزوجة ومملوك مسلما كان
أو كافرا.
ومن لا يملك النصاب لا تجب عليه وإن كان مستحقا له، حتى لو أخذ زكاة
الفطرة لفقره استحب له إخراجه عن نفسه وعن جميع من يعوله.
ووقت وجوب هذه الزكاة إذا طلع هلال شوال، وآخرها عند صلاة العيد
284

فإن قدم في أول الشهر - على ما قلناه في تقديم زكاة المال أيضا - كان جائزا
وإن أخره كان قضاءا.
والقدر الذي يجب صاع، وهو تسعة أرطال بالعراقي، من حنطة أو شعير
أو تمر أو زبيب أو أرز أو أقط أو لبن، غير أنه ينبغي أن يخرج كل أحد مما
يغلب قوته، وأفضله التمر واللبن أربعة أرطال بالمدني وستة بالعراقي. ويجوز
أن يخرج قيمة ما يريد إخراجه بسعر الوقت.
ومستحق زكاة الفطرة هو مستحق زكاة المال من المؤمنين الفقراء العدول
أو أطفالهم، ومن كان بحكم المؤمنين من البله والمجانين. ومن لا يجوز أن
يعطى زكاة المال لا يجوز أيضا أن يعطى زكاة الفطرة ممن يجب عليه نفقته أو
كان من بني هاشم.
ولا يعطى الفقير أقل من صاع، ويجوز أن يعطى أصواعا.
285

كتاب الصوم
الصوم في اللغة عبارة عن الامساك والوقوف 1)، وفي الشريعة عبارة عن الامساك
عن أشياء مخصوصة في زمان مخصوص على وجه مخصوص ممن هو على
صفات مخصوصة.
ولا ينعقد إلا بالنية.
والصوم على ضربين: شهر رمضان، وغيره.
فصوم شهر رمضان لا بد فيه من نية القربة، وإن ضم إليها نية التعيين كان
أفضل.
ووقت النية ليلة الصوم من أولها إلى طلوع الفجر، فأي وقت نوى الصوم
فقد انعقد صومه، ومتى لم ينو متعمدا مع العلم بأنه شهر حتى يصبح
فقد فسد صومه وعليه القضاء، وإن لم يعلم أنه شهر رمضان لعدم رؤيته أو
لشبهة ثم علم بعد أن أصبح جاز له أن يجدد النية إلى الزوال وصح صومه

1) ومنه قوله تعالى حكاية عن مريم عليها السلام " إني نذرت للرحمن صوما فلن
أكلم اليوم انسيا " [سورة مريم: 26].
286

ولا إعادة عليه، وإن فاتت إلى بعد الزوال أمسك بقية النهار وكان عليه القضاء
وإن صام عند الشبهة أو الشك منه للتطوع ثم انكشف أنه كان من شهر رمضان
فقد أجزأ عنه ولا قضاء عليه. ويكفي الشهر كله نية واحدة، وإن جدد النية كل
ليلة كان أفضل.
وأما صوم غير شهر رمضان فلا بد فيه من نية التعيين ونية القربة معا، سواء
كان فرضا كالنذر والقضاء وغير ذلك من أنواع الواجبات أن نفلا كصوم
التطوع على اختلاف أنواعه.
ومتى فاتت النية جاز تجديدها إلى عند الزوال، فإذا زالت الشمس فقد
فاتت النية.
فصل
(فيما يجب على الصائم اجتنابه)
ما يجب على الصائم اجتنابه على ضربين: أحدهما فعله يفسده، والآخر
ينقضه.
فما يفسده على ضربين: أحدهما يوجب القضاء والكفارة إذا كان صوم
شهر رمضان أو نذر معين، والآخر يوجب القضاء بلا كفارة.
فالأول وهو الذي يوجب القضاء والكفارة: الأكل، والشرب،
والجماع في الفرج، وأنزل الماء الدافق عامدا، والكذب على الله وعلى
رسوله وعلى الأئمة متعمدا مع العلم بأنه كذب، والارتماس في الماء، وإيصال
الغبار الغليظ إلى الحلق مثل غبار النفض وما جرى مجراه، والمقام على الجنابة
متعمدا مع إمكان الغسل وعدم المشقة حتى يطلع الفجر.
فمتى صادف شيئا مما ذكرناه فسد الصوم ووجب منه القضاء والكفارة.
287

والكفارة عتق رقبة أو صيام شهرين أو إطعام ستين مسكينا مخير في ذلك، وفي
أصحابنا من قال هو مرتب كصوم الظهار.
وما يجوب القضاء دون الكفارة فالاقدام على الأكل والشرب أو الجماع
قبل أن يرصد الفجر مع القدرة عليه ويكون طالعا، وترك القبول عمن قال قد
طلع الفجر، والإقدام على ما يفطر ويكون قد طلع، وتقليد الغير [في أن الفجر
لم يطلع، مع تمكنه من مراعاته ويكون قد طلع، وتقليده الغير] 1) في دخول
الليل مع تمكنه من مراعاته والإقدام على الافطار ولا يكون قد دخل.
وكذلك الإقدام على الافطار لعارض يعرض في السماء من ظلمة وريح
ثم تبين أن الليل ما كان دخل، ومعاودة النوم بعد انتباهة واحدة قبل الغسل
من الجنابة ولم ينتبه إلى أن يطلع الفجر، ودخول الماء إلى الحلق لمن يتبرد
بالماء أو يتمضمض لغير الصلاة، والحقنة بالمايعات. ومتى صادف شئ مما
ذكرناه ما لا يتعين صومه فسد صومه وصام يوما بدله.
فأما ما يجب اجتنابه وإن لم يفسد الصوم فكل القبائح، فإنه يجب تجنبها
على كل حال ويترك لمكان الصوم.
ويستحب اجتناب أشياء وإن لم يكن واجبا: كالسعوط والكحل الذي فيه
شئ من الصبر أو المسك، وإخراج الدم على وجه يضعفه مع الاختيار، ودخول
الحمام المضعف، وشم النرجس والرياحين، واستدخال الأشياف الجامدة،
وتقطير الدهن في أذنه، وبل الثوب على الجسد، والقبلة وملاعبة النساء ومباشرتهن،
فإن جميع ذلك مكروه وإن لم يفسد الصوم بفعله.

1) الزيادة من ج.
288

فصل
(في ذكر أقسام الصوم)
الصوم على خمسة أقسام: واجب، وندب، وقبيح، وصوم تأديب،
وصوم أذن.
فالواجب على ضربين: مطلق من غير سبب يوجبه، والآخر ما يجب عند
سبب يوجبه.
فالمطلق من غير سبب صوم شهر رمضان، ولوجوبه ستة شروط: البلوغ،
وكمال العقل، والصحة من المرض، وأن لا يكون مسافرا سفرا يوجب الافطار،
ومن كان حكمه حكم المقيمين من المسافرين وإن كانت امرأة بأن تكون طاهرا
من الحيض. فهذه شروط صحة الأداء.
وأما إذا فات الصوم فلوجوب القضاء عليه ثلاث شروط: الاسلام لأن من
كان كافرا وإن وجب عليه الصوم فإذا لم يصمه وأسلم لم يلزمه القضاء، والثاني
البلوغ، والثالث كمال العقل.
وأما من كان حكمه حكم الحاضرين من المسافرين ويجب عليهم الصوم
فهم عشرة: أولها من نقص سفره عن ثمانية فراسخ، ومن كان سفره معصية لله
تعالى، ومن كان سفره للصيد لهوا وبطرا، ومن كان سفره أكثر من حضره
وحده أن لا يقيم بلدة عشرة أيام والمكاري والملاح والراعي، والذي يدور
في إمارته، والذي يدور في تجارته من سوق إلى سوق، والبريد. فهؤلاء كلهم
يجب عليهم الصوم في السفر ولا يجوز لهم الافطار.
والواجب عند سبب أحد عشر قسما:
أحدهما: قضاء ما يفوت من شهر رمضان لعذر من مرض أو سفر أو غيره،
289

قال الله تعالى: " ومن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر " 1).
وصوم النذر، لإجماع الأمة على ذلك، ولقوله " أوفوا بالعهود " 2).
وصوم كفارة قتل الخطأ إذا لم يقدر على العتق، قال الله تعالى " ومن قتل
مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة " إلى قوله " فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين " 3).
وصوم كفارة الظهار لمن لا يقدر على العتق والاطعام والكسوة، قال الله
تعالى " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الإيمان
فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير
رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام " 4).
وصوم كفارة إذا حلق الرأس إذا لم يختر النسك والصدقة، قال الله تعالى
" فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك " 5).
وصوم جزاء الصيد بحسب جزائه، قال الله تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا
تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم
به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما " 6).
وصوم دم المتعة إذا لم يقدر على الهدي، قال الله تعالى: " فمن تمتع بالعمرة
إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة
إذا رجعتم " 7).

1) سورة البقرة: 184.
2) سورة المائدة: 1. ولفظة الآية " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ".
3) سورة النساء: 92.
4) سورة البقرة: 196.
5) سورة البقرة: 196.
6) سورة المائدة: 95.
7) سورة البقرة: 196.
290

وصوم كفارة من أفطر يوما من شهر رمضان متعمدا من غير عذر، لقول
النبي عليه السلام: من أفطر يوما من شهر رمضان فعليه ما على المظاهر.
وصوم كفارة من أفطر يوما يقضيه من شهر رمضان بعد الزوال إذا لم يطعم
ولم يكس، فإن أطعم كان ذلك لعشرة مساكين أو كسوتهم.
وصوم الاعتكاف، لما روي عنه عليه السلام أنه قال: لا اعتكاف إلا بصوم.
وكفارة من أفطر يوما من شهر رمضان.
وتنقسم واجبات الصوم قسمين: أحدهما يراعى فيه التتابع، والآخر لا
يراعى فيه ذلك.
فما يراعى فيه التتابع على ضربين: أحدهما متى أفطر فيه أستأنف، والآخر
لا يوجب ذلك.
فما يوجب الاستيناف على كل حال: فصوم كفارة اليمين، وصوم الاعتكاف،
وصوم كفارة من أفطر يوما يقضيه من شهر رمضان بعد الزوال.
وما لا يوجب الاستيناف على كل حال على ضربين: أحدهما يوجب البناء،
والآخر يوجب الاستيناف.
فما يوجب البناء: فكل من وجب عليه صوم شهرين متتابعين إما في قتل
خطأ أو كفارة ظهار أو كفارة إفطار يوم من شهر رمضان، أو وجب عليه صوم
شهرين متتابعين بنذر، فمتى صام شهرا ومن الثاني شيئا فإنه يبني، وإن كان قد
ترك الأفضل، وإن لم يكن صام شهرا ولم يزد عليه فإنه يستأنف على كل حال،
وكذلك من وجب عليه صوم شهر متتابع إما بنذر أو يكون مملوكا ولزمه ذلك
في قتل الخطأ أو غير ذلك، فإنه إن صام خمسة عشر يوما ثم أفطر بنا وإن كان
دون ذلك استأنف إلا أن يكون لمرض أو حيض، وصوم ثلاثة أيام في دم المتعة
إن صام يوما ثم أفطر بنا، وإن صام يوما واحدا استأنف. هذا إذا أفطر من غير
عذر، فأما إن أفطر لمرض أو حيض أو عذر فإنه يبني كل حال.
وما لا يراعى فيه التتابع: فمثل قضاء رمضان، وصوم جزاء الصيد، وصوم
291

النذر إذا لم يشترط التتابع، وصوم السبعة أيام في دم المتعة.
وفي الصوم ما يجب بإفطاره متعمدا من غير عذر قضاء وكفارة، ومنه ما لا
يجب ذلك فيه: فالأول صوم شهر رمضان إذا أفطر بعد الزوال، وصوم الاعتكاف.
وما عدا ذلك من الأنواع متى أفطر لا تلزمه كفارة.
وينقسم صوم الواجب ثلاثة أقسام: أحدها مرتب، والآخر مخير، والثالث
مضيق.
فالمرتب: كفارة اليمين لأنه لا يجوز إلا بعد العجز عن العتق والاطعام
والكسوة، وصوم كفارة قتل الخطأ والظهار فإنه لا يجوز إلا بعد العجز عن العتق،
وصوم دم الهدي فإنه لا يجوز إلا بعد العجز عن الهدي.
والمخير: كفارة أذى حلق الرأس فإنه مخير بين النسك والصدقة والصوم،
وكفارة من أفطر يوما من شهر رمضان بلا عذر على خلاف بين الطائفة في تخييره،
وصوم كفارة من أفطر يوما يقضيه من شهر رمضان بعد الزوال، وكذلك صوم
جزاء الصيد فإنه مخير في جميع ذلك.
والمضيق: صوم شهر رمضان، وصوم قضاء شهر رمضان، وصوم النذر،
وصوم الاعتكاف.
وأما المندوب من الصوم فجميع أيام السنة إلا العيدين وأيام التشريق لمن
كان بمنى، إلا أن بعضه أفضل من بعض:
منها: صوم ثلاثة أيام في كل شهر: أول خميس في العشر الأول، وأول
أربعاء في العشر الثاني، وآخر خميس في العشر الأخير.
وصوم الأربعة أيام في السنة، مثل يوم الغدير وهو الثامن عشر من ذي الحجة،
ويوم السابع عشر من ربيع الأول فيه مولد النبي صلى الله عليه وآله،
ويوم السابع والعشرين من رجب فيه مبعث النبي " ص "، ويوم الخامس والعشرين
292

من ذي القعدة فيه دحيت الأرض من تحت الكعبة، وأول يوم من رجب،
ورجب كله، وشعبان، وأيام البيض من كل شهر وهو الثالث عشر والرابع عشر
والخامس عشر.
وصوم يوم عرفة لمن لا يضعفه عن الدعاء، وصوم يوم عاشورا على وجه
الحزن والمصيبة لما حل بأهل بيت الرسول عليه السلام وعليهم.
وأما الصوم القبيح: فهو يوم العيدين، ويوم الشك على أنه من شهر رمضان،
وأيام التشريق لمن كان بمنى ومن كان بالامصار جاز له صومهن، وصوم الصمت
وهو أن لا يتكلم، وصوم الوصال كذلك يجعل عشاءه وسحوره أو يطوي يومين،
وصوم نذر المعصية، وصوم الدهر لأنه يدخل فيه العيدان.
وأما صوم التأديب: فمثل المسافر إذا قدم على أهله في بعض النهار أمسك
بقية نهاره تأديبا، وكذلك الحائض إذا طهرت في وسط النهار، والمريض
إذا برأ، والصبي إذا بلغ، والكافر إذا أسلم. فإن هؤلاء كلهم يمسكون بقية
نهارهم تأديبا وكان عليهم القضاء لذلك اليوم.
وأما صوم الإذن: فالمرأة لا تصوم إلا بإذن زوجها، وكذلك المملوك
لا يصوم تطوعا إلا بإذن سيده، وكذلك الضيف إلا بإذن مضيفه.
فصل
(في حكم المريض والعاجز عن الصيام)
كل مرض يغلب معه الظن أنه إذا صام أدى إلى تلف النفس أو زاد في
المرض زيادة بينة فلا يجوز معه الصوم، وإن صامه لم يجزه وكان عليه القضاء.
والمريض لا يخلو من ثلاثة أحوال: إما أن يموت من مرضه، أو يبرأ،
أو يستمر به المرض إلى رمضان آخر.
293

فإن مات من مرضه يستحب لوليه القضاء عنه، وليس ذلك بواجب.
وإن برأ وجب عليه القضاء بنفسه، فإن لم يقض ومات وجب على وليه
القضاء عنه. والولي هو أكبر أولاده الذكور دون الإناث، فإن كانوا جماعة
في سن واحد كان عليهم القضاء بالحصص أو يكفل به بعضهم ويقوم به فيسقط
عن الباقين.
وإذا لم يمت وكان في عزمه القضاء من غير توان ولحقه رمضان آخر
صام الثاني وقضى الأول ولا كفارة عليه، وإذا أخره توانيا صام الحاضر وقضى
الأول وتصدق عن كل يوم بمدين من طعام، فإن لم يقدر فبمد واحد.
وإن لم يبرأ حتى لحقه رمضان آخر صام الحاضر وتصدق عن الأول ولا
قضاء عليه.
وحكم ما زاد على رمضانين حكمهما سواء، وكل صوم وجب عليه فتوانى
عنه ومات تصدق عنه وليه أو يصوم عنه كذلك.
والعاجز عن الصيام نوعان: أحدهما يكفر [مع القضاء] 1)، والآخر
يكفر بلا قضاء.
فالأول: الحامل المقرب التي تخاف على الولد، والمرضعة القلية اللبن
مثل ذلك، ومن به عطاش يرجى زواله. فهؤلاء يكفرون ويفطرون وعليهم القضاء.
والثاني: الشيخ الكبير، والمرأة الكبيرة، ومن به عطاش لا يرجى زواله.
فهؤلاء عليهم كفارة بلا قضاء.
فصل
(في حكم المسافر في الصوم والصلاة)
قد بينا أن فرض المسافر بخلاف فرض الحاضر في الصلاة، وأما في الصوم

1) الزيادة ليست في النسختين ويستوجبها السياق فلاحظ.
294

فلا يجوز له أيضا في السفر، ومتى صام لم يجزه وكان عليه القضاء، سواء كان
الصوم شهر رمضان أو واجبا آخر بأحد الأسباب الموجبة لذلك على ما مضى،
إلا ما يكون نذر فيه أن يصوم مسافرا كان أو حاضرا فإنه يلزمه الوفاء به. وصوم
الثلاثة أيام لدم المتعة، لأنها تصام في ذي الحجة. وما عدا ذلك من أنواع
الصوم فلا يجوز في السفر، وإن صامه كان عليه القضاء.
هذا إذا جمع السفر شروطا ثلاثة: أحدها لا يكون قبيحا، والثاني أن يكون
يريد ثمانية فراسخ أربعة وعشرين ميلا، والثالث أن لا يكون ممن ذكرنا أنه يجب
عليه الصوم والتمام في السفر.
ومن شرط الافطار تبييت النية للسفر من الليل، فإن لم يبيتها وحدث له
رأي في السفر صام ذلك اليوم ولا قضاء عليه. وإن بيت النية من الليل ولم يتفق
له الخروج إلى بعد الزوال تمم وقضى ذلك اليوم.
ومن خرج إلى السفر لا يفطر حتى تتوارى عنه جدران بلده أو يخفى عليه
أذان مصره.
فصل
(في حكم الاعتكاف)
الاعتكاف في الشرع عبارة عن اللبث في مكان مخصوص للعبادة والمواضع
التي يصح الاعتكاف فيها أربعة: المسجد الحرام، ومسجد النبي عليه السلام،
ومسجد الكوفة، ومسجد البصرة.
ولا يصح الاعتكاف إلا بصوم ولا يكون أقل من ثلاثة أيام.
فإذا اعتكف فلا يجوز له أن يقرب النساء بجماع أو قبلة أو مباشرة
بشهوة، ويجتنب الطيب والجدال والمماراة، ويجتنب البيع والشراء ولا يخرج
295

من المسجد إلا لضرورة، ولا يمشي تحت الظلال مختارا، ولا يقعد في غير
المسجد الذي اعتكف فيه إلا بمكة فإنه يصلي أي موضع شاء منها.
وإذا مرض المعتكف أو حاضت المرأة خرجا من المسجد الذي اعتكفا
فيه، فإذا برء أعادا الاعتكاف والصوم.
ومتى جامع المعتكف نهارا لزمته كفارتان مثل ما يلزم المفطر في شهر
رمضان: إحداهما لأجل الصوم، والثانية لأجل الاعتكاف. وإن وطئ ليلا كان
عليه كفارة واحدة لحرمة الاعتكاف.
296

كتاب الحج
الحج في الشريعة عبارة عن قصد البيت الحرام لأداء مناسك مخصوصة
على وجه مخصوص في أزمان مخصوصة ممن كان على صفة مخصوصة.
وهو على ضربين: مفروض، ومسنون
والمفروض على ضربين: أحدهما يجب بأصل الشرع، وهي حجة الاسلام،
وهي واجبة على كل حر بالغ كامل العقل صحيح الجسم متمكن من الاستمساك
على الراحلة مخلى السرب من الموانع يمكنه المسير واجد الزاد و الراحلة
ولما يتركه من نفقة من يجب عليه نفقته على الاقتصاد ولما ينفقه على نفسه ذاهبا
وجائيا بالاقتصاد، ويبقى بعد ذلك ما يرجع إلى كفاية في معيشة أو صناعة أو
حرفة يرجع إليها.
ومتى اختل شئ من هذه الشروط فإنه لا يجب عليه الحج وإن كان مستحبا
له تكلفه والقيام به، غير أنه إذا فعله ثم تكاملت شروط وجوبه فلا بد له من
إعادة الحج.
ومن شرط صحة أدائها الاسلام وكمال العقل.
ومتى تكاملت هذه الشروط تجب في العمر مرة واحدة، وما زاد عليها فمستحب
مندوب إليه. وعند تكامل شروط الوجوب يجب على الفور والبدار دون
297

التراخي، غير أنه متى أخره ثم فعله كان مؤديا وإن فرط في التأخير.
وما يجب بالنذر أو العهد فهو بحسبهما إن كان واحدا فواحدا وإن كان
أكثر كان مثل ذلك، وإذا اجتمعت حجة الاسلام وحجة النذر فلا تجزي إحداهما
عن الأخرى إذا نذر حجة زائدة على حجة الاسلام، وإن نذر مطلقا أجزأ عنهما
حجة واحدة.
ولا يراعى في حجة المندوب الشروط التي راعيناها في حجة الاسلام، وإنما
يراعى الحرية وكمال العقل، وما عداه فبحسب شروطه.
فصل
(في ذكر أقسام الحج)
الحج على ثلاثة أقسام: تمتع بالعمرة إلى الحج، وقران، وإفراد.
فالتمتع هو فرض من نآ عن المسجد الحرام، وحده من كان بينه وبين
المسجد من كل جانب اثنا عشر ميلا، فلا يجوز لهؤلاء التمتع مع الامكان،
فإذا لم يمكنهم التمتع أجزأتهم الحجة المفردة أو القارنة.
ومن كان من أهل حاضري المسجد الحرام - وهو من كان بينه وبين
المسجد أقل من اثني عشر ميلا من أربع جوانبه - ففرضه القران والإفراد ولا
يجزيه التمتع بحال.
فسياقة أفعال التمتع الإحرام من الميقات مع الحج والتلبيات الأربع،
ويكون على تلبيته حتى يشاهد بيوت مكة، فإذا شاهدها قطع التلبية ودخل إليها
ودخل المسجد الحرام، فطاف بالبيت سبعا وصلى عند المقام ركعتين، ثم
يخرج إلى الصفا فيسعى بينهما سبعة أشواط. ثم يقصر من شعر رأسه، وقد
أحل من كل شئ أحرم منه.
ثم ينشئ إحراما آخر بالحج يوم التروية، ويمضي إلى منى فيبيت بها ليلة
298

عرفة، ويغدو منها إلى عرفات فيقف هناك إلى غروب الشمس، ويفيض منها
إلى المشعر الحرام فيصلي بها المغرب والعشاء الآخرة ويبيت بها إلى طلوع
الشمس أو الفجر، ويتوجه إلى منى ويقضي مناسكه يوم النحر بها على ما نبينه،
ويمضي إلى مكة فيطوف بالبيت طواف الزيارة ويصلي عند المقام ركعتين ويسعى
بين الصفا والمروة ثم يطوف طواف النساء، وقد أحل من كل شئ أحرم منه
وقد قضى مناسكه كلها للعمرة والحج وكان متمتعا، ثم يعود إلى منى فيقضي
بقية مناسكه من الرمي وغير ذلك إنشاء الله تعالى.
وأما القارن فهو الذي يحرم من الميقات ويقرن بإحرامه سياق الهدي ويمضي
إلى عرفات ويقف بها ويعود إلى المشعر فيقف بها [ويجئ منها يوم النحر فيقضي
مناسكه بها] 1) ثم يجئ إلى مكة فيطوف بالبيت ويصلي عند المقام ويسعى
بين الصفا والمروة ويطوف طواف النساء، وقد قضى مناسكه كلها الحج فحسب
دون العمرة.
والمفرد مثل ذلك إلا أنه لا يقرن بإحرامه سياق الهدي، وباقي المناسك
مما فيهما سواء، ويجددان التلبية عند كل طواف، ثم يخرج إلى التنعيم أو
أحد المواضع التي يحرم منها، فيحرم من هناك بالعمرة ويرجع إلى مكة فيطوف
بالبيت ويصلي عند المقام ويسعى بين الصفا والمروة، ثم يطوف طواف النساء
ويقصر من شعر رأسه وقد أدى عمرته، فتكون عمرته مفردة.
ونحن نبين فصلا فصلا من ذلك إنشاء الله تعالى.
فصل
(في ذكر المواقيت)
المواقيت التي يحرم منها ثلاثة:

1) الزيادة من ج.
299

منها: لأهل العراق يجمعها اسم العقيق، أولها المسلخ وأوسطها غمرة
وآخرها ذات عرق. وأفضلها الأول ودونها الأوسط وأدونها الأخير. ولا
يتجاوز ذات عرق إلا محرما، فإن تجاوز متعمدا لزمه الرجوع إليها، فإن لم
يمكنه بطل حجه، وإن تجاوزه ناسيا أو لعذر رجع مع الامكان، فإن لم يمكنه
أحرم من موضعه وقد أجزأه.
وميقات أهل المدينة ذو الحليفة، وهو مسجد الشجرة، وعند الضرورة
الجحفة، ولأهل الشام الجحفة وهي المهيعة، ولأهل الطائف قرن المنازل،
ولأهل اليمن يلملم.
ومن كان منزله وراء الميقات فميقاته منزله، ولا يجوز الإحرام قبل الميقات
وإن أحرم قبله لم ينعقد إحرامه.
فصل
(في الإحرام وكيفيته وشروطه)
الإحرام شرط في صحة الحج على ما قلناه، من تركه متعمدا فلا حج له،
ولا يصح الإحرام بالحج على اختلاف أنواعه إلا في أشهر الحج، وهي شوال
وذو القعدة وتسعة من ذي الحجة.
وأما الإحرام بالعمرة المفردة فيصح في سائر السنة أي وقت شاء.
والاحرام لا ينعقد إلا بالنية أولا والاستمرار عليها حكما.
ويستحب الغسل عند الإحرام، وإزالة الشعر والوسخ من بدنه إلا شعر
رأسه فإنه لا يمسه من أول ذي القعدة، ثم يصلي ويلبس ثوبي إحرامه، يأتزر
بأحدهما ويتردى بالآخر، ويصلي ركعتي الإحرام، وإن صلى ست ركعات
كان أفضل، وإن كان عقيب فريضة كان أفضل.
300

ثم يحرم عقيب الصلاة فيقول " اللهم إني أريد ما أمرت به من التمتع
بالعمرة إلى الحج على لسان نبيك ".
وإن كان مفردا أو قارنا ذكر ذلك في دعائه " أحرم لك شعري وبشري
وجلدي وعظامي من النساء والطيب وجميع ما نهيتني عنه في حال الإحرام
ابتغي بذلك وجهك والدار الآخرة، اللهم إن لم تكن حجة فعمرة ". وإن أضاف
إلى ذلك غيره من الدعاء كان أفضل.
ثم يلبي فرضا واجبا، فيقول " لبيك اللهم لبيك، لبيك إن الحمد والنعمة
لك والملك لا شريك لك لبيك، لبيك بحجة وعمرة أو حجة مفردة تمامها
عليك لبيك ". وإن أضاف إلى ذلك ألفاظا مروية من التلبيات كان أفضل.
والتلبية بها ينعقد الإحرام، ويقوم مقامها إشعار الهدي وتقليدها لمن كان
معه هدي، وهو أن يشعر سنامها ويلطخه بالدم ويعلق في رقبتها نعلا كان يصلي فيه.
والأخرس ينعقد إحرامه بالايماء.
وإذا عقد إحرامه ومشى خطوات رفع صوته بالتلبية، ويكون على التلبية
في كل وقت إلى أن يشاهد بيوت مكة إن كان متمتعا فعند ذلك يقطع التلبية
وإن كان معتمرا عمرة مفردة فحين تضع الإبل أخفافها في الحرم.
وينبغي أن يجتنب في إحرامه الطيب كله، وأكل طعام يكون فيه طيب،
ولا يلبس مخيطا، وأن يكشف رأسه ومحمله، ولا يتزين بزينة، ولا يصيد ولا
يأكل لحم صيد، ولا يقتل صيدا، ولا يدل على صيد، ولا يدهن بشئ من الأدهان
طيبا وغير طيب، ولا يتزوج ولا يزوج ولا يجامع ولا يباشر النساء بشهوة ولا
يلمسهن ولا يقبلهن، ويكون ثيابه مما تجوز الصلاة فيها وأفضلها القطن المحض
ولا يقتل الجراد، ولا يرتمس في الماء.
والمرأة تسفر عن وجهها، ويجوز لها لبس المخيط.
301

ولا يقطع شجرا نبت في الحرم، ولا يكسر بيض صيد،
ولا يأكل منه، ولا يذبح فرخا، ولا يلبس الخفين، ولا ما يستر القدم، ويجتنب
الفسوق وهو الكذب، والجدال وهو قول " لا والله " و " بلى والله "، والرفث
وهو الجماع، ولا ينحي عن نفسه شيئا من القمل، ولا يقبض على أنفه من
رائحة كريهة، ولا يقص شيئا من شعره ولا أظفاره، ولا يلبس سلاحا إلا عند
الضرورة.
ويكره له لبس الثياب المصبوغة المشبعة والنوم عليها، ولبس الثياب المعلمة
ولبس حلي لم تجر عادته بلبسه، ولا للمرأة لبسه. ويكره استعمال الحلي
والكحل، ولا تلتفت المرأة، ولا ينظر في المرآة، ولا يحك جسمه حكا يدميه
ويكره له دخول الحمام.
وما يلزم من الكفارة لمخالفة ذلك قد بيناه في النهاية وغيره من كتبنا
لا نطول بذكره.
فما يلزمه من الكفارات في إحرامه بالحج على اختلاف ضروبه فلا ينحره
إلا بمنى، وما يلزمه في إحرام العمرة المفردة لا ينحره إلا بمكة قبالة البيت
بالحزورة.
ويلزم المحل في الحرم القيمة، والمحرم في الحل الجزاء، والمحرم
في الحرم الجزاء والقيمة، حسب ما بيناه في النهاية.
والجماع إن كان بالفرج قبل الوقوف بالمشعر فإنه يفسد الحج ويجب
عليه إتمامه والحج من قابل، وإن كان بعد الوقوف بالمشعر أو كان فيما دون
الفرج كان عليه الكفارة ولا يلزمه الحج من قابل. ومن فعل ذلك في العمرة
المفردة تممها وكان عليه قضاؤها من الشهر الداخل.
302

فصل
(في دخول مكة والطواف بالبيت)
يستحب الغسل عند دخول الحرم، وتطييب الفم بمضغ شئ من الأذخر
أو غيره.
وإذا أراد دخول مكة اغتسل أيضا منه، ويكون دخوله من أعلاها، ويمشي
حافيا على سكينة ووقار.
ويستحب أيضا الغسل عند دخول المسجد الحرام، وأن يدخل من باب
بني شيبة، ويصلي على النبي عليه السلام عند الباب ويدعو بما أراد، وإن دعا
بما روي فيه كان أفضل، ويكون حافيا.
فإذا أراد الطواف فينبغي أن يبتدئ أولا بالحجر الأسود، ويطوف سبعة
أشواط ويكون على طهر، ويستحب أن يستلم الحجر في كل شوط ويقبله إن
أمكنه، وإلا مسه بيده وقبل يده، وإن لم يمكنه أومأ بيده إليه، ويدعو عند
الاستلام، ويدعو عند الطواف، ويقرأ القرآن، ويلزم المستجار، ويضع
خده وبطنه عليه ويدعو عنده. ويستحب أيضا استلام الأركان كلها وخاصة
الركن اليماني.
ومتى فرغ من الطواف على ما قدمناه صلى عند المقام ركعتين أو حيث
يقرب منه. ومن زاد في طواف الفريضة عامدا أعاد، وإذا شك فلا يدري كم
طاف أعاد، وإن شك بين الستة والسبعة والثمانية أعاد، ومن نقص طوافه
ثم ذكر أتمه ولا شئ عليه، فإن رجع إلى بلده أمر من يطوف عنه ذلك،
ومن شك بين السبعة والثمانية قطع الطواف ولا شئ عليه، ومن شك فيما دون
السبعة في النافلة بنى على الأقل، ومن زاد في النافلة أتم أسبوعين.
303

ويكره الجمع بين طوافين في الفريضة، ويجوز ذلك في النوافل. والأفضل
كلما طاف سبعا أن يصلي عند المقام ركعتين ثم يطوف كذلك على ما شاء على
هذا الترتيب.
فصل
(في السعي وأحكامه)
إذا فرغ من طوافه ينبغي أن يخرج إلى الصفا.
فإذا أراد الخروج إلى السعي بين الصفا والمروة فينبغي أولا أن يستلم
الحجر ويقبله وينصرف فيأتي زمزم ويشرب من مائه ويصب شيئا منه على بدنه
ويجتهد أن يكون ذلك من الدلو المقابل للحجر، وليخرج من الباب المقابل
للحجر، ثم ليصعد إلى الصفا ويستقبل الكعبة ويقول " لا إله إلا الله وحده لا
شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير
وهو على كل شئ قدير "، ويدعو الله ويحمده ويصلي على النبي صلى الله
عليه وآله.
ثم يطوف بين الصفا والمروة سبع مرات، يبدأ بالصفا ويختم بالمروة،
فإذا بلغ إلى المسعى فليسع فيه مهرولا راكبا كان أو ماشيا، وذلك على الرجال
دون النساء، والمشي أفضل من الركوب.
وكلما جاء إلى المروة وقف عندها ويدعو الله، وكذلك إذا عاد إلى
الصفا مثل ذلك، ويدعو فيما بينهما ويقرأ القرآن، والأفضل أن يكون على
طهر وليس ذلك من شرطه.
ومن زاد في السعي شوطا متعمدا أعاد، ومن سعى ثمان مرات ناسيا وهو
عند المروة أعاد لأنه بدأ بالمروة، ومن لا يدري كم سعى أعاد، ومن زاد شوطا
304

وقد بدأ بالصفا طرح الزيادة، وإن أتم أسبوعين كان جائزا، ومن سعى تسع
مرات وهو عند المروة لم يعد، ومن نقص شوطا أو ما زاد عليه ثم ذكر تمم
ولم يعد.
فإذا فرغ من السعي قصر من شعر رأسه ولحيته أو يقص أظفاره ولا يحلق
رأسه في هذا الإحلال فإن حلقه كان عليه دم ويمر الموسى على رأسه يوم
النحر، وإن نسي التقصير حتى يحرم بالحج كان عليه دم.
فإذا فعل ذلك فقد أحل من كل شئ أحرم منه إلا الصيد لكونه في الحرم
ويستحب له أن يتشبه بالمحرمين ولا يلبس المخيط.
فصل
(في ذكر الإحرام بالحج)
إذا أراد الإحرام بالحج فينبغي أن يكون ذلك يوم التروية عند الزوال،
فإن لم يمكنه أحرم في الوقت الذي يعلم أنه يلحق الوقوف بعرفات.
وكيفية الإحرام وشروطه وأفعاله مثل ما قدمناه في إحرام العمرة سواء،
غير أنه يذكر في دعائه الحج فقط فإن العمرة قد مضت.
ويقطع التلبية يوم عرفة عند الزوال، فإن سها أحرم بالعمرة أجزأه ذلك
بالنية إذا أتى بأفعال الحج، فإن نسي الإحرام حتى يحصل بعرفات أحرم بها،
فإن لم يذكر حتى يقضي المناسك كلها لم يكن عليه شئ.
فصل
(في نزول منى وعرفات والمشعر)
يستحب للإمام أن يصلي الظهر والعصر يوم التروية بمنى، ومن عداه لا
305

يخرج من مكة حتى يصلي الظهر والعصر بها.
وينبغي للإمام أن لا يخرج من منى إلا بعد طلوع الشمس من يوم عرفة،
وغير الإمام يجوز له الخروج بعد طلوع الفجر، ويجوز للعليل والكبير الخروج
قبل ذلك.
ويستحب الدعاء في طريق عرفات، وينبغي أن يصلي الظهر والعصر
بعرفات يجمع بينهما بأذان واحد وإقامتين، ويقف إلى غروب الشمس يدعو
الله ويثني عليه و يصلي على النبي صلى الله عليه وآله ويدعو لنفسه ولاخوانه
المؤمنين.
وينبغي أن يكون نزوله ببطن عرفة ولا يقف تحت الأراك.
فإذا غابت الشمس أفاض منها إلى المشعر، فإن أفاض قبل ذلك متعمدا
لزمه دم بدنة، ولا يصلي المغرب والعشاء الآخرة إلا بالمشعر الحرام، ويبيت
بها تلك الليلة في الدعاء وقراءة القرآن.
ويستحب للصرورة أن يطأ المشعر.
ولا يجوز للإمام أن يخرج من المشعر الحرام إلا بعد طلوع الشمس،
وغير الإمام يجوز له بعد طلوع الفجر، غير أنه لا يجوز وادي محسر إلا بعد
طلوع الشمس.
ومن خرج قبل طلوع الفجر مختارا لزمه دم شاة، ورخص في ذلك
للمرأة والخائف والمضطر الخروج قبل طلوع الفجر.
ويستحب السعي في وادي محسر.
فصل
(في نزول منى والمناسك بها)
أول ما يبدأ الحاج بمنى يوم النحر أن يرمي جمرة العليا بسبع حصيات،
306

يرميهن حذفا يضع كل حصاة على باطن إبهامه ويدفعها بظفر سبابته. وينبغي أن
يلتقط الحصى ولا يكسرها، ويستحب أن تكون برشا، ولا يرمي بغير حصاة، وإن
كان على طهارة فهو أفضل، ويجوز الرمي على غير وضوء.
ويرمي الجمرة من قبل وجهها، وينبغي أن يكون بينه وبين الجمرة عشرة
أذرع إلى خمسة عشر ذراعا، ويدعو عند الرمي فيقول " اللهم هذه حصياتي
فاحصهن لي وزدهن في عملي "، ولا يجوز أقل من سبع.
فإذا فرغ من ذلك ذبح الهدي إن كان متمتعا وهو واجب عليه، وإن كان
قارنا أو مفردا استحب له أن يضحي
. ومن شرط الهدي إن كان من البدن أن يكون إناثا، ويكون ثنيا فما فوقه،
وهو ما تم له خمس سنين ودخل في السادسة، وإن كان من البقر يكون أنثى
ويكون ثنيا وهو الذي دخل في السنة الثانية، وإن كان من الغنم يكون فحلا من
الضأن يمشي في سواد وينظر في سواد ويبرك في سواد، فإن لم يجد من الضأن
جاز التيس من المعزى.
ولا يجوز ناقص الخلقة، ومع الاختيار لا يجزي واحد إلا عن واحد، وعند
الضرورة يجزي واحد عن خمسة وعن سبعة وعن سبعين، وينبغي أن يكون مما
قد عرف به.
ولا يجوز ذبحه إلا بمنى، ويستحب أن يتولى ذبحه بيده، وإلا جعل يده
مع يد الذابح ويقول " وجهت وجهي " 1) إلى آخر الآية، ويقسمه ثلاثة أقسام:
قسم يأكله، وقسم يهديه، وقسم يتصدق به. وإن كان نائبا عن غيره ذكره عند
الذبح، وإن نوى عنه ولم يذكره أجزأه.
وإن لم يجد الهدي ووجد ثمنه خلف ثمنه عند الثقات ليشتريه ويذبح عنه

1) سورة الأنعام: 84.
307

في بقية ذي الحجة، ومتى عجز عن ثمنه صام بدله ثلا ث أيام [في الحج يوم
التروية ويوم عرفة، فإن فاته صام ثلاثة أيام] 1) بعد انقضاء أيام التشريق، وإن
خرج من مكة صام ثلاثة أيام في الطريق في ذي الحجة والسبعة إذا وصل إلى
أهله، فإن أقام بمكة صبر شهرا ثم صام السبعة أيام.
والأضحية قد ذكرنا أنه مسنونة شديدة الاستحباب، وشروطها شروط الهدي
سواء. ويجوز ذبح الهدي طول ذي الحجة، والأضحية يجوز ذبحها بمنى
يوم النحر وثلاثة أيام بعده، فإذا مضت فقد فات وقت الأضحية، وفي الأمصار
يوم النحر ويومان بعده فإذا خرجت فقد فات وقتها.
وإن كان وجب عليه هدي في كفارة أو نذر وكان حاجا ذبحه بمنى وإن
كان معتمرا ذبحه بمكة، ولا يأكل من هدي الكفارة ولا يخرجه من مكة ولا
يدخره إلا أن يقيم عوضه فيتصدق به، ويجوز ذلك في هدي التمتع والأضحية.
فإذا فرغ من الذبح حلق رأسه، وإن كان صرورة لا يجوز غير الحلق، وغير
الصرورة يجزيه التقصير والحلق أفضل، فإن نسي حتى خرج من منى رجع
إليها وحلق بها، فإن لم يمكنه حلق موضعه وبعث شعره إلى منى ليدفن هناك فإن
لم يمكنه دفن مكانه. وليس على النساء حلق ويجزيهن التقصير. ويأمر الحلاق ليبدأ
بناصيته فيحلق رأسه إلى الأذنين، ويدعو عند الحلق فيقول " اللهم اعطني بكل
شعرة نورا يوم القيامة ".
فإذا فرغ من الحلق مضى من يومه إلى مكة لزيارة البيت وطواف الحج.
فإن لم يفعل مضى من الغد ولا يؤخر أكثر من ذلك مع الاختيار، وإن كان مفردا
أو قارنا جاز له تأخيره إلى بعد انقضاء أيام التشريق.
فإذا جاء إلى مكة فعل عند دخول المسجد والطواف مثل ما فعله يوم قدم
مكة سواء، ويطوف أسبوعا ويصلي ركعتين عند المقام، ثم يخرج إلى الصفا

1) الزيادة ليست في ر.
308

فيسعى بينه وبين المروة سبع مرات كما فعل أول مرة سواء، فإذا فعل ذلك
فقد أحل من كل شئ أحرم منه إلا النساء، ثم يطوف طواف النساء أسبوعا آخر
ويصلي ركعتين عند المقام، وقد حلت له أيضا النساء.
فإذا فرغ من ذلك عاد إلى منى وأقام بها أيام التشريق ولا يبيت ليالي منى
إلا بها، فإن بات بغيرها كان عليه عن كل ليلة شاة، ويرمي كل يوم من أيام التشريق
ثلاث جمار بإحدى وعشرين حصاة كل جمرة بسبع حصيات على ما وصفناه
سواء، يبدأ بالجمرة الأولى ويرميها عن يسارها ويكبر ويدعو عندها، ثم الجمرة
الثانية ثم الثالثة مثل ذلك سواء، ولا يقف عندها.
ويجوز أن ينفر في النفر الأول وهو اليوم الثاني من أيام التشريق، فإذا
أراد ذلك دفن حصاه يوم الثالث، ومن فاته رمي يوم قضاه من الغد بكرة ويرمي
ما لذلك اليوم عند الزوال. ومن نسي رمي الجمار حتى جاء إلى مكة عاد إلى
منى ورماها، فإن لم يذكر فلا شئ عليه.
وينبغي أن يرتب الرمي، يبدأ بالجمرة العظمى أولا ثم بالوسطى ثم بجمرة
العقبة، فإن رماها منكوسة أعاد. ويجوز الرمي عن العليل وعن المغمى عليه
عن الصبي.
وينبغي أن يكبر عقيب خمس عشرة صلاة بمنى، أولها صلاة الظهر يوم النحر
وآخرها الفجر من اليوم الثالث من أيام التشريق، وفي الأمصار عقيب عشر
صلوات، أولها الظهر من يوم النحر وآخرها صلاة الفجر من اليوم الثاني من
أيام التشريق.
ولا ينفر في النفر الأول إلا بعد الزوال، وفي الثانية يجوز قبل الزوال،
ولا يجوز للإمام أن ينفر في النفر الأول.
ويستحب أن يعود إلى مكة لوداع البيت وطواف الوداع، ويدخل في
309

طريقه مسجد الحصبة ويستلقي فيه على قفاه ويصلي فيه، وكذلك مسجد الخيف
وهو مسجد منى.
ويستحب للصرورة 1) دخول الكعبة، والصلاة في أربع زواياها وبين
الأسطوانتين وعلى الرخامة الحمراء، وغير الصرورة يجوز له أن لا يدخلها.
ولا يبصق ولا يتمخط إذا دخلها.
فإذا أراد الخروج من مكة ودع البيت وخرج من باب الحناطين، ويسجد
في باب المسجد، ويدعو مستقبل الكعبة.
وينبغي أن يشتري بدرهم تمرا ويتصدق به ليكون جبرانا لما لعله دخل
عليه من تقصير في إحرامه.
فصل
(في العمرة المفردة)
العمرة فريضة مثل الحج، وشرائط وجوب الحج.
وعمرة الاسلام مرة واحدة، وما يجب بالنذر والعهد فبحسبهما.
ومتى تمتع بالحج سقط عنه فرضها، وإن حج قارنا أو مفردا أتى بالعمرة
بعد الفراغ من مناسك الحج إلى التنعيم أو مسجد علي بن الحسين أو مسجد
عائشة، يحرم من هناك ويعود إلى مكة فيطوف بالبيت ويصلي عند المقام ويسعى
بين الصفا والمروة ويقصر من شعر رأسه ثم يطوف طواف النساء، وقد أحل
من كل شئ أحرم منه.
وتجوز العمرة في كل شهر، وأقله في كل عشرة أيام.

1) وهو الذي يحج لأول مرة.
310

فصل
(في ذكر مناسك النساء)
الحج واجب على النساء كوجوبه على الرجال، وشروط وجوبه عليهن
مثل شروط وجوبه على الرجال سواء بلا زيادة ولا نقصان.
وليس من شرط وجوبه عليهن وجود محرم، ولا طاعة للزوج على
المرأة في حجة الاسلام، ويجوز لها خلافه. ولا يجوز لها حج التطوع إلا
بإذنه.
وكلما يلزم الرجال بالنذر من الحج والعمرة يلزم مثله النساء.
ويستحب أن لا تخرج إلا مع محرم أو زوج، فإن لم تجد خرجت مع
ثقات المؤمنين.
وإن حاضت وقت الإحرام فعلت ما يفعله المحرم وتؤخر الصلاة والغسل
ومتى حاضت قبل طواف العمرة وفاتها ذلك بطلت متعتها وجعلت حجة مفردة
وتقضي العمرة فيما بعد، فإن حاضت في حال الطواف وكانت طافت أربعة
أشواط تركت بقية الطواف وقضتها بعد ذلك وتسعى وتقصر وقد تم متعتها،
وإن طافت ثلاثة أشواط أو أقل فقد بطلت متعتها فتجعلها حجة مفردة.
ومتى خافت من الحيض عند عودها جاز لها تقديم طواف الحج وطواف
النساء قبل الخروج إلى عرفات.
والمستحاضة يجوز لها الطواف بالبيت إذا فعلت ما تفعله المستحاضة
وتصلي عند المقام.
والحائض إذا أرادت وداع البيت ودعت من باب المسجد ولا تدخله
على حال.
311

كتاب الجهاد
جهاد الكفار فرض في شرع الاسلام، وهو فرض على الكفاية إذا قام من
في قيامه كفاية سقط عن الباقين.
ولوجوبه شروط: أولها وجود إمام عادل أو من نصبه إمام عادل للجهاد
ويكون من وجب عليه ذكرا بالغا كامل العقل صحيح الجسم حرا، ولا يجوز
أن يكون شيخا ليس به نهضة ولا له قدر للجهاد.
ومتى اختل شرط من ذلك سقط فرضه، إلا ما كان على وجه دفع العدو
عن النفس أو الاسلام.
والمرابطة مستحبة، وحدها ثلاثة أيام إلى أربعين يوما، فإذا زاد على
ذلك كان جهادا. وتصير المرابطة واجبة بالنذر.
فصل
(فيمن يجاهد من الكفار)
كل من خالف الاسلام وأنكر الشهادتين وجب جهاده وقتاله.
312

ثم هم ينقسمون قسمين: أحدهما لا يرجع عنهم إلا أن يسلموا أو يقبلوا
الجزية ويلتزموا شرائط الذمة، وهم اليهود والنصارى والمجوس، وإذا قبلوا
الجزية وضعها الإمام على حسب ما يراه مصلحة في الحال ويراه أيضا في
حالهم من الغني والفقير، وليس لها حد محدود لا تجوز الزيادة عليه ولا
النقصان منه.
وهو مخير بين أن يضعها على رؤوسهم أو على أرضيهم، فإن وضعها على
رؤوسهم لم يتعرض لأرضيهم، وإن وضعها على أرضيهم لم يتعرض لرؤوسهم
إلا أن يقع الشرط أن يضع بعضها على أرضهم وبعضها على رؤوسهم. ومتى
وضعها على أرضهم فأسلموا سقطت عنهم الجزية وكانوا مثل المسلمين لزمهم
العشر أو نصف العشر وتكون أملاكا في أيديهم.
ومن وجبت عليه الجزية فأسلم سقطت عنه.
ولا تؤخذ الجزية من الصبيان والمجانين والبله والنساء وتؤخذ من الباقين.
وشرائط الذمة قبول الجزية، وترك التظاهر بأكل لحم الخنزير وشرب
الخمر والزنا ونكاح المحرمات، ومتى خالفوا شيئا من ذلك فقد خرجوا من
الذمة.
ومن عدا الثلاث فرق يجب قتالهم إلى أن يسلموا أو يقتلوا وتسبى ذراريهم
وتؤخذ أموالهم، ولا تؤخذ منهم الجزية بحال.
ولا يبدأ الكفار بالقتال حتى يدعوا إلى الاسلام من التوحيد والعدل
وإظهار الشهادتين والقيام بأركان الشريعة، فإن أبوا ذلك كله أو بعضه وجب
قتالهم.
وينبغي أن يكون الداعي الإمام أو من يأمره الإمام.
ويجوز قتال الكفار بسائر أنواع القتال إلا إلقاء السم في بلادهم فإن ذلك
313

مكروه لأن فيه هلاك من لا يجوز قتله من الصبيان والنساء والمجانين.
ومن أسلم في دار الحرب كان إسلامه حقنا لدمه وجميع ماله الذي يمكن
نقله إلى دار الاسلام، فأما ما لا يمكن نقله إلى دار الاسلام من العقارات والأرضين
فهو فئ للمسلمين. ويحكم على أولاده الصغار بالاسلام ولا يسترقون، فأما
البالغون فلهم حكم نفوسهم.
فصل
(في ذكر قسمة الغنيمة والفئ وكيفيتها)
(وحكم الأسرى)
كلما يؤخذ في دار الحرب يخرج منه الخمس فيكون لأربابه، والباقي على
ضربين: ما يمكن نقله إلى دار الاسلام فهو للقائم خاصة، وما لا يمكن نقله فهو
لجميع المسلمين.
والذراري والسبايا للمقاتلة أيضا خاصة، ويلحق بالذراري من لم ينبت،
ومن أنبت أو علم بلوغه ألحق بالرجال، والأربعة أخماس بين المقاتلة وكل من
حضر القتال قاتل أو لم يقاتل.
ويقسم الصبيان معهم، ومن يولد في تلك الحال قبل القسمة ومن لحق
بهم معينا لهم قسم لهم، فإن لحقوهم بعد القسمة فلا شئ لهم. وليس للأعراب
والعبيد شئ من الغنيمة.
وتقسم الغنيمة بين المقاتلة بالسوية لا يفضل بعضهم على بعض للشرف أو
العلم أو الزهد إلا الفارس على الراجل، فإن للفارس سهمين وللراجل سهما،
فإن كان معه أفراس جماعة فلم يسهم إلا لفرسين فقط. وما يغنم منهم في المراكب
قسم أيضا مثل ذلك للفارس سهمان وللراجل سهم.
314

والأسارى على ضربين: أحدهما يؤخذون والحرب قائمة، فهؤلاء الإمام
مخير فيهم بين أن يضرب رقابهم أو يقطع أيديهم وأرجلهم ويتركهم حتى
ينزفوا. والقسم الثاني يؤخذون بعد تقضي القتال، فالإمام مخير فيهم بين أن يمن
عليهم فيطلقهم أو يفاديهم إما بمال أو نفس أو يستعبدهم. ومن أسلم من الفريقين
كان حكمهم حكم المسلمين، غير أن من استرق منهم لا يصير حرا.
فصل
(في أحكام البغي)
الباغي هو كل من خرج على إمام عادل وشق عصاه، فإن على الإمام
أن يقاتلهم.
ويجب على كل من يستنهضه الإمام أن ينهض معه ويعاونه على قتالهم،
ولا يجوز لغير الإمام قتالهم بغير إذنه. فإذا قوتلوا لا يرجع عنهم إلا أن يفيئوا
إلى الحق أو يقتلوا، ولا يقبل منهم عوض ولا جزية.
والبغاة على ضربين: أحدهما من له رئيس يرجعون إليه، فهؤلاء يجوز
أن يجتاز على جراحاتهم ويتبع مدبرهم ويقتل أسيرهم. والآخر لا يكون لهم
فيه رئيس، فهؤلاء لا يجاز على جريحهم ولا يقتل أسيرهم.
ولا يجوز سبي ذراري الفريقين، ويغنم من أموالهم ما حواه العسكر، وما
لم يحوه فلا يتعرض له بحال.
والمحارب كل من أظهر السلاح وأخاف الناس، سواء كانوا في بر أو
بحر أو سفر أو حضر، فهؤلاء يجب قتالهم على وجه الدفع عن النفس والمال
فإن أدى إلى قتلهم لم يكن على القاتل شئ.
315

واللص محارب، وتفصيل ذلك بيناه في النهاية والمبسوط لا نطول
بذكره ههنا.
* * *
قد امتثلت ما رسمه الشيخ الأجل أطال الله بقاه من ذكر جل في كل باب
ولم أطول القول فيه فيمله ويشق عليه، ولا قصرت في الاتيان بما يجب معرفته.
وذكرت جملة من العبادات لا بد معرفتها ليقع العمل بحسبها، ولم
أطنب القول فيه، فإن كتبي في الفقه مشروحة كالنهاية وغيرها، ومتى وقع
نشاط لما زاد على القدر رجع إليها.
وأرجو أن يكون ذلك موافقا لغرضه ملائما لإيثاره، والله تعالى المشكور
على ما وفق من خدمته والمسارعة على امتثال مرسومه، وهو حسبي ونعم الوكيل.
والحمد لله رب العالمين، وصلاته على محمد وآله الطاهرين.
316