الكتاب: تذكرة الفقهاء (ط.ج)
المؤلف: العلامة الحلي
الجزء: ١٤
الوفاة: ٧٢٦
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: شوال ١٤٢٥
المطبعة: ستاره - قم
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث - قم
ردمك: ٩٦٤-٣١٩-٢٢٤-٥
ملاحظات: ٩٦٤-٥٥٠٣-٣٣-٧ (٢٠ Vols.)

137
تذكرة الفقهاء
تأليف
العلامة الحلي
الحسن بن يوسف بن المطهر
المتوفى سنة 726 ه‍
الجزء الرابع عشر
تحقيق
مؤسسة آل البيت عليهم السلام لاحياء التراث
1

BP العلامة الحلي الحسن بن يوسف 648 - 726 ق
182 تذكرة الفقهاء / تأليف العلامة الحلي الحسن بن يوسف بن المطهر،
4 ت 8 ع / تحقيق مؤسسة آل البيت عليهم السلام لاحياء التراث. - قم: مؤسسة آل البيت
1374 عليهم السلام لاحياء التراث، 1416 ق = 1374 ش.
20 ج، نموذج
المصادر بالهوامش.
1. الفقه الجعفري - القرن 8. ألف. مؤسسة آل البيت عليهم السلام
لاحياء التراث. ب. العنوان.
شابك (ردمك) 7 - 33 - 5503 - 694 احتمالا 20 جزءا
ISBN 964 - 5503 - 33 - 7 / 20 VOLS.
شابك (ردمك) 3 - 435 - 319 - 694 / ج 14
ISBN 964 - 319 - 435 - 3 / VOL. 14
الكتاب: تذكرة الفقهاء / ج 14
المؤلف: العلامة الحلي
تحقيق ونشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لاحياء التراث - قم
التصوير الفني (الزينگغراف): تيزهوش - قم
الطبعة: الأولى - ربيع الثاني - 1423 ه‍
المطبعة: ستارة - قم
الكمية: 3000 نسخة
السعر: 1100 ريال
2

بسم الله الرحمن الرحيم
3

جميع الحقوق محفوظة ومسجلة
لمؤسسة آل البيت - عليهم السلام - لاحياء التراث
مؤسسة آل البيت - عليهم السلام - لاحياء التراث
قم - دور شهر (خيابان شهيد فاطمي) كوچه 9 - پلاك 5
ص. ب. 996 / 37158 - هاتف 4 - 7730001
4

المقصد الثالث: في التفليس
وفيه فصول:
الأول: المفلس من ذهب خيار ماله وبقي دونه، وصار ماله فلوسا
زيوفا.
والإفلاس مأخوذ من الفلوس. وقولهم: أفلس الرجل، كقولهم:
أخبث، أي: صار أصحابه خبثاء؛ لأن ماله صار فلوسا وزيوفا، ولم يبق له
مال خطير، وكقولهم: أذل الرجل، أي: صار إلى حالة يذل فيها. وكذا
أفلس، أي: صار إلى حالة يقال فيها: ليس معه فلس، أو يقال: لم يبق معه
إلا الفلوس، أو كقولهم: أسهل الرجل وأحزن: إذا وصل إلى السهل
والحزن؛ لأنه انتهى أمره وما صرفه إلى الفلوس.
والأصل أن المفلس في العرف هو الذي لا مال له ولا ما يدفع به
حاجته، ولهذا لما قال النبي (صلى الله عليه وآله): " أتدرون من المفلس؟ " قالوا:
يا رسول الله المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال: " ليس ذلك
المفلس، ولكن المفلس من يأتي يوم القيامة حسناته أمثال الجبال ويأتي
5

وقد ظلم هذا وأخذ من عرض هذا فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته،
فإن بقي عليه شيء أخذ من سيئاتهم فيرد عليه ثم صل في النار " (1).
هذا في عرف اللغة، وأما في الشرع فقيل: من عليه الديون بحيث
لا يفي بها ماله (2). وشمل من لا مال له ألبتة، ومن له مال قاصر.
وسمي مفلسا وإن كان ذا مال؛ لأن ماله يستحق الصرف في جهة
دينه، فكأنه معدوم، وقد دل عليه تفسير النبي (صلى الله عليه وآله): مفلس الآخرة، فإنه
أخبر أن له حسنات كالجبال لكنها دون ما عليه، فقسمت بين الغرماء، فبقي
لا حسنة له. ومثل هذا الرجل يجوز للحاكم الحجر عليه بشرائط تأتي.
وهذا التعريف شامل لمن قصر ماله ومن لا مال له، فيحجر عليه في
المتجدد باحتطاب وشبهه.
والفلس سبب في الحجر بشروط خمسة: المديونية، وثبوت الديون
عند الحاكم، وحلولها، وقصور ما في يده عنها، والتماس الغرماء أو
بعضهم الحجر عليه.
مسألة 258: إذا حجر الحاكم عليه، ثبت حكمان:
[أحدهما] (3): تعلق الدين بماله وإن تجددت المالية بعد الحجر حتى
لا ينفذ تصرفه فيه بما يضر الغرماء ولا تزاحمها الديون الحادثة.
والثاني: أن من وجد عند المفلس عين ماله كان أحق به من غيره.
ولو مات مفلسا قبل أن يحجر عليه، تعلقت الديون بالتركة [و] (4)
لا فرق بين المفلس وغيره.

(1) أورده ابنا قدامة في المغني والشرح الكبير 4: 492 بتفاوت يسير في بعض
الألفاظ، وبمعناه في صحيح مسلم 4: 1997 / 2581، وسنن الترمذي 4:
613 / 2418.
(2) العزيز شرح الوجيز 5: 3، روضة الطالبين 3: 362.
(3 و 4) ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.
6

وهل يختص الغريم بعين ماله؟ الأقرب: أن له الرجوع إن كان ما
تركه المفلس يفي بالديون، وإن قصر فلا.
وقال أبو حنيفة: ليس للحاكم أن يحجر عليه، فإن أدى اجتهاده إلى
الحجر عليه وفعل وأمضاه حاكم، ثبت الحجر، وليس له التصرف في ماله،
إلا أن المبيع الذي يكون في يده يكون أسوة الغرماء، وليس للبائع الرجوع
فيه (1).
وهو خطأ؛ فإن النبي (صلى الله عليه وآله) حجر على معاذ.
قال عبد الرحمن بن كعب (2): كان معاذ بن جبل من أفضل شباب
قومه [و] (3) لم يكن يمسك شيئا، فلم يزل يدان حتى أغرق ماله في الدين،
فكلم النبي (صلى الله عليه وآله) غرماءه، فلو ترك أحد من أجل أحد لترك معاذ من أجل
النبي (صلى الله عليه وآله)، فباع لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ماله حتى قام معاذ بغير شيء (4).
قيل: إنما لم يترك [الغرماء] (5) لمعاذ حين [كلمهم] (6) النبي (صلى الله عليه وآله)؛
لأنهم كانوا يهودا (7).
مسألة 259: إذا مات المفلس ووجد البائع عين ماله، فقد نقلنا

(1) الهداية - للمرغيناني - 3: 285 و 287، العزيز شرح الوجيز 5: 4، المغني 4:
494 و 529، الشرح الكبير 4: 500 و 593.
(2) في المصادر - ما عدا المغني -: " كعب بن مالك " لا " عبد الرحمن بن كعب ".
(3) ما بين المعقوفين من المصدر.
(4) سنن البيهقي 6: 48، المستدرك - للحاكم - 3: 273، المصنف - لعبد الرزاق -
8: 268 / 15177، المغني 4: 493 و 530، الشرح الكبير 4: 495.
(5) ما بين المعقوفين من المصدر.
(6) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطية والحجرية: " كلموا ". وما أثبتناه من
المصدر، وهو الموافق لما في بقية المصادر المذكورة في الهامش (4).
(7) المغني 4: 493.
7

الخلاف فيه، وقلنا: إنه لا يختص به البائع إلا مع الوفاء، وبه قال مالك (1)،
خلافا للشافعي وأحمد (2).
وذلك لأن الميت قد انقطع تحصيله ولا ذمة له، فلو خصصنا البائع
بسلعته مع عدم وفاء التركة بالديون، كان إضرارا بباقي الديان؛ لحصول
اليأس من استيفاء الحق منه، فوجب اشتراك جميع الديان في جميع التركة؛
عملا بالعدل.
ولأن الأصل عدم الرجوع؛ لانتقال العين إلى المفلس بالشراء، ترك
العمل به في صورة الحي؛ للإجماع والنص، فيبقى الباقي على حكم
الأصل.
ولما رواه العامة من قول النبي (صلى الله عليه وآله): " أيما رجل باع متاعا فأفلس
الذي ابتاعه ولم يقبض البائع من ثمنه شيئا فوجده بعينه، فهو أحق به، وإن
مات فهو أسوة الغرماء " (3).
ومن طريق الخاصة: ما رواه أبو ولاد - في الصحيح - عن الصادق (عليه السلام)،
قال: سألته عن رجل باع من رجل متاعا إلى سنة فمات المشتري قبل أن
يحل ماله وأصاب البائع متاعه بعينه، له أن يأخذه إذا تحقق له؟ قال: فقال:

(1) المدونة الكبرى 5: 237، بداية المجتهد 2: 288، المعونة 2: 1186، الكافي
في فقه أهل المدينة: 418، المغني 4: 547 - 548، الشرح الكبير 4: 508،
الحاوي الكبير 6: 273، التهذيب - للبغوي - 4: 86، العزيز شرح الوجيز 5: 3.
(2) المهذب - للشيرازي - 1: 334، الحاوي الكبير 6: 273، الوسيط 4: 20،
العزيز شرح الوجيز 5: 3، روضة الطالبين 3: 363، بداية المجتهد 2: 288،
المغني 4: 548، الشرح الكبير 4: 508، وفي الأخيرين قول أحمد على العكس،
لا ما نسب إليه في المتن، وأما المنسوب إليه فهو في " العزيز شرح الوجيز "
فلاحظ.
(3) سنن أبي داود 3: 286 - 287 / 3520 و 3522.
8

" إن كان عليه دين وترك نحوا مما عليه فيأخذ إن تحقق له، ولو لم يترك
نحوا من دينه فإن صاحب المتاع كواحد ممن له عليه شيء، يأخذ بحصته،
ولا سبيل له على المتاع " (1).
إذا عرفت هذا، فاعلم أن أكثر الشافعية ذهبوا إلى أنه إذا مات وخلف
وفاء، لم يكن لصاحب السلعة الرجوع فيها (2).
وقال بعضهم: إن له أن يرجع فيها إذا مات المشتري وخلف وفاء (3)،
كما ذهبنا إليه؛ لما قلناه من حديث (4) أبي هريرة، وما رويناه من طريق
الخاصة عن الصادق (عليه السلام).
ولأن قبض ثمن السلعة من التركة لا يستقر؛ لأنه ربما ظهر غريم آخر
فيلزمه رد بعض ما أخذه أو كله.
واحتج الشافعي: بأن ماله يفي بقضاء ديونه، فلم يكن لصاحب
السلعة الرجوع فيها، كما لو كان حيا (5).
والفرق ظاهر؛ فإن الحي يرجع إلى ذمته لو خرج المقبوض مستحقا،
بخلاف الميت.
واعلم أن الشافعي رد على مالك - حيث لم يجوز له الرجوع بعين
المال بعد موت المفلس -: قد جعلتم للورثة أكثر مما للموروث الذي عنه (6)

(1) التهذيب 6: 193 / 421، الاستبصار 3: 8 / 20.
(2 و 3) العزيز شرح الوجيز 5: 5، روضة الطالبين 3: 363، المغني 4: 548،
الشرح الكبير 4: 508.
(4) تقدم تخريجه في ص 8، الهامش (3).
(5) المهذب - للشيرازي - 1: 334، العزيز شرح الوجيز 5: 5، روضة الطالبين 3: 363.
(6) في النسخ الخطية والحجرية بدل " عنه ": " عليه ". والصحيح ما أثبتناه كما في
المصدر.
9

ملكوا، وأكثر حال الوارث أن لا يكون له إلا ما للميت (1).
وقد اعترضه المزني بأنه قال في الحبس: إذا هلك أهله رجع إلى
أقرب الناس بالمحبس. فجعل لأقرب الناس بالمحبس [في حياته]
ما لم يجعل للمحبس (2).
وأجيب عن كلام المزني: بأن الواقف إذا وقف وقفا منقطعا هل
يصح؟ قولان، فإن قلنا: يصح، فإنه يرجع إذا انقرض الموقوف عليهم إلى
الفقراء من أقارب الواقف، لا على سبيل الميراث عنه، وإنما جعله صدقة،
وسبيل الصدقة الفقراء والمساكين، فجعل أقارب الواقف أولى من غيرهم،
فأما الواقف فلا ترجع إليه صدقته؛ لأنه لا يكون متصدقا على نفسه، وفي
مسألتنا هذه جعل حق الورثة آكد من حق مورثهم، فاختلفا (3).
مسألة 260: المنع من التصرف يفتقر إلى حكم الحاكم بالحجر
إجماعا، فلو لم يحجر عليه الحاكم، نفذت تصرفات المفلس بأسرها،
وليس للغرماء منعه من شيء منها إلا بعد حجر الحاكم عليه.
أما الرجوع إلى عين المبيع أو عين القرض أو غير ذلك من أمواله
التي هي معوضات الديون فهل يفتقر صاحبها إلى سبق الحجر كمنع
التصرف أم لا؟ فيه إشكال ينشأ: من قوله (عليه السلام): " أيما رجل مات أو أفلس
فصاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه " (4) - الذي رواه العامة - أثبت
الأحقية بمجرد الإفلاس، ومن طريق الخاصة: رواية الكاظم (عليه السلام) وقد سأله

(1 و 2) مختصر المزني: 102، وما بين المعقوفين من المصدر.
(3) راجع: الحاوي الكبير 6: 274.
(4) المستدرك - للحاكم - 2: 51، سنن ابن ماجة 2: 790 / 2360، سنن الدار قطني
3: 29 / 107، العزيز شرح الوجيز 5: 5.
10

عمر بن يزيد عن الرجل يركبه الدين فيوجد متاع رجل عنده بعينه، قال:
" لا يحاصه الغرماء " (1) ولم يشرط في ذلك الحجر، ومن أنه مال انتقل إليه
بعقد شرعي، فلا يخرج عنه إلا بوجه شرعي، ولا وجه إلا الحجر، فإنه
يمنعه من التصرف فيه، فيتحقق حينئذ أولوية البائع والمقرض وغيرهما
بعين أموالهم.
على أن الأحقية في حديث العامة لا تقتضي الأخذ بدون الحجر،
فيجوز أن يكون " أحق " على معنى أن له التمكن من الرجوع إلى عينه
بسلوك الأسباب المفضية إليه، ومن جملتها: طلب الحجر، والإفلاس يفيد
الأحقية.
وكذا في حديث الكاظم (عليه السلام) في قوله: " لا يحاصه الغرماء " فإنه
لا يقتضي جواز الأخذ من غير حجر.

(1) التهذيب 6: 193 / 420، الاستبصار 3: 8 / 19.
11

الفصل الثاني: في شرائط الحجر عليه
قد ذكرنا (1) أن الشرائط خمسة: المديونية - ولا بد منه؛ فإن من
لا دين عليه لا يجوز الحجر عليه، غنيا كان أو فقيرا - مع بلوغه ورشده
وعدم سفهه، فلو حجر عليه الحاكم، كان لغوا. ولو استدان بعد ذلك،
لم يمنع من الاستدانة، وكذا لا يمنع من سائر التصرفات، ولا يؤثر الحجر
في منعه من التصرف فيما اكتسبه من الأموال. ولأن سؤال الغرماء شرط (2)
في الحجر، فلا يتحقق من دون الدين.
مسألة 261: من شرائط الحجر قصور أموال المديون عن الديون، فلو
ساوت الديون أو فضلت عنها، لم يجز الحجر عند علمائنا - وهو أحد
قولي الشافعي - لأصالة عدم الحجر، ورفع اليد عن العاقل، ثبت خلافه
فيما إذا قصرت أمواله عن ديونه حفظا لأموال الغرماء، فبقي الباقي على
الأصل. ولأن الغرماء يمكنهم المطالبة بحقوقهم واستيفاؤها في الحال.
والثاني له: الحجر إذا ظهرت عليه أمارات الفلس (3).
وهو ممنوع؛ لأن في ماله وفاء ديونه، فلم يحجر عليه، كما لو
لم تظهر أمارات الفلس.

(1) في ص 6.
(2) هذا هو الشرط الخامس كما يأتي في ص 20، المسألة 267.
(3) التهذيب - للبغوي - 4: 85، العزيز شرح الوجيز 5: 7 - 8، روضة الطالبين 3:
365.
13

وقال أبو حنيفة: لا يجوز الحجر مطلقا، بل يحبس الغريم أبدا إلى أن
يقضيه (1).
فروع:
أ - لا فرق عندنا في المنع من الحجر مع وفاء ماله بديونه بين أن
تظهر عليه أمارات الفلس - مثل أن تكون نفقته من رأس ماله، أو يكون
ما في يده بإزاء دينه ولا وجه لنفقته إلا ما في يده - أو لا تظهر بأن تكون
نفقته في كسبه أو ربح رأس ماله، خلافا للشافعي (2).
ب - إذا كان ماله يفي بديونه، لم يحجر عليه إجماعا، بل يطالب
بالديون، فإن قضاها، وإلا تخير الحاكم مع طلب أربابها منه بين حبسه إلى
أن يقضي المال، وبين أن يبيع متاعه عليه، ويقضى به الدين، وبه قال
الشافعي (3)، خلافا لأبي حنيفة حيث أوجب الحبس، ومنع من البيع (4).
ج - إذا رفع الغرماء الغريم إلى الحاكم وسألوه الحجر عليه، لم يجبهم
إلى ذلك حتى تثبت عنده الديون وقصور أمواله، فينظر في ماله هل يفي
بديونه أم لا؟ فينظر مقدار ما عليه من الديون ويقوم ماله بذلك؟

(1) المبسوط - للسرخسي - 24: 163، الهداية - للمرغيناني - 3: 285، المغني 4:
529 - 530.
(2) المهذب - للشيرازي - 1: 328، الحاوي الكبير 6: 265، التهذيب - للبغوي -
4: 85، حلية العلماء 4: 488 - 489، العزيز شرح الوجيز 5: 7 - 8، روضة
الطالبين 3: 365.
(3) حلية العلماء 4: 484، العزيز شرح الوجيز 5: 18، روضة الطالبين 3: 372.
(4) المبسوط - للسرخسي - 24: 164 و 165، الهداية - للمرغيناني - 3: 285،
المغني 4: 529 - 530، حلية العلماء 4: 485، العزيز شرح الوجيز 5: 18.
14

د - معوضات الديون والأعيان التي أثمانها عليه تقوم من جملة أمواله
- وهو أحد قولي الشافعية (1) - لأن أصحابها بالخيار بين أن يرجعوا وبين أن
لا يرجعوا ويطالبوه بالثمن.
وفي الثاني: لا تقوم؛ لأن لأربابها الرجوع فيها، فلا تحسب أثمانها
عليه ولا يقومها مع ماله (2).
وما قلناه أقوى.
ه‍ - قد قلنا: إنه إذا كان في أمواله وفاء لديونه، لم يحجر عليه.
وللشافعي قول آخر: إنه يحجر عليه مع ظهور أمارات الفلس،
فحينئذ - على قوله - هل يكون لمن وجد متاعه بعينه أن يرجع فيه؟ له
وجهان:
أحدهما: له ذلك؛ لقوله (عليه السلام): " فصاحب المتاع أحق بمتاعه " (3)
ولم يفصل. ولأن الحجر موجود.
والثاني: ليس له الرجوع فيها؛ لأنه يصل إلى ثمنها من مال المشتري
من غير تبرع الغرماء، فلم يكن له الرجوع في العين، كما قبل الحجر (4).
و - لو لم يكن له مال ألبتة، ففي جواز الحجر عليه إشكال ينشأ: من
عدم فائدة الحجر، وهي التحفظ بما في يده عن الإتلاف، ومن الاكتفاء
بمجرد الدين لجواز الحجر منعا له من التصرف فيما عساه يتجدد في ملكه
باصطياد واتهاب وظفر بركاز وغيرها.
مسألة 262: من شرائط الحجر ثبوت الدين عند الحاكم؛ لأن المتولي

(1 و 2) العزيز شرح الوجيز 5: 8، روضة الطالبين 3: 366.
(3) تقدم تخريجه في ص 10، الهامش (4).
(4) الحاوي الكبير 6: 265 - 266، حلية العلماء 4: 488 - 489، العزيز شرح
الوجيز 5: 7 - 8، روضة الطالبين 3: 365 - 366.
15

للحجر الحاكم، وليس له الحجر مجانا بقول من كان، بل ما لم تثبت الديون
- إما بالبينة أو بالإقرار - لم يجز له الحجر.
مسألة 263: ومن الشرائط كون الديون حالة، فلو كانت مؤجلة،
لم يجز الحجر بها، سواء كان ماله يفي بها أو لا؛ لأنه ليس لهم المطالبة في
الحال، وربما يجد الوفاء عند توجه المطالبة، فلا تعجل عقوبته بمنعه من
التصرف.
ولو كان البعض حالا والباقي مؤجلا، فإن وفت أمواله بالديون
الحالة، فلا حجر؛ لعدم اعتبار الديون المؤجلة. وإن قصرت عنها، وجب
الحجر.
وإذا حجر عليه بالديون الحالة، لم تحل عليه الديون المؤجلة - وهو
أصح قولي الشافعية، واختاره المزني وأحمد في إحدى الروايتين (1) - لأن
المقصود من التأجيل التخفيف ليكتسب في مدة الأجل ما يقضي به الدين،
وهذا المقصود غير ثابت، بخلاف الميت؛ فإن توقع الاكتساب منه قد بطل.
ولأنه دين مؤجل على حي، فلا يحل قبل أجله، كغير المفلس، بخلاف
الميت؛ فإن ذمته قد بطلت.
والثاني للشافعي: أنها تحل - وبه قال مالك وأحمد في الرواية
الأخرى - لأن الإفلاس سبب في تعلق الدين بالمال، فأسقط الأجل،
كالموت (2).

(1) التنبيه: 102، التهذيب - للبغوي - 4: 100، حلية العلماء 4: 494، الوجيز
1: 170، العزيز شرح الوجيز 5: 6، روضة الطالبين 3: 364، المغني 4: 525،
الشرح الكبير 4: 543.
(2) التنبيه: 102، التهذيب - للبغوي - 4: 100، حلية العلماء 4: 494، العزيز
شرح الوجيز 5: 6، روضة الطالبين 3: 364، المدونة الكبرى 5: 235، بداية
المجتهد 2: 286، الذخيرة 8: 172، المغني 4: 525، الشرح الكبير 4: 543.
16

وقد مر الفرق.
ورتب بعض الشافعية هذين القولين على القولين في أن من عليه
الدين المؤجل لو جن هل يحل الأجل؟ وأن الحلول في صورة الجنون
أولى؛ لأن المجنون لا استقلال له كالميت، ووليه ينوب عنه كما ينوب
الوارث عن الميت (1).
ورأى الجويني الترتيب بالعكس أولى؛ لأن ولي المجنون له أن يبتاع
له بثمن مؤجل عند ظهور المصلحة، فإذا لم يمنع الجنون التأجيل ابتداء
فلأن لا يقطع الأجل دواما كان أولى (2).
وعندنا أن الجنون لا يوجب الحلول.
مسألة 264: إنما يقسم الحاكم أمواله على الديون الحالة خاصة على
ما اخترناه من عدم حلول المؤجلة، فيبيع أمواله ويقسمها على الحالة
بالنسبة، ولا يدخر شيئا لأصحاب الديون المؤجلة، ولا يدام الحجر بعد
القسمة لأصحاب الديون المؤجلة، كما لا يحجر بها ابتداء، وهو أحد قولي
الشافعي.
وفي الآخر: أنها تحل الديون المؤجلة، فيقسم المال بين أصحاب
هذه الديون والديون الحالة ابتداء، كما لو مات (3).
وإن كان في الديون المؤجلة ما كان ثمن مبيع وهو قائم عند المفلس،
فلصاحبه الرجوع إلى عين ماله - عنده (4) - كما لو كان حالا ابتداء.

(1 و 2) العزيز شرح الوجيز 5: 6.
(3 و 4) العزيز شرح الوجيز 5: 7، روضة الطالبين 3: 365.
17

وقال بعض الشافعية: فائدة الحلول أن لا يتعلق بذلك المتاع حق غير
بائعه، ويكون محفوظا إلى مضي المدة، فإن وجد المفلس وفاء فذلك،
وإلا فحينئذ يفسخ (1).
وقيل: لا يفسخ حينئذ أيضا، بل لو باع بثمن مؤجل وحل الأجل ثم
أفلس المشتري وحجر عليه، فليس للبائع الفسخ والرجوع إلى المبيع؛ لأن
البيع بالثمن المؤجل يقطع حق البائع عن المبيع بالكلية، ولهذا [لا] (2) يثبت
فيه حق الحبس للبائع (3).
والأصح عندهم: الأول (4).
وقال أحمد: يكون موقوفا إلى أن يحل الدين، فيفسخ البائع إن شاء،
أو يترك (5).
مسألة 265: لو اشترى بعد الحجر عليه أمتعة بأثمان مؤجلة أو حالة،
دخلت في البيع في قضاء الديون، كسائر أموال المفلس؛ لأنه ملكها بالبيع،
فكانت كغيرها، وليس لبائعها تعلق بها؛ لأنه لا مطالبة له في الحال إن كانت
مؤجلة على ما اخترناه من عدم حلول المؤجل بالحجر، وهو أصح وجهي
الشافعية على القول بعدم الحلول.
والثاني: أنها لا تباع، فإنها كالمرهونة بحقوق بائعها، بل توقف إلى
انقضاء الأجل، فإن انقضى والحجر باق، يثبت حق الفسخ. وإن أطلق،
فكذلك ولا حاجة إلى إعادة الحجر، بل عزلها وانتظار الأجل كإبقاء الحجر

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 7، روضة الطالبين 3: 365.
(2) ما بين المعقوفين أضفناه من " العزيز شرح الوجيز ".
(3 و 4) العزيز شرح الوجيز 5: 7، روضة الطالبين 3: 365.
(5) المغني 4: 523، الشرح الكبير 4: 533 - 534.
18

بالإضافة إلى المبيع (1).
وعلى ما اخترناه من جواز بيعها لو لم يتفق بيعها وقسمتها حتى حل
الأجل، فالأقرب: جواز الفسخ الآن.
وللشافعية وجهان (2).
ولو اشتراها بثمن حال، كان لصاحبها الاختصاص أو الضرب بالثمن
مع الجهل، ومع العلم الصبر. ويحتمل الضرب. وكذا المقرض.
ونقل الجويني وجها آخر فيما إذا كان الثمن مؤجلا: أنه لا بد من
إعادة الحجر ليثبت حق الفسخ (3).
ولو لم يكن عليه إلا ديون مؤجلة وطلب أصحابها الحجر، لم يجابوا
- وهو أصح وجهي الشافعية (4) - لأن طلب الحجر فرع طلب الدين وعسر
تخليصه فلا يتقدم عليه.
والثاني: نعم؛ لأنهم يتوسلون به إلى الحلول أو (5) المطالبة (6).
مسألة 266: قد ذكرنا أنه يشترط كون الديون زائدة على قدر ماله،
فلو كانت مساوية والرجل كسوب ينفق من كسبه، فلا حجر وإن ظهرت
أمارات الإفلاس.
وقد تقدم (7) أن للشافعي وجهين فيما إذا ظهرت أمارات الإفلاس.
ويجري الوجهان فيما إذا كانت الديون أقل وكانت بحيث يغلب على

(1 و 2) العزيز شرح الوجيز 5: 7، روضة الطالبين 3: 365.
(3 و 4) العزيز شرح الوجيز 5: 7.
(5) في النسخ الخطية والحجرية: " و " بدل " أو ". وما أثبتناه كما في المصدر.
(6) العزيز شرح الوجيز 5: 7.
(7) في ص 12، ضمن المسألة 261، وص 14، الفرع " أ ".
19

الظن انتهاؤها إلى حد المساواة، ومنه إلى الزيادة؛ لكثرة النفقة. وهذه
الصورة عندهم أولى بالمنع (1).
وإذا حجرنا في صورة المساواة، فهل لمن وجد عين ماله عند
المفلس الرجوع؟ فيه وجهان:
أحدهما: نعم؛ لإطلاق الحديث (2).
والثاني: لا؛ لتمكنه من استيفاء الثمن بتمامه (3).
وهل تدخل هذه الأعيان في حساب أمواله وأثمانها في حساب
ديونه؟ فيه - عندهم - وجهان (4).
وقال بعضهم: إن الوجهين مبنيان على الوجهين في جواز الرجوع في
الصورة السابقة إن لم نثبت الرجوع، أدخلت (5) رجاء الوفاء. وإن أثبتناه فلا (6).
وهذا كله ساقط عندنا، وقد عرفت مذهبنا فيه، وأن الحجر إنما يثبت
مع القصور، لا مع المساواة.
مسألة 267: يشترط في الحجر التماس الغرماء من الحاكم ذلك،
وليس للحاكم أن يتولى ذلك من غير طلبهم؛ لأنه حق لهم، وهو لمصلحة
الغرماء والمفلس وهم ناظرون لأنفسهم لا يحكم الحاكم عليهم.
نعم، لو كانت الديون لمن للحاكم عليه ولاية، كان له الحجر؛ لأنه

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 8، روضة الطالبين 3: 365 - 366.
(2) تقدم تخريجه في ص 10، الهامش (4).
(3) حلية العلماء 4: 489 - 490، العزيز شرح الوجيز 5: 8، روضة الطالبين 3:
366.
(4) العزيز شرح الوجيز 5: 8، روضة الطالبين 3: 366.
(5) أي الأعيان في الأموال والأثمان في الديون.
(6) العزيز شرح الوجيز 5: 8.
20

الغريم في الحقيقة، فله التماس ذلك من نفسه وفعله، كما لو كانت الديون
لمجانين أو أطفال أو لمحجور عليهم بالسفه وكان وليهم الحاكم، تولاه
القاضي لمصلحتهم من غير التماس.
فروع:
أ - لو كان الدين للغياب، لم يحجر عليه الحاكم؛ لأن الحاكم
لا يستوفي ما للغياب في الذمم، بل يحفظ أعيان أموالهم.
ب - لو التمس بعض الغرماء الحجر دون بعض، فإن كانت ديون
الملتمسين قدرا يجوز الحجر بها، حجر عليه لذلك القدر، وأجيبوا إلى
ذلك، ثم لا يختص الحجر بهم، بل يعم أثره الجميع.
وإن لم تكن ديونهم زائدة على أمواله، فالأقرب: جواز الحجر،
ولا ينتظر التماس الباقين؛ لئلا يضيع على الملتمس ماله [بتكاسل] (1)
غيره.
ويحتمل العدم، وهو أظهر الوجهين عند الشافعية (2).
ج - لو لم يلتمس أحد من الغرماء الحجر فالتمسه المفلس، فالأقرب
عندي: جواز الحجر عليه؛ لأن في الحجر مصلحة للمفلس، كما فيه
مصلحة للغرماء، وكما أجبنا الغرماء إلى تحصيل ملتمسهم حفظا لحقوقهم،
كذا يجب أن يجاب المفلس تحصيلا لحقه، وهو حفظ أموال الغرماء ليسلم
من المطالبة والإثم، وإذا تحقق ثبوت غرض للمفلس صحيح في الحجر
عليه، أجيب إليه، وقد روي أن حجر النبي (صلى الله عليه وآله) على معاذ كان بالتماس

(1) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطية والحجرية: " بتكامل ". وذاك تصحيف.
(2) العزيز شرح الوجيز 5: 6.
21

من معاذ دون طلب الغرماء (1)، وهو أحد وجهي الشافعي. والثاني:
لايجاب المفلس إليه؛ لأن الحرية والرشد ينافيان الحجر، وإنما يصار إلى
الحجر إذا حقت طلبة الغرماء (2).

(1) كما في العزيز شرح الوجيز 5: 6.
(2) العزيز شرح الوجيز 5: 6، روضة الطالبين 3: 364.
22

الفصل الثالث: في أحكام الحجر
إذا حجر الحاكم على المديون، ثبتت أحكام أربعة: منعه من التصرف
في ماله، وبيع ماله للقسمة على الديون، واختصاص صاحب العين بها،
وحبسه إلى ثبوت إعساره. فهنا مباحث أربعة:
البحث الأول: في منعه من التصرف.
مسألة 268: يستحب للحاكم الإعلام بالحجر، والنداء على المفلس،
ويشهد الحاكم عليه بأنه قد حجر عليه والإعلان بذلك بحيث لا يستضر
معاملوه. فإذا حجر عليه، منعه من التصرف المبتدأ في المال الموجود عند
الحجر بعوض أو غيره، سواء ساوى العوض أو قصر.
والتصرف قسمان: إما أن يصادف المال أو لا، والأول إما إنشاء أو
إقرار.
والأول ضربان: ما يصادف المال إما بتحصيل ما ليس بحاصل،
كالاصطياد والاحتطاب وقبول الوصية، وهذا لا يمنع منه إجماعا؛ لأن
الغرض من الحجر منعه مما يتضرر به الغرماء. وإما تفويت ما هو حاصل،
فإن تعلق بما بعد الموت - كالتدبير والوصية - صح، فإن حصل زيادة على
الديون، نفذت الوصية، وإلا بطلت. وإن كان غير متعلق بالموت، فإما أن
يكون مورده عين مال أو ما في الذمة. وإما أن لا يكون تصرفه مصادفا
للمال، فلا بد من البحث عن هذه الأقسام بعون الله تعالى.
23

مسألة 269: كل تصرف للمفلس غير مصادف للمال فإنه لا يمنع منه؛
لكماليته، وعدم المانع من التصرف فيما تصرف فيه حيث لم يك مالا،
وذلك كالنكاح، ولا يمنع منه. وأما مؤونة النكاح فسيأتي إن شاء الله تعالى.
وكذا الطلاق لا يمنع منه؛ لأن تصرفه هذا لم يصادف مالا، بل هو
إسقاط ما يجب عليه من المال، فكان أولى بالجواز، وإذا صح منه الطلاق
مجانا، كان صحة الخلع - الذي هو في الحقيقة طلاق بعوض - أولى
بالجواز.
وكذا يصح منه استيفاء القصاص؛ لأنه ليس تصرفا في المال،
ولا يجب عليه قبول الدية وإن بذل الجاني؛ لأن القصاص شرع للتشفي
ودفع الفساد، والدية إنما تثبت صلحا، وليس واجبا عليه تحصيل المال
بإسقاط حقه.
وكذا له العفو عن القصاص مجانا بغير عوض. أما لو وجبت له الدية
بالأصالة - كما في جناية الخطأ - فإنه ليس له إسقاطها؛ لأنه بمنزلة الإبراء
من الدين.
وكذا له استلحاق النسب؛ إذ ليس ذلك تصرفا في المال وإن وجبت
المؤونة ضمنا. وكذا له نفيه باللعان.
وكذا لا يمنع من تحصيل المال بغير عوض، كالاحتطاب وشبهه،
وقد سلف (1).
مسألة 270: لو صادف تصرفه عين مال بالإتلاف إما بمعاوضة كالبيع
والإجارة، أو بغير معاوضة كالهبة والعتق والكتابة، أو بالمنع من الانتفاع

(1) في ص 23، ضمن المسألة 268.
24

كالرهن، قال الشيخ (رحمه الله): يبطل تصرفه (1). وهو أصح قولي الشافعي - وبه
قال مالك والمزني - لأنه محجور عليه بحكم الحاكم، فوجب أن لا يصح
تصرفه، كما لو كان سفيها. ولأن أمواله قد تعلق بها حق الغرماء، فأشبهت
تعلق [حق] (2) المرتهن. ولأن هذه التصرفات غير نافذة في الحال إجماعا،
فلا تكون نافذة فيما بعد؛ لعدم الموجب.
والقول الثاني للشافعي: إن هذه التصرفات لا تقع باطلة في نفسها،
بل تكون موقوفة، فإن فضل ما تصرف به عن الدين إما لارتفاع سعر أو
لإبراء بعض المستحقين، نفذ، وإلا بان أنه كان لغوا؛ لأنه محجور عليه
بحق الغرماء، فلا يقع تصرفه باطلا في أصله، كالمريض (3).
وهذا القول لا بأس به عندي، والأول أقوى.
والفرق بينه وبين المريض ظاهر؛ فإن المريض غير محجور عليه،
ولهذا لو صرف المال في ملاذه ومأكله ومشروبه، لم يمنع منه، بخلاف
صورة النزاع.
مسألة 271: إن قلنا ببطلان التصرفات، فلا بحث. وإن قلنا: إنها تقع
موقوفة، فإن فضل ما تصرف فيه وانفك الحجر، ففي نفوذه للشافعي
قولان (4).
وإذا لم يف بديونه، نقضنا الأخف فالأخف من التصرفات، ونبدأ

(1) الخلاف 3: 269، المسألة 11.
(2) ما بين المعقوفين أضفناه من " العزيز شرح الوجيز ".
(3) التهذيب - للبغوي - 4: 100، حلية العلماء 4: 490 - 491، العزيز شرح
الوجيز 5: 9، روضة الطالبين 3: 366 - 367، المغني 4: 530، الشرح الكبير
4: 501.
(4) العزيز شرح الوجيز 5: 9.
25

بالهبة فننقضها؛ لأنها تمليك من غير بدل، فإن لم يف، نقضنا البيع،
بخلاف الوقف والعتق؛ لأن البيع يلحقه الفسخ، فإن لم يف، رددنا العتق
والوقف.
قال بعضهم: هذه التصرفات على الترتيب، فالعتق أولى بالنفوذ؛
لقبوله الوقف وتعلقه بالإقرار، وتليه الكتابة؛ لما فيها من المعاوضة، ثم
البيع والهبة؛ لأنهما لا يقبلان التعليق (1).
واختلفوا في محل القولين:
فقال بعضهم: إنهما مقصوران على ما إذا اقتصر الحاكم على الحجر،
ولم يجعل ماله لغرمائه حيث وجدوه، فإن فعل ذلك، لم ينفذ تصرفه قولا
واحدا.
وقال آخرون: إنهما مطردان في الحالين، وهو الأشهر عندهم.
فعلى هذا هل تجب الزكاة عليه؟ فعلى الأول لا تجب، وعلى الثاني
تجب ما دام ملكه باقيا (2).
وقول الشافعي: " لا زكاة عليه " محمول عند هؤلاء على ما إذا باع
المفلس ماله من الغرماء (3).
مسألة 272: إذا قلنا بأنه تنفذ تصرفاته بعد الحجر، وجب تأخير ما
تصرف فيه، وقضي الدين من غيره فربما يفضل، فإن لم يفضل، نقضنا من
تصرفاته الأضعف فالأضعف على ما تقدم، ويؤخر العتق كما قلناه.
فإن لم يوجد راغب في أموال المفلس إلا في العبد المعتق، والتمس
الغرماء من الحاكم بيعه ليقبضوا حقهم معجلا، فالأقرب: إجابتهم إلى ذلك،

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 9.
(2 و 3) العزيز شرح الوجيز 5: 9، روضة الطالبين 3: 367.
26

وإلا لزم أحد الضررين: إما تضرر الغرماء بالصبر، وليس واجبا، وإما تضرر
المفلس والغرماء معا لو بيعت أمواله بالرخص.
وقال بعض الشافعية: يحتمل أن ينقض من تصرفاته الأخير فالأخير،
كما في تبرعات المريض إذا زادت على الثلث (1).
وهو حسن لا بأس به عندي.
فلو وقعت دفعة، احتمل القرعة.
ولو أجاز الغرماء بعض التصرفات، نفذ قطعا، سواء كان سابقا أو
لاحقا، وسواء كان عتقا أو غيره.
هذا إذا باع من غير الغرماء، ولو باع منهم، فسيأتي.
مسألة 273: تصرفاته الواردة على ما في الذمة صحيحة، كما لو
اشترى بثمن في الذمة، أو باع طعاما سلفا، صح، ويثبت في ذمته، وهو
أظهر مذهبي الشافعي.
والثاني: أنه لا يصح شراؤه، كالسفيه (2).
والأول أقوى؛ لوجود المقتضي، وهو صدور العقد من أهله في
محله، سالما عن معارضة منع حق الغرماء؛ لأنه لم يرد إلا على أعيان
أمواله. وكذا لو اقترض.
وليس للبائع فسخ البيع، سواء كان عالما بالحجر أو جاهلا به؛ لأن
التفريط من جهته حيث أهمل الاحتياط في السؤال عن حالة معامله.
إذا ثبت هذا، فإن هذه المتجددات وشبهها من الاحتطاب وغيره
تدخل تحت الحجر.

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 9 - 10، روضة الطالبين 3: 367.
(2) العزيز شرح الوجيز 5: 10، روضة الطالبين 3: 368.
27

مسألة 274: لو باعه عبدا بثمن في ذمته بشرط الإعتاق، فإن أبطلنا
جميع التصرفات - سواء وردت على عين المال أو في الذمة - فالأقوى:
بطلان البيع؛ لأنه تصرف في المال وإن كان في الذمة.
وإن قلنا بالصحة فيما يكون مورده الذمة على ما اخترناه، صح البيع
والعتق معا، ويكون العتق موقوفا، فإن قصر المال، احتمل صرفه في
الدين، لا رجوعه إلى البائع.
والأقوى عندي صحة عتقه في الحال.
ولو وهب بشرط الثواب ثم أفلس، لم يكن له إسقاط الثواب.
مسألة 275: لو أقر بدين، فإما أن يكون قد أقر بدين لزمه وأضافه إلى
ما قبل الحجر إما من معاملة أو قرض أو إتلاف، أو أقر بدين لاحق بعد
الحجر.
فالأول يلزمه ما أقر به؛ لأن الحجر ثبت عليه لحق غيره، فلا يمنع
صحة إقراره.
وهل يشارك المقر له الغرماء بمجرد إضافة إقراره إلى سبب سابق؟
الأقرب: ذلك؛ لأنه عاقل، فينفذ إقراره؛ لعموم قوله (عليه السلام): " إقرار العقلاء
على أنفسهم جائز " (1) وعموم الخبر (2) في قسمة ماله بين غرمائه، وهو
أصح قولي الشافعي، وبه قال ابن المنذر (3).
قال الشافعي: وبه أقول (4).

(1) لم نعثر عليه في المصادر الحديثية.
(2) تقدم تخريجه في ص 7، الهامش (4).
(3) الحاوي الكبير 6: 321، التهذيب - للبغوي - 4: 103، العزيز شرح الوجيز 5:
10، روضة الطالبين 3: 368، المغني 4: 531، الشرح الكبير 4: 501.
(4) الأم 3: 210، مختصر المزني: 104.
28

وقال: لو كان المفلس قصارا أو صائغا وأفلس وحجر عليه وعنده
ثياب الناس وحليهم، أيقال: لا يقبل قوله في رد أموال الناس؟ (1).
ولأن هذا دين ثابت عليه مضاف - بقوله - إلى ما قبل الحجر، فوجب
أن يشارك صاحبه الغرماء، كما لو ثبت بالبينة، وبالقياس على ما إذا أقر
المريض بدين يزاحم المقر له غرماء الصحة.
والقول الثاني للشافعي: إنه لا يقبل في حق الغرماء - وبه قال مالك
وأحمد ومحمد بن الحسن - لأن حق الغرماء تعلق بما له من المال، وفي
القبول إضرار بهم بمزاحمته إياهم. ولأنه متهم في هذا الإقرار، فلا يسقط
به حق الغرماء المتعلق بماله، كما لو أقر بما رهنه، فحينئذ لا يشارك
المقر له الغرماء، بل يأخذ ما فضل عنهم (2).
وتمنع التهمة؛ لأن ضرر الإقرار في حقه أكثر منه في حق الغرماء،
فلا تهمة فيه، فإن الظاهر من حال الإنسان أنه لا يقر بدين عليه وليس عليه
دين.
مسألة 276: لو أقر بدين لاحق بعد الحجر وأسنده إلى ما بعد الحجر،
فإن كان قد لزمه باختيار صاحبه - كالبيع والقرض وغيرهما من المعاملات
المتجددة بعد الحجر - فإنه يكون في ذمته، ولا يشارك المقر له الغرماء؛
لأن صاحب المال رضي بذلك إن علم أنه مفلس، وإن لم يعلم، فقد فرط
في ذلك.
وإن كان قد لزمه عن غير رضا صاحبه - كما لو أتلف عليه مالا أو
جنى عليه جناية - فالأقرب: أنه يقبل في حق الغرماء، كما لو أسند الدين

(1) الأم 3: 210.
(2) نفس المصادر في الهامش (3) من ص 28.
29

إلى [سبب] (1) سابق على الحجر؛ لأن حقه ثبت بغير اختياره، وهو أصح
طريقي الشافعية (2).
لا يقال: لم لا قدم حقه على حق الغرماء كما قدم حق المجني عليه
على حق المرتهن؟
لأنا نقول: الفرق أن الجناية لا محل لها سوى الرهن، والدين متعلق
بالرهن والذمة، فقد اختص بالعين، وفي مسألتنا الدينان متعلقان بالذمة
فاستويا. ولأن الجناية قد حصلت من الرهن الذي علقه به صاحبه، فقدمت
الجناية كما تقدم على حق صاحبه، وهنا الجناية كانت من المفلس دون
المال، فافترقا.
ونظيره في حق المفلس أن يجني عبده، فيقدم على حق الغرماء.
والطريق الثاني: أنه كما لو قال: عن معاملة (3).
ولو أقر بدين ولم يسنده إلى ما قبل الحجر ولا إلى ما بعده، حمل
على الثاني، وجعل بمنزلة ما لو أسنده إلى ما بعد الحجر؛ لأصالة التأخر،
وعدم التعلق.
مسألة 277: لو أقر المفلس بعين من الأعيان - التي في يده - لرجل
وقال: غصبته منه أو استعرته أو أخذته سوما أو وديعة، فالأقرب: النفوذ،
ومضي الإقرار في حق الغرماء، كما لو أقر بدين سابق.
وللشافعي قولان، كالقولين في الإقرار بالدين السابق على الحجر (4).

(1) ما بين المعقوفين أضفناه لأجل السياق.
(2 و 3) العزيز شرح الوجيز 5: 10، روضة الطالبين 3: 368.
(4) التهذيب - للبغوي - 4: 103، العزيز شرح الوجيز 5: 11، روضة الطالبين 3:
369.
30

لكن الإقرار بالدين السابق على الحجر أثره أن يزاحم المقر له
الغرماء، وهنا يسلم المقر به على القول بالقبول، وعلى القول بعدمه إن
فضل، سلم العين إلى المقر له، وإلا غرم قيمتها بعد اليسار.
فإن كذبه المقر له، بطل إقراره، وقسمت العين بين الغرماء.
وكذا لو أقر بدين فكذبه المقر له، لم يسمع إقراره. ومع عدم قبول
إقراره بالعين إن فضلت، دفعت العين إلى المقر له قطعا، بخلاف البيع؛ فإن
فيه إشكالا.
وكذا الإشكال لو ادعى أجنبي شراء عين في يده من (1) قبل الحجر
فصدقه.
واعلم أن الفرق بين الإنشاءات حيث رددناها في الحال قطعا وقلنا:
الأصح أنه لا يحكم بنفوذها عند انفكاك الحجر أيضا، وبين الأقارير حيث
قبلناها في حق المفلس جزما وفي حق الغرماء على الأصح: أن مقصود
الحجر منعه من التصرف، فيناسبه إلغاء ما ينشئه، والإقرار إخبار عما
مضى، والحجر لا يسلب العبارة عنه.
مسألة 278: لو أقر بما يوجب القصاص عليه أو الحد، قبل، وأجري
عليه حكم إقراره، سواء أدى إلى التلف أو لا؛ لانتفاء التهمة. ولأنه عاقل
أقر بما يؤثر في حقه حكما، ولا مانع له؛ إذ المانع التصرف في المالية
وليس ثابتا، فثبت موجب إقراره.
ولو كان الإقرار بسرقة توجب القطع، قبل في القطع، وأما في
المسروق فكما لو أقر بمال، والقبول هنا أولى؛ لبعد الإقرار عن التهمة.

(1) في " ث ": " منه " بدل " من ".
31

ولو أقر بما يوجب القصاص فعفا المستحق على مال، فهو كإقرار
بدين جناية.
وقال بعض الشافعية: يقطع هنا بالقبول؛ لانتفاء التهمة (1).
مسألة 279: لو ادعى رجل على المفلس مالا لزمه قبل الحجر فأنكر
المفلس، فإن أقام المدعي بينة، ثبت حقه، وساوى الغرماء. وإن لم تكن
له بينة، كان على المفلس اليمين، فإن حلف، برأ، وسقطت الدعوى. وإن
نكل، ردت اليمين على المدعي، فإذا حلف، ثبت الدين.
وهل يشارك المدعي الغرماء؟ إن قلنا: إن النكول ورد اليمين كالبينة،
زاحم المدعي الغرماء، كما لو ثبت دينه بالبينة. وإن قلنا: إنه كالإقرار،
فكالقولين.
مسألة 280: لا خلاف في أن الحجر يتعلق بالمال الموجود للمفلس
حالة الحجر، وأما المتجدد بعده باصطياد أو اتهاب أو قبول وصية،
الأقرب: أن الحجر يتعدى إليه أيضا؛ لأن مقصود الحجر إيصال حقوق
المستحقين إليهم، وهذا لا يختص بالموجود عند الحجر، وهو أصح
وجهي الشافعية.
والثاني: أن الحجر لا يتعدى إلى المتجدد؛ لأن الحجر على المفلس
لقصر يده عن التصرف فيما عنده، فلا يتعدى إلى غيره، كما أن حجر
الراهن على نفسه في العين المرهونة لا يتعدى إلى غيرها (2).
إذا ثبت هذا، فإذا اشترى شيئا وقلنا بصحة شرائه، ففيه مثل هذا

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 11، روضة الطالبين 3: 369.
(2) الوسيط 4: 10، الوجيز 1: 170، العزيز شرح الوجيز 5: 12، روضة الطالبين
3: 369.
32

الخلاف.
وهل للبائع الخيار والتعلق بعين متاعه؟ الأقرب: العدم - وهو أحد
وجوه الشافعي (1) - لأنه إن (2) كان عالما، كان بمنزلة من اشترى معيبا يعلم
بعيبه. وإن كان جاهلا، فقد قصر بترك البحث مع سهولة الوقوف عليه؛ فإن
الحاكم يشهر أمر المحجور عليه بالنداء والإشهاد والإعلان.
والثاني: أن البائع إن كان عالما، فلا خيار له. وإن كان جاهلا، فله
الخيار، والرجوع إلى عين ماله.
والثالث: أن للبائع الخيار في الرجوع إلى عين ماله وإن كان عالما؛
لتعذر الوصول إلى الثمن (3).
وكذا المقرض.
ويقرب من هذا ما إذا باع من عبد بغير إذن مولاه وقلنا بصحة البيع،
فإن الثمن يتعلق بذمته يتبع به بعد العتق، فإن كان عالما، ففي ثبوت الخيار
وجهان (4).
وإن كان جاهلا، يثبت.
مسألة 281: إذا لم يثبت للبائع الرجوع في المبيع على المفلس
المحجور، فهل يزاحم الغرماء بالثمن؟ الأقرب: المنع؛ لأنه دين حادث
بعد الحجر برضا صاحبه، وكل ما هذا شأنه من الديون لا يزاحم مستحقها
الغرماء، بل إن فضل منهم شيء، أخذه، وإلا صبر إلى أن يجد مالا، وهو
أصح قولي الشافعي.

(1 و 3) الوسيط 4: 10، العزيز شرح الوجيز 5: 12 - 13، روضة الطالبين 3: 369.
(2) في النسخ الخطية والحجرية: " وإن ". والصحيح ما أثبتناه.
(4) الوجهان أيضا للشافعية، راجع: العزيز شرح الوجيز 5: 13.
33

والثاني: أنه يزاحم؛ لأنه وإن كان دينا جديدا فإنه في مقابلة ملك
جديد، فلما زاد المال جاز أن يزيد الدين، بخلاف الصداق الذي [لزمه] (1)
بنكاح بعد الفلس ودين ضمنه بعد الفلس، فإنه لا مقابل له هناك (2).
مسألة 282: أقسام ديون المفلس، الثابتة بعد الحجر ثلاثة:
أ: ما لزم باختيار مستحقه، فإن كان في مقابلته شيء - كثمن المبيع -
فقد ذكرنا الخلاف في أنه هل له المطالبة به أم لا؟ وإن لم يكن في مقابلته
شيء، فلا خلاف في أن مستحقه لا يضارب الغرماء، بل يصبر إلى فكاك
الحجر.
ب: ما لزم بغير اختيار المستحق، كأرش الجناية وغرامة الإتلاف،
وفيه وجهان:
[أحدهما:] أنه لا يضارب به؛ لتعلق حقوق الأولين بأعيان أمواله،
فصار كما لو جنى الراهن ولا مال له غير المرهون، لا يزاحم المجني عليه
المرتهن.
والثاني: أنه يضارب؛ لأنه لم يوجد منه تقصير، فيبعد تكليفه
الانتظار (3).
ج: ما يتجدد بسبب مؤونات المال، كأجرة الوزان والناقد والكيال
والحمال والمنادي والدلال وأجرة البيت الذي يحفظ فيه المتاع، فهذه
المؤن كلها مقدمة على ديون الغرماء؛ لأنها لمصلحة الحجر وإيصال أرباب

(1) ما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر.
(2) العزيز شرح الوجيز 5: 13.
(3) الوجهان أيضا للشافعية، راجع: العزيز شرح الوجيز 5: 13، وروضة الطالبين 3:
369.
34

الحقوق حقوقهم، ولو لم تقدم لم يرغب أحد في تلك الأعمال، وحصل
الضرر بالمفلس والغرماء.
وهذا كله إذا لم يوجد متطوع بذلك، ولا في بيت المال سعة له، فإن
وجد متطوع أو كان في بيت المال سعة، لم يصرف مال المفلس إليها.
مسألة 283: شرطنا في التصرف - الذي يمنع المفلس منه - كونه
مبتدأ، كالابتداء بالبيع والصدقة والوقف والكتابة والهبة، أما ما ليس بمبتدأ
فإنه لا يمنع منه، فلو اشترى قبل الحجر شيئا ثم اطلع على عيبه بعد
الحجر، فله الرد بالعيب إن كانت الغبطة في الرد؛ لأنه ليس ابتداء تصرف،
بل هو من أحكام البيع السابق ولواحقه، والحجر لا يمنع من الأحكام
السابقة عليه، وليس ذلك كما لو باع مع الغبطة؛ لأن ذلك تصرف مبتدأ،
والفسخ ليس تصرفا مبتدأ، فافترقا.
فإن منع من الرد بالعيب السابق تصرف أو عيب حادث، لزم الأرش،
ولم يملك المفلس إسقاطه؛ لأنه تصرف في مال وجب له بالإتلاف إلى غير
عوض، وهو ممنوع من الإتلاف بالعوض فبغيره أولى.
ولو كانت الغبطة في ترك الرد بأن كان قيمته مع العيب أكثر من ثمن
المثل، لم يكن له الرد؛ لما فيه من تفويت المال بغير عوض.
وكذا المريض لو اشترى حال صحته شيئا ثم وجد عيبه في مرضه
فأمسكه والغبطة في الرد، كان المقدار الذي ينقصه العيب معتبرا من الثلث.
وكذا ولي الطفل إذا وجد ما اشتراه للطفل معيبا وكانت الغبطة في
إبقائه، لم يكن له الرد.
ويثبت في هذه المواضع كلها الأرش؛ لأنا لا نشترط في وجوب
الأرش امتناع الرد.
35

وقال الشافعي: لا يثبت الأرش في هذه الصور؛ بناء على أصله من
أن الأرش لا يثبت مع إمكان الرد، والرد هنا ممكن غير ممتنع في نفسه،
بل إنما امتنع لأن المصلحة اقتضت الامتناع منه (1).
مسألة 284: لو تبايعا بخيار ففلسا أو أحدهما، لم يبطل خيار
المفلس، وكان له إجازة البيع ورده، سواء رضي الغرماء أو سخطوا.
ولا يعتبر هنا الغبطة؛ لأن ذلك ليس تصرفا مبتدأ، وإنما منع المفلس
من التصرفات المستحدثة.
وفارق الفسخ والإجازة بالخيار الرد بالعيب؛ لأن العقد في زمن الخيار
متزلزل لا ثبات له، فلا يتعلق حق الغرماء بالمال، ويضعف تعلقه به،
بخلاف ما إذا خرج معيبا، وإذا ضعف التعلق جاز أن لا يعتبر شرط الغبطة،
وهو أظهر وجوه الشافعي.
والثاني: أن تجويز الفسخ والإجازة متقيد بالغبطة، كالرد بالعيب.
وهو مخرج من عقد المريض في صحته بشرط الخيار ثم يفسخ أو
يجيز حالة المرض على خلاف الغبطة، فإنه تصرف من الثلث.
والفرق: أن حجر المريض أقوى، فإن إمضاء الورثة تصرف المريض
قبل الموت لا يفيد شيئا، وإمضاء الغرماء وإذنهم فيما يفعله المفلس
يفيدهم الصحة والاعتبار.
والثالث: أن كل واحد من الفسخ والإمضاء إن وقع على وفق الغبطة،
فهو صحيح، وإلا فالنظر إلى الخلاف في الملك في زمن الخيار وإلى أن
الذي أفلس أيهما هو؟

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 14، روضة الطالبين 3: 370.
36

فإن كان المشتري وقلنا: الملك للبائع، فللمشتري الإجازة والفسخ.
أما الإجازة: فلأنها جلب ملك. وأما الفسخ: فلا يمنع دخول شيء في
ملكه، إلا أنه أزال ملكا. وإن قلنا: الملك للمشتري، فله الإجازة؛ لأنه
يستديم الشيء في ملكه، فإن فسخ، لم يجز؛ لما فيه من إزالة الملك.
وإن أفلس البائع، فإن قلنا: الملك له، فله الفسخ؛ لأنه يستديم
الملك، وليس له الإجازة؛ لأنه يزيله. وإن قلنا: الملك للمشتري، فللبائع
الفسخ والإجازة، كما قلنا في طرف المشتري (1).
وما ذكرناه أولى.
ولو قيل في الرد بالعيب: إنه لا يتقيد بالغبطة كما في الخيار، كان
وجها.
مسألة 285: لو جني على المفلس أو على مملوكه أو على مورثه
جناية، فإن كانت خطأ، وجب المال، وتعلق به حقوق الغرماء، ولا يصح
منه العفو عنه. وإن كانت عمدا توجب القصاص، تخير بين القصاص
والعفو.
وليس للغرماء مطالبته بالعفو على مال؛ لأنه اكتساب للمال وتملك،
وهو غير لازم، كما لا يلزمه الكسب وقبول الهبة.
فإن استوفى القصاص، فلا كلام. وإن عفا على مال ورضي الجاني،
ثبت المال، وتعلق به حقوق الغرماء.
وإن عفا مطلقا، سقط حقه من القصاص، ولم يثبت له مال - وهو
أحد قولي الشافعي (2) - لأن موجب جناية العمد القصاص خاصة.

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 14 - 15، روضة الطالبين 3: 370.
(2) الحاوي الكبير 6: 324.
37

وله قول آخر: إن موجبها أحد الأمرين: إما القصاص، أو الدية (1).
فإن عفا عن القصاص، تثبت له الدية، وتعلق بها حقوق الغرماء.
وإن عفا على غير مال، فإن قلنا: الواجب القصاص خاصة، لم يثبت
له شيء. وإن قلنا: الواجب أحد الأمرين، ثبتت الدية، ولم يصح إسقاطه
لها؛ لحق الغرماء؛ لأن عفوه عن القصاص يوجب الدية، فلا يصح منه
إسقاطها.
مسألة 286: للمفلس المحجور عليه الدعوى؛ لأنه ليس تصرفا في
مال، بل استيجاب مال، ولا نعلم فيه خلافا.
فإذا ادعى على غيره بمال، فإن اعترف المدعى عليه، أو قامت له
البينة، ثبت له المال، وتعلق به حق الغرماء. وإن أنكر ولا بينة فإن حلف،
برئ، وسقطت الدعوى.
ولو أقام المفلس شاهدا واحدا بدعواه، فإن حلف مع شاهده، جاز،
واستحق المال، وتعلق به حق الغرماء. وإن امتنع، لم نجبره على اليمين؛
لأنا لا نعلم صدق الشاهد، ولو علمناه، يثبت الحق بشهادته من غير يمين،
فلا نجبره على الحلف على ما لا نعلم صدقه. ولأنه تكسب، وليس واجبا
عليه.
ولم يحلف الغرماء مع الشاهد عندنا - وهو الجديد للشافعي، وبه قال
أحمد (2) - لأنه لا يجوز للإنسان أن يحلف ليثبت بيمينه ملكا لغيره حتى
يتعلق حقه به، كما لا يجوز للزوجة أن تحلف لإثبات مال لزوجها وإن كان
إذا ثبت، تعلقت نفقتها به.

(1) الحاوي الكبير 6: 325.
(2) الحاوي الكبير 6: 328 - 329، المغني 4: 524، الشرح الكبير 4: 551.
38

وقال في القديم: إن الغرماء يحلفون؛ لأن حقوقهم تتعلق بما يثبت
للمفلس كما يحلف الورثة مع شاهدهم بمال (1) لمورثهم وللوكيل في العقد
إذا حالفه من العقد معه، تحالفا وإن ثبت العقد لغيره (2).
والفرق ظاهر؛ فإن الورثة يثبتون بأيمانهم الملك لأنفسهم، والوكيل
في العقد اليمين متعلقة به؛ لأنه هو العاقد، فيثبت بيمينه فعل نفسه، ولهذا
لا يحلف موكله على ذلك.
وكذا من مات وعليه دين فادعى وارثه دينا له على رجل وأقام عليه
شاهدا وحلف معه، يثبت الحق، وجعل المال في سائر تركاته. وإن امتنع
من اليمين أو لم يكن له شاهد ونكل المدعى عليه عن اليمين ولم يحلف
الوارث اليمين المردودة، فهل يحلف الغرماء؟
أما عندنا فلا؛ لما تقدم. وأما عند الشافعي فقولان له:
الجديد كقولنا؛ لأن حقه فيما يثبت للميت، أما إثباته للميت فليس
إليه، ولهذا لو وصى لإنسان بشيء فمات قبل القبول ولم يقبله وارثه،
لم يكن للغريم القبول.
وقال في القديم: يحلف الغريم؛ لأنه ذو حق في التركة، فأشبه
الوارث (3).
إذا عرفت هذا، فالقولان أيضا في اليمين الثابتة بالنكول، وهو ما إذا

(1) كذا، والظاهر: " على مال " بدل " بمال ".
(2) نفس المصادر في الهامش (2) من ص 38.
(3) التهذيب - للبغوي - 4: 108، العزيز شرح الوجيز 5: 15 - 16، روضة الطالبين
3: 371.
39

لم يكن للمفلس بينة ورد المدعى عليه اليمين فلم يحلف المفلس، ففي
إحلاف الغرماء للشافعي قولان (1).
وعندنا ليس لهم الحلف.
واعلم أن بعض الشافعية ذكر طريقين في إحلاف غرماء المفلس مع
شاهده:
أحدهما: طرد القولين.
والثاني: القطع بالمنع هنا، والخلاف في الميت.
والفرق: أن الحق للمفلس، فامتناعه عن اليمين يورث ريبة ظاهرة،
وفي الصورة الأولى صاحب الحق غير باق، وإنما يحلف الوارث بناء على
معرفته بحال مورثه وهو [قد] (2) يخفى عنه ولا يخفى عن الغرماء، ولأن
غرماء الميت آيسون عن حلفه، فمكنوا من اليمين لئلا يضيع الحق،
وغرماء المفلس غير آيسين عن حلفه (3).
قال الجويني: الطريقة الثانية أصح. وحكى عن شيخه طرد الخلاف
في ابتداء الدعوى من الغرماء (4).
وقطع أكثرهم بمنع الدعوى ابتداء، وتخصيص الخلاف باليمين بعد
دعوى الوارث والمفلس (5).
ولا فرق بين أن تكون الدعوى بعين أو بدين.

(1) الحاوي الكبير 6: 329.
(2) ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.
(3) العزيز شرح الوجيز 5: 16.
(4 و 5) العزيز شرح الوجيز 5: 16، روضة الطالبين 3: 371.
40

فروع:
أ - لو حلف بعض الغرماء - عند القائلين به - دون بعض، استحق
الحالفون بالقسط، كما لو حلف بعض الورثة لدين الميت.
ب - ليس لمن امتنع من اليمين من الغرماء - إن جوزنا لهم الحلف -
مشاركة الحالف، كالوارث إذا حلف دون باقي الورثة، لم يكن للباقين
مشاركته؛ لأن المقبوض باليمين ليس عين مال الميت ولا عوضه بزعم
الغريم.
ج - لو حلف الغرماء ثم أبرأوا عن ديونهم، فالمحلوف عليه يحتمل
أن يكون للمفلس؛ لخروجه عن ملك المدعى عليه بحلف الغرماء، وعن
ملك الغرماء بإبرائهم عن الدين، فيبقى للمفلس. وأن يكون للغرماء؛ لأنه
يثبت بحلفهم، ويلغو الإبراء. وهو ضعيف. أو يبقى على المدعى عليه،
ولا يستوفى أصلا.
وللشافعي ثلاثة أوجه (1) كهذه.
مسألة 287: الدين إن كان حالا أو حل بعد الأجل وأراد المديون
السفر، كان لصاحب الدين منعه من السفر حتى يقبض حقه، وليس في
الحقيقة هذا منعا من السفر كما يمنع السيد عبده والزوج زوجته، بل يشغله
عن السفر برفعه إلى الحاكم ومطالبته حتى يوفي الحق، وحبسه إن ماطل.
وإن كان الدين مؤجلا، فإن لم يكن السفر مخوفا، لم يمنع منه؛ إذ
ليس له مطالبته في الحال بالحق.

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 16، روضة الطالبين 3: 371.
41

وليس له أيضا أن يطالبه برهن ولا كفيل؛ لأنه ليس له مطالبته بالحق
فكيف يكون له المطالبة بالرهن أو الكفيل وهو المفرط في حظ نفسه حيث
رضي بالتأجيل من غير رهن ولا كفيل!؟
وهل له أن يكلفه الإشهاد؟ قال الشافعي: ليس له ذلك (1).
والأقرب عندي أنه يجب عليه الإشهاد؛ لما فيه من إبراء الذمة.
وإن كان السفر مخوفا - كالجهاد، وركوب البحر - لم يكن له المنع
منه أيضا ولا المطالبة برهن ولا كفيل؛ إذ لا مطالبة له في الحال، وهو أصح
وجوه الشافعي.
والثاني: أنه يمنعه إلى أن يؤدي الحق أو يعطي كفيلا؛ لأنه في هذا
السفر يعرض نفسه للهلاك فيضيع حقه.
والثالث: إن لم يخلف وفاء، منعه. وإن خلف، لم يكن له منعه
اعتمادا على حصول الحق منه (2).
مسألة 288: ولا فرق بين أن يكون الأجل قليلا أو كثيرا، ولا بين أن
يكون السفر طويلا أو قصيرا، فلو بقي للأجل نصف نهار ثم أراد إنشاء
سفر طويل في أوله، لم يكن لصاحب الدين منعه منه، فإنه لا يجب عليه
إقامة كفيل ولا دفع رهن، وليس لصاحب الدين مطالبته بأحدهما، وبه قال
الشافعي (3).
وقال مالك: إذا علم حلول الأجل قبل رجوعه، فله أن يطالبه بكفيل

(1 و 2) العزيز شرح الوجيز 5: 17، روضة الطالبين 3: 372.
(3) الحاوي الكبير 6: 337، التهذيب - للبغوي - 4: 117، العزيز شرح الوجيز 5:
17، روضة الطالبين 3: 372.
42

- وهو قول بعض الشافعية - لأن عليه ضررا في تأخر حقه (1).
والضرر لحقه بواسطة التأجيل، وهو من فعله، ورضي به من غير
كفيل، فلم يكن له إزالته بعد ذلك، وكما أنه ليس له مطالبته بالحق في
الحال، كذا ليس له المطالبة بكفيل، كما لو لم يسافر.
ولو أراد صاحب المال أن يسافر معه ليطالبه عند الحلول، فله ذلك
بشرط أن لا يلازمه ملازمة الرقيب.
إذا ثبت هذا، فإنه إذا حل الأجل وهو في السفر وتمكن من الأداء،
وجب عليه إما برجوعه أو بإنفاذ وكيله أو ببعث رسالته (2) أو بغيره من
الوجوه.
مسألة 289: الهبة من الأدنى للأعلى لا تقتضي الثواب؛ للأصل، وهو
أحد قولي الشافعي (3).
فإن شرطه، صح عندنا؛ لقوله (عليه السلام): " المؤمنون عند شروطهم " (4).
وللشافعي قولان على تقدير عدم اقتضاء الثواب (5).

(1) الحاوي الكبير 6: 337، التهذيب - للبغوي - 4: 117، العزيز شرح الوجيز 5:
17.
(2) في النسخ الخطية: " رسالة ".
(3) المهذب - للشيرازي - 1: 454، التنبيه: 139، الحاوي الكبير 7: 549، حلية
العلماء 6: 57، التهذيب - للبغوي - 4: 530، العزيز شرح الوجيز 4: 243،
و 6: 329، روضة الطالبين 4: 446، منهاج الطالبين: 172، المغني 6: 331.
(4) التهذيب 7: 371 / 1503، الاستبصار 3: 232 / 835، الجامع لأحكام القرآن 6:
33.
(5) المهذب - للشيرازي - 1: 454، التنبيه: 139، الحاوي الكبير 7: 550،
التهذيب - للبغوي - 4: 530، حلية العلماء 6: 58، العزيز شرح الوجيز
6: 329، روضة الطالبين 4: 446 - 447، منهاج الطالبين: 172، المغني 6:
332.
43

فإن قلنا بالاقتضاء، أو شرطه مطلقا، ففيه ثلاثة أقوال للشافعي:
أحدها: قدر قيمة الموهوب.
والثاني: ما جرت العادة بأن يثاب مثله في تلك الهبة.
والثالث: ما يرضى به الواهب (1).
فإذا وهب المفلس هبة توجب الثواب ثم حجر عليه، لم يكن له
إسقاطه؛ لأنه تصرف في المال بالإسقاط، فيمنع منه.
فإن قلنا بوجوب القيمة أو ما جرت العادة بمثله، لم يكن له أن
يرضى إلا بذلك.
وإن قلنا: له ما يرضيه، كان له أن يرضى بما شاء وإن قل جدا،
ولا يعترض عليه - وبه قال الشافعي (2) - لأن المال لا يثبت إلا برضاه، فلو
عينا عليه الرضا، لكان تعيينا للاكتساب.
مسألة 290: قد بينا أنه لو أقر بعين، دفعت إلى المقر له على إشكال.
ويحتمل عدم الدفع، ويكون حق الغرماء متعلقا بها.
فعلى تقدير عدم القبول لو فضلت عن أموال الغرماء دفعت إلى المقر
له قطعا؛ عملا بالإقرار.
أما البيع فلو باعها حالة الحجر وقلنا بعدم النفوذ ففضلت عن أموال
الغرماء، ففي إنفاذ البيع فيها إشكال.
وكذا الإشكال لو ادعى أجنبي شراء عين منه في يده قبل الحجر

(1) المهذب - للشيرازي - 1: 455، التنبيه: 139، الحاوي الكبير 7: 550 - 551،
حلية العلماء 6: 58 - 59، التهذيب - للبغوي - 4: 530 - 531، الوسيط 4:
276، العزيز شرح الوجيز 6: 330، روضة الطالبين 4: 446.
(2) التهذيب - للبغوي - 4: 102، العزيز شرح الوجيز 5: 23، روضة الطالبين 3:
382.
44

فصدقه.
ولو قال: هذا المال مضاربة لغائب، قيل: يقر في يده؛ عملا
بمقتضى إقراره، كما لو أقر بدين أو بعين.
ولو قال: لحاضر، فإن صدقه، دفع إليه على إشكال. وإن كذبه، قسم
بين الغرماء.
ويضرب المجني عليه بعد الحجر بالأرش وقيمة المتلف، ويمنع من
قبض بعض حقه.
ولا يمنع من وطئ مستولدته.
والأقرب: منع غير المستولدة من إمائه، فإن فعل وأحبل، صارت أم
ولد، ولا يبطل حق الغرماء منها مع القصور دونها.
البحث الثاني: في بيع ماله وقسمته.
مسألة 291: كل من امتنع من قضاء دين عليه مع قدرته وتمكنه منه
وامتنع من بيع ماله فإن على الحاكم أن يلزمه بأدائه أو يبيع عليه متاعه،
سواء كان مفلسا محجورا عليه أو لا، ويقسمه بين الغرماء - وبه قال
الشافعي ومالك وأبو يوسف ومحمد (1) - لما رواه العامة: أن النبي (صلى الله عليه وآله)
حجر على معاذ، وباع ماله في دينه (2).
وخطب عمر فقال في خطبته: ألا إن أسيفع جهينة قد رضي من دينه

(1) المهذب - للشيرازي - 1: 237، التنبيه: 101، حلية العلماء 4: 484، التهذيب
- للبغوي - 4: 104 و 109، العزيز شرح الوجيز 5: 18، روضة الطالبين 3:
372، بداية المجتهد 2: 284، المبسوط - للسرخسي - 24: 164، المغني 4:
529 و 530، الشرح الكبير 4: 495.
(2) تقدم تخريجه في ص 7، الهامش (4).
45

وأمانته أن يقال: سبق الحاج، فادان معترضا (1) فأصبح وقد رين به، فمن
كان له عليه مال فليحضر غدا فإنا بائعو ماله وقاسموه بين غرمائه (2).
وهذا رجل من جهينة كان يشتري الرواحل ويسرع السير فيسبق
الحاج فأفلس.
و " ادان " يعني استقرض. وقوله: " معترضا " أي اعترض الناس
فاستدان ممن أمكنه. و " رين به " أي وقع فيما لا يستطيع الخروج منه.
قال أبو عبيد: كل ما غلبك فقد ران بك ورانك (3).
ومن طريق الخاصة: ما رواه عمار عن الصادق (عليه السلام) قال: " كان أمير
المؤمنين (عليه السلام) يحبس الرجل إذا التوى على غرمائه ثم يأمر فيقسم ماله
بينهم بالحصص، فإن أبى باعه فقسمه بينهم، يعني ماله " (4).
وقال أبو حنيفة: لا يباع ماله، بل يحبسه ليبيع بنفسه، إلا أن يكون
ماله أحد النقدين وعليه الآخر، فيدفع الدراهم عن الدنانير، والدنانير عن
الدراهم؛ لأنه رشيد لا ولاية لأحد عليه، فلم يجز للحاكم أن يبيع ماله
عليه، كما لو لم يكن عليه دين (5).

(1) في المصادر: " معرضا ".
(2) الموطأ 2: 770 / 8 (الباب 8 من كتاب الوصية) المهذب - للشيرازي - 1: 327،
الحاوي الكبير 6: 264، بداية المجتهد 2: 284، المبسوط - للسرخسي - 24:
164، العزيز شرح الوجيز 5: 18، المغني 4: 530، الشرح الكبير 4: 495.
(3) غريب الحديث - للهروي - 3: 270 " رين " وفيه: "... ران بك وران عليك ".
وحكاه عنه - كما في المتن - الرافعي في العزيز شرح الوجيز 5: 18.
(4) الكافي 5: 102 (باب إذا التوى الذي عليه الدين على الغرماء) ح 1، التهذيب 6:
191 / 412، الاستبصار 3: 7 / 15.
(5) الهداية - للمرغيناني - 3: 285، المبسوط - للسرخسي - 24: 164 و 165،
النتف 2: 752، بدائع الصنائع 7: 174، التهذيب - للبغوي - 4: 104، حلية العلماء
4: 485، العزيز شرح الوجيز 5: 18، المغني 4: 529 - 530، الشرح الكبير 4: 495.
46

وقياسهم ينتقض ببيع الدراهم بالدنانير وبالعكس، فإنه عنده (1) جائز،
فجاز في غير النقدين. ويمنع عدم الولاية؛ لأنه بمنعه ظالم، فجاز أن تثبت
الولاية عليه، كما أن الحاكم يخرج الزكاة من مال الممتنع من أدائها.
مسألة 292: إذا حجر الحاكم على المفلس، استحب له المبادرة إلى
بيع ماله وقسمته؛ لئلا يتلف منه شيء، ولئلا تطول مدة الحجر، ولا يفرط
في الاستعجال؛ لئلا يطمع المشترون فيه بثمن بخس.
ويستحب إحضار المفلس أو وكيله؛ لأنه يحصي ثمنه ويضبطه.
ولأنه أخبر بمتاعه وأعرف من غيره بجيده من رديئه وثمنه، فيتكلم عليه
ويخبر بقدره، ويعرف المعيب من غيره. ولأنه يكثر الرغبة فيه، فإن شراءه
من صاحبه أحب إلى المشترين. ولأنه أبعد من التهمة، وأطيب لنفس
المفلس، وأسكن لقلبه، وليطلع على عيب إن كان ليباع على وجه لا يرد.
وكذا يفعل إذا باع المرهون، وليس ذلك واجبا فيهما.
ويستحب أيضا إحضار الغرماء؛ لأنه يباع لهم، وربما رغبوا في شراء
شيء منه فزادوا في ثمنه فانتفعوا هم والمفلس. ولأنه أطيب لقلوبهم وأبعد
من التهمة.
مسألة 293: وينبغي للحاكم أن يبدأ ببيع المرهون وصرف الثمن إلى
المرتهن؛ لاختصاص حق المرتهن بالعين. ولأنه ربما زادت قيمة الرهن
على الدين فيضم الباقي إلى مال المفلس، وربما نقصت عن الدين فيضرب

(1) تحفة الفقهاء 3: 35، الهداية - للمرغيناني - 3: 83، الاختيار لتعليل المختار
2: 61.
47

المرتهن بباقي دينه مع الغرماء.
ثم إن كان له عبد جان، قدم بيعه أيضا؛ لما قلناه من تعلق حق
المجني عليه برقبته واختصاصه به، وربما فضل من قيمته شيء فأضيف إلى
مال مولى الجاني. ولا يساوي الرهن، فإنه إن نقص قيمته عن حق الجناية،
لم يستحق الباقي. ولأن حقه لا يتعلق بالذمة بل بالعين خاصة، والمرتهن
يتعلق حقه بالعين والذمة معا.
مسألة 294: ويقدم بيع ما يخاف عليه الفساد كالفواكه وشبهها؛ لئلا
يضيع على المفلس وعلى الغرماء، ثم الحيوان؛ لحاجته إلى النفقة وكونه
عرضة للهلاك، ثم سائر المنقولات؛ لأن التلف إليها أسرع من العقارات،
ثم سائر العقارات؛ لأنه لا يخشى عليها التلف ولا السرقة، إلا (1) مسكنه فإنه
لا يباع.
وينبغي أن يشهر حال بيعها بين الناس فيظهر الراغبون.
مسألة 295: ينبغي للحاكم أن يقول للمفلس والغرماء: ارتضوا من
ينادي على الأمتعة والأموال؛ لأن الحاكم لا يكلف ذلك، بل يرده إليهم،
فإنه أبعد من التهمة، فإن اتفقوا على رجل وكان مرضيا، أمضاه الحاكم.
وإن لم يكن ثقة، رده.
لا يقال: أليس إذا اتفق الراهن والمرتهن على [أن يبيع] الرهن غير
ثقة (2)، لم يكن للحاكم الاعتراض عليهما؟
لأنا نقول: الفرق أن الحاكم لا نظر له مع الراهن والمرتهن، وفي

(1) في النسخ الخطية والحجرية: " ولا " بدل " إلا ". والظاهر ما أثبتناه.
(2) في " ج، ر ": " على بيع الراهن غير ثقة ". وفي " ث ": " على بيع الرهن لغير ثقة ".
وفي الطبعة الحجرية: " على بيع الرهن من غير ثقة ". والظاهر أن الصحيح ما أثبتناه.
48

صورة المفلس له نظر واجتهاد في مال المفلس. ولأنه قد يظهر غريم
فيتعلق حقه، فلهذا نظر فيه، بخلاف الرهن.
فإن اختار المفلس رجلا واختار الغرماء غيره، نظر الحاكم فإن كان
أحدهما غير ثقة دون الآخر، أقر الثقة منهما. وإن كانا ثقتين فإن كان
أحدهما متطوعا دون الآخر، أقر المتطوع؛ لأنه أوفر (1) عليهما. فإن كانا
متطوعين، ضم أحدهما إلى الآخر؛ لأنه أحوط. وإن كانا غير متطوعين،
اختار أوثقهما وأعرفهما وأقلهما أجرة.
فإن كان المبيع رهنا أو جانيا، أمر بدفع الثمن إلى المرتهن أو ولي
المجني عليه. وإن لم يتعلق به إلا حق الغرماء، أمرهم باختيار ثقة يكون
المال عنده مجموعا ليقسم بينهم على قدر حقوقهم.
تذنيب: ينبغي أن يرزق المنادي من بيت المال، وكذا من يلي
حفظه؛ لأن بيت المال معد للمصالح، وهذا من جملتها. فإن لم يكن في
بيت المال سعة أو كان يحتاج إليه لما هو أهم من ذلك، فإن وجد متطوع
ثقة، لم يدفع أجرة. وإن لم يوجد، دفع الأجرة من مال المفلس؛ لأن البيع
حق عليه.
مسألة 296: ينبغي أن يباع كل متاع في موضع سوقه، فتباع الكتب
في سوق الوراقين، والبز في البزازين، والحديد في الحدادين، وما أشبه
ذلك؛ لأن بيعه في سوقه أحوط له وأكثر لطلابه ومعرفة قيمته.
فإن باع شيئا منه في غير سوقه بثمن مثله، جاز، كما لو قال لوكيله:
بع هذا المتاع في السوق الفلاني بكذا، فباعه بذلك الثمن في غير ذلك

(1) في النسخ الخطية والحجرية: " وفر ". والصحيح ما أثبتناه.
49

السوق وكان غرض الموكل تحصيل ذلك القدر من الثمن لا غير، فإنه
يصح، كذا هنا، بخلاف ما لو قال له: بع من فلان بكذا، فباع من غيره
بذلك الثمن، فإنه يكون قد خالف؛ لأنه قد يكون له غرض في بيعه من
واحد دون واحد.
فإذا باع بثمن المثل ثم جاءته الزيادة، فإن كان في زمن الخيار، فسخ
البيع احتياطا للمفلس والغرماء.
وهل يجب ذلك؟ إشكال أقربه: الوجوب، كما لو جاءت الزيادة
على ثمن المثل قبل البيع.
وإن جاءت بعد لزوم البيع وانقطاع الخيار، سئل المشتري الإقالة،
ويستحب له الإجابة إلى ذلك؛ لتعلقه بمصلحة المفلس والغرماء وقضاء
دين المحتاج. فإن لم يفعل، لم يجبر عليه.
مسألة 297: ويجب أن يبيع المتاع بثمن مثله حالا من نقد البلد، فإن
كان بقرب بلد ملك المفلس بلد فيه قوم يشترون العقار في بلد المفلس،
أنفذ الحاكم إليهم وأعلمهم ليحضروا للشراء ليتوفر الثمن على المفلس،
فإذا بلغ ثمن مثله، باعه، ويبيع بنقد البلد وإن كان من غير جنس حق
الغرماء؛ لأنه أوفر.
ثم إن كان الثمن من جنس مال الغرماء، دفع إليهم. وإن كان من غير
جنسه، فإن لم يرض المستحقون إلا بجنس حقهم، صرفه إلى جنس
حقهم، وإلا جاز صرفه إليهم.
ولو كان سلما ومنعنا من المعاوضة عليه قبل قبضه، اشترى الحاكم
لهم من جنس حقهم، ودفعه إليهم.
ولو أراد الغريم الأخذ من المال المجموع، وقال المفلس: لا أوفيك
50

إلا من جنس مالك، قدم قول المفلس؛ لأنه معاوضة، ولا يجوز إلا
بتراضيهما عليه.
مسألة 298: لا يدفع السلعة إلى المشتري حتى يقبض الثمن؛ حراسة
لمال المفلس عن التلف.
وقد سبق (1) للشافعية أقوال ثلاثة في البداءة بالبائع أو لا؟ فقول: إنه
يبدأ بالبائع، فيسلم المبيع ثم يقبض الثمن. وقول: إنهما يجبران على
التسليم إلى عدل. والثالث: أنهما لا يجبران.
وهذا الأخير لا يتأتى هنا؛ لتعلق حق الغرماء بالثمن وهو حال،
فلا سبيل إلى تأخيره، بل إما يجبر المشتري على التسليم أولا، أو يجبران
معا، ولا يجيء جبر البائع أولا؛ لأن من يتصرف للغير لا بد وأن يحتاط.
فإن خالف الواجب وسلم المبيع قبل قبض الثمن، ضمن.
وما يقبضه الحاكم من أثمان المبيع من أموال المفلس على التدريج
إن كان الغريم واحدا، سلم إليه من غير تأخير. وكذا إن أمكنت قسمته
بسرعة، لم يؤخر. وإن كان يعسر قسمته؛ لقلته وكثرة الديون، فله أن يؤخر
ليجتمع. فإن امتنعوا من التأخير، قسمه عليهم.
وقال بعض الشافعية: يجبرهم الحاكم على التأخير (2).
وليس بجيد.
وإذا تأخرت القسمة فإن وجد الحاكم من يقترضه من الأمناء ذوي
اليسار أقرضهم إياه، فإنه أولى من الإيداع؛ لأن القرض مضمون على

(1) في ج 10 ص 108 - 109 (النظر الثاني في وجوب القبض).
(2) العزيز شرح الوجيز 5: 19، روضة الطالبين 3: 377 - 378، وفيهما: " فإن أبوا
التأخير، ففي النهاية إطلاق القول بأنه يجيبهم. والظاهر خلافه ".
51

المقترض، بخلاف الوديعة، فإنها غير مضمونة على المستودع، وهي أمانة
في يده لا يؤمن تلفها، فلا يرجع المفلس والغرماء إلى شيء. فإن لم يجد
من يقرضه إياه، جعله وديعة عند أمين. ولو أودع مع وجود المقترض
الأمين الملي، كان جائزا، لكنه يكون قد ترك الأولى.
إذا ثبت هذا، فإنه يقرض المال من الملي الثقة حالا غير مؤجل؛ لأن
الديون حالة.
ولو أجله بأن شرط الأجل في بيع وشبهه عندنا ومطلقا عند مالك (1)،
لم يجز.
قال الشافعي: مال الصبي يودع ولا يقرض (2).
وفرق بعض أصحابه بأن مال الصبي يعد لمصلحة تظهر له من شراء
عقار، أو تجارة، وقرضه قد يتعذر معه المبادرة إلى ذلك، ومال المفلس
معد للغرماء خاصة، فافترقا (3).
مسألة 299: إذا لم يوجد المقترض، أودعه الحاكم عند الثقة،
ولا يشترط فيه اليسار، بل إن حصل كان أولى.
وينبغي أن يودع ممن يرتضيه الغرماء، فإن اختلفوا أو عينوا من ليس
بعدل، لم يلتفت الحاكم، وعين هو من أراد من الثقات، ولا يودع من ليس
بعدل.
ولو تلف شيء من الثمن في يد العدل، فهو من ضمان المفلس، وبه

(1) انظر: الحاوي الكبير 6: 318.
(2) لم نعثر على نصه، وانظر: المهذب - للشيرازي - 3: 336، وحلية العلماء 4:
529، والعزيز شرح الوجيز 5: 83، وروضة الطالبين 3: 426.
(3) لم نعثر عليه فيما بين أيدينا من المصادر المتوفرة.
52

قال الشافعي وأحمد (1).
وقال مالك: العروض من ماله، والدراهم والدنانير من مال
الغرماء (2).
وقال المغيرة: الدنانير من مال أصحاب الدنانير، والدراهم من مال
أصحاب الدراهم (3).
وليس بشيء؛ لأن المال للمفلس، وإنما يملكه الغرماء بقبضه، لكن
تعلق حقهم به يجري مجرى الرهن حيث تعلق حق المرتهن به، وكما أن
تلف الرهن من الراهن وإن كان في يد المرتهن، كذا هنا.
واعلم أنه لا فرق في ذلك بين أن يكون الضياع في حياة المفلس أو
بعد موته، وبه قال الشافعي (4).
وقال أبو حنيفة: ما يتلف بعد موته فهو من ضمان الغرماء (5).
مسألة 300: إذا ثبتت الديون عند الحاكم وطلب أربابها القسمة
عليهم، لم يكلفهم الحاكم إقامة البينة على أنه لا غريم سواهم، ويكتفي
الحاكم في ذلك بالإعلان والإشهاد بالحجر عليه؛ إذ لو كان هناك غريم لظهر
وطالب بحقه.

(1) الحاوي الكبير 6: 317 و 330، التهذيب - للبغوي - 4: 105، العزيز شرح
الوجيز 5: 19، روضة الطالبين 3: 378، المغني 4: 538 - 539، الشرح الكبير
4: 539.
(2) الحاوي الكبير 6: 330، المغني والشرح الكبير 4: 539.
(3) المغني 4: 539، الشرح الكبير 4: 540.
(4) الحاوي الكبير 6: 330، التهذيب - للبغوي - 4: 105، العزيز شرح الوجيز 5:
19، روضة الطالبين 3: 378.
(5) الحاوي الكبير 6: 141 و 330، التهذيب - للبغوي - 4: 105، العزيز شرح
الوجيز 5: 20.
53

ولا فرق بين القسمة على الغرماء والقسمة على الورثة، إلا أن الورثة
يحتاجون إلى إقامة البينة على أنه لا وارث غيرهم، بخلاف الغرماء.
والفرق: أن الورثة أضبط من الغرماء، وهذه شهادة على النفي يعسر
تحصيلها ومدركها، فلا يلزم من اعتبارها حيث كان الضبط أسهل اعتبارها
حيث كان أعسر (1).
مسألة 301: إذا قسم الحاكم مال المفلس بين غرمائه ثم ظهر غريم
آخر، احتمل عدم نقض القسمة، بل يشاركهم الغريم الظاهر بالحصة؛ لأن
المقصود يحصل به.
وقال الشافعي: تنقض القسمة، فيسترد المال من الغرماء، وتستأنف
القسمة، كالورثة إذا قسموا التركة ثم ظهر دين، فإنه تنقض القسمة؛ لأن
الغريم لو كان حاضرا قاسمهم، فإذا ظهر بعد ذلك، كان حقه باقيا. ولا يلزم
من ذلك نقض حكم الحاكم بالقسمة؛ لأن ذلك ليس حكما منه، كما لو
زوج الصغيرة، لم يصح نكاحه. ولو حكم بالتزويج حاكم آخر، نفذ عند
الشافعي (2).
وأما عندنا فالجواب أن نقول: إنه قسم على أنه لا غريم هناك، فإذا
ظهر غريم آخر، كان ذلك خطأ، فلهذا نقضت القسمة.
وعن مالك روايتان: إحداهما: تنقض. والثانية: لا تنقض،
ولا يخاصمهم الغريم الظاهر؛ لأنه نقض لحكم الحاكم (3).

(1) أي: حيث كان الضبط أعسر.
(2) العزيز شرح الوجيز 5: 20، و 7: 533 و 542، روضة الطالبين 3: 378، و 5:
399 و 436.
(3) حلية العلماء 4: 522، المغني 4: 532، الشرح الكبير 4: 546.
54

ووافقنا أحمد (1) على أنه يشارك.
مسألة 302: لو قسم الغريمان المال - وهو خمسة عشر، ولأحدهما
عشرون، وللآخر عشرة - أثلاثا، فأخذ صاحب العشرين عشرة، وصاحب
العشرة خمسة، ثم ظهر غريم ثالث وله ثلاثون، فإن قلنا بالنقض، نقضت
القسمة، وبسط المال على نسبة ما لكل واحد منهم. وإن قلنا بعدم النقض،
استرد الظاهر من كل واحد منهما نصف ما حصل له.
ولو كان [دين كل واحد منهما عشرة وقسم المال بينهما نصفين
وكان] (2) الذي ظهر له عشرة، رجع على كل واحد منهما بثلث ما أخذ. فإن
أتلف أحدهما ما أخذ وهو معسر لا يحصل منه شيء، احتمل أن يأخذ
الغريم الذي ظهر من الآخر شطر ما أخذ، فكأنه كل المال، ثم إن أيسر
المتلف، أخذ منه ثلث ما أخذه وقسماه بينهما. وأن لا يأخذ منه إلا ثلث ما
أخذه، وثلث ما أخذه المتلف دين عليه له.
ولو أن الغريم الثالث ظهر وقد ظهر للمفلس مال قديم أو حادث بعد
الحجر، صرف منه إلى من ظهر بقسط ما أخذه الأولان، فإن فضل شيء،
قسم على الثلاثة.
وإنما يشارك الغريم الظاهر لو كان حقه سابقا على الحجر، أما لو كان
حادثا بعد الحجر، فلا يشارك الأولين في المال القديم.
وإن ظهر مال قديم وحدث مال باتهاب (3) أو احتطاب وشبهه،
فالقديم للقدماء خاصة، والحادث للجميع.

(1) المغني 4: 532، الشرح الكبير 4: 546.
(2) ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.
(3) في النسخ الخطية والحجرية: " اتهاب ". والصحيح ما أثبت.
55

مسألة 303: إذا باع المفلس شيئا من ماله قبل الحجر وتلف الثمن في
يده بإتلافه أو بغير إتلافه ثم حجر عليه الحاكم، كان ذلك كدين ظهر على
المفلس، والحكم ما تقدم.
ولو باع الحاكم ماله وظهر الاستحقاق بعد قبض الثمن وتلفه، رجع
المشتري في مال المفلس، ولا يطالب الحاكم به. ولو نصب الحاكم أمينا
حتى باعه، ففي كونه طريقا إشكال، كما في العدل الذي نصبه القاضي لبيع
الرهن.
ثم رجوع المشتري في مال المفلس ورجوع الأمين إن قلنا: إنه طريق
للضمان وغرم، للشافعي فيه قولان:
أحدهما: أنه يضارب مع الغرماء؛ لأنه دين في ذمة المفلس، كسائر
الديون.
والثاني: أنه يقدم على الغرماء؛ لأنا لو قلنا بالضمان به، لرغب الناس
عن شراء مال المفلس، فكان التقديم من مصالح الحجر، كأجرة الكيال
ونحوها من المؤن (1).
والثاني عندي أقوى.
مسألة 304: يجب على الحاكم أن ينفق على المفلس إلى يوم الفراغ
من بيع ماله وقسمته، فيعطيه نفقة ذلك اليوم له ولعياله الواجبي النفقة من
الزوجات والأقارب؛ لأنه موسر ما لم يزل ملكه. وكذا يكسوهم
بالمعروف. وكل هذا إذا لم يكن له كسب يصرف إلى هذه الجهات.
وهل ينفق على الزوجات نفقة المعسرين أو الموسرين؟ الأقرب
عندي: الأول.

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 21، روضة الطالبين 3: 379.
56

ويحتمل الثاني؛ لأنه لو أنفق نفقة المعسر لما لزمه نفقة الأقارب.
وللشافعي قولان (1).
مسألة 305: لا يباع على المفلس مسكنه ولا خادمه ولا فرس ركوبه،
وقد تقدم (2) ذلك في باب الدين.
وقد وافقنا على عدم بيع المسكن أبو حنيفة وأحمد وإسحاق؛ لأنه
مما لا غنى للمفلس عنه، ولا يمكن حياته بدونه، فلم يصرف في دينه،
كقوته وكسوته (3).
وقال الشافعي: يباع جميع ذلك - وبه قال شريح ومالك - ويستأجر
له بدلها - واختاره ابن المنذر - لقوله (عليه السلام) في المفلس: " خذوا ما وجدتم " (4)
وقد وجد عقاره (5).
وهو قضية شخصية جاز أن يقع في من لا عقار له، مع أن الشافعي
قال: إنه يعدل في الكفارات المرتبة إلى الصيام وإن كان له مسكن وخادم،
ولا يلزمه صرفهما إلى الإعتاق (6).

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 22، روضة الطالبين 3: 380.
(2) في ج 13، ص 16، المسألة 13.
(3) الحاوي الكبير 6: 328، المغني 4: 537، الشرح الكبير 4: 536.
(4) صحيح مسلم 3: 1191 / 1556، سنن ابن ماجة 2: 789 / 2356، سنن أبي داود
3: 276 / 3469، سنن النسائي 7: 265، سنن البيهقي 5: 305، و 6: 50،
المصنف - لابن أبي شيبة - 7: 319 / 3302، مسند أحمد 3: 461 / 11157،
المستدرك - للحاكم - 2: 41.
(5) الأم 3: 202، مختصر المزني: 104، الحاوي الكبير 6: 328، المهذب
- للشيرازي - 1: 329، التهذيب - للبغوي - 4: 106، الوسيط 4: 15، الوجيز 1:
171، العزيز شرح الوجيز 5: 22، روضة الطالبين 3: 380، منهاج الطالبين:
121.
(6) الأم 5: 283، مختصر المزني: 205، الحاوي الكبير 10: 496، الوجيز 1:
171، و 2: 83، العزيز شرح الوجيز 5: 22، و 9: 314 - 315، الوسيط 4:
15، روضة الطالبين 6: 270.
57

فبعض أصحابه خرج منه قولين في الديون. وبعضهم قرر القولين،
وفرقوا من وجهين:
أحدهما: أن الكفارة لها بدل ينتقل إليه، والدين بخلافه.
وثانيهما: أن حقوق الله تعالى مبنية على المساهلة، وحقوق الآدميين
على الشح والمضايقة.
ثم قالوا: المسكن أولى بالإبقاء من الخادم، فينتظم أن يرتب
الخلاف، فيقال: فيهما ثلاثة أوجه، في الثالث يبقى المسكن دون الخادم.
فإن قلنا بالإبقاء، فذاك إذا كان الإبقاء لائقا بالحال، دون النفيس الذي
لا يليق به، ويشبه أن يكون المراد ذلك: أنه إن كان ثمينا، بيع، وإلا فلا (1).
مسألة 306: يجب على الحاكم أن يترك له دست ثوب يليق بحاله
وقميص وسراويل ومنديل ومكعب (2)، ويزيد في الشتاء جبة، ويترك له
العمامة والطيلسان والخف ودراعة يلبسها فوق القميص إن كان لبسها يليق
بحاله؛ لأن حطها عنه يزري بحاله.
وفي الطيلسان والخف نظر.
والأولى الاعتبار بما يليق بحاله في إفلاسه، لا في حال ثروته.
ولو كان يلبس قبل الإفلاس أزيد مما يليق بحاله، رد إلى اللائق. وإن
كان يلبس دون اللائق تقتيرا، لم يزد عليه في الإفلاس. ويترك لعياله من
الثياب ما يترك له، ولا تترك الفرش والبسط، بل يسامح باللبد والحصير
القليل القيمة.

(1) الوسيط 4: 15، العزيز شرح الوجيز 5: 22، روضة الطالبين 3: 380.
(2) المكعب: البرد الموشى بوشي مربع. ويقال: ثوب مكعب: أي مطوي شديد
الأدراج. شمس العلوم 9: 5852.
58

مسألة 307: يجوز أن يترك له نفقة يوم القسمة، وكذا نفقة من عليه
نفقته؛ لأنه موسر في أول ذلك اليوم. ولا يزيد على نفقة ذلك اليوم،
فإنه لا ضبط بعده. وكل ما يترك له إذا لم يوجد في ماله، اشتري له؛
لقوله (عليه السلام): " ابدأ بنفسك ثم بمن تعول " (1) ومعلوم أن في من يعوله من
تجب نفقته عليه، ويكون دينا عليه، وهي الزوجة، فإذا قدم نفقة نفسه
على نفقة الزوجة، فكذا على حق الغرماء؛ لأن حرمة الحي آكد من حرمة
الميت؛ لأنه مضمون بالإتلاف، ويتقدم تجهيز الميت ومؤونته على دينه،
فكذا نفقة الحي.
وتقدم أيضا نفقة أقاربه، كالوالدين والولد؛ لأنهم يجرون مجرى
نفسه؛ لأن النفقة لإحيائهم. ولأنهم يعتقون عليه إذا ملكهم، كما يعتق إذا
ملك نفسه، فكانت نفقتهم كنفقته.
وكذا زوجته تقدم نفقتها؛ لأن نفقتها آكد من نفقة الأقارب؛ لأنها
تجب على طريق المعاوضة، ويجب قضاؤها، بخلاف نفقة الأقارب، وفيها
معنى الإحياء، كما في الأقارب.
وتجب كسوتهم أيضا؛ لأن البقاء لا يتم بدونه. فإن كان ممن عادته
الثياب الخشنة، دفع إليه من الخشن. وإذا كانت عادته الناعم، دفع إليه
أوسط الناعم. وإن كان لباسه من فاخر الثياب الجيدة، اشتري له من ثمنها
أقل ما يلبس أقصد من هو في مثل حاله.
ولو كان ذا كسب، جعلت نفقته في كسبه، فإن فضل الكسب،
فالفاضل للغرماء. وإن أعوز، أخذ من ماله.
مسألة 308: ولو مات، كفن من ماله؛ لأن نفقته كانت واجبة في ماله
حالة الحياة فوجب تجهيزه إذا مات، كأقاربه.

(1) نوادر الأصول في أحاديث الرسول 1: 246.
59

[ويلزمه كفن الزوجة] (1) وهو أحد قولي الشافعي (2).
وقال في الآخر: لا يلزمه كفنها - وبه قال أحمد - لأن النفقة وجبت
في مقابلة الاستمتاع وقد فات بالموت، فسقطت النفقة، بخلاف الأقارب،
فإن قرابتهم باقية (3).
وينتقض بالعبد؛ فإن النفقة وجبت بالملك وقد زال بموته ومع هذا
يجب تجهيز العبد.
إذا ثبت هذا، فإنه يكفن الكفن الواجب، وهو ثلاثة أثواب: مئزر،
وقميص، وإزار عندنا.
ومن اقتصر في الواجب على الواحد اقتصر عليه (4) هنا.
ولا يجوز أن يكفن أزيد مما تستحب زيادته، إلا بإذن الغرماء.
مسألة 309: لا يؤمر المفلس بتحصيل ما ليس بحاصل له وإن
لم يمكن من تفويت ما عنده حتى لو جنى على المفلس أو على عبده
جان، فله القصاص، ولا يلزمه أن يعفو على المال؛ لأنه اكتساب.
ولو أوجبت الجناية المال، لم يكن له العفو مجانا؛ لأنه تفويت، إلا
بإذن الغرماء.
وكذا لو قتل المفلس، لم يكن لوارثه العفو مجانا إن كان قتل خطأ.
ولو أسلم في شيء، لم يكن له أن يقبض أدون صفة أو قدرا، إلا
بإذن الغرماء.

(1) ما بين المعقوفين أضفناه لأجل السياق.
(2) الحاوي الكبير 6: 327.
(3) الحاوي الكبير 6: 327، المغني 4: 534 - 535، الشرح الكبير 4: 539.
(4) في النسخ الخطية والحجرية: " عليها ". والصحيح ما أثبتناه.
60

فإذا قسم ماله وقصر عن الديون أو لم يكن له مال ألبتة، لم يؤمر
بالتكسب ولا بأن يؤاجر نفسه ليصرف الأجرة والكسب في الديون أو في
نفقتها - وبه قال الشافعي ومالك وأحمد في إحدى الروايتين (1) - لقوله
تعالى: (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) (2).
ولما رواه العامة عن أبي سعيد الخدري: أن رجلا أصيب في ثمار
ابتاعها فكثر دينه، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): " تصدقوا عليه " فتصدقوا عليه فلم يبلغ
وفاء دينه، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): " خذوا ما وجدتم [و] (3) ليس لكم إلا ذلك " (4).
ولأن النبي (صلى الله عليه وآله) لما حجر على معاذ لم يزد على بيع ماله (5).
ومن طريق الخاصة: ما رواه غياث بن إبراهيم عن الصادق عن
الباقر (عليهما السلام): " أن عليا (عليه السلام) كان يحبس في الدين، فإذا تبين له إفلاس
وحاجة خلى سبيله حتى يستفيد مالا " (6).
واستعدت امرأة على زوجها عند أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه لا ينفق عليها
وكان زوجها معسرا، فأبى أن يحبسه وقال: " إن مع العسر يسرا " (7) ولو كان
التكسب واجبا لأمر به.
ولأن هذا تكسب للمال، فلا يجبر عليه، كما لا يجبر على قبول الهبة

(1) الحاوي الكبير 6: 325، حلية العلماء 4: 483، العزيز شرح الوجيز 5: 23،
روضة الطالبين 3: 382، الكافي في فقه أهل المدينة: 422، المعونة 2: 1183،
المغني 4: 539، الشرح الكبير 4: 547.
(2) البقرة: 280.
(3) ما بين المعقوفين من المصدر.
(4) تقدم تخريجه في ص 57، الهامش (4).
(5) راجع: الهامش (4) من ص 7.
(6) التهذيب 6: 299 / 834، الاستبصار 3: 47 / 156.
(7) التهذيب 6: 299 - 300 / 837.
61

والصدقة ولا تجبر المرأة على التزويج لتأخذ المهر، كذا هنا.
وعن مالك رواية أخرى: أنه إن كان ممن يعتاد إجارة نفسه، لزمه (1).
وقال أحمد - في الرواية الشهيرة عنه - وإسحاق: يؤاجر، فإن امتنع
أجبره القاضي - وبه قال عمر بن عبد العزيز وعبيد الله بن الحسن العنبري
وسوار القاضي - لأن النبي (صلى الله عليه وآله) باع سرقا في دينه، وكان سرق رجلا دخل
المدينة وذكر أن وراءه مالا، فداينه الناس، فركبته الديون ولم يكن وراءه
مال، فأتي به النبي (صلى الله عليه وآله)، فسماه [سرقا] (2) وباعه بخمسة أبعرة. قالوا:
والحر لا يجوز بيعه، فثبت أنه باع منافعه. رواه العامة (3).
ومن طريق الخاصة: ما رواه السكوني عن الصادق عن الباقر (عليهما السلام):
" أن عليا (عليه السلام) كان يحبس في الدين ثم ينظر فإن كان له مال أعطى الغرماء،
وإن لم يكن له مال دفعه إلى الغرماء، فيقول لهم: اصنعوا به ما شئتم، إن
شئتم آجروه، وإن شئتم استعملوه " (4) وذكر الحديث.
ولأن المنافع تجري مجرى الأعيان في صحة العقد عليها وتحريم
أخذ الزكاة، كالأعيان (5).
والحديث الذي رووه من طريق العامة منسوخ بالإجماع؛ لأن البيع
وقع على رقبته، ولهذا روي في الحديث أن غرماءه قالوا للذي يشتريه:

(1) الوسيط 4: 15، العزيز شرح الوجيز 5: 23.
(2) ما بين المعقوفين من المصدر.
(3) المغني 4: 540، الشرح الكبير 4: 548.
(4) التهذيب 6: 300 / 838، الاستبصار 3: 47 / 155.
(5) المغني 4: 540، الشرح الكبير 4: 548، الحاوي الكبير 6: 325، التهذيب
- للبغوي - 4: 107، الوسيط 4: 15، حلية العلماء 4: 484، العزيز شرح الوجيز
5: 23، بداية المجتهد 2: 293.
62

ما تصنع به؟ فقال: أعتقه، فقالوا: لسنا بأزهد منك في إعتاقه، فأعتقوه (1).
وحديث الخاصة ضعيف السند؛ لأنه رواية السكوني، وهو عامي
المذهب.
والمنافع لا تجري مجرى المال في جميع الأحكام، فإنه لا يجب
عليه الحج لأجل المنافع، ولا الزكاة.
مسألة 310: لو كانت له أم ولد أو ضيعة موقوفة عليه، ففي وجوب
مؤاجرتهما نظر: من حيث إن المنافع وإن لم تكن مالا فإنها تجري مجراها،
فيجعل بدلها للدين، ومن حيث إن المنافع لا تعد أموالا حاضرة حاصلة،
ولو كانت تعد من الأموال، لوجب إجارة المفلس نفسه، ولوجب بها الحج
والزكاة. والثاني أقرب.
وللشافعية وجهان (2) كهذين.
فعلى الأول يؤاجره مرة بعد أخرى إلى أن يفنى الدين، فإن المنافع
لا نهاية لها، وقضيته إدامة الحجر إلى قضاء الدين. لكنه كالمستبعد.
وفي جواز بيع أم الولد نظر، أقربه ذلك إن كانت قد رهنت قبل
الاستيلاد، فإنها تباع في الرهن، أو كان ثمنها دينا على مولاها ولا وجه له
سواها.
مسألة 311: إذا قسم الحاكم مال المفلس بين الغرماء، انفك حجره،
ولا حاجة إلى حكم الحاكم بذلك؛ لأن الحجر لحفظ المال على الغرماء
وقد حصل الغرض، فيزول الحجر، وهو أحد قولي الشافعي.

(1) المغني 4: 540، الشرح الكبير 4: 549.
(2) التهذيب - للبغوي - 4: 107، العزيز شرح الوجيز 5: 24، روضة الطالبين 3:
282، منهاج الطالبين: 121.
63

والأظهر عنده: أنه لا بد من فك القاضي؛ لأنه حجر لا يثبت إلا
بإثبات القاضي، فلا يرفع إلا برفعه، كالسفيه. ولأنه حجر يحتاج إلى نظر
واجتهاد كحجر السفيه (1).
ونمنع الملازمة الأولى؛ فإن الحجر هنا لمعنى وقد زال، بخلاف
السفيه، فإنه لا يعلم زواله إلا بعد الاختيار المستند إلى الحاكم. ولأن هذا
الحجر لتفريق ماله وقد حصل، وذلك لحفظ ماله، فتركه محجورا عليه
يزيد في الغرض. ولأنه حجر للغرماء وقد اعترفوا بسقوطه.
هذا إذا اعترف الغرماء بأن لا مال له سواه، ولو ادعوا مالا، فسيأتي.
مسألة 312: لو اتفق الغرماء على رفع الحجر عنه، فالأقوى رفعه؛ لأن
الحجر لهم، وهو حقهم، وهم في أموالهم كالمرتهن في حق المرهون،
وهو أحد قولي الشافعي.
والآخر: أنه لا يرتفع؛ لاحتمال أن يكون هناك غريم آخر - سواهم -
غائب، فلا بد من نظر الحاكم واجتهاده (2).
وإدامة العقوبة بالتجويز غير جائز، ولهذا إذا قسم المال، لم يزل
تجويز ورود غريم.
ولو باع المفلس ماله من غريم بدينه ولا يعرف له غريم سواه،
فالأقرب: صحة البيع؛ لأن الحجر عليه لدين ذلك الغريم، فإذا رضي
وبرئت ذمته، وجب أن يصح، وهو أحد قولي الشافعي (3).

(1) حلية العلماء 4: 519، الوسيط 4: 15، الوجيز 1: 172، العزيز شرح الوجيز
5: 24، روضة الطالبين 3: 382.
(2) الوسيط 4: 15، الوجيز 1: 172، العزيز شرح الوجيز 5: 24 - 25، روضة
الطالبين 3: 383.
(3) الوجيز 1: 172، العزيز شرح الوجيز 5: 25، روضة الطالبين 3: 383.
64

والأظهر عنده (1): أنه لا يصح من غير مراجعة القاضي؛ لأن الحجر
على المفلس لا يقتصر على الغريم الملتمس، بل يثبت على العموم، ومن
الجائز أن يكون له غريم آخر (2).
والوجهان مفرعان على أن بيع المفلس من الأجنبي لا يصح، فإن
صح، فهذا أولى (3).
ولو حجر لديون جماعة وباع أمواله منهم بديونهم، فعلى
الخلاف (4).
ولو باع ماله من غريمه الواحد بعين أو ببعض دينه، فهو كما لو باع
من الأجنبي؛ لأن ذلك لا يتضمن ارتفاع الحجر، بخلاف ما إذا باع [بكل
الدين، فإنه يسقط الدين، فإذا سقط الدين ارتفع الحجر.
ولو باع] (5) من أجنبي بإذن الغرماء، لم يصح (6).
والوجه: الصحة - وهو أحد قولي الشافعي (7) - كما يصح بيع
المرهون بإذن المرتهن.
وإذا قلنا: إنه إذا فرقت أمواله وقضيت الديون ارتفع الحجر عنه، صح
البيع من الغريم بالدين؛ لتضمنه البراءة من الدين.
ويمكن أن يقال: لا نجزم بصحة البيع.
وإن قلنا: إن سقوط الدين يسقط الحجر؛ لأن صحة البيع إما أن تفتقر
إلى ارتفاع الحجر أو لا، فإن افتقرت، وجب الجزم بعدم الصحة، وإلا لزم

(1) في " ج، ر ": " عندهم ".
(2) الوجيز 1: 172، العزيز شرح الوجيز 5: 25.
(3 و 4) العزيز شرح الوجيز 5: 25.
(5) ما بين المعقوفين أثبتناه من " العزيز شرح الوجيز " و " روضة الطالبين ".
(6 و 7) العزيز شرح الوجيز 5: 25، روضة الطالبين 3: 383.
65

الدور؛ لأنه لا يصح البيع ما لم يرتفع الحجر، ولا يرتفع الحجر
ما لم يسقط الدين، ولا يسقط الدين ما لم يصح البيع.
وإن لم تفتقر، فغاية الممكن اقتران صحة البيع وارتفاع الحجر،
فلتخرج الصحة على الخلاف فيما إذا قال: كلما ولدت ولدا فأنت طالق،
فولدت ولدا بعد ولد هل تطلق بالثاني؟ وفيما إذا قال العبد لزوجته: إن
مات سيدي فأنت طالق طلقتين، وقال السيد لعبده: إذا مت فأنت حر،
فمات السيد، هل له نكاحها قبل زوج وإصابة؟ (1).
وهذا عندنا لا يتأتى.
البحث الثالث: في حبسه.
مسألة 313: من وجب عليه دين حال فطولب به ولم يؤده، نظر
الحاكم فإن كان في يده مال ظاهر، أمره الحاكم بالقضاء، فإن ذكر أنه لغيره،
حكم عليه بإقراره إن صدقه المقر له أو لم يعلم منه تصديق ولا تكذيب.
فإن كذبه، لم يقبل منه إقراره، وألزمه بالخروج من الديون، فإن امتنع مع
قدرته على القضاء، حبسه الحاكم.
ويحل لصاحب الدين الإغلاظ له في القول بأن يقول: يا ظالم،
يا معتدي، ونحو ذلك؛ لقوله (عليه السلام): " لي الواجد يحل عقوبته وعرضه " (2).
واللي: المطل. والعقوبة: حبسه. والعرض: الإغلاظ له في القول.
وقال (عليه السلام): " إن لصاحب الحق مقالا " (3).
ولو ظهر عناده بإخفاء ماله وعلم يساره وتمكنه، كان للحاكم ضربه.

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 25.
(2) صحيح البخاري 3: 155.
(3) صحيح البخاري 3: 155، صحيح مسلم 3: 1225 / 1601.
66

ولو لم يكن في يده مال ظاهر، فإن كان أصل الدعوى مالا أو كان قد
عرف له أصل مال ثم خفي أمره، طولب بالبينة على الإعسار. وإن كانت
الدعوى غرامة عن إتلاف أو جناية ولم يعرف له قبل ذلك أصل مال، حكم
بقوله مع اليمين.
مسألة 314: إذا ثبت إعسار المديون عند الحاكم بالبينة أو بإقرار
الغريم، لم يجز حبسه ولا ملازمته، ووجب إنظاره؛ لقوله تعالى: (وإن
كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) (1).
ولما رواه العامة عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال لغرماء الذي كثر دينه: " خذوا
ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك " (2).
ومن طريق الخاصة: قول الباقر (عليه السلام): " إن عليا (عليه السلام) كان يحبس في
الدين، فإذا تبين له إفلاس وحاجة خلى سبيله حتى يستفيد مالا " (3).
ولأن الحبس إما لإثبات الإعسار أو لقضاء الدين، والأول ثابت،
والقضاء متعذر، فلا فائدة في الحبس.
وقال أبو حنيفة: للغريم ملازمته، لكن لا يمنعه من التكسب (4).
مسألة 315: إذا كان للمديون مال، أمره الحاكم ببيعه وإيفاء الدين من
ثمنه مع مطالبة أربابها، فإن امتنع، باع الحاكم متاعه عليه، وقضى منه
الدين، وبه قال الشافعي وأحمد (5).

(1) البقرة: 280.
(2) تقدم تخريجه في ص 57، الهامش (4).
(3) تقدم تخريجه في ص 61، الهامش (6).
(4) الهداية - للمرغيناني - 3: 286، بدائع الصنائع 7: 173، الحاوي الكبير 6:
335، التهذيب - للبغوي - 4: 116، حلية العلماء 4: 483، العزيز شرح الوجيز
5: 26، بداية المجتهد 2: 293، المغني 4: 543، الشرح الكبير 4: 500.
(5) تقدم تخريجه في ص 45، الهامش (1).
67

وقال أبو حنيفة: لا يبيع الحاكم، بل يحبس الغريم إلى أن يبيع هو
بنفسه (1).
وقد تقدم (2) البحث في ذلك.
وهل للحاكم أن يحجر عليه؟ الأقرب عندنا: المنع؛ لأن التقدير أنه
متمكن من الإيفاء، فلا معنى للحجر، بل يحبس أو يباع عليه، وهو أحد
وجهي الشافعي.
والثاني: أنه يحجر عليه إذا التمسه الغرماء؛ لئلا يتلف ماله (3).
ولو أخفى ماله، حبسه القاضي حتى يظهره.
روي أنه (عليه السلام) قال: [" لي الواجد يحل عرضه وعقوبته " (4).
قال المفسرون: أراد بالعقوبة الحبس و] (5) الملازمة، فإن لم ينزجر
[بالحبس] (6) زاد في تعزيره بما يراه من ضرب وغيره.
ولو كان له مال ظاهر، فهل يحبسه لامتناعه؟ الأولى ذلك؛ لأنه (صلى الله عليه وآله)
حبس رجلا أعتق شقصا له من عبد في قيمة الباقي (7).
فإن ادعى أنه قد تلف ماله وصار معسرا، فعليه البينة، فإن شهدوا
على التلف، قبلت شهادتهم ولم يعتبر فيهم الخبرة الباطنة. وإن شهدت
على إعساره، قبلت إن كانوا من أهل الخبرة الباطنة.

(1) تقدم تخريجه في ص 46، الهامش (5).
(2) في ص 45، المسألة 291.
(3) العزيز شرح الوجيز 5: 26، روضة الطالبين 3: 372.
(4) صحيح البخاري 3: 155.
(5 و 6) ما بين المعقوفين أضفناه من العزيز شرح الوجيز 5: 26، وروضة الطالبين 3:
372.
(7) العزيز شرح الوجيز 5: 26، وراجع سنن البيهقي 6: 49.
68

ويحمل قولهم: " إنه (1) معسر " على أنهم وقفوا على تلف المال.
فإن ادعى المديون أنه معسر لا شيء له، أو قسم مال المحجور على
الغرماء وبقي بعض الدين فزعم أنه لا يملك شيئا آخر وأنكر صاحب الدين
أو الغرماء إعساره، فإن كان الدين لزمه في مقابلة مال - كما إذا ابتاع أو
استقرض، أو باع سلما - فهو كما لو ادعى هلاك المال، فعليه البينة. وإن
لزم لا في مقابلة مال، قبل قوله مع اليمين؛ لأن الأصل العدم، وهو أصح
وجوه الشافعية.
والثاني: أنه لا يقبل، ويحتاج إلى البينة؛ لأن الظاهر من حال الحر أنه
يملك شيئا، قل أم كثر.
والثالث: أنه إن لزمه باختياره - كالصداق والضمان - لم يقبل قوله،
وعليه البينة. وإن لزمه لا باختياره - كأرش الجناية وغرامة المتلف - قبل
قوله مع اليمين؛ لأن الظاهر أنه لا يشغل ذمته اختيارا، ولا يلتزم بما لا يقدر
عليه (2).
مسألة 316: إذا ادعى المديون الإعسار وكان أصل الدعوى مالا، أو
كان له مال فادعى تلفه، افتقر إلى البينة؛ لأن الأصل بقاء المال في يده، فإذا
ادعى خلاف الأصل، كان عليه البينة. فإن لم تكن بينة، حلف الغرماء على
عدم التلف. فإذا حلفوا، حبس.
قال ابن المنذر: أكثر من يحفظ عنه العلم من علماء الأمصار
وقضاتهم يرون الحبس في الدين، منهم: مالك والشافعي وأبو عبيد

(1) في النسخ الخطية والحجرية: " ويحمل على قولهم: إنهم ". والصحيح ما أثبتناه.
(2) العزيز شرح الوجيز 5: 27، روضة الطالبين 3: 373.
69

والنعمان وسوار وعبيد الله بن الحسن وشريح والشعبي (1).
وقال عمر بن عبد العزيز: يقسم ماله بين الغرماء، ولا يحبس. وبه
قال [عبيد الله بن أبي] (2) جعفر والليث بن سعد (3).
وإن شهدت البينة بتلف ماله، سمعت. فإن طلب الغرماء يمينه على
ذلك مع البينة، لم يجابوا؛ لأن ذلك تكذيب للشهود.
وإن شهدت البينة بالإعسار وقد كان له مال، لم تسمع إلا أن تكون
البينة من أهل الخبرة الباطنة؛ لأن الإعسار أمر خفي، فافتقرت الشهادة به
إلى العشرة الطويلة والاختبار في أكثر الأوقات.
فإن شهدت بذلك وكانت من أهل الخبرة الباطنة، سمعت الشهادة،
وثبت الإعسار عندنا - وبه قال الشافعي وأحمد (4) - لأن النبي (صلى الله عليه وآله) قال
لقبيصة بن المخارق: " يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل
تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يؤديها ثم يمسك، ورجل أصابته
جائحة فاجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش - أو

(1) الإشراف على مذاهب أهل العلم 1: 145 - 146، المغني 4: 545، الشرح الكبير
4: 497، المدونة الكبرى 5: 204، بداية المجتهد 2: 293، التفريع 2: 247،
التلقين 2: 429، الذخيرة 8: 204، المعونة 2: 1182، النوادر والزيادات 10: 15،
التنبيه: 101، المهذب - للشيرازي - 1: 327، الوسيط 4: 17، التهذيب - للبغوي - 4:
109، العزيز شرح الوجيز 5: 26 - 27، روضة الطالبين 3: 372، الهداية - للمرغيناني -
3: 104، الاختيار لتعليل المختار 2: 141.
(2) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطية والحجرية: " عبد الله بن ". وما أثبتناه كما
في الإشراف على مذاهب أهل العلم 1: 146، وتاريخ مدينة دمشق 37: 408.
(3) الإشراف على مذاهب أهل العلم 1: 146، المغني 4: 545، الشرح الكبير
4: 497.
(4) المغني 4: 545، الشرح الكبير 4: 497.
70

قال: سدادا من عيش - ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي
الحجى من قومه: لقد أصاب فلانا فاقة، فحلت له المسألة حتى يصيب
قواما من عيش - أو قال: سدادا من عيش - " (1).
وقال مالك: لا تسمع البينة على الإعسار؛ لأنها شهادة على النفي،
فلا تسمع، كما لو شهدت أنه لا حق لزيد على عمرو (2).
وهو غلط؛ لأن هذه الشهادة وإن تضمنت النفي إلا أنها تشهد بثبوت
حال تظهر ويوقف عليها، كما لو شهد أن لا وارث غير هذا، فإنه تسمع
شهادته، بخلاف الشهادة بأنه لاحق عليه؛ لأن ذلك مما لا يوقف عليه
ولا يشهد به حال يتوصل بها إلى معرفته، بخلاف صورة النزاع.
مسألة 317: تسمع بينة الإعسار في الحال - وبه قال الشافعي
وأحمد (3) - لأن كل بينة جاز سماعها بعد مدة جاز سماعها في الحال،
كسائر البينات.
وقال أبو حنيفة: لا تسمع في الحال، ويحبس المفلس. واختلف
أصحابه في الضابط لمدة الحبس. فقال بعضهم: يحبس المفلس شهرين ثم
تسمع البينة. وقال الطحاوي: يحبس شهرا. وروي ثلاثة أشهر. وروي
أربعة أشهر حتى يغلب على ظن الحاكم أنه لو كان له مال لأظهره (4).

(1) صحيح مسلم 2: 722 / 1044، سنن أبي داود 2: 120 / 1640، سنن النسائي 5:
89، ولا يخفى أن الحديث ورد في النسخ الخطية والحجرية بتفاوت وتقديم
وتأخير في بعض الكلمات والجملات. والمثبت قريب لما في المصادر.
(2) النوادر والزيادات 10: 15، التهذيب - للبغوي - 4: 116، العزيز شرح الوجيز 5:
27، المغني 4: 545، الشرح الكبير 4: 498.
(3) حلية العلماء 4: 486، الوسيط 4: 17، الوجيز 1: 172، العزيز شرح الوجيز
5: 27، روضة الطالبين 3: 373، المغني 4: 546، الشرح الكبير 4: 498.
(4) فتاوى قاضيخان - بهامش الفتاوى الهندية - 5: 226، حلية العلماء 4: 486،
العزيز شرح الوجيز 5: 27، المغني 4: 546، الشرح الكبير 4: 498.
71

وليس بصحيح، وإلا لاستغني بذلك عن البينة.
مسألة 318: إذا أقام مدعي الإعسار البينة، شرط فيها أن يكونوا من
أهل الخبرة الباطنة والعشرة المتقادمة وكثرة الملابسة سرا وجهرا وكثرة
المجالسة وطول الجوار، فإن الأموال قد تخفى ولا يعرف تفصيلها إلا بأمثال
ذلك. فإن عرف القاضي أنهم من أهل الخبرة، فذاك، وإلا جاز له أن يعتمد
على قولهم إذا كانوا بهذه الصفة.
ويكفي شاهدان على ذلك، كما في سائر الأموال.
وقال بعض الشافعية: لا تقبل هذه الشهادة إلا من ثلاثة (1)؛ لأن رجلا
ذكر لرسول الله (صلى الله عليه وآله) أن جائحة أصابت ماله، وسأله أن يعطيه من الصدقة،
فقال (صلى الله عليه وآله): " حتى يشهد ثلاثة من ذوي الحجى من قومه " (2).
وهو محمول على الاحتياط والاستظهار.
وإذا لم يعرف له أصل مال ولم يكن أصل الدعوى مالا، قدم قوله
فيحلف وتسقط عنه المطالبة.
وإن أقام بينة بالإعسار، قبلت.
فإن طلب غريمه يمينه مع البينة، لم يجب إليه؛ لقوله (صلى الله عليه وآله): " البينة
على المدعي واليمين على المنكر " (3).
وقال الشافعي: يحلف (4).

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 27، روضة الطالبين 3: 373.
(2) كما في العزيز شرح الوجيز 5: 27، وراجع المصادر في الهامش (1) من ص 71.
(3) سنن البيهقي 10: 252، وفيه: "... على من أنكر ".
(4) المهذب - للشيرازي - 1: 327، الحاوي الكبير 6: 333، التهذيب - للبغوي -
4: 116، حلية العلماء 4: 485، العزيز شرح الوجيز 5: 28، روضة الطالبين 3:
374، المغني 4: 546، الشرح الكبير 4: 499.
72

وهل الإحلاف واجب أو مستحب؟ قال في حرملة: إنه واجب؛
لجواز أن يكون له مال لم تقف عليه البينة، فإذا ادعى ذلك، حلف له (1).
وقال في الأم: إنه مستحب؛ لأن ذلك قدح في الشهادة فلم يسمع،
كما إذا شهد شاهدان على رجل أنه أقر لزيد بكذا، فقال المقر له: احلفوا
لي المقر أنني أقررت له، لم يلزم؛ لأنه قدح في الشهادة، كذا هنا (2).
مسألة 319: صورة الشهادة بالإعسار يجب أن تكون على الإثبات
المتضمن للنفي، ولا يجعل الشهادة على النفي صرفة خالصة عن الإثبات،
فيقول الشهود: إنه معسر لا يملك إلا قوت يومه وثياب بدنه. وإن قالوا مع
ذلك: " إنه ممن تحل له الصدقة " كان جيدا، وليس شرطا.
ولا يقتصرون على قولهم: لا شيء له، لئلا تتمحض شهادتهم نفيا
لفظا ومعنى. فإن طلب الغرماء إحلافه مع البينة، لم يلزم، خلافا للشافعي
في أحد قوليه. وفي الثاني: أنه مستحب (3).
نعم، لو ادعى أن له مالا لا يعرفه الشاهد، فالأقوى عندي أن له
إحلافه على ذلك؛ لإمكان صدقه في دعواه، وحينئذ تتوقف اليمين على
استدعاء الخصم؛ لأنها حقه:
ويجوز أن يعفو عنها، فلا يتبرع الحاكم بإحلافه.
والشافعي لما أثبت اليمين مطلقا إما على سبيل الوجوب أو على
سبيل الاستحباب - على اختلاف قوليه - تردد في أنه هل يتوقف الحلف

(1) لاحظ: التهذيب - للبغوي - 4: 116، والعزيز شرح الوجيز 5: 28، وروضة
الطالبين 3: 374.
(2) لاحظ الأم 3: 212، والتهذيب - للبغوي - 4: 116، والعزيز شرح الوجيز 5:
28، وروضة الطالبين 3: 374.
(3) العزيز شرح الوجيز 5: 28، روضة الطالبين 3: 374.
73

على استدعاء الخصم؟ على وجهين:
أحدهما: لا، كما لو كانت الدعوى على ميت أو غائب، وعلى هذا
فهو من آداب القضاء.
وأظهرهما: نعم، كيمين المدعى عليه (1).
مسألة 320: قد بينا أنه يقبل قوله في الإعسار إذا لم يعرف له سابقة
مال، مع يمينه، فحينئذ نقول: إنه يقبل في الحال، كما لو أقام البينة تسمع
في الحال، وهو قول أكثر الشافعية (2).
وقال بعضهم: يتأنى القاضي ويبحث عن باطن حاله، ولا يقنع
بقوله، بخلاف ما إذا أقام البينة (3).
وحيث قلنا: إنه لا يقبل قوله إلا بالبينة لو ادعى أن الغرماء يعرفون
إعساره، كان له إحلافهم على نفي المعرفة، فإن نكلوا، حلف، وثبت
إعساره. وإن حلفوا، حبس. وكلما ادعى ثانيا وثالثا وهلم جرا أنه قد ظهر
لهم إعساره، كان له تحليفهم، إلا أن يعرف القاضي أنه يقصد الإيذاء
واللجاج. فإذا حبسه فلا يغفل عنه بالكلية.
ولو كان غريبا لا يتمكن من إقامة البينة، وكل به القاضي من يبحث
عن منشئه ومنتقله ويفحص عن أحواله بقدر الطاقة، فإذا غلب على ظنه
إفلاسه، شهد به عند القاضي؛ لئلا تتخلد عليه عقوبة السجن.
مسألة 321: إذا ادعى الإعسار وأقام البينة عليه، لم يكن للغرماء
مطالبته باليمين مع البينة على ما تقدم (4)، سواء شهدت البينة بالإعسار أو

(1 - 3) العزيز شرح الوجيز 5: 28، روضة الطالبين 3: 374.
(4) في ص 72، ضمن المسألة 318.
74

بتلف المال الذي كان في يده، وهو أحد قولي الشافعي، وظاهر كلام
أحمد (1).
ولهما قول آخر: إنه يستحلف؛ لاحتمال أن يكون له مال لا يعرفه
الشهود (2).
ويحتمل قويا إلزامه باليمين على الإعسار إن شهدت البينة بتلف
المال، وسقوطها عنه إن شهدت بالإعسار؛ لأنها إذا شهدت بالتلف، صار
كمن ثبت له أصل مال واعترف الغريم بتلفه وادعى مالا غيره، فإنه يلزمه
اليمين، كذا هنا إذا قامت البينة بالتلف، فإنها لا تزيد على الإقرار.
مسألة 322: لو ثبت الإعسار، خلاه الحاكم على ما تقدم (3)، فإن عاد
الغرماء بعد أوقات وادعوا أنه استفاد مالا، وأنكر، قدم قوله مع اليمين
وعدم البينة، وعليهم إقامة البينة، فإن جاؤوا بشاهدين شهدا بأنهما رأيا في
يده مالا يتصرف فيه، أخذه الغرماء.
فإن قال: أخذته من فلان وديعة أو مضاربة، وصدقه المقر له، حكم
عليه بذلك، وليس للغرماء فيه حق.
وهل للغرماء إحلافه على عدم المواطأة مع المقر له وأنه أقر عن
تحقيق؟ الأقرب: المنع؛ لأنه لو رجع عن إقراره لم يقبل، فلا معنى
لتحليفه.
ويحتمل إحلافه؛ لجواز المواطأة، فإذا امتنع من اليمين، حبس حتى
يسلم المال، أو يحلف. ولأنه لو أقر بالمواطأة، حبس على المال مع تصديق
الغير.

(1 و 2) المغني 4: 546، الشرح الكبير 4: 498 - 499.
(3) في ص 67، المسألة 314.
75

ولو طلب الغرماء يمين المقر له، فالأقرب: أن لهم إحلافه؛ لأنه لو
كذب المقر ثبت المال لهم، فإذا صدقه، حلف.
وللشافعي الوجهان (1).
وإن كذبه المقر له، صرف إليهم، ولم يفد إقراره شيئا.
ولو أقر به ثانيا لغير الأول، لم يلتفت إليه.
ولو أقر به لغائب، وقف حتى يحضر الغائب، فإن صدقه، أخذه،
ولاحق فيه للغرماء. وإن كذبه، أخذه الغرماء، أو يحلف بأنه للغائب،
وتسقط المطالبة عنه؛ لأصالة العسرة، وإمكان صدقه.
مسألة 323: لو ادعى الغرماء بعد فك الحجر أنه قد استفاد مالا، كان
القول قوله مع اليمين وعدم البينة؛ لأن الأصل بقاء العسرة.
وإن أقر بالمال أنه استفاده وطلب الغرماء الحجر عليه، نظر الحاكم
فإن كان ما حصل له يفي بالديون، لم يحجر عليه. وإن كان أقل، حجر
عليه، وقسم ماله بين الغرماء.
وإن كان قد تجدد له غرماء قبل الحجر الثاني، قسم بينهم وبين
الأوائل - وبه قال الشافعي (2) - لاستواء حقوقهم في الثبوت في الذمة حال
الحجر، فأشبه غرماء الحجر الأول.
وقال مالك: يختص به الغرماء المتأخرون؛ لأنه استفاده من
جهتهم (3).
وهو غلط؛ لأنا لا نعلم ذلك. ولأنا نقسم مال المفلس بين غرمائه

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 28، روضة الطالبين 3: 375.
(2) الإشراف على مذاهب أهل العلم 1: 152.
(3) الإشراف على مذاهب أهل العلم 1: 151.
76

وزوجته وإن كان حقها ثبت لا بمعاوضة.
مسألة 324: لو ثبت للولد على والده مال وكان الأب معسرا، لم تحل
مطالبته. وإن كان موسرا، كان له مطالبته إجماعا.
فإن امتنع من الأداء، فالأقرب عندي: أنه لا يحبس لأجل ولده؛ لأن
الحبس نوع عقوبة، ولا يعاقب الوالد بالولد.
ولأن الله تعالى قد بالغ في الوصية في الأبوين حتى أنهما لو أمراه
بالكفر لم يطعهما ومع ذلك يقول لهما قولا حسنا (1).
ولقوله (عليه السلام): " أنت ومالك لأبيك " (2) أي في حكم مال الأب، فكما
أنه لا يحبس في ماله، كذا في مال ولده الذي هو في حكم ماله.
ولما رواه الحسين بن أبي العلاء عن الصادق (عليه السلام)، قال: قلت له:
ما يحل للرجل من مال ولده؟ قال: " قوته بغير سرف إذا اضطر إليه " قال:
فقلت له: فقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) للرجل الذي أتاه فقدم أباه فقال: " أنت
ومالك لأبيك " فقال: " إنما جاء بأبيه إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال له: يا رسول الله
هذا أبي قد ظلمني ميراثي من أمي، فأخبره الأب أنه قد أنفقه عليه وعلى
نفسه، فقال: أنت ومالك لأبيك، ولم يكن عند الرجل شيء، أفكان رسول
الله (صلى الله عليه وآله) يحبس الأب للابن؟ " (3) وهذا استفهام في معرض الإنكار، وهو
يدل على المراد.

(1) العنكبوت: 8.
(2) سنن ابن ماجة 2: 769 / 2291 و 2292، سنن سعيد بن منصور 2: 115 / 2291
و 2292، سنن البيهقي 7: 481، المصنف - لابن أبي شيبة - 7: 158 / 2736
و 2742 و 2750.
(3) الكافي 5: 136 / 6، الفقيه 3: 109 / 456، التهذيب 6: 344 / 966، الاستبصار 3:
49 / 162.
77

وهو أحد قولي الشافعي (1).
وله قول آخر: إنه يحبس، وإلا لعجز الابن عن الاستيفاء، ويضيع
حقه (2).
وهو ممنوع، بل إذا أثبت الابن الدين عند القاضي، أخذه القاضي منه
قهرا من غير حبس، وصرفه إلى دينه. ولأنه قد يتمكن من أخذه غيلة،
فلا يكون عاجزا.
ولا فرق بين دين النفقة وغيرها، ولا بين أن يكون الولد صغيرا أو
كبيرا، وبه قال الشافعي (3).
وقال أبو حنيفة: إنه لا يحبس، إلا في نفقة الولد إذا كان صغيرا أو
زمنا (4).
مسألة 325: لو استؤجر المديون إجارة متعلقة بعينه ووجب حبسه،
ففي منع الإجارة المتعلقة بعينه نظر ينشأ: من جواز الحبس مطلقا؛ عملا
بإطلاق الأمر، ومن كون عينه مستحقة المنافع للغير، فلا يجوز حبسه؛
لئلا يتعطل شغل الغير.
والأقرب: الأول.
هذا فيما إذا لم يمكن الجمع بين الحبس واستيفاء المنافع، أما لو
لم يمتنع الجمع، فإنه يجوز حبسه قطعا.

(1 و 2) التهذيب - للبغوي - 4: 117، الوسيط 4: 19، العزيز شرح الوجيز 5: 29،
روضة الطالبين 3: 375.
(3) التهذيب - للبغوي - 4: 117، العزيز شرح الوجيز 5: 29، روضة الطالبين 3:
375.
(4) التهذيب - للبغوي - 4: 117، العزيز شرح الوجيز 5: 30.
78

البحث الرابع: في الاختصاص.
مسألة 326: من أفلس وحجر عليه الحاكم وكان من جملة ماله عين
اشتراها من غيره ولم يقبضه الثمن فوجدها بائعها، كان بالخيار بين أن
يفسخ البيع ويأخذ عينه بالشرائط الآتية، وبين الضرب مع الغرماء بالثمن -
وبه قال في الصحابة: علي (عليه السلام) وعثمان وأبو هريرة، وفي التابعين: عروة
ابن الزبير، ومن الفقهاء: مالك والأوزاعي والشافعي والعنبري وأحمد
وإسحاق (1) - لما رواه العامة عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: " إذا
أفلس الرجل ووجد البائع سلعته بعينها فهو أحق بها من الغرماء " (2).
وعن ابن خلدة الزرقي (3) قاضي المدينة قال: أتينا أبا هريرة في
صاحب لنا أفلس، فقال أبو هريرة: هذا الذي قضى فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله):
" أيما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه " (4).
ومن طريق الخاصة: ما رواه عمر بن يزيد - في الصحيح - عن
أبي الحسن (عليه السلام)، قال: سألته عن رجل يركبه الدين فيوجد متاع رجل عنده

(1) المغني 4: 493 - 494، الشرح الكبير 4: 503، الحاوي الكبير 6: 266،
العزيز شرح الوجيز 5: 30، روضة الطالبين 3: 383.
(2) صحيح مسلم 3: 1194 / 25، سنن ابن ماجة 2: 790 / 2358، سنن البيهقي 6:
46 بتفاوت.
(3) في الطبعة الحجرية: " أبي حلوة الفروفي ". وفي " ث، ج ": "... البروقي ". وفي
" ر ": " حلوة البروقي ". وكلها خطأ، والصحيح ما أثبتناه كما في المصادر. واسمه:
عمر بن خلدة، كما في المستدرك - للحاكم - 2: 50، وتهذيب التهذيب 7:
388 / 729.
(4) سنن ابن ماجة 2: 790 / 2360، سنن الدار قطني 3: 29 / 107، المستدرك
- للحاكم - 2: 50 - 51.
79

بعينه، قال: " لا يحاصه الغرماء " (1).
ولأن هذا العقد يلحقه الفسخ بتعذر العوض، فكان له الفسخ، كما لو
تعذر المسلم فيه. ولأنه لو شرط في البيع رهنا فعجز عن تسليمه، استحق
البائع الفسخ وهو وثيقة بالثمن، فالعجز عن تسليم الثمن إذا تعذر أولى.
وقال أبو حنيفة: ليس للحاكم أن يحجر عليه، وليس للبائع الرجوع
في عينه، بل يكون أسوة الغرماء؛ لتساويهم في سبب الاستحقاق،
فيتساوون في الاستحقاق. ولأن البائع كان له حق الإمساك لقبض الثمن فلما
سلمه قبل قبضه فقد أسقط حقه من الإمساك، فلم يكن له أن يرجع في
ذلك بالإفلاس، كالمرتهن (2).
والبائع وإن ساوى الغرماء في السبب لكن اختلفوا في الشرط، فإن
بقاء العين شرط لملك (3) الفسخ، وهو موجود في حق من وجد متاعه
دون من لم يجده.
والفرق: أن الرهن مجرد الإمساك على سبيل الوثيقة وليس ببدل،
وهنا (4) هو (5) بدل عنها (6)، فإذا تعذر استيفاؤه، رجع إلى المبدل (7).
قال أحمد: لو أن حاكما حكم أنه (8) أسوة الغرماء ثم رفع (9) إلى

(1) التهذيب 6: 193 / 420، الاستبصار 3: 8 / 19.
(2) الهداية - للمرغيناني - 3: 285 و 287، المغني 4: 494، الشرح الكبير 4: 503.
(3) في " ث، ر " والطبعة الحجرية: " تملك " بدل " لملك ".
(4) في " ث، ج " والطبعة الحجرية: " رهنا ". والصحيح ما أثبتناه.
(5) هو، أي الثمن.
(6) أي: عن العين.
(7) في النسخ الخطية والحجرية: " في البدل " بدل " إلى المبدل ". والظاهر ما أثبتناه.
(8) في النسخ الخطية والحجرية: " له " بدل " أنه ". والصحيح ما أثبتناه كما في
المصدر.
(9) في النسخ الخطية والحجرية: " رجع " بدل " رفع ". وما أثبتناه كما في المصدر.
80

حاكم يرى العمل بالحديث (1)، جاز له نقض حكمه (2).
إذا عرفت هذا، فلو مات المفلس قبل القسمة، فإن كان في التركة
وفاء للديون، اختص صاحب العين بماله، وإلا كان أسوة الغرماء؛ لما رواه
العامة عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: " أيما رجل باع متاعا فأفلس الذي ابتاعه
ولم يقبض البائع من ثمنه شيئا فوجده بعينه فهو أحق به، وإن مات فهو
أسوة الغرماء " (3) وغالب الإفلاس إنما يكون مع قصور المال عن الديون
على ما سلف (4).
ومن طريق الخاصة: رواية أبي ولاد عن الصادق (عليه السلام)، وقد
سلفت (5).
ومالك لم يفصل، بل أطلق القول بأن الغريم لا يختص بعين ماله في
صورة الميت، بل يشارك الغرماء؛ لما تقدم (6) من الرواية.
وقد بينا أن الإفلاس إنما يكون مع القصور.
ولأنه إذا مات انتقل الملك إلى الورثة فمنع ذلك الرجوع، كما لو باعه
المشتري ثم أفلس (7).
وهو ممنوع؛ لأن الوارث يقوم مقام المورث، ولهذا تتعلق به ديونه،

(1) في النسخ الخطية والحجرية: " بالرجوع " بدل " بالحديث ". وما أثبتناه كما في
المصدر. والمراد بالحديث حديث ابن خلدة الزرقي، المتقدم في ص 79.
(2) المغني 4: 494، الشرح الكبير 4: 504.
(3) تقدم تخريجه في ص 8، الهامش (3).
(4) في ص 6.
(5) في ص 8.
(6) آنفا.
(7) راجع: الهامش (1) من ص 8، المسألة 259.
81

بخلاف ما لو باعه.
مسألة 327: وهذا الخيار يثبت للبائع والمقرض والواهب بشرط
الثواب. وبالجملة، كل معاوضة، سواء وجد غير هذه العين، أو لم يوجد
سواها؛ للعموم (1).
والأقرب: أن هذا الخيار على الفور - وهو أحد قولي الشافعي،
وإحدى الروايتين عن أحمد (2) - لأن الأصل عدم الخيار، فيكون الأصل
عدم بقائه لو وجد. ولأنه خيار يثبت في البيع لنقص في العوض، فكان
على الفور، كالرد بالعيب والخلف (3) والشفعة. ولأن القول بالتراخي يؤدي
إلى الإضرار بالغرماء من حيث إنه يؤدي إلى تأخير حقوقهم.
والثاني: أنه على التراخي؛ لأنه حق رجوع لا يسقط إلى عوض،
فكان على التراخي، كالرجوع في الهبة (4).
وما قلناه أشبه من خيار الهبة.
فعلى ما اخترناه من الفورية لو علم بالحجر ولم يفسخ، بطل حقه من
الرجوع.
وقال بعض الشافعية: يتأقت بثلاثة أيام، كما هو أحد أقوال الشافعي
في خيار المعتقة تحت الرقيق وفي الشفعة (5).

(1) راجع: الهامش (4) من ص 79.
(2) المهذب - للشيرازي - 1: 329، الحاوي الكبير 6: 270، حلية العلماء 4:
496، الوسيط 4: 20، العزيز شرح الوجيز 5: 30، روضة الطالبين 3: 383،
منهاج الطالبين: 122، المغني 4: 495، الشرح الكبير 4: 504.
(3) في النسخ الخطية والحجرية: " الحلب " بدل " الخلف ". والصحيح ما أثبتناه.
(4) نفس المصادر في الهامش (2).
(5) العزيز شرح الوجيز 5: 30، روضة الطالبين 3: 383.
82

مسألة 328: لا يفتقر هذا الخيار إلى إذن الحاكم، بل يستبد به الفاسخ
من غير الحاجة إلى حكم الحاكم؛ لأنه ثابت بالسنة الصحيحة، فصار كخيار
المرأة فسخ النكاح، والعتق.
ولوضوح الحديث ذهب بعض الشافعية إلى أنه لو حكم حاكم بالمنع
من الفسخ، نقض حكمه (1).
وهو أحد وجهي الشافعية. والثاني: أنه يفتقر إلى حكم الحاكم
وإذنه؛ لأنه فسخ مختلف فيه، كالفسخ بالإعسار (2).
مسألة 329: الفسخ قد يحصل بالقول، كما ينعقد البيع به.
وصيغة الفسخ: فسخت البيع، ونقضته، ورفعته.
ولو اقتصر على قوله: رددت الثمن، أو: فسخت البيع، فيه إشكال
أقربه: الاكتفاء به، وهو أصح قولي الشافعي.
والثاني: لا يكتفى بذلك؛ لأن حق الفسخ أن يضاف إلى العقد
المرسل، ثم إذا انفسخ العقد، ثبت مقتضاه (3).
وقد يحصل بالفعل، كما لو باع صاحب السلعة سلعته، أو وهبها، أو
دفعها.
وبالجملة، إذا تصرف فيها تصرفا يدل على الفسخ، كوطىء الجارية
المبيعة، على الأقوى؛ صونا للمسلم عن فاسد التصرفات، وتكون هذه
التصرفات تدل على حكمين: الفسخ، والعقد، وهو أحد قولي الشافعي.
والأصح عنده: أنه لا يحصل الفسخ بها، وتلغو هذه التصرفات (4).

(1 و 2) المهذب - للشيرازي - 1: 329، التهذيب - للبغوي - 4: 85، حلية العلماء
4: 496، العزيز شرح الوجيز 5: 30، روضة الطالبين 3: 383.
(3) العزيز شرح الوجيز 5: 31، روضة الطالبين 3: 383.
(4) المهذب - للشيرازي - 1: 329 - 330، التهذيب - للبغوي - 4: 86، الحاوي
الكبير 6: 270، حلية العلماء 4: 497، العزيز شرح الوجيز 5: 30، روضة
الطالبين 3: 383.
83

واعلم أن حق الرجوع للبائع لا يثبت على الإطلاق بالإجماع، بل هو
مشروط بأمور يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى.
ولا يختص الرجوع بالبيع على ما تقدم (1)، بل يثبت في غيره من
المعاوضات، وإنما يظهر الغرض بالنظر في أمور ثلاثة: العوض المتعذر
تحصيله، والعرض (2) المسترجع، والمعاوضة التي بها انتقل الملك إلى
المفلس.
النظر الأول: في العوض.
يشترط في العوض أمران: الحلول، وتعذر استيفائه بسبب الإفلاس،
فلو كان الثمن مؤجلا، لم يكن له الرجوع؛ لأنه لا مطالبة له في الحال،
فكيف يفسخ البيع اللازم بغير موجب!؟ وإلا لحل الأجل بالفلس على ما
تقدم (3).
ولو حل الأجل قبل انفكاك الحجر، فالأقرب: أنه لا يشارك صاحبه
الغرماء؛ لسبق تعلق حقهم بالأعيان، بخلاف ما لو ظهر دين حال سابق،
فإنه يشارك الغرماء، فعلى هذا ليس لصاحب الدين الذي قد حل الرجوع
في عين ماله، سواء كان الحاكم قد دفعها في بعض الديون أو لا.
مسألة 330: لو كانت أمواله وافية بالديون، لم يجز الحجر عندنا،

(1) في ص 82، المسألة 327.
(2) أي المعوض.
(3) في ص 16، المسألة 263.
84

وهو الظاهر من مذهب الشافعي (1).
وله قول آخر: إنه يجوز الحجر عليه (2).
فعلى تقدير جواز الحجر لو حجر، فهل لصاحب العين الرجوع في
عينه؟ للشافعي وجهان:
أحدهما: أنه لا يرجع؛ لأنه يصل إلى الثمن.
والثاني: أنه يرجع؛ لأنه لو لم يرجع لما أمن أن يظهر غريم آخر
فيزاحمه فيما أخذه (3).
وهذان الوجهان عندنا ساقطان؛ لأنهما فرع الحجر وقد منعناه.
مسألة 331: لو ترك الغرماء لصاحب السلعة الثمن ليتركها، قال
الشيخ (رحمه الله): لم يلزمه القبول، وكان له أخذ عينه (4) - وبه قال الشافعي
وأحمد (5) - لما فيه من تحمل المنة، ولعموم الخبر (6)، ولأنه ربما يظهر
غريم آخر فيزاحمه فيما أخذ.
وللشافعية فيه وجه آخر: أنه لا يبقى له الرجوع في العين، تخريجا

(1) المهذب - للشيرازي - 1: 328، التهذيب - للبغوي - 4: 85، الحاوي الكبير 6:
265، حلية العلماء 4: 488، العزيز شرح الوجيز 5: 7 - 8، روضة الطالبين 3:
365.
(2) المهذب - للشيرازي - 1: 328، التهذيب - للبغوي - 4: 85، الحاوي الكبير 6:
265، حلية العلماء 4: 488 - 489، العزيز شرح الوجيز 5: 7 - 8، روضة
الطالبين 3: 365.
(3) الحاوي الكبير 6: 265 - 266، حلية العلماء 4: 489 - 490، العزيز شرح
الوجيز 5: 31، روضة الطالبين 3: 384.
(4) الخلاف 3: 265، المسألة 4.
(5) العزيز شرح الوجيز 5: 31، روضة الطالبين 3: 384، المغني 4: 496، الشرح الكبير
4: 505.
(6) سنن أبي داود 3: 286 - 287 / 3520 و 3522.
85

مما إذا حجر عليه الحاكم وفي ماله وفاء (1).
وقال مالك: ليس له الرجوع في العين؛ لأن ذلك إنما جعل له لما
يلحقه من النقص في الثمن، فإذا بذل له، لم يكن له الرجوع، كما إذا زال
العيب من المبيع، لم يكن له رده (2).
ويمكن أن نقول: إن كان المدفوع من مال المفلس، لم يجب
القبول؛ لإمكان تجدد غريم آخر، فلا يأمن من مزاحمته، فكان له الرجوع
في العين.
وإن كان من مال الغرماء أو تبرع به أجنبي، فإنه لا يجب عليه الإجابة
أيضا؛ لأنه تبرع بدفع الحق غير من هو عليه، فلم يجبر صاحب الحق على
قبضه، كما لو أعسر الزوج بالنفقة فبذل غيره النفقة، أو عجز المكاتب
فبذل عنه متبرع ما عليه لسيده.
والوجه أن نقول: إذا دفع الغرماء من خالص أموالهم ثمن السلعة
وكان في السلعة زيادة بأن غلا سعرها أو كثر الراغبون إليها ويرجى لها
صعود سعر، كان على صاحب السلعة أخذ ما بذله الغرماء؛ لما فيه من
انتفاعهم بالسلعة، بخلاف التبرع عن الزوج والمكاتب؛ إذ لا حق لهم في
المعوض، والغرماء لهم حق في المعوض، فكان لهم ذلك؛ لما في منعهم
من الإضرار بالمفلس، وهو منفي.
مسألة 332: إذا أوجبنا عليه أخذ ما بذله الغرماء من مالهم (3)، أو
أجابهم إليه تبرعا منه ثم ظهر غريم آخر، لم يشارك صاحب السلعة فيما

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 31.
(2) المدونة الكبرى 5: 237، الذخيرة 8: 172، العزيز شرح الوجيز 5: 31، المغني
4: 496، الشرح الكبير 4: 505.
(3) في " ج ": " أموالهم ".
86

أخذه منهم، أما لو كان المدفوع من مال المفلس وخصوه ثم ظهر غريم
آخر، شاركه فيما أخذه.
ولو دفع الغرماء الثمن إلى المفلس من مالهم فبذله للبائع، لم يكن له
الفسخ؛ لأنه زال العجز عن تسليم الثمن فزال ملك الفسخ، كما لو أسقط
سائر الغرماء حقوقهم عنه، ملك الثمن.
ولو أسقط الغرماء حقهم عنه فتمكن من الأداء، أو وهب له مال
فأمكنه الأداء منه، أو غلت أعيان أمواله فصارت قيمتها وافية بحقوق الغرماء
بحيث يمكن أداء الثمن كله، لم يكن للبائع الفسخ؛ لزوال سببه، ولأنه
أمكنه الوصول إلى ثمن سلعته من المشتري، فلم يكن له الفسخ، كما لو
لم يفلس.
ولو دفع الغرماء إلى المفلس من عين ماله قدر الثمن ليدفعه إلى
البائع، لم يجب على البائع القبول حذرا من ظهور آخر.
مسألة 333: لو مات المشتري المفلس، لم يزل الحجر عن المال، بل
يتأكد، فإنه لو مات غير محجور عليه، حجر عليه، فلو قال وارثه للبائع
والسلعة باقية: لا ترجع حتى أقدمك على الغرماء، لم يلزمه القبول أيضا؛
لما ذكرناه من محظور ظهور غريم آخر.
ولو قال: أؤدي الثمن من مالي، فالوجه: أن عليه القبول، ولم يكن
له الفسخ؛ لأن الوارث خليفة المورث، فله تخليص المبيع، وكما أن
المديون لو دفع الثمن إلى [البائع] (1)، لم يكن له الفسخ، كذا وارثه.
هذا على تقدير أن يكون المديون قد خلف وفاء، أما إذا لم يخلف

(1) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطية والحجرية: " المشتري ". والظاهر أن
الصحيح ما أثبتناه.
87

وفاء، فإنه لا اختصاص له بالعين على ما بيناه.
مسألة 334: لو امتنع المشتري من تسليم الثمن مع يساره، أو هرب
أو مات وهو ملي فامتنع الوارث من دفع الثمن، فإن كان الثمن حالا
ولم تسلم السلعة إلى المشتري، فإنه يتخير البائع بعد ثلاثة أيام في الفسخ
والصبر عندنا خاصة.
ولو كان البائع قد سلم السلعة إلى المشتري، لم يكن له الفسخ وإن
تعذر عليه ثبوته (1) أو مطله أو شبه ذلك - وهو أصح وجهي الشافعي (2) -
لأنه لم يوجد عيب الإفلاس، ويمكن التوصل إلى الاستيفاء بالسلطان، فإن
فرض عجز، كان نادرا لا عبرة به.
والثاني: أن له الفسخ؛ لتعذر الوصول إلى الثمن (3).
مسألة 335: لو باع السلعة وضمن المشتري ضامن بالثمن، فإن كان
البائع قد رضي بضمانه، انتقل حقه عن المشتري إلى الضامن؛ لأن الضمان
عندنا ناقل وقد رضي بانتقال المال من ذمة المشتري إلى ذمة الضامن،
فبرئت ذمة المشتري، ولم يكن للبائع الرجوع في العين، سواء تعذر عليه
الاستيفاء من الضامن أو لا.
ولو لم يرض البائع بضمانه، لم يكن بذلك الضمان اعتبار.
إذا عرفت هذا، فإنه لا اعتبار لإذن المشتري في الضمان عندنا، بل
متى ضمن ورضي البائع صح الضمان، سواء ضمن بإذن المشتري أو تبرع
بالضمان عنه.

(1) أي: ثبوت التسليم. والظاهر: " إثباته ".
(2 و 3) التهذيب - للبغوي - 4: 87، العزيز شرح الوجيز 5: 31 - 32، روضة
الطالبين 3: 384.
88

وقال الشافعي: إن ضمن بإذن المشتري، فلا رجوع للبائع في العين؛
لأنه ليس بمتبرع على المشتري، والوصول من يده كالوصول من يد
المشتري. وإن ضمن بغير إذنه، فوجهان:
أحدهما: أنه يرجع، كما لو تبرع متبرع بالثمن.
والثاني: أنه لا يرجع؛ لأن الحق قد تقرر في ذمته، وتوجهت
المطالبة عليه، بخلاف المتبرع (1).
تذنيب: لو أعير [من] (2) المشتري ما يرهنه بالثمن، صح، ولم يكن له
الرجوع في العين؛ لإمكان إيفائه من الدين بالرهن.
وللشافعي الخلاف السابق في الضمان (3).
مسألة 336: لو انقطع جنس الثمن، فإن جوزنا الاعتياض عنه إذا كان
في الذمة والاستبدال، فلا تعذر في استيفاء عوض عنه، ولم يكن للبائع
فسخ البيع.
وإن منعنا من الاعتياض، فهو كانقطاع المسلم فيه، والمسلم فيه إذا
انقطع، كان أثره ثبوت حق الفسخ - وهو أصح قولي الشافعي. وفي الثاني:
الانفساخ، وهو أضعف قوليه (4) - فكذا هنا.
النظر الثاني: في المعاوضة.
يعتبر في المعاوضة - التي يملك فيها المفلس - شرطان: سبق
المعاوضة على الحجر، وكونها محض معاوضة، فلو باع من المفلس شيئا
بعد الحجر عليه، فالأقرب: الصحة على ما تقدم (5).

(1 و 3 و 4) العزيز شرح الوجيز 5: 32، روضة الطالبين 3: 385.
(2) ما بين المعقوفين أضفناه لأجل السياق.
(5) في ص 27، المسألة 273.
89

وهل يثبت له حق الفسخ والرجوع في العين؟ خلاف سبق (1). فإن
قلنا: لا رجوع، تحقق شرط سبق المعاوضة على الحجر، وإلا فلا.
ولو آجر الإنسان داره وسلمها إلى المستأجر وقبض الأجرة ثم أفلس
وحجر عليه، فالإجارة مستمرة بحالها لا سبيل للغرماء عليها، كالرهن
يختص به المرتهن.
فإن انهدمت الدار في أثناء المدة وفسخت الإجارة فيما بقي منها،
ضارب المستأجر مع الغرماء بحصة ما بقي منها إن كان الانهدام قبل قسمة
المال بينهم.
وإن كان بعد القسمة، فالأقوى: أنه يضارب أيضا - وهو أصح وجهي
الشافعي (2) - لأنه دين أسند إلى عقد سابق على الحجر، وهو الإجارة،
فصار كما لو انهدمت (3) قبل القسمة.
وفي الآخر: أنه لا يضارب؛ لأنه دين حدث بعد القسمة، فصار كما
لو استقرض (4).
ويضعف بأن السبب متقدم، فيكون مسببه كالمتقدم.
مسألة 337: لو باعه جارية بعبد وتقابضا ثم أفلس مشتري الجارية
وحجر عليه وهلكت الجارية في يده ثم وجد بائعها بالعبد عيبا فرده، فله
طلب قيمة الجارية قطعا.
والأقرب في الطلب: أنه يضارب كسائر أرباب الديون، وهو أصح

(1) في ص 33، ضمن المسألة 280.
(2 و 4) الحاوي الكبير 6: 310، حلية العلماء 4: 518، العزيز شرح الوجيز 5: 39،
روضة الطالبين 3: 390.
(3) في النسخ الخطية والحجرية: " انهدم ". والظاهر ما أثبتناه.
90

وجهي الشافعية.
والثاني: أنه يقدم على سائر الغرماء بقيمتها؛ لأنه أدخل في مقابلتها
عبدا في مال المفلس (1).
وهذان الوجهان يخالفان الوجهين في رجوع من باع منه بعد الحجر
عليه (2) شيئا بالثمن إذا قلنا: لا يتعلق بعين متاعه، فإنا في وجه نقول:
يضارب. وفي وجه نقول: يصبر إلى أن يستوفي الغرماء حقوقهم،
ولا نقول بالتقدم بحال.
والفرق: أن الدين هناك حادث بعد الحجر، وهنا مستند إلى سبب
سابق على الحجر، فإذا انضم إليه إدخال شيء في ملك المفلس، أثر في
التقديم على أحد القولين (3).
مسألة 338: قد بينا اشتراط التمحض للمعاوضة فيها، فلا يثبت
الفسخ في النكاح والخلع والصلح بتعذر استيفاء العوض، وهو ظاهر على
معنى أن المرأة لا تفسخ النكاح بتعذر استيفاء الصداق، ولا الزوج الخلع
ولا العافي عن القصاص الصلح بتعذر استيفاء العوض.
وللشافعي قول بتسلط المرأة على الفسخ بتعذر استيفاء الصداق (4).
وسيأتي إن شاء الله تعالى.
وكذا ليس للزوج فسخ النكاح إذا لم تسلم المرأة نفسها، وتعذر
الوصول إليها.

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 40، روضة الطالبين 3: 390.
(2) كلمة " عليه " من " ث، ج، ر ".
(3) العزيز شرح الوجيز 5: 40.
(4) الأم 5: 91، مختصر المزني: 232، الحاوي الكبير 11: 461، التهذيب
- للبغوي - 6: 359، العزيز شرح الوجيز 10: 53، روضة الطالبين 6: 483.
91

أما إذا انفسخ النكاح من جهتها فسقط صداقها، أو طلقها قبل الدخول
فسقط نصفه وبقي نصفه فاستحق الزوج الرجوع بما دفعه أو بنصفه فأقل
وعين الصداق موجودة، فهو أحق بعين ماله؛ لقوله (عليه السلام): " من أدرك متاعه
بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به " (1).
مسألة 339: إذا أفلس المسلم إليه قبل توفية مال السلم، فأقسامه
ثلاثة:
أ: أن يكون رأس المال باقيا بحاله، فللمسلم فسخ العقد والرجوع
إلى رأس ماله، كما في البائع. وإن أراد أن يضارب مع الغرماء بالمسلم فيه
ولا يفسخ، أجيب إليه.
ب: أن يكون بعض رأس المال باقيا وبعضه تالفا، وحكمه حكم
ما لو تلف بعض المبيع دون بعض، وسيأتي.
ج: أن يكون رأس المال تالفا، فالأقرب أنه لا ينفسخ السلم بمجرد
ذلك، كما لو أفلس المشتري بالثمن والمبيع تالف، بخلاف الانقطاع؛ فإنه
هناك إذا فسخ، رجع إلى رأس المال بتمامه، وهنا إذا فسخ، لم يكن له
[إلا] (2) المضاربة برأس المال. ولو لم يفسخ، لضارب بالمسلم فيه، وهذا
[أنفع؛ إذ الغالب] (3) زيادة قيمة المسلم فيه على رأس المال، فحينئذ

(1) ورد نصه في المغني 4: 497، والشرح الكبير 4: 507، وبتفاوت يسير في
صحيح البخاري 3: 155 - 156، وصحيح مسلم 3: 1193 / 1559، وسنن البيهقي
6: 45.
(2) الزيادة يقتضيها السياق، وكما هي مقتضى قول المصنف (قدس سره) في قواعد الأحكام 2:
148.
(3) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطية والحجرية: " يقع إذا تعالت ". وهي
تصحيف، والصحيح ما أثبتناه.
92

[يقوم] (1) المسلم فيه، ويضارب المسلم بقيمته مع الغرماء، فإذا عرفت
حصته، نظر إن كان في المال من جنس المسلم فيه، أخذ منه بقدر نصيبه،
وإن لم يكن، اشتري له من جنس حقه، ويبقى له الباقي في ذمة المفلس،
وليس له أن يأخذ القيمة إذا لم يكن من جنس الحق؛ لأنه يأخذ بدل
المسلم فيه. وهو (2) أصح وجهي الشافعية.
والثاني: أن للمسلم فسخ العقد والمضاربة (3) مع الغرماء برأس
المال؛ لأنه تعذر عليه الوصول إلى تمام حقه، فليمكن من فسخ السلم،
كما لو انقطع جنس المسلم فيه (4).
وليس عندي بعيدا من الصواب.
وعلى هذا فهل يجيء قول بانفساخ السلم كما لو انقطع جنس
المسلم فيه؟
قال بعض الشافعية: نعم، إتماما للتشبيه (5).
وقال بعضهم: لا؛ لإمكان حصوله باستقراض وغيره، بخلاف
الانقطاع (6).
وإذا كان رأس المال تالفا وانقطع جنس المسلم فيه، فالأقوى أنه

(1) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطية والحجرية: " يقدم ". وهي تصحيف،
والمثبت هو الصحيح.
(2) في " ر " والطبعة الحجرية: " وهذا ".
(3) في النسخ الخطية والحجرية: " المعاوضة " بدل " المضاربة ". وما أثبتناه من
المصادر.
(4) المهذب - للشيرازي - 1: 333، الحاوي الكبير 6: 308، حلية العلماء 4:
516، العزيز شرح الوجيز 5: 34، روضة الطالبين 3: 386.
(5 و 6) العزيز شرح الوجيز 5: 34، روضة الطالبين 3: 386.
93

يثبت له حق الفسخ؛ لأن سببه ثابت، وهو الانقطاع، فإنه سبب للفسخ في
حق غير المحجور عليه ففي حقه أولى، ولأن ما يثبت في حق غير
المحجور عليه يثبت في حق المحجور عليه كالرد بالعيب.
وله فائدة هنا؛ فإن ما يخصه لو فسخ، لصرف إليه في الحال عن
جهة رأس المال، وما يخصه لو لم يفسخ، لم يصرف إليه، بل يوقف إلى
أن يعود المسلم فيه فيشتري به.
مسألة 340: لو قوم المسلم فيه فكانت قيمته - مثلا - عشرين، فأفرزنا (1)
من المال للمسلم (2) عشرة؛ لكون الديون ضعف المال، ثم رخص السعر
قبل الشراء فكانت العشرة تفي بثمن جميع المسلم فيه، فالأقرب: أنه
يشترى به جميع حقه ويسلم إليه؛ لأن الاعتبار إنما هو بيوم (3) القسمة.
والموقوف وإن لم يملكه المسلم لكنه صار كالمرهون بحقه وانقطع
حقه عن غيره من الحصص حتى لو تلف قبل التسليم إليه لم يتعلق بشيء
مما عند الغرماء، فكان حقه في ذمة المفلس.
ولا خلاف في أنه لو فضل الموقوف عن جميع حق المسلم، كان
الفاضل للغرماء، وليس له أن يقول: الزائد قد زاد لي، وهو أحد وجهي
الشافعية.
والثاني: أنا نرد الموقوف إلى ما يخصه باعتبار قيمة الأجزاء فتصرف
إليه خمسة، والخمسة الباقية توزع عليه وعلى باقي الغرماء؛ لأن الموقوف
لم يدخل في ملك المسلم، بل هو باق على ملك المفلس، وحق المسلم

(1) في النسخ الخطية والحجرية إضافة " له " وحذفناها لزيادتها.
(2) في النسخ الخطية والحجرية: " المسلم ". والمثبت هو الصحيح.
(3) في النسخ الخطية والحجرية: " يوم ". والمثبت هو الصحيح.
94

في الحنطة (1)، لا في ذلك الموقوف، فإذا صارت القيمة عشرة، فليس دينه
إلا ذلك (2).
ولا استبعاد فيه.
ولو غلا السعر وكنا قد أوقفنا العشرة ولم يوجد القدر الذي أسلم فيه
إلا بأربعين، فعلى الأول لا يزاحمهم، وليس له إلا ما وقف له، وهو العشرة
يشتري له بها ربع حقه، ويبقى الباقي في ذمة المفلس. وعلى الوجه
[الثاني] (3) ظهر أن الدين أربعون، فيسترجع من سائر الحصص ما تتم به
حصة الأربعين.
مسألة 341: إذا ضرب الغرماء على قدر رؤوس أموالهم وأخذ المسلم
مما خصه قدرا من المسلم فيه وارتفع الحجر عنه ثم حدث له مال وأعيد
الحجر واحتاجوا إلى الضرب ثانيا، قومنا المسلم فيه، فإن اتفقت قيمته الآن
والقيمة السابقة، فذاك، وإلا فالتوزيع الآن يقع باعتبار القيمة الزائدة.
وإن نقصت، فالاعتبار بالقيمة الثانية أو بالأقل؟ الأقرب: الأول، وهو
أصح وجهي الشافعية (4).
ولو كان المسلم فيه ثوبا أو عبدا، فحصة المسلم يشترى به شقص
منه، للضرورة، فإن لم يوجد، فللمسلم الفسخ.
مسألة 342: الإجارة نوعان:
الأول: ما تتعلق بالأعيان، كالأرض المعينة للزرع، والدار للسكنى،

(1) ذكر الحنطة من باب المثال، حيث لم يسبق لها ذكر.
(2) العزيز شرح الوجيز 5: 35، روضة الطالبين 3: 386.
(3) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطية والحجرية: " الأول ". والصحيح ما أثبتناه.
(4) العزيز شرح الوجيز 5: 35، روضة الطالبين 3: 387.
95

والعبد للخدمة، والدابة للحمل.
ثم في كل واحد من القسمين (1) إما أن يفلس المستأجر أو المؤجر.
فلو استأجر (2) أرضا أو دابة ثم أفلس قبل تسليم الأجرة وقبل مضي
شيء من المدة، كان للمؤجر فسخ الإجارة، تنزيلا للمنافع في الإجارة
منزلة الأعيان في البيع، وهو المشهور عند الشافعية (3).
وحكى الجويني قولا آخر للشافعي: إنه لا يثبت الرجوع بالمنافع،
ولا تنزل منزلة الأعيان القائمة؛ إذ ليس لها وجود مستقر (4).
إذا عرفت هذا، فنقول: للمؤجر الخيار في فسخ الإجارة والرجوع
بالعين والمنافع، وفي إمضاء الإجارة والضرب مع الغرماء بالأجرة.
فإن كانت العين المستأجرة فارغة، آجرها الحاكم على المفلس،
وصرف الأجرة إلى الغرماء.
ولو كان التفليس بعد مضي بعض المدة، فللمؤجر فسخ الإجارة في
المدة الباقية، والمضاربة مع الغرماء بقسط المدة الماضية من الأجرة
المسماة، بناء على أنه إذا باع عبدين فتلف أحدهما ثم أفلس، يفسخ البيع
في الباقي، ويضارب بثمن التالف، وبه قال الشافعي (5)، خلافا لأحمد
حيث يذهب أنه إذا تلف بعض المبيع، لم يكن للبائع الرجوع في البعض
الباقي، كذا هنا إذا مضى بعض المدة، كان بمنزلة تلف بعض المبيع (6).

(1) كذا، والظاهر: " من النوعين ".
(2) من هنا شرع المصنف (قدس سره) فيما يتعلق بالقسم الأول. ويأتي القسم الثاني في ص 101.
(3) العزيز شرح الوجيز 5: 36، روضة الطالبين 3: 387.
(4) العزيز شرح الوجيز 5: 36.
(5) التهذيب - للبغوي - 4: 99، العزيز شرح الوجيز 5: 36، روضة الطالبين 3:
387، المغني 4: 497، الشرح الكبير 4: 506 - 507.
(6) المغني 4: 497، الشرح الكبير 4: 506.
96

ويحتمل فسخ العقد في الجميع إذا مضى بعض المدة، ويضرب
بقسط ما حمل من أجرة المثل.
مسألة 343: لو أفلس مستأجر الدابة وحجر عليه في خلال الطريق
ففسخ المؤجر، لم يكن له طرح متاعه في البادية المهلكة، ولا في موضع
غير محترز، بل يجب عليه نقله إلى مأمن بأجرة المثل لذلك النقل من ذلك
المكان، ويقدم به على الغرماء؛ لأنه لصيانة المال وحفظه وإيصاله إلى
الغرماء، فأشبه أجرة الكيال والحمال وأجرة المكان المحفوظ فيه، فإذا
وصل إلى المأمن، وضعه عند الحاكم.
ولو وضعه على يد عدل من غير إذن الحاكم، فوجهان.
وكذا لو استأجر لحمل متاع فحمل بعضه.
فروع:
أ - لو كان المأمن في صوب المقصد، وجب المضي إليه.
وهل للمؤجر تعجيل الفسخ في موضع العلم بالحجر، أو يجب عليه
الصبر إلى المأمن؟ الأقرب: الأول؛ لأن الحجر سبب في تخييره بين الفسخ
والإمضاء، وقد وجد السبب، فيوجد المسبب.
ويحتمل الثاني؛ لأنه يجب عليه المضي إلى المأمن، سواء فسخ أو
لا، فلا وجه لفسخه.
ب - تظهر الفائدة فيما لو كان الأجر (1) في نقله من موضع الحجر
إلى موضع المأمن مخالفا لما يقع له بعد التقسيط من المسمى، فإن قلنا: له
الفسخ، ففسخ، كان له أجرة المثل إلى المأمن، سواء زادت عن القسط من
المسمى أو نقصت أو ساوته. وإن قلنا: ليس له الفسخ، فله القسط من

(1) في " ث " والطبعة الحجرية: " الأجرة ".
97

المسمى.
ج - لو قلنا: ليس له الفسخ، أو قلنا: له الفسخ، ولم يفسخ، هل
يقدم بقسط النقل من موضع الحجر إلى المأمن من المسمى؟ إشكال ينشأ:
من أنه مستمر على الإجارة السابقة التي يجب الضرب بمسماها مع الغرماء،
فلم يقدم على باقي الغرماء في هذا القسط، كما لم يقدم في القسط للنقل
من مبدأ المسافة إلى موضع الحجر، ومن أن له النقل من المخافة إلى
المأمن بأجرة مقدمة، فيجب تقديم هذا القسط من المسمى.
د - لو كان النقل إلى المأمن إنما هو في منتهى مسافة الإجارة، وجب
النقل إليه.
ويجيء الاحتمالان في أن المؤجر هل له الفسخ أم لا؟ لكن احتمال
عدم الفسخ هنا أقوى منه في الأول.
ه‍ - لو كان النقل إلى المأمن إنما يحصل بأجرة مساوية للنقل إلى
المقصد أو أكثر، فالأولى وجوب النقل إلى المقصد، وعدم تخييره في
الفسخ، بل يجب عليه إمضاء العقد.
وهل يقدم بالقسط للنقل من موضع الحجر إلى المقصد من المسمى
أم لا؟ إشكال.
و - لو كان المأمن في صوب المقصد وصوب مبدأ المسافة على حد
واحد أو تعددت مواضع الأمن وتساوت قربا وبعدا، فإن كانت أجرة
الجميع واحدة، نظر إلى المصلحة، فإن تساوت، كان له سلوك أيها شاء،
لكن الأولى سلوك ما يلي المقصد؛ لأنه مستحق عليه في أصل العقد. وإن
اختلفت الأجرة، سلك أقلها أجرة.
وإن تفاوتت المصلحة، فإن اتفقت مصلحة المفلس والغرماء في
98

شيء واحد، تعين المصير إليه. وإن اختلفت، فالأولى تقديم مصلحة
المفلس.
مسألة 344: لو فسخ المؤجر للأرض إجارتها؛ لإفلاس المستأجر،
فإن كانت فارغة، أخذها، فإن كان قد مضى من المدة شيء، كان كما
تقدم (1)، وينبغي أن يكون الماضي من الزمان له وقع بحيث يقسط المسمى
عليه، فيرجع في الباقي من المدة بقسطه.
وإن كانت الأرض مشغولة بالزرع، فإن كان الزرع قد استحصد، فله
المطالبة بالحصاد وتفريغه (2).
وإن لم يكن استحصد، فإن اتفق الغرماء والمفلس على قطعه، قطع.
وإن اتفقوا على التبقية إلى الإدراك، فلهم ذلك بشرط أن يقدموا المؤجر
بأجرة المثل لبقية المدة - محافظة للزرع - على الغرماء.
وإن اختلفوا فأراد بعضهم القطع وبعضهم التبقية، فالأولى مراعاة
ما فيه المصلحة حتى لو كانت الأجرة تستوعب الحاصل وتزيد عليه، قطع،
وإلا فلا، وهو أحد قولي الشافعي.
وفي الآخر ينظر إن كانت له قيمة لو قطع، أجيب من يريد القطع من
المفلس والغرماء؛ إذ ليس عليه تنمية ماله لهم، ولا عليهم الصبر إلى أن
ينمو.
ولا بأس به عندي.
فعلى هذا لو لم يأخذ المؤجر أجرة المدة الماضية، فهو أحد الغرماء،
فله طلب القطع.

(1) في ص 96، ضمن المسألة 342.
(2) كذا، والظاهر: " تفريغها ". أي تفريغ الأرض.
99

وإن لم تكن له قيمة لو قطع، أجيب من يريد التبقية؛ إذ لا فائدة
لطالب القطع فيه (1).
وإذا أبقوا الزرع بالاتفاق أو بطلب بعضهم حيث لم تكن للمقطوع
قيمة، فالسقي وسائر المؤن إن تطوع بها الغرماء أو بعضهم أو أنفقوا عليها
على قدر ديونهم، فذاك.
وإن أنفق عليها بعضهم ليرجع، فلا بد من إذن الحاكم أو (2) اتفاق
الغرماء والمفلس، وإذا حصل الإذن، قدم المنفق بقدر النفقة؛ لأنه لإصلاح
الزرع.
وكذا لو أنفقوا على قدر الديون ثم ظهر غريم، قدم المنفقون في قدر
النفقة عليه.
وهل يجوز الإنفاق عليه من مال المفلس؟ الوجه: الجواز؛ لاشتماله
على التنمية، وهو أحد وجهي الشافعي.
والثاني: المنع؛ لعدم اليقين بحصول الفائدة، وإنما هو موهوم (3).
النوع الثاني: الإجارة الواردة على الذمة.
مسألة 345: هذه الإجارة لا يكون حكمها حكم السلم في وجوب
قبض مال الإجارة في المجلس كما يجب قبض رأس مال السلم فيه؛
للأصل الدال على عدم الوجوب، السالم عن معارضة النص الوارد في
السلم؛ لانفراد السلم عن الإجارة ومغايرته لها، فلا يجب اشتراكهما في

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 36، روضة الطالبين 3: 388.
(2) في النسخ الخطية والحجرية: " و " بدل " أو ". وما أثبتناه يقتضيه السياق.
(3) العزيز شرح الوجيز 5: 36 - 37، روضة الطالبين 3: 388.
100

الحكم، وهو أحد قولي الشافعي.
والثاني: أنهما متساويان في وجوب الإقباض في المجلس (1).
فعلى الأول تكون كالإجارة الواردة على العين. وعلى الثاني لا أثر
للإفلاس بعد التفرق؛ لصيرورة الأجرة مقبوضة قبل التفرق.
تذنيب: لا يثبت خيار المجلس في الإجارة؛ لاختصاص النص
بالبيع، وعدم مشاركته للإجارة في الاسم، والأصل عدم الخيار، وهو أحد
قولي الشافعي.
وفي الآخر: يثبت الخيار. فإن أثبته، كان فيه غنية عن هذا الخيار،
وإلا فهي (2) كما في إجارة العين (3).
القسم الثاني: في إفلاس المؤجر.
وفيه نوعان:
الأول: في إجارة العين.
فإذا آجر دابة من إنسان أو دارا ثم أفلس وحجر عليه الحاكم،
لم تنفسخ الإجارة، ولم يكن للمستأجر ولا للغرماء فسخ الإجارة؛ لأن ذلك
عقد لازم عقده قبل الحجر، والمنافع المستحقة للمستأجر متعلقة بعين ذلك
المال، فيقدم بها كما تقدم في حق المرتهن، وكما لو أفلس بعد بيع شيء
معين، فإن المشتري أحق بما اشتراه.
ثم الغرماء لهم الخيار بين الصبر حتى تنقضي مدة الإجارة ثم

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 37، روضة الطالبين 3: 388.
(2) في النسخ الخطية والحجرية: " فهو " بدل " فهي ". والظاهر ما أثبتناه.
(3) العزيز شرح الوجيز 5: 37، روضة الطالبين 3: 388.
101

يبيعونها، وبين البيع في الحال، فإن اختاروا الصبر إلى انقضاء مدة الإجارة
فإن انقضت المدة والدار بحالها، فلا بحث. وإن انهدمت الدار في أثناء
المدة، انفسخت الإجارة.
وإن اختار المؤجر الفسخ فيما بقي من المدة، فإن كانت الأجرة
لم تقبض منه، سقطت عنه فيما بقي من المدة، وإن كانت قد قبضت منه،
رجع على المفلس بحصة ما بقي من المدة.
وهل يضرب بذلك مع الغرماء؟ ينظر فإن كان ذلك قبل قسمة ماله،
فهل يرجع على الغرماء؟ وجهان مبنيان على أن وجود السبب كوجود
المسبب، أو لا؟
فإن قلنا بالأول، رجع عليهم بما يخصه؛ لأن سبب وجوبه وجد قبل
الحجر، ولو كان الاعتبار بحال وجوبه، لكان إذا وجب قبل القسمة أن
لا يشارك به.
وإن قلنا بالثاني، لم يرجع؛ لأن دينه تجدد بعد الحجر، فلم يحاص
به الغرماء.
والأول أقوى.
فإن طلب الغرماء البيع في الحال، أجيبوا إليه؛ لأنه يجوز عندنا بيع
الأعيان المستأجرة - وهو أحد قولي الشافعي - لأنه عقد على منفعة،
فلا يمنع من بيع أصل العين، كالنكاح.
والثاني: لا يصح البيع؛ لأن يد المستأجر حائلة دون التسليم، فأشبه
المغصوب (1).

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 37، روضة الطالبين 3: 388 - 389.
102

فعلى قولنا تباع في الحال، ويكون المستأجر أحق بالمنافع واليد مدة
إجارته.
ولو اختلف الغرماء في البيع والصبر، أجيب الذي يطلب البيع؛ لأنه
يتعجل حقه به، ولا مبالاة بما ينقص من ثمنه بسبب الإجارة؛ إذ لا يجب
على الغرماء الصبر إلى أن يزداد مال المفلس.
النوع الثاني: الإجارة الواردة على الذمة.
مسألة 346: إذا التزم المفلس نقل متاع من بلد إلى آخر أو عمل شغل
ثم أفلس، فإن كان مال الإجارة باقيا في يده، فله فسخ الإجارة والرجوع
إلى عين ماله. وإن كانت تالفة، فلا فسخ، كما لا فسخ والحال هذه عند
إفلاس المسلم إليه على الأصح - وبه قال الشافعي (1) - ويضارب المستأجر
الغرماء بقيمة المنفعة المستحقة، وهي أجرة المثل، كما يضارب المسلم
بقيمة المسلم فيه.
إذا عرفت هذا، فإن هذا النوع من الإجارة ليس سلما، وهو أحد
قولي الشافعي.
وفي الثاني: يكون سلما.
فعلى قوله هذا ما يخصه بالمضاربة من مال المفلس لا يجوز تسليمه
إليه؛ لامتناع الاعتياض عن المسلم فيه، بل ينظر فإن كانت المنفعة
المستحقة قابلة للتبعيض - كما لو استأجره لحمل مائة رطل - فينقل بالحصة
بعضها.

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 37، روضة الطالبين 3: 389.
103

وإن لم يقبل التبعيض - كما إذا كان الملتزم قصارة ثوب، أو رياضة
دابة، أو (1) حمل المستأجر إلى بلد، ولو نقل إلى بعض الطريق ضاع -
فوجهان للشافعي (2).
قال الجويني: للمستأجر الفسخ بهذا السبب، والمضاربة بالأجرة
المبذولة (3).
وعلى ما اخترناه نحن يسقط عنا هذا، ويقبض الحصة بعينها؛ لجواز
الاعتياض.
ويلزم على قوله إبطال مذهبه من منع جواز الاعتياض في السلم فيما
صورناه.
هذا إذا لم يسلم المؤجر عينا إلى المستأجر يستوفي المنفعة الملتزمة
منها، أما إذا التزم النقل إلى البلد في ذمته ثم سلمه دابة لينقل بها، ثم
أفلس، فإن قلنا: إن الدابة المسلمة تتعين بالتعيين، فلا فسخ، ويقدم
المستأجر بمنفعتها، كما لو كانت الدابة معينة في عقد الإجارة. وإن قلنا:
لا تتعين، فكما لو لم يسلم الدابة، فيفسخ المستأجر، ويضارب بمال
الإجارة.
تذنيبان:
أ - لو استقرض مالا ثم أفلس وهو باق في يده، فللمقرض الرجوع
إلى عين ماله، كالبائع في عين السلعة وإن ملكها المفلس بالشراء - وهو
قول الشافعي (4) أيضا - سواء قلنا: إن القرض يملك بالقبض أو بالتصرف.

(1) في النسخ الخطية والحجرية: " و " بدل " أو ". والظاهر ما أثبتناه.
(2 و 3) العزيز شرح الوجيز 5: 37، روضة الطالبين 3: 389.
(4) العزيز شرح الوجيز 5: 38، روضة الطالبين 3: 389.
104

أما إذا كان لا يملك بالقبض: فلأنه يقدر على الرجوع من غير إفلاس
ولا حجر، فمعهما أولى.
وأما إذا كان (1) يملك بالقبض: فلأنه مملوك ببدل تعذر تحصيله،
فأشبه البيع.
ب - لو باع شيئا واستوفى ثمنه وامتنع من تسليم المبيع أو هرب،
لم يكن للمشتري الفسخ؛ لأن حقه تعلق بالعين، ولا نقصان في نفس
المبيع، فإن تعذر قبضه، تخير حينئذ.
وللشافعية وجهان (2).
النظر الثالث: في المعوض.
مسألة 347: يشترط في المعوض - وهو المبيع مثلا - ليرجع إليه مع
إفلاس المشتري شيئان: بقاؤه في ملك المفلس، وعدم التغير (3).
فلو هلك المبيع، لم يكن للبائع الرجوع؛ لقوله (عليه السلام): " فصاحب
المتاع أحق بالمتاع إذا وجده بعينه " (4) فقد جعل (عليه السلام) وجدان المتاع شرطا
في أحقية الأخذ.
ولا فرق بين أن يكون الهلاك بآفة سماوية، أو بجناية جان، أو بفعل
المشتري، ولا بين أن تكون قيمته مثل الثمن أو أكثر.
وليس له إلا مضاربة الغرماء بالثمن؛ عملا بالأصل، واختصاص

(1) في النسخ الخطية والحجرية: " كانت " بدل " كان ". وما أثبتناه يقتضيه السياق.
(2) العزيز شرح الوجيز 5: 38، روضة الطالبين 3: 389.
(3) يأتي الشرط الثاني - وهو عدم التغير - في ص 108، المسألة 350.
(4) سنن ابن ماجة 2: 790 / 2360، سنن الدارقطني 3: 29 / 106 و 107، المستدرك
- للحاكم - 2: 51.
105

المخالف له بالوجدان، وهو أحد قولي الشافعي.
والثاني: أنه إذا زادت القيمة، ضارب بها دون الثمن، واستفاد بها
زيادة حصته (1).
مسألة 348: لو خرجت العين عن ملك المشتري ببيع أو هبة أو عتق
أو وقف، فهو كما لو هلكت.
وليس له فسخ هذه التصرفات، بخلاف الشفيع، فإن له رد ذلك كله؛
لأن حق الشفعة كان ثابتا حين تصرف المشتري، لأن الشفعة تثبت بنفس
البيع، وهنا حق الرجوع لم يكن ثابتا حين التصرف؛ لأنه إنما يثبت
بالإفلاس والحجر.
وكذا لا رجوع للبائع لو كاتب المشتري العبد المبيع أو استولد
الجارية المبيعة. أما لو دبر، فإن له الرجوع.
ولو نذر عتقه مطلقا أو نذره عند شرط، فكذلك لا يرجع إلا أن يبطل
ذلك الشرط ويعلم بطلان النذر.
ولو علق العتق بصفة، لم يصح عندنا. وعند الشافعي يصح، وله
الرجوع (2).
ولو آجر العين، فلا رجوع له في المنافع، بل في العين عندنا؛ لأنه
يجوز بيع المستأجر، وهو أحد قولي الشافعية إن جوزوا بيع المستأجر،
وإن منعوه، لم يكن له الرجوع في العين، فإذا جوزنا له الرجوع، فإن شاء
أخذه مسلوب المنفعة لحق المستأجر، وإلا ضارب بالثمن (3).

(1 و 2) العزيز شرح الوجيز 5: 40، روضة الطالبين 3: 390.
(3) العزيز شرح الوجيز 5: 40 - 41، روضة الطالبين 3: 390.
106

مسألة 349: لو رهن المشتري العين، لم يكن للبائع الرجوع؛ لتقدم
حق المرتهن.
وكذا لو جنى العبد المبيع، فالمجني عليه أحق ببيعه.
فإن قضي حق المرتهن أو المجني عليه ببيع بعضه، فالبائع واجد
لباقي المبيع، وسيأتي حكمه إن شاء الله تعالى.
وإن انفك الرهن أو برئ عن الجناية، فله الرجوع.
ولو زوج الجارية، لم يمنع البائع من الرجوع فيها. أما لو باع صيدا
ثم أحرم وأفلس المشتري، لم يكن للبائع الرجوع في العين؛ لأن تملكه
للصيد حرام.
ولو نقل العين ببيع وشبهه ثم حجر عليه بعد ذلك ثم عادت العين،
فالوجه عندي: أنه لا يرجع البائع فيها؛ لأن ملك المشتري فيها الآن متلقى
من غير البائع، ولأنه قد تخللت حالة لو صادفها الإفلاس والحجر لما
رجع، فيستصحب حكمها، وهو أحد قولي الشافعي.
والثاني: أنه إن عاد إليه بغير عوض - كالهبة والإرث والوصية له -
ففي الرجوع وجهان:
أحدهما: أنه يرجع؛ لأنه وجد متاعه بعينه.
والثاني: لا يرجع؛ لأن الملك قد تلقاه من غير البائع (1).
وهذان الوجهان مبنيان عندهم على ما إذا قال لعبده: إذا جاء رأس
الشهر فأنت حر، ثم باعه واشتراه وجاء رأس الشهر، هل يعتق؟ (2)
وإن عاد الملك إليه بعوض كما لو اشتراه [نظر] (3) إن وفر الثمن على

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 41، روضة الطالبين 3: 391.
(2) العزيز شرح الوجيز 5: 41.
(3) ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.
107

البائع الثاني، فكما لو عاد بلا عوض، فإن لم يوفر وقلنا بثبوت الرجوع
للبائع لو عاد بلا عوض، فالأول أولى بالرجوع؛ لسبق حقه، أو الثاني؛
لقرب حقه، أو يستويان ويضارب كل واحد منهما بنصف الثمن؟ فيه ثلاثة
أوجه.
تذنيب: لو كاتب العبد كتابة مطلقة، لم يكن للبائع الرجوع في
العين؛ لأنه كالعتق في زوال سلطنة السيد عنه.
وإن كانت مشروطة، فإن كانت باقية، لم يكن له الرجوع أيضا؛ لأنها
عقد لازم.
وإن عجز المكاتب عن الأداء، فللمفلس الصبر عليه؛ لأنه كالخيار.
ويحتمل عدمه.
فإن رده في الرق، فهل للبائع الرجوع فيه؟ الأقرب: ذلك؛ لأنه ليس
بملك يتجدد، بل هو إزالة مانع.
وللشافعي طريقان:
أحدهما: أن رجوعه إلى الرق كانفكاك الرهن.
والثاني: أنه يعود الملك بعد زواله لمشابهة الكتابة زوال الملك،
وإفادتها استقلال المكاتب، والتحاقه بالأحرار (1).
مسألة 350: قد بينا أنه يشترط للرجوع في العين في المعوض أمران:
بقاء الملك، وقد سلف (2)، وبقي الشرط الثاني، وهو: عدم التغير.
فنقول: البائع إن وجد العين بحالها لم تتغير لا بالزيادة ولا بالنقصان،
فإن للبائع الرجوع لا محالة. وإن تغير (3)، فإما أن يكون بالنقصان أو

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 41، روضة الطالبين 3: 391.
(2) في ص 105، المسألة 347.
(3) تذكير الفعل باعتبار المبيع.
108

بالزيادة.
القسم الأول: أن يكون التغير بالنقصان، وهو قسمان:
الأول: نقصان ما لا يتقسط عليه الثمن، ولا يفرد بالعقد، وهو المراد
بالعيب ونقصان الصفة، كتلف بعض أطراف العبد.
والثاني: نقصان بعض المبيع مما يتقسط عليه الثمن، ويصح إفراده
بالعقد.
ونحن نذكر حكم هذه الأقسام بعون الله تعالى، ثم نتبع ذلك بقسم
الزيادة.
[القسم] الأول: نقصان الصفة.
مسألة 351: إذا نقصت العين بالتعيب، فإن حصل بآفة سماوية، تخير
البائع بين الرجوع في العين ناقصة بغير شيء، وبين أن يضارب بالثمن مع
الغرماء، كما لو تعيب المبيع في يد البائع، يتخير المشتري بين أخذه معيبا
بجميع الثمن - عند بعض (1) أصحابنا - وبين الفسخ والرجوع بالثمن.
وعلى ما اخترناه نحن - من أن المشتري يرجع بالأرش - لا يتأتى
هذا، وإنما لم يكن للبائع هنا الرجوع بالأرش، وكان للمشتري في صورة
البيع الرجوع به؛ لأن المبيع مضمون في يد البائع، وكما يضمن جملته
يضمن أجزاءه، سواء كانت صفاتا أو غيرها؛ لأن الثمن في مقابلة الجميع،
وأما هنا فإن البائع لاحق له في العين إلا بالفسخ المتجدد بعد العيب، وإنما
حقه قبل الفسخ في الثمن، فلم تكن العين مضمونة له، فلم يكن له
الرجوع بأرش المتجدد، بل يقال له: إما أن تأخذ العين مجانا، أو تضارب

(1) الشيخ الطوسي في الخلاف 3: 109، المسألة 178.
109

بالثمن، وهو أحد قولي الشافعي (1).
وله قول آخر: إنه يأخذ المعيب ويضارب مع الغرماء بما نقص، كما
يأتي (2) في الضرب الثاني (3). وهو غريب عندهم (4).
إذا عرفت هذا، فقد وافقنا مالك والشافعي على أن للبائع الرجوع وإن
كانت معيبة (5).
وقال أحمد: إذا تلف جزء من العين - كتغير أطراف العبد، أو ذهاب
عينه، أو تلف بعض الثوب، أو انهدم بعض الدار، أو اشترى نخلا مثمرا
فتلف الثمرة، ونحو هذا - لم يكن للبائع الرجوع؛ لأنه لم يدرك متاعه
بعينه (6).
وهو غلط.
أما أولا: فلأن العين باقية وإن تلف بعض صفاتها.
وأما ثانيا: فلأنه إذا ثبت له الرجوع في جميع العين بالثمن، فإثبات
الرجوع له في بعضها بالثمن أولى، كما لو قال: أنا أرجع في نصف العين
بجميع الثمن، فإنه يجاب إليه قطعا، كذا هنا.
مسألة 352: إذا تعيبت العين بجناية جان، فإما أن يكون الجاني أجنبيا
أو البائع أو المشتري.
فإن كان أجنبيا، فعليه الأرش، وللبائع أن يأخذه معيبا، ويضارب

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 42، روضة الطالبين 3: 391.
(2) في ص 112، المسألة 354.
(3) وهو نقصان ما يتقسط عليه الثمن.
(4) العزيز شرح الوجيز 5: 42، وفي روضة الطالبين 3: 391؛ " شاذ ضعيف ".
(5) المغني 4: 498، الشرح الكبير 4: 511.
(6) المغني 4: 498 - 499، الشرح الكبير 4: 511 - 512.
110

الغرماء بمثل (1) نسبة ما انتقص من القيمة من الثمن؛ لأن المشتري أخذ بدلا
للنقصان وكان مستحقا للبائع، فلا يجوز تضييعه عليه، بخلاف التعيب
بالآفة السماوية حيث لم يكن لها عوض.
وإنما اعتبرنا في حقه نقصان القيمة دون التقدير الشرعي؛ لأن التقدير
إنما أثبته الشرع في الجنايات، والأعواض يتقسط بعضها على بعض باعتبار
القيمة.
ولو اعتبرنا في حقه المقدر، لزمنا أن نقول: إذا قطع الجاني يديه (2)
أن يأخذه البائع وقيمته، وهذا محال، بل ينظر فيما انتقص من قيمته بقطع
اليدين، ونقول: يضارب البائع الغرماء بمثل نسبته من الثمن. ولو قطع
إحدى يديه وغرم نصف القيمة وكان الناقص في السوق ثلث القيمة،
ضارب البائع بثلث الثمن وأخذه، وعلى هذا القياس.
مسألة 353: لو كان الجاني على العين البائع، فهو كجناية الأجنبي؛
لأن جنايته على ما ليس بمملوك له ولا هو في ضمانه.
وإن كان الجاني المشتري، احتمل أن تكون جنايته كجناية الأجنبي
أيضا؛ لأن إتلاف المشتري قبض (3) واستيفاء منه على ما مر (4) في موضعه،
وكأنه صرف جزءا من المبيع إلى غرضه. وأن تكون جنايته كجناية البائع
على المبيع قبل القبض؛ لأن المفلس والمبيع في يده كالبائع في المبيع قبل
القبض من حيث إنه مأخوذ منه غير مقرر في يده.

(1) في النسخ الخطية والحجرية: " مثل ". والظاهر ما أثبتناه.
(2) في النسخ الخطية والحجرية: " قطع يدي الجاني ". والصحيح ما أثبتناه.
(3) في النسخ الخطية والحجرية: " نقص " بدل " قبض ". والمثبت هو الظاهر.
(4) في ج 10، ص 114، المسألة 64 من كتاب البيع.
111

وللشافعي قولان:
أحدهما: أنها (1) كجناية الأجنبي.
وأصحهما عنده: أنها كالآفة السماوية (2).
ولا يقال: إن حق تشبيه جناية المشتري هنا بجناية البائع قبل القبض
كتشبيه (3) جناية البائع هناك حتى يقال: كأنه استرجع بعض المبيع؛ إذ ليس
له الفسخ والاسترجاع إلا بعد حجر الحاكم عليه، وليس (4) قبل الحجر حق
ولا ملك.
تذنيب: لو باع المفلس قبل الحجر بعض العين أو وهبه أو وقفه،
فهو بمنزلة تلفه.
القسم الثاني: نقصان العين.
مسألة 354: إذا نقص المبيع نقصا يتقسط الثمن عليه، ويصح إفراده
بالعقد - كما لو اشترى عبدين صفقة أو ثوبين كذلك فتلف أحدهما في يد
المشتري ثم أفلس وحجر عليه - فللبائع أن يأخذ الباقي بحصته من الثمن،
ويضارب مع الغرماء بحصة التالف، وله أن يضارب بجميع الثمن - وبه قال
الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين (5) - لأنه عين ماله وجدها البائع، فله

(1) في النسخ الخطية و الحجرية: " أنه ". والمثبت هو الصحيح.
(2) الوسيط 4: 26، العزيز شرح الوجيز 5: 43، روضة الطالبين 3: 392.
(3) في الطبعة الحجرية: " تشبيه ".
(4) في النسخ الخطية والحجرية: " فليس " بدل " وليس ". والظاهر ما أثبتناه.
(5) التهذيب - للبغوي - 4: 88، الوسيط 4: 26، العزيز شرح الوجيز 5: 43،
روضة الطالبين 3: 392، المغني 4: 499، الشرح الكبير 4: 512.
112

أخذها؛ لقوله (عليه السلام): " من أدرك متاعه بعينه عند إنسان قد أفلس فهو أحق
به " (1).
ولأنه مبيع وجده بعينه، فكان للبائع الرجوع فيه، كما لو وجد جميع
المبيع.
وفي الرواية الأخرى لأحمد: ليس له الرجوع؛ لأنه لم يجد المبيع
بعينه، أشبه ما لو كان عينا واحدة وقد تعيبت. ولأن بعض المبيع تالف،
فلم يملك الرجوع فيه، كما لو قطعت يد العبد (2).
والحكم في الأصل ممنوع، وقد سبق، وهذا كما لو بقي جميع المبيع
وأراد البائع فسخ البيع في بعضه، مكن منه؛ لأنه أنفع للغرماء من الفسخ
في الكل، فهو كما لو رجع الواهب في نصف ما وهب.
مسألة 355: إذا اختار فسخ البيع في الباقي وأخذه، ضرب بقسط
التالف من الثمن، ولا يجب عليه فسخ البيع وأخذ الباقي بجميع الثمن؛ لأن
الثمن يتقسط على المبيع، فكأنه في الحقيقة بيعان بثمنين، وهو أصح قولي
الشافعي.
والثاني: أنه يأخذ الباقي بجميع الثمن، ولا يضارب بشيء، وطردوا
هذا القول في كل مسألة تضاهي هذه المسألة حتى لو باع سيفا وشقصا
بمائة، يأخذ الشقص بجميع المائة على قول (3). وهو بعيد.
هذا إذا تلف أحد العبدين ولم يقبض من الثمن شيئا.

(1) صحيح البخاري 3: 155 - 156، صحيح مسلم 3: 1193 / 1559، سنن الدارمي
2: 262، المغني 4: 499، الشرح الكبير 4: 512.
(2) المغني 4: 499، الشرح الكبير 4: 512.
(3) العزيز شرح الوجيز 5: 43، روضة الطالبين 3: 392.
113

ولو باع عبدين متساويي القيمة بمائة وقبض خمسين وتلف أحدهما
في يد المشتري ثم أفلس، فإنه يرجع في الباقي من العبدين؛ لأن الإفلاس
سبب يعود به جميع العين، فجاز أن يعود بعضه (1)، كالفرقة في النكاح قبل
الدخول يرد (2) بها جميع الصداق إلى الزوج تارة وبعضه أخرى.
ولاندراج صورة النزاع فيما رواه العامة عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: " إذا
أفلس الرجل ووجد البائع سلعته بعينها فهو أحق بها من الغرماء " (3).
ومن طريق الخاصة: قول أبي الحسن (عليه السلام) وقد سئل عن رجل يركبه
الدين فيوجد متاع رجل عنده بعينه، قال: " لا يحاصه الغرماء " (4).
وهو الجديد للشافعي.
وقال في القديم: ليس له الرجوع إلى العين، بل يضارب بباقي الثمن
مع الغرماء؛ لقول النبي (صلى الله عليه وآله): " أيما رجل باع متاعا فأفلس الذي ابتاعه
ولم يقبض البائع من ثمنه شيئا فوجده بعينه فهو أحق به، وإن كان قد
اقتضى (5) من ثمنه شيئا فهو أسوة الغرماء " (6) (7).
وهذا الحديث مرسل.

(1) الظاهر: " بعضها ".
(2) في النسخ الخطية والحجرية: " يريد " بدل " يرد ". والمثبت هو الصحيح.
(3) سنن الدارقطني 3: 30 / 112، و 4: 229 / 90، سنن البيهقي 6: 46، المصنف
- لعبد الرزاق - 8: 265 / 15162.
(4) التهذيب 6: 193 / 420، الاستبصار 3: 8 / 19.
(5) في النسخ الخطية والحجرية: " اقبض " بدل " اقتضى ". والصحيح ما أثبتناه كما في
" العزيز شرح الوجيز ".
(6) سنن ابن ماجة 3: 790 / 2359، سنن أبي داود 3: 286 - 287 / 3520، 3521،
سنن البيهقي 6: 47.
(7) العزيز شرح الوجيز 5: 44، روضة الطالبين 3: 392.
114

وعلى ما اخترناه يرجع في جميع العبد الباقي بجميع ما بقي من
الثمن، وبه قال الشافعي على قول الرجوع (1).
وله فيما إذا أصدقها أربعين شاة، وحال عليها الحول فأخرجت شاة
ثم طلقها قبل الدخول قولان:
أحدهما: أنه يرجع بعشرين (2) شاة.
والثاني: أنه يأخذ نصف الموجود، ونصف قيمة الشاة المخرجة (3).
واختلف أصحابه هنا على طريقين:
[أحدهما: تخريج القول الثاني وطرد القولين هاهنا] (4):
أظهرهما: أنه يأخذ جميع العبد الباقي بما بقي من الثمن، ويجعل
ما قبض من الثمن في مقابلة التالف، كما لو رهن عبدين بمائة وأخذ
خمسين وتلف أحد العبدين، كان الآخر مرهونا بما بقي من الدين بجامع
أن له التعلق بكل العين، فيثبت له التعلق بالباقي من العين للباقي من الحق.
والثاني: أنه يأخذ نصف العبد الباقي بنصف الباقي من الثمن،
ويضارب الغرماء بنصفه؛ لأن الثمن يتوزع على المبيع، فالمقبوض والباقي
يتوزع كل واحد منهما على العبدين.
ولا بأس به عندي.
والطريق الثاني: القطع بأنه يرجع في جميع العبد الباقي بما بقي من
الثمن، والفرق بينه وبين الصداق: أن الزوج إذا لم يرجع إلى عين الصداق،

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 44، روضة الطالبين 3: 392.
(2) في المصدر: " بأربعين " بدل " بعشرين ".
(3) العزيز شرح الوجيز 5: 44.
(4) ما بين المعقوفين أضفناه من المصدر لأجل السياق.
115

أخذ القيمة بتمامها، والبائع هنا لا يأخذ الثمن، بل يحتاج إلى المضاربة (1).
مسألة 356: لو قبض بعض الثمن ولم يتلف من المبيع شيء، احتمل
الرجوع في البعض بنسبة الباقي من الثمن، فلو قبض نصف الثمن، رجع
في نصف العبد المبيع، أو العبدين المبيعين، وهو الجديد للشافعي.
وقال في القديم: لا يرجع (2). وقد سلف.
مسألة 357: لو كان المبيع زيتا فأغلاه المشتري حتى ذهب بعضه ثم
أفلس، فهو بمثابة تلف بعض المبيع، كما لو انصب بعضه، وهو أحد قولي
الشافعي.
والثاني: أنه كما لو تعيب المبيع، وكان الزائل صفة الثفل (3).
فعلى الأول لو ذهب نصفه، أخذه بنصف الثمن، وضارب مع الغرماء
بالنصف، فإن ذهب ثلثه، أخذ بثلثي الثمن، وضارب بالثلث.
وعلى الثاني يرجع إليه، و [يقنع] (4) به.
وإذا ذهب نصفه مثلا، فالوجه: أن يطرد ذلك الوجه في إغلاء
الغاصب الزيت المغصوب.
ولو كان مكان الزيت العصير، فالوجه: المساواة بينه وبين الزيت هنا
وفي الغاصب، وهو أحد وجهي الشافعية.
والثاني: الفرق بأن الذاهب من العصير ما لا مالية له، والذاهب من

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 44 - 45.
(2) العزيز شرح الوجيز 5: 45، روضة الطالبين 3: 392.
(3) العزيز شرح الوجيز 5: 45، روضة الطالبين 3: 393.
(4) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطية والحجرية: " ينتفع ". والصحيح ما
أثبتناه.
116

الزيت متمول (1).
ويمنع عدم المالية؛ لأنه قبل الغليان مال، فقد أتلفه بالغليان.
وعلى القول بالتسوية بين العصير والزيت لو كان العصير المبيع أربعة
أرطال قيمتها ثلاثة دراهم، فأغلاها حتى عادت إلى ثلاثة أرطال، رجع إلى
الباقي، ويضارب بربع الثمن للذاهب (2)، ولا عبرة بنقصان قيمة المغلي،
كما إذا عادت قيمته إلى درهمين.
وإن زادت قيمته بأن صارت أربعة، بني على أن الزيادة الحاصلة
بالصنعة أثر أو عين؟
إن قلنا: إنه أثر، فإنه للبائع بما زاد.
وإن قلنا: عين، قال بعض الشافعية: إنه كالأول (3).
وعن بعضهم: أن المفلس يكون شريكا بالدراهم الزائدة (4).
وإن بقيت القيمة ثلاثة كما كانت، فيكون بقاؤها بحالها مع نقصان
بعض العين؛ لازدياد الباقي بالطبخ، فإن جعلنا هذه الزيادة أثرا، فاز البائع
بها.
وإن جعلناها عينا، فكذلك عند بعض الشافعية (5).
وقال غيره: يكون المفلس شريكا بثلاثة أرباع درهم، فإن هذا القدر
هو قسط الرطل الذاهب، وهو الذي زاد بالطبخ في الباقي (6).
مسألة 358: لو كان المبيع دارا فانهدمت ولم يهلك شيء من النقض،
فقد أتلف (7) صفة، كعمى العبد ونحوه.

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 45، روضة الطالبين 3: 393.
(2) في النسخ الخطية والحجرية: " الذاهب ". والظاهر ما أثبتناه.
(3 - 6) العزيز شرح الوجيز 5: 45، روضة الطالبين 3: 393.
(7) هكذا قوله: " فقد أتلف ". والظاهر أن بدلها: " فهو تلف " أو " فقد تلف ".
117

ولو هلك بعضه باحتراق وغيره، فهو تلف عين.
وللشافعية خلاف هنا مبني على تلف سقف الدار المبيعة قبل القبض
أنه كالتعيب أو تلف أحد العبدين؟ (1).
مسألة 359: قد ذكرنا أنه إذا نقصت مالية المبيع بذهاب صفة مع بقاء
عينه - كهزال العبد، أو نسيانه صنعة، أو كبره، أو مرضه، أو تغير عقله، أو
كان ثوبا فخلق - لم يمنع الرجوع؛ لأن فقد الصفة لا يخرجه عن كونه عين
ماله، لكن يأخذ العين بتمام الثمن، أو يترك ويضرب مع الغرماء بالثمن؛
لأن الثمن لا يتقسط على صفة السلعة من سمن أو هزال أو علم فيصير
كنقصه؛ لتغير السعر.
ولو كان المبيع أمة ثيبا فوطئها المشتري ولم تحمل، فله الرجوع؛
لأنها لم تنقص في ذات ولا صفة.
وإن كانت بكرا، فكذلك عندنا وعند الشافعي وأحمد في إحدى
الروايتين (2)؛ لأن الذاهب صفة، لا عين ولا جزء عين.
وفي الأخرى: لا يرجع؛ لأنه أذهب منها جزءا، فأشبه ما لو فقأ
عينها (3). وعنده أن فوات الجزء مبطل للرجوع (4).
مسألة 360: لو كان المبيع عبدا فجرح، كان له الرجوع فيه عندنا وعند
الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين (5)؛ لأنه فقد صفة، فأشبه نسيان
الصنعة وخلق الثوب.

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 46، روضة الطالبين 3: 393.
(2 و 3) المغني 4: 499، الشرح الكبير 4: 518.
(4) المغني 4: 498، الشرح الكبير 4: 511.
(5) المغني 4: 500، الشرح الكبير 4: 519.
118

وفي الأخرى: لا يرجع؛ لأنه ذهب جزء ينقص به الثمن، فأشبه ما
لو فقئت عين العبد. ولأنه ذهب من العين جزء له بدل، فمنع الرجوع، كما
لو قطعت يد العبد. ولأنه لو كان نقص صفة، لم يكن للبائع مع الرجوع بها
شيء سواه، كما في هزال العبد ونسيان الصنعة، وهنا بخلافه. ولأن
الرجوع في المحل المنصوص عليه يقطع النزاع، ويزيل المعاملة بينهما،
ولا يثبت في محل لا يحصل منه هذا المقصود (1).
ونمنع ذهاب الجزء. سلمنا، لكن نمنع صلاحيته للمنع من الرجوع
في العين.
إذا عرفت أن له الرجوع في العين، فلينظر إلى الجرح، فإن لم يكن
له أرش - كالحاصل من فعله تعالى أو فعل بهيمة أو فعل المشتري أو جناية
عبده أو جناية العبد على نفسه - فليس له مع الرجوع أرش.
وإن أوجب أرشا - كجناية الأجنبي - فللبائع إذا رجع أن يضرب مع
الغرماء بحصة ما نقص من الثمن، فينظر كم نقص من قيمته؟ فيرجع بقسط
ذلك من الثمن؛ لأنه مضمون على المشتري للبائع بالثمن.
لا يقال: هلا جعلتم له الأرش الذي وجب على الأجنبي؟
لأنا نقول: لما أتلفه الأجنبي صار مضمونا بإتلافه للمفلس، وكان
الأرش له، وهو مضمون على المفلس للبائع بالثمن، فلا يجوز أن يضمنه
بالأرش، وإذا لم يتلفه أجنبي، فلم يكن مضمونا، فلم يجب بفواته شيء.
لا يقال: هلا كان هذا الأرش للمشتري ككسبه لا يضمنه للبائع؟
لأنا نقول: الكسب بدل منافعه، ومنافعه مملوكة للمشتري بغير

(1) المغني 4: 500، الشرح الكبير 4: 519.
119

عوض، وهذا بدل جزء من العين، والعين ضمنها جميعا بالعوض، فلهذا
ضمن ذلك للمشتري.
القسم الثاني (1): التغير بالزيادة.
اعلم أن التغير بالزيادة نوعان:
أحدهما: الزيادات الحاصلة لا من خارج، وأقسامه ثلاثة:
أحدها: الزيادة المتصلة من كل وجه، كالسمن، وتعلم الحرفة، وكبر
الشجر.
والأقرب عندي: أنه ليس للغرماء الرجوع في العين - وبه قال أحمد
ابن حنبل (2) - لما فيه من الإضرار بالمفلس؛ لأنها زيادة قد حصلت في
ملكه، فلا وجه لأخذ الغرماء لها.
ولأنه فسخ بسبب حادث، فلم يملك به الرجوع في عين المال الزائد
زيادة متصلة، كالطلاق، فإنه ليس للزوج الرجوع في عين ما دفعه من المهر
مع زيادته المتصلة.
ولأنها زيادة في ملك المفلس، فلا يستحقها البائع، كالمنفصلة،
وكالحاصلة بفعله.
ولأن الزيادة لم تصل إليه من البائع، فلم يكن له أخذها منه، كغيرها
من أمواله.
وقال الشافعي ومالك: لا يبطل رجوع البائع في العين بسبب الزيادة
المتصلة، بل يثبت له الرجوع فيها إن شاء من غير أن يلتزم للزيادة شيئا

(1) الظاهر: " الثالث ".
(2) الكافي في فقه الإمام أحمد 2: 102، المغني 4: 505، الشرح الكبير 4: 516.
120

- إلا أن مالكا خير الغرماء بين أن يعطوه السلعة أو ثمنها الذي باعها به -
للخبر (1).
ولأنه فسخ لا تمنع منه الزيادة المنفصلة فلا تمنعه المتصلة، كالرد
بالعيب.
وفارق الطلاق؛ فإنه ليس بفسخ، ولأن الزوج يمكنه الرجوع في قيمة
العين، فيصل إلى حقه تاما، وهنا لا يمكنه الرجوع في الثمن (2).
والخبر لا يدل على صورة النزاع؛ لأنه وجد أزيد من عينه التي وقع
العقد عليها.
والفرق واقع بين صورة النزاع وبين الرد بالعيب؛ لأن الفسخ فيه من
المشتري، فهو راض بإسقاط حقه من الزيادة وتركها للبائع، بخلاف
المتنازع. ولأن الفسخ هناك لمعنى قارن العقد، وهو العيب القديم، والفسخ
هنا لسبب حادث، فهو أشبه بفسخ النكاح الذي لا يستحق به استرجاع
العين الزائدة.
وقولهم: " إن الزوج إنما لم يرجع في العين؛ لكونه يندفع عنه الضرر
بالقيمة " لا يصح؛ فإن اندفاع الضرر عنه بطريق آخر لا يمنعه من أخذ حقه
من العين، ولو كان مستحقا للزيادة، لم يسقط حقه منها بالقدرة على أخذ
القيمة، كمشتري المعيب.
ثم كان ينبغي أن يأخذ قيمة العين زائدة؛ لكون الزيادة مستحقة له،

(1) راجع الهامش (3) من ص 114.
(2) المهذب - للشيرازي - 1: 331، التهذيب - للبغوي - 4: 88، الحاوي الكبير 6:
279، الوجيز 1: 174، الوسيط 4: 27، العزيز شرح الوجيز 5: 46، و 8:
296، روضة الطالبين 3: 393 - 394، و 5: 612 - 613، الذخيرة 8: 179،
الكافي في فقه أهل المدينة: 417، المغني 4: 505، الشرح الكبير 4: 516.
121

فلما لم يكن كذلك علمنا أن المانع من الرجوع كون الزيادة للمرأة. ولأنه
لا يمكن فصلها وكذا (1) هنا بل أولى؛ فإن الزيادة يتعلق بها حق المفلس
والغرماء، فمنع المشتري من أخذ زيادة ليست له أولى من تفويتها على
الغرماء الذين لم يصلوا إلى تمام ديونهم والمفلس المحتاج إلى تبرئة ذمته
عند اشتداد حاجته.
تذنيب: لو زاد الصداق زيادة متصلة ثم أعسرت الزوجة فطلقها
الزوج، فالأقرب عندي: أنه يرجع في العين، ويضرب بالقيمة مع الغرماء.
وقال الشافعي: يرجع في نصف العين زائدة، ولا يضرب بالقيمة مع
الغرماء، كما تقدم.
الثاني: الزيادة المنفصلة من كل وجه، كالولد واللبن وثمر الشجرة.
وهنا يرجع البائع في الأصل خاصة دون الزوائد، بل تسلم الزوائد للمفلس،
ولا نعلم فيه خلافا - إلا من مالك (2) - لأنه انفصل في ملك المفلس،
فلم يكن للبائع الرجوع فيه، كما لو وجد بالمبيع عيبا، فإنه يرده، دون
النماء المنفصل، كذا هنا.
نعم، لو كان الولد صغيرا، فللشافعية وجهان:
أحدهما: أنه إن بذل قيمته، فذاك، وإلا بيعا معا، وصرف ما يخص
الأم إلى البائع، وما يخص الولد للمفلس (3).
قال بعض الشافعية: قد ذكرنا وجهين فيما إذا وجد الأم معيبة وهناك
ولد صغير: أنه ليس له الرد، وينتقل إلى الأرش، أو يحتمل التفريق

(1) كذا، والظاهر: " فكذا " بدل " وكذا ".
(2) المغني 4: 507، الشرح الكبير 4: 518.
(3) العزيز شرح الوجيز 5: 46، روضة الطالبين 3: 394.
122

للضرورة. وفيما إذا رهن الأم دون الولد: أنهما يباعان معا، أو يحتمل التفريق،
ولم يذكروا فيما نحن فيه احتمال التفريق، وإنما احتالوا في دفعه، فيجوز
أن يقال بخروجه (1) هنا أيضا، لكنهم لم يذكروه اقتصارا على الأصح.
ويجوز أن يفرق بأن مال المفلس مبيع كله ومصروف إلى الغرماء،
فلا وجه لاحتمال التفريق مع إمكان المحافظة على جانب الراجع بكون
ملكه مزالا (2).
مسألة 361: لو كان المبيع بذرا فزرعه المفلس ونبت، أو كان بيضة
فأحضنها وفرخت في يده ثم أفلس، لم يكن للبائع الرجوع في العين
عندنا؛ لما تقدم (3) من أن الزيادة المتصلة تمنع من الرد، فهنا أولى؛
لاشتمالها على تغير العين بالكلية، وهو أحد قولي الشافعية - وإن كان
يذهب إلى أن الزيادة المتصلة لا تمنع من الرد (4) - لأن المبيع قد هلك،
وهذا شيء جديد له اسم جديد (5).
والثاني: أنه يرجع؛ لأنه حدث من عين ماله، أو هو عين ماله
اكتسب هيئة أخرى، فصار كالودي (6) إذا صار نخلا (7).

(1) أي: خروج التفريق.
(2) العزيز شرح الوجيز 5: 46، روضة الطالبين 3: 394.
(3) في ص 120 وما بعدها.
(4) راجع المصادر في الهامش (2) من ص 121.
(5) المهذب - للشيرازي - 1: 331، التهذيب - للبغوي - 4: 94، الحاوي الكبير 6:
282، حلية العلماء 4: 503، الوسيط 4: 27، العزيز شرح الوجيز 5: 46 - 47،
روضة الطالبين 3: 394 - 395، المغني 4: 502، الشرح الكبير 4: 513.
(6) الودي: صغار الفسيل، وهو صغار النخل. الصحاح 5: 1790، و 6: 2521
" فسل، ودى ".
(7) المهذب - للشيرازي - 1: 331، التهذيب - للبغوي - 4: 94، الحاوي الكبير 6:
283، حلية العلماء 4: 503، الوسيط 4: 27 - 28، العزيز شرح الوجيز 5: 47،
روضة الطالبين 3: 394، المغني 4: 502، الشرح الكبير 4: 513.
123

وسيأتي مزيد بحث في باب الغصب إن شاء الله تعالى.
ويجري مثل هذا الخلاف في العصير إذا تخمر في يد المشتري ثم
تخلل (1).
مسألة 362: لا فرق في الرجوع بالعين دون الزيادة المنفصلة بين أن
تكون الزيادة قد نقص بها المبيع وأن لا تكون، ولا فرق أيضا بين أن تزيد
قيمة العين لزيادة السوق أو تنقص في جواز الرجوع فيها، وقد بينا أن
العلماء أطبقوا على أن الزيادة للمفلس.
ونقل عن مالك وأحمد بن حنبل في رواية: أن الزيادة للبائع
كالمتصلة (2).
وهو خطأ؛ لأنها زيادة انفصلت في ملك المشتري، فكانت له.
ولقوله (عليه السلام): " الخراج بالضمان " (3) وهو يدل على أن النماء
للمشتري؛ لكون الضمان عليه.
والفرق بين المتصلة والمنفصلة ظاهر؛ فإن المتصلة تتبع في الرد
بالعيب، دون المنفصلة، فيبطل القياس.
ولو اشترى زرعا أخضر مع الأرض ففلس وقد اشتد الحب،
لم يرجع في العين - عندنا - للزيادة.
والشافعية طردوا الوجهين، وبعضهم قطع بالرجوع (4).

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 47، روضة الطالبين 3: 395.
(2) المغنى 4: 507، الشرح الكبير 4: 518.
(3) سنن ابن ماجة 2: 754 / 2243، سنن أبي داود 3: 284 / 3508 - 3510، سنن
الترمذي 3: 581 - 582 / 1285 و 1286، سنن النسائي 7: 255.
(4) العزيز شرح الوجيز 5: 47، روضة الطالبين 3: 395.
124

القسم الثالث: الزيادات المتصلة من وجه دون وجه.
وذلك كالحمل. ووجه اتصاله ظاهر.
ووجه انفصاله أن نقول: إذا حدث الحمل بعد الشراء وانفصل قبل
الرجوع، فحكم الولد ما تقدم من أنه للمشتري خاصة.
وإن كانت حاملا عند الشراء وعند الرجوع جميعا، فهو كالسمن.
وقد بينا أن المعتمد عندنا فيه أنه ليس له الرجوع في العين إن زادت
قيمتها بسببه.
وعند الشافعي ومالك يرجع فيها حاملا؛ لأن الزيادة المتصلة عندهما
لا تمنع من الرجوع في العين (1).
وإن كانت حاملا عند الشراء وولدت قبل الرجوع، لم يتعد الرجوع
إلى الولد عندنا، وهو ظاهر.
وللشافعي قولان مبنيان على الخلاف في أن الولد هل له حكم أم لا؟
فإن قلنا: له حكم، رجع فيهما، كما لو اشترى شيئين. وإن قلنا: لا حكم
له، لم يرجع في الولد، وكان الحكم كما لو باعها حاملا (2).
وربما يوجه قول التعدي إلى الولد: بأنه كان موجودا عند العقد،
ملكه المشتري بالعقد، فوجب أن يرجع إلى البائع بالرجوع، وقول المنع:
بأنه ما لم ينفصل تابع ملحق بالأعضاء، فكذلك تبع في البيع، أما عند

(1) المهذب - للشيرازي - 1: 332، التهذيب - للبغوي - 4: 90، حلية العلماء 4:
508، العزيز شرح الوجيز 5: 47، روضة الطالبين 3: 395، ولاحظ المصادر في
الهامش (2) من ص 124، وكذا الهامش (2) من ص 121 أيضا.
(2) المهذب - للشيرازي - 1: 332، التهذيب - للبغوي - 4: 90، حلية العلماء 4:
508، العزيز شرح الوجيز 5: 47 - 48، روضة الطالبين 3: 395.
125

الرجوع فهو مشخص مستقل بنفسه منفرد بالحكم، وكأنه وجد حين
استقل.
وإن كانت حائلا عند الشراء وحملت (1) عند الرجوع، لم يكن له
الرجوع عندنا إن زادت قيمتها بالحمل.
ومن جوز الرجوع مع الزيادة المنفصلة - وهو الشافعي - فعنده قولان
موجهان بطريقين:
أشهرهما: البناء على أن الحمل هل يعرف وله حكم؟ إن قلنا: لا،
أخذها مع الحمل. وإن قلنا: نعم، قال بعضهم: إنه لا رجوع له، ويضارب
الغرماء بالثمن (2).
والأصح عندهم: أن له الرجوع إلى الولد؛ لأن الولد تبع الجارية حال
البيع، فكذا حال الرجوع (3).
ووجه المنع: أن البائع يرجع إلى ما كان عند البيع أو حدث فيه من
الزيادة المتصلة، ولم يكن الحمل موجودا، ولا يمكن عده من الزيادات
المتصلة؛ لاستقلاله وانفراده بكثير من الأحكام.
ثم قضية المأخذ الأول أن يكون الأصح اختصاص الرجوع بالأم؛ لأن
الأصح أن الحمل يعلم وله حكم، إلا أن أكثر الشافعية مالوا إلى ترجيح
القول الآخر (4).

(1) في " ج " والطبعة الحجرية: " حاملا... أو حملت ". وفي " ث، ر ": " حاملا... "
والصحيح ما أثبتناه.
(2) التهذيب - للبغوي - 4: 90، العزيز شرح الوجيز 5: 48، روضة الطالبين 3:
395.
(3) راجع: العزيز شرح الوجيز 5: 48.
(4) العزيز شرح الوجيز 5: 48.
126

وإذا قلنا باختصاص الرجوع بالأم، فقد قال بعض الشافعية: يرجع
فيها قبل الوضع، فإذا ولدت، فالولد للمفلس (1).
وقال بعضهم: يصبر إلى انفصال الولد، ولا يرجع في الحال، ثم
الاحتراز عن التفريق [طريقه] (2) ما تقدم (3).
مسألة 363: لو كان المبيع نخلا، فلا يخلو إما أن يكون عليها ثمرة
حال البيع، أو لا، فإن كان فلا يخلو إما أن تكون الثمرة مؤبرة حال البيع،
أو لا.
فإن كانت مؤبرة حال البيع، فهي للبائع، إلا أن يشترطها المشتري،
فإن اشترطها، دخلت في البيع.
فإذا أفلس وفسخ، فإما أن تكون الثمرة باقية أو تلفت.
فإن كانت باقية، فإن لم تزد، كان له الرجوع في النخل والثمرة معا.
وإن زادت، ففي الرجوع مع الزيادة المتصلة الخلاف السابق، فإن قلنا به،
رجع فيهما معا أيضا. وإن منعناه، رجع في النخل خاصة بحصته من
الثمن، دون الثمرة.
وإن تلفت، رجع في النخل، وضرب بقيمة الثمرة مع الغرماء.
وإن لم تكن مؤبرة حال البيع، فحالة الرجوع إما أن تكون مؤبرة
أو لا.
فإن كانت مؤبرة، لم تدخل في الرجوع - عندنا - للزيادة التي حصلت
بين الشراء والرجوع.
ومن أثبت الرجوع مع الزيادة المتصلة - كالشافعي - فله طريقان:

(1 و 3) العزيز شرح الوجيز 5: 48، روضة الطالبين 3: 395.
(2) ما بين المعقوفين من المصدر.
127

أحدهما: أن أخذ البائع الثمرة على القولين في أخذ الولد إذا كانت
حاملا وقت البيع ووضعت قبل الرجوع.
وقد ذكرنا أن في الرجوع في الولد له قولين، فكذا في الثمرة.
والطريق الثاني: القطع بأنه يأخذ الثمرة هنا؛ لأنها وإن كانت مستترة
فهي مشاهدة موثوق بها قابلة [للإفراد] (1) بالبيع، فكانت أحد مقصودي
العقد، فيرجع فيها رجوعه في النخل.
والحاصل: أن نقول: إن قلنا: يأخذ الولد، فالثمرة أولى بالأخذ، وإلا
فقولان (2).
وإن لم تكن مؤبرة حال الرجوع أيضا، فإن زادت فيما بين الشراء
والرجوع، لم يكن له الرجوع عندنا. وإن لم تزد أو زادت عند من يجوز
الرجوع، كان له الرجوع فيهما معا.
وإن كانت الثمرة غير موجودة حال البيع ثم ظهرت وأفلس بعد
ظهورها، فإن رجع وعليها الثمرة، فإما أن تكون مؤبرة أو غير مؤبرة.
فإن كانت مؤبرة أو مدركة أو مجذوذة، لم يكن له الرجوع في الثمرة
قطعا؛ لأنها نماء حصلت للمشتري على ملكه، فلا يزول عنه، إلا بسبب،
ولم يوجد المزيل.
ولا فرق بين أن يفلس قبل التأبير أو بعده، فإذا أفلس قبل أن تؤبر
فلم يرجع فيها حتى أبرت، لم يكن له الرجوع في الثمرة؛ لأن العين
لا تنتقل إلى البائع إلا بالفلس والاختيار لها، وهذا لم يخترها إلا بعد أن

(1) بدل ما بين المعقوفين فيما عدا " ث ": " للإقرار ". وفي " ث ": " للابراز ".
وكلاهما تصحيف. والصحيح ما أثبتناه.
(2) العزيز شرح الوجيز 5: 49، روضة الطالبين 3: 396.
128

حصل التأبير، فلم تتبعها في الفسخ.
وإن كانت الثمرة عند الرجوع غير مؤبرة، لم يكن له الرجوع فيها؛
لأنها نماء حصل على ملكه، ودخول الطلع غير المؤبر في البيع لا يقتضي
دخوله في الرجوع، ولا يسقط رجوعه في عين النخل.
وللشافعي قولان:
هذا أحدهما؛ لأن الطلع يصح إفراده بالبيع، فلا يجعل تبعا، كالثمار
المؤبرة، بخلاف البيع؛ لأنه أزال ملكه باختياره، وهنا بغير اختياره.
والثاني: أنه يأخذه مع النخل؛ لأنه تبع في البيع، فكذلك في الفسخ،
كالسمن (1).
وفيه طريقة أخرى للشافعية: أنه لا يأخذ الطلع؛ للوثوق به،
واستقلاله في البيع، بخلاف البيع (2) على ما تقدم.
وبالجملة، كل موضع أزال ملكه باختياره على سبيل العوض يتبع
الطلع، وكل موضع زال بغير اختياره، فهل يتبع؟ قولان، كالرد بالعيب،
والأخذ بالشفعة.
وكذا إذا زال بغير عوض باختياره وبغير اختياره على القولين، كالهبة
والرجوع فيها، فإن فيها قولين للشافعي (3).
إذا عرفت هذا، فلو باع نخلا قد [أطلعت] (4) ولم تؤبر، فإنها تدخل
في البيع، فإن أفلس بعد تلف الثمرة أو تلف بعضها أو بعد بدو صلاحها،
لم يكن له الرجوع في البيع عند أحمد؛ لأن تلف بعض المبيع أو زيادته

(1 - 3) العزيز شرح الوجيز 5: 49، روضة الطالبين 3: 396.
(4) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطية والحجرية: " أطلع ". وما أثبتناه يقتضيه
السياق.
129

زيادة متصلة يمنع من الرجوع، وهنا الثمرة دخلت في البيع، فكأن المبيع
شيء واحد، فإذا تلفت أو بدا صلاحها، يكون المبيع قد تلف بعضه أو
زاد، فلا رجوع (1).
أما لو كانت الثمرة مؤبرة وقت البيع فشرطها ثم أتلفها بالأكل أو تلفت
بجائحة ثم أفلس، فإنه يرجع في الأصل، ويضارب بالثمرة؛ لأنهما عينان
بيعا معا.
قال: ولو باعه نخلا لا ثمرة عليه فأطلعت و [أفلس] (2) قبل تأبيرها،
فالطلع زيادة متصلة تمنع الرجوع - عنده - في النخل (3).
وليس بصحيح؛ لأن للثمرة حكما منفردا يمكن بيعها منفردة،
ويمكن فصله، ويصح إفراده بالبيع، فهو كالمؤبرة، بخلاف الثمن.
وعنه رواية أخرى: أنه يرجع البائع في الثمرة أيضا، كما لو فسخ
بعيب (4). وهذا كقول الشافعي (5).
ولو أفلس بعد التأبير، لم يمنع من الرجوع في النخل إجماعا،
والطلع للمشتري عند أحمد (6).
ولو أفلس والطلع غير مؤبر فلم يرجع حتى أبر، لم يكن له الرجوع
عنده (7)، كما لو أفلس بعد [تأبيرها] (8).
فإن ادعى البائع الرجوع قبل التأبير، وأنكره المفلس، قدم قوله مع

(1) المغني 4: 509، الشرح الكبير 4: 524.
(2) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطية والحجرية: " فلس ". والظاهر ما أثبتناه.
(3 - 5) المغني 4: 509، الشرح الكبير 4: 524.
(6 و 7) المغني 4: 509، الشرح الكبير 4: 525.
(8) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطية والحجرية: " ثمرتها ". وما أثبتناه يقتضيه
السياق.
130

اليمين؛ لأصالة بقاء ملكه، وعدم زواله.
ولو قال البائع: بعت بعد التأبير، وقال المفلس: قبله، قدم قول
البائع؛ لهذه العلة.
فإن شهد الغرماء للمفلس، لم تقبل شهادتهم؛ لأنهم يجرون إلى
أنفسهم نفعا.
وإن شهدوا للبائع، قبلت مع عدالتهم؛ لعدم التهمة.
مسألة 364: قد بينا أنه إذا باع النخل ولا حمل له ثم أطلع عند
المشتري ثم جاء وقت الرجوع وهي غير مؤبرة، فإن الثمرة للمفلس، دون
البائع، وهو أحد قولي الشافعي (1).
ونقل المزني وحرملة عنه أنه يأخذ الثمرة مع النخل؛ لأنه تبع في
البيع، فكذا في الفسخ (2).
فعلى قوله لو جرى التأبير وفسخ البائع ثم قال البائع: فسخت قبل
التأبير فالنماء لي، وقال المفلس: بل بعده، قدم قول المفلس مع يمينه؛
لأصالة عدم الفسخ حينئذ، وبقاء الثمار له (3).
وللشافعية وجه آخر: أن القول قول البائع؛ لأنه أعرف بتصرفه (4).
وخرج بعضهم قولا: إن المفلس يقبل قوله من غير يمين، بناء على
أن النكول ورد اليمين كالإقرار، فإنه لو أقر لما قبل إقراره (5).

(1) الحاوي الكبير 6: 284، حلية العلماء 4: 504، التهذيب - للبغوي - 4: 91،
العزيز شرح الوجيز 5: 49، روضة الطالبين 3: 396.
(2) الحاوي الكبير 6: 283 - 284، حلية العلماء 4: 505، التهذيب - للبغوي - 4:
91، العزيز شرح الوجيز 5: 49، روضة الطالبين 3: 396.
(3 و 4) العزيز شرح الوجيز 5: 49، روضة الطالبين 3: 396.
(5) العزيز شرح الوجيز 5: 49 - 50، روضة الطالبين 3: 396.
131

وإنما يحلف على نفي العلم بسبق الفسخ على التأبير، لا على نفي
السبق، فإذا حلف، بقيت الثمار له.
وإن نكل، فهل للغرماء أن يحلفوا؟ فيه ما تقدم (1) من الخلاف فيما
إذا ادعى المفلس دينا وأقام شاهدا ولم يحلف معه، هل يحلف الغرماء؟
فإن قلنا: لا يحلفون، أو قلنا: يحلفون فنكلوا، عرضت اليمين على البائع،
فإن نكل، فهو كما لو حلف المفلس.
وإن حلف فإن جعلنا اليمين المردودة بعد النكول كالبينة، فالثمار له.
وإن جعلناه كالإقرار، فيخرج على قولين في قبول إقرار المفلس في
مزاحمة المقر له الغرماء، فإن لم نقبله، صرفت الثمار إلى الغرماء، كسائر
الأموال. وإن فضل شيء، أخذه البائع بحلفه.
هذا إذا كذب الغرماء البائع كما كذبه المفلس، وإن صدقوه، لم يقبل
إقرارهم على المفلس، بل إذا حلف، بقيت الثمار له.
وليس [لهم] (2) المطالبة بقسمتها؛ لأنهم يزعمون أنها ملك البائع
لا ملكه.
وليس له التصرف فيها؛ للحجر، واحتمال أن يكون له غريم آخر.
نعم، له إجبارهم على أخذها إن كانت من جنس حقوقهم، أو إبراء
ذمته عن ذلك القدر، كما لو جاء المكاتب بالنجم، فقال السيد: إنه حرام،
أو مغصوب، لم يقبل منه في حق المكاتب، ويقال له: خذه، أو أبرئه عنه.
وكذا لو دفع المديون دينه إلى صاحبه، فقال: لا أقبضه؛ لأنه حرام.
وله تخصيص بعض الغرماء به؛ لانقطاع حق الباقين عنه، فإما أن

(1) في ص 38، المسألة 286.
(2) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطية والحجرية: " له ". والصحيح ما أثبتناه.
132

يقبضه أو يبرئه.
وللشافعية وجه: أنهم لا يجبرون على أخذها، بخلاف المكاتب؛
لأنه يخاف العود إلى الرق لو لم يؤخذ منه، وليس على المفلس كثير
ضرر (1).
فإذا أجبروا على أخذها فأخذوها، فللبائع أخذها منهم؛ لإقرارهم
أنها له، ويجب عليهم الدفع إليه لو لم يطلبها، كما لو أقروا بعتق عبد في
ملك غيرهم ثم اشتروه منه.
وإن لم يجبروا وقسم سائر أمواله، فله طلب فك الحجر إن قلنا
بتوقف الرفع على إذن الحاكم.
ولو كانت من غير جنس حقوقهم فدفعها المفلس إليهم، كان لهم
الامتناع؛ لأنه إنما يلزمهم الاستيفاء من جنس ديونهم، إلا أن يكون منهم
من له من جنس الثمرة، كالقرض والسلم، فيلزمه أخذ ما عرض عليه إذا
كان بعض حقه.
ولو لم يكن من جنس حق أحد منهم فبيعت وصرف ثمنها إليهم
تفريعا على الإجبار، لم يكن للبائع الأخذ منهم؛ لأنهم لم يقروا له بالثمن،
وعليهم رده إلى المشتري، فإن لم يأخذه (2)، فهو مال ضائع.
ولو شهد بعض الغرماء أو أقر بعضهم دون بعض، لزم الشاهد أو
المقر الحكم الذي ذكرناه.
ولو كان في المصدقين عدلان شهدا للبائع على صفة الشهادة وشرطها
أو عدل واحد وحلف البائع معه، قبلت الشهادة، وقضي له إن شهد الشهود

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 50، روضة الطالبين 3: 397.
(2) في النسخ الخطية والحجرية: " لم يأخذ ". والظاهر ما أثبتناه.
133

قبل تصديق البائع أو بعده وقلنا: إنهم لا يجبرون على أخذ الثمرة، وإلا فهم
يرفعون (1) الضرر عن أنفسهم بشهادتهم؛ إذ يجبرون على أخذها ويضيع
عليهم بأخذ البائع.
ولو صدق بعض الغرماء البائع وكذبه بعضهم، فللمفلس تخصيص
المكذبين بالثمار.
ولو أراد قسمتها على الجميع، فالأقرب: أنه ليس له ذلك؛ لأن من
صدق البائع يتضرر بالأخذ؛ لأن للبائع أخذ ما أخذه منه، والمفلس
لا يتضرر بأن لا يصرف إليه، لإمكان الصرف إلى المكذبين، بخلاف ما إذا
صدقه الكل، وهو أحد قولي الشافعي.
والثاني: أنه له ذلك، كما إذا صدقوه جميعا (2).
إذا عرفت هذا، فإذا صرف إلى المكذبين ولم يف بحقوقهم،
فيضاربون المصدقين في سائر الأموال ببقية ديونهم مؤاخذة لهم بزعمهم،
أو بجميع ديونهم؛ لأن زعم المصدقين أن شيئا من دين المكذبين لم يتأد؟
للشافعية وجهان، أظهرهما عندهم: الأول (3).
وجميع ما ذكرناه فيما إذا كذب المفلس للبائع، أما لو صدقه المفلس
على سبق الفسخ للتأبير، نظر فإن صدقه الغرماء أيضا، قضي له.
وإن كذبوه وزعموا أنه أقر عن مواطأة جرت بينهما، فعلى القولين
الجاريين فيما لو أقر بعين مال أو بدين لغيره، فإن قلنا: لا نفوذ؛ لأن
حقوق الغرماء تعلقت بالثمن ظاهرا، فلم يقبل إقراره، كما لو أقر بالنخل،
فللبائع تحليف الغرماء على أنهم لا يعرفون فسخه قبل التأبير.

(1) الظاهر: " يدفعون ".
(2 و 3) العزيز شرح الوجيز 5: 51، روضة الطالبين 3: 398.
134

ومنهم من قال: هو على القولين السابقين (1) في أن الغرماء هل
يحلفون إذا ادعى حقا وأقام شاهدا ولم يحلف؟
والأول أصح عندهم؛ لأن اليمين هنا وجبت عليهم ابتداء، وثم
ينوبون عن المفلس، واليمين لا تجري فيها النيابة (2).
وفي مسألتنا: الأصل أن هذا الطلع قد تعلقت حقوقهم به؛ لكونه في
يد غيرهم ومتصل، فعليه التخلية، والبائع يدعي ما يزيل حقوقهم عنه،
فأشبه سائر أعيان ماله.
وما به النظر في انفصال الجنين وفي ظهور الثمار بالتأبير إلى حال
الرجوع دون الحجر؛ لأن ملك المفلس باق إلى أن يرجع البائع.
مسألة 365: لو كان المبيع أرضا، فإن كانت بيضاء، كان له الرجوع
عند الإفلاس بها. فإن زرع المشتري الأرض قبل الحجر، كان له الرجوع
في الأرض، والزرع للمفلس؛ لأنه عين ماله، وليس الزرع مما يتبع الأرض
في البيع فأولى أن لا يتبعها في الفسخ.
وكذا لو باعه حائطا لا ثمر فيه ثم أفلس وقد أبرت النخلة، لم يكن له
الرجوع في الثمرة؛ لأنها لا تتبع الأصل في البيع، فكذا في الفسخ.
إذا ثبت هذا، فإنه ليس لبائع الأرض ولبائع النخل المطالبة بقلع الزرع
ولا قطع الثمرة قبل أوان الجذاذ والحصاد - وبه قال الشافعي وأحمد (3) - لأن
المشتري زرع في أرضه بحق، وكذا طلعه على النخل بحق، فلم يكن لأحد

(1) في ص 38 - 39، ضمن المسألة 286.
(2) العزيز شرح الوجيز 5: 51، روضة الطالبين 3: 398.
(3) المهذب - للشيرازي - 1: 333، الحاوي الكبير 6: 283 - 284، التهذيب
- للبغوي - 4: 91، العزيز شرح الوجيز 5: 52، روضة الطالبين 3: 398،
المغني 4: 510، الشرح الكبير 4: 525.
135

مطالبته [بقلعه] (1) كما لو باع نخلا فيه ثمرة ظاهرة أو أرضا فيها زرع،
لم يكن للمشتري مطالبة البائع بقطع الثمرة والزرع، وكذا هنا، والأجرة
لصاحب الأرض في ذلك، إلا أن المشتري زرع في أرضه والزرع تجب
تبقيته، فكأنه استوفى منفعة الأرض، فلم يكن عليه ضمان ذلك.
لا يقال: أنتم قلتم في المؤجر للأرض: إذا زرعها المستأجر وأفلس،
رجع المؤجر في الأرض، وله أجرة التبقية للزرع، فلم لا يكون لبائع
الأرض الأجرة؟
لأنا نقول: الفرق ظاهر؛ فإن المعقود عليه في البيع الرقبة، وإنما
يحصل له بالفسخ وإن لم يأخذ الأجرة، وفي الإجارة المنفعة، فإذا فسخ
العقد فيها، لم يجز أن يستوفيها المستأجر بلا عوض، فإذا لم يتمكن من
استيفائها ولم يمكنه من أخذ بدلها، خلا الفسخ عن الفائدة، ولم يعد إليه
حقه، فلا يستفيد بالفسخ شيئا.
ولأن المستأجر دخل في العقد على أن يضمن المنفعة، فلهذا وجب
عليه الأجرة، بخلاف المتنازع، فإن المشتري دخل على أنه لا يضمن
المنفعة، فجرى مجرى البائع للأصول دون ثمرتها.
وحكى بعض الشافعية قولا: إن للبائع طلب أجرة المثل لمدة بقاء
الزرع، كما لو بنى المشتري أو غرس، كان للبائع الإبقاء بأجرة المثل (2).
إذا ثبت هذا، فإن اتفق المفلس والغرماء على تبقيته، كان لهم ذلك.
وإن اختلفوا، فطلب المفلس قطعه، أو طلب الغرماء قطعه، أو

(1) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطية والحجرية: " بفعله ". والصحيح ما
أثبتناه.
(2) العزيز شرح الوجيز 5: 52، روضة الطالبين 3: 398.
136

بعضهم طلبه، أجيب من طلب القطع على إشكال؛ لما في التبقية من
الغرور، ومن طلب قطعه أراد تعجيل حقه، وكذا المفلس يريد براءة ذمته،
فأجيب إلى ذلك.
ويحتمل إجابة من طلب ما فيه الحظ، فيعمل عليه.
وهو حسن - وكلاهما قولان للشافعية (1) - لأن النفع متوقع، ولهذا
جاز لولي الطفل الزرع له.
مسألة 366: لو باعه أرضا وفيها بذر مودع، فإن باعها مطلقا،
لم يدخل البذر في البيع؛ لأنه مودع فيها.
وإن باعها مع البذر، فإن قصد التبعية، جاز، وإلا بطل؛ لأن بعض
المبيع المقصود مجهول، فلا يصح بيعه.
وإن باع الأرض وشرط البذر أو قصد التبعية، دخل في البيع.
فإذا أفلس المشتري بعدما استحصد واشتد حبه أو كان قد حصده
وذراه (2) ونقاه، لم يكن لصاحب الأرض أن يرجع فيه - [وهو أحد
الوجهين للشافعية] (3) (4) - لأن هذا الزرع أعيان ابتدأها الله تعالى، ولم يكن
موجودا حال البيع.
والثاني: أن [له الرجوع؛ لأن] (5) ذلك (6) من نماء الزرع، فهو كالطلع

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 36، روضة الطالبين 3: 388، المغني 4: 510، الشرح
الكبير 4: 526.
(2) ذروت الحنطة وذريتها: نقيتها في الريح. لسان العرب 14: 283 " ذرا ".
(3) ما بين المعقوفين أضفناه لأجل السياق.
(4) العزيز شرح الوجيز 5: 47، روضة الطالبين 3: 394، المغني 4: 502، الشرح
الكبير 4: 513.
(5) ما بين المعقوفين أضفناه لأجل السياق.
(6) في " ج، ر " والطبعة الحجرية زيادة: " مما ". والظاهر زيادتها.
137

يصير تمرا، ولهذا لو غصب رجلا حبا فبذره في ملكه واستحصد، كان
لصاحب البذر دون صاحب الأرض، وكذا البيض لو صار فرخا (1).
والفرق بين الغاصب والمتنازع ظاهر.
مسألة 367: لو كانت الثمرة مؤبرة حال البيع وشرطها في البيع، كانت
جزءا من المبيع يتقسط الثمن عليها وعلى الأصول، فإذا أفلس المشتري
وتلفت الثمرة بأكله أو بجائحة أو بأكل أجنبي، فقد بينا أن للبائع أخذ
الشجر بحصته من الثمن، ويضارب مع الغرماء بحصة الثمرة.
وسبيل التوزيع أن تقوم الأشجار وعليها الثمار، فإذا قيل: قيمتها
مائة، قومت الأشجار وحدها، فإذا قيل: قيمتها تسعون، علمنا أن قيمة
الثمرة عشرة، فيضارب بعشر الثمن.
فإن اتفق في قيمتها انخفاض وارتفاع، فالاعتبار في قيمة الثمار
بالأقل من قيمتي وقت العقد ويوم القبض؛ لأنها إن كانت يوم القبض أقل
[فما نقص] (2) قبله فهو من ضمان البائع، فلا يحسب على المشتري.
وإن كانت يوم العقد أقل، فالزيادة حصلت في ملك المشتري
وتلفت، فلا تعلق للبائع بها.
نعم، لو كانت العين باقية، رجع فيها تابعة للأصل إن لم تحصل
زيادة عندنا، ومطلقا عند الشافعي (3).
[وقال بعض الشافعية] (4): الاعتبار في قيمته يوم القبض، واحتسب

(1) نفس المصادر في الهامش (4) من ص 137.
(2) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطية والحجرية: " مما قبض ". والصحيح
ما أثبتناه.
(3) العزيز شرح الوجيز 5: 52.
(4) ما بين المعقوفين أضفناه - لاستقامة العبارة - من المصدر.
138

الزيادة للبائع بعد التلف، كما أنها لو بقيت العين، لحصلت له (1).
وهذا ظاهر كلام الشافعي (2).
لكن أكثر أصحابه حملوه على ما إذا كانت قيمته يوم القبض أقل أو
لم تختلف القيمة، فسواء أضفتها (3) إلى هذا اليوم أو ذاك اليوم (4).
وأما الأشجار فللشافعية وجهان:
أظهرهما: أن الاعتبار فيها بأكثر القيمتين؛ لأن المبيع بين العقد
والقبض من ضمان البائع، فنقصانه عليه، وزيادته للمشتري، ففيما يأخذه
البائع [يعتبر] (5) الأكثر؛ لكون النقصان محسوبا عليه، كما أن فيما يبقى
للمشتري ويضارب البائع بثمنه [يعتبر] (6) الأقل؛ لكون النقصان محسوبا
عليه.
والثاني: أن الاعتبار بقيمة يوم العقد، سواء كانت أكثر القيمتين أو
أقلهما.
أما إذا كانت أكثرهما: فلما ذكرنا في الوجه الأول.
وأما إذا كانت أقلهما: فلأن ما زاد بعد ذلك من جملة الزيادات
المتصلة، وعين الأشجار باقية، فيفوز بها البائع، ولا تحسب عليه (7).
قال الجويني: ولصاحب الوجه الأول أن يقول: نعم، البائع يفوز بها،

(1 و 2) العزيز شرح الوجيز 5: 52.
(3) كذا في النسخ الخطية والحجرية. وفي المصدر: " فبنوا إضافتها " بدل " فسواء
أضفتها ".
(4) العزيز شرح الوجيز 5: 52.
(5 و 6) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطية والحجرية: " تعين... بقيمة ".
والمثبت من المصدر.
(7) العزيز شرح الوجيز 5: 52 - 53، روضة الطالبين 3: 399.
139

لكن يبعد أن يفوز بها وهي [حادثة] (1) في ملك غيره، ثم لا يحتسبها من
المبيع، فإذا فاز بها فليقدر كأنها وجدت يوم البيع (2).
ولنذكر مثالا في اختلاف قيمة الأشجار والثمار.
فنقول: كانت قيمة الشجرة يوم البيع عشرة، وقيمة الثمرة خمسة،
فلو لم تختلف القيمة، لأخذ الشجرة بثلثي الثمن (3).
ولو زادت قيمة الثمرة فكانت عشرة يوم البيع، فكما لو كانت القيمة
بحالها على أشهر الوجهين. وعلى الآخر: يضارب بنصف الثمن. ولو
نقصت فكانت يوم القبض درهمين ونصفا، يضارب بخمس الثمن.
ولو زادت قيمة الشجرة أو نقصت، فالحكم على الوجه الثاني كما لو
بقيت بحالها. وعلى الأول كذلك إن نقصت. وإن زادت وكانت خمسة
عشر، ضارب بربع الثمن.
تذنيبان:
أ: إذا اعتبرنا في الثمار أقل القيمتين، فلو كانتا متساويتين لكن وقع
بينهما نقصان، نظر إن كان بمجرد انخفاض السوق، فلا عبرة به. وإن كان
لعيب طرأ وزال، فكذلك على الظاهر، كما أنه يسقط بزواله حق الرد. وإن
لم يزل العيب لكن عادت قيمته إلى ما كان بارتفاع السوق، اعتبرت قيمته
يوم العيب، دون البيع والقبض؛ لأن النقصان الحاصل من ضمان البائع

(1) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطية والحجرية: " جارية ". والمثبت من
المصدر.
(2) العزيز شرح الوجيز 5: 53.
(3) في العزيز شرح الوجيز 5: 53، وروضة الطالبين 3: 399 زيادة: " وضارب
للثمرة بالثلث ".
140

والارتفاع بعده في ملك المشتري لا يصلح جابرا له.
ب: إن اعتبرنا في الأشجار أكثر القيمتين، فلو كانت قيمة الشجرة
يوم العقد مائة وخمسين، ويوم الرجوع إلى البائع مائتين، فالوجه القطع
باعتبار المائتين. ولو كانت قيمتها مائتين يوم العقد ويوم القبض، ويوم
الرجوع مائة، اعتبر يوم الرجوع، فإن ما طرأ من زيادة وزال ليس ثابتا يوم
العقد حتى نقول: إنه وقت المقابلة، ولا يوم أخذ البائع [حتى] (1) يحسب
[عليه] (2).
ولقائل أن يقول: هذا إن استقام في طرف الزيادة، تخريجا على ما
سبق أن ما فاز به البائع من الزيادة الحادثة (3) عند المشتري يقدر كالموجود
عند البيع، فلا يستقيم في طرف النقصان؛ لأن النقصان الحاصل في يد
المشتري كعيب حدث في المبيع.
وإذا رجع البائع على العين المبيعة، لزمه القناعة بها، ولا يطالب
المشتري للعيب بشيء.
مسألة 368: قد ذكرنا أولا أن الزيادة إما أن تكون حاصلة لا من
خارج، وقد ذكرنا أقسامه وأحكام تلك الأقسام، وإما أن تكون من خارج.
وأقسامها ثلاثة:
أ: أن تكون عينا محضة.
ب: أن تكون صفة محضة.
ج: ما يتركب منهما.

(1) ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.
(2) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطية والحجرية: " عليك ". والظاهر ما أثبتناه.
(3) في " ج ": " الحاصلة " بدل " الحادثة ".
141

أما الأول فله ضربان:
أ: أن تكون قابلة للتميز عن المبيع.
ب: أن لا تكون قابلة للتميز.
فالأول كما إذا اشترى أرضا فغرس فيها أو بنى ثم أفلس قبل إيفاء
الثمن وأراد البائع الرجوع في أرضه، فإن اتفق الغرماء والمفلس على القلع
وتفريغ الأرض وتسليمها بيضاء، رجع فيها؛ لأن ذلك الحق لهم لا يخرج
من بينهم، فإذا فعلوا، فللبائع الرجوع في أرضه؛ لأنه وجد متاعه بعينه.
وهل يرجع قبل القلع أو بعده؟
قال بعض الحنابلة: لا يستحقه حتى يوجد القلع؛ لأن قبل القلع
لم يدرك متاعه إلا مشغولا بملك المشتري (1).
وقال الشافعي: يرجع قبله وهم يشتغلون بالقلع، وهو قول أكثر
الحنابلة (2).
وليس له أن يلزمهم أخذ قيمة الغراس والبناء ليتملكها مع الأرض.
وإذا قلعوا الغراس والبناء، وجب تسوية الحفر من مال المفلس.
وإن حدث في الأرض نقص بالقلع، وجب أرش النقص في ماله.
ويضارب به أو يقدم؟ قال بعض الشافعية: يقدم على سائر الديون؛
لأنه لتخليص ماله وإصلاحه، فكان عليه، كما لو دخل فصيل دار إنسان
فكبر فلم يمكنه إخراجه إلا بهدم بابها، فإن الباب يهدم ليخرج، ويضمن
صاحبه ما نقص، بخلاف ما لو وجد البائع عين ماله ناقصة فرجع فيها، فإنه

(1) المغني 4: 513، الشرح الكبير 4: 529.
(2) المهذب - للشيرازي - 1: 332، العزيز شرح الوجيز 5: 54، روضة الطالبين 3:
400، المغني 4: 513، الشرح الكبير 4: 529.
142

لا يرجع في النقص؛ لأن النقص كان في ملك المفلس، وهنا النقص حدث
بعد رجوعه في العين، فلهذا ضمنوه، ويضرب بالنقص مع الغرماء (1).
وإن قلنا: ليس له الرجوع قبل القلع، لم يلزمهم تسوية الحفر
ولا أرش النقص؛ لأنهم فعلوا ذلك في أرض المفلس قبل رجوع البائع
فيها، فلم يضمنوا النقص، كما لو [قلعه] (2) المفلس قبل فلسه.
ولو اختلفوا، فقال المفلس: يقلع، وقال الغرماء: نأخذ القيمة من
البائع ليتملكه، أو بالعكس، أو وقع هذا الاختلاف بين الغرماء، أجيب من
المصلحة في قوله.
ولو امتنع الغرماء والمفلس معا من القلع، لم يجبروا عليه؛ لأنه حين
البناء والغرس لم يكن متعديا بهما، بل فعل ذلك بحق، ومفهوم قوله (عليه السلام):
" ليس لعرق ظالم حق " (3) أنه إذا لم يكن ظالما، فله حق.
وحينئذ ينظر إن رجع على أن يتملك البناء والغراس مع الأرض
بقيمتها، أو يقلع ويغرم أرش النقص، فله ذلك؛ لأن الضرر يندفع من
الجانبين بكل واحد من الطريقين، والاختيار فيهما إليه.
وليس للمفلس ولا للغرماء الامتناع من القبول؛ لأن مال المفلس
معرض (4) للبيع، فلا يختلف غرضهم بين أن يتملكه البائع أو يشتريه

(1) المهذب - للشيرازي - 1: 332، التهذيب - للبغوي - 4: 93، العزيز شرح
الوجيز 5: 54، روضة الطالبين 3: 400، ولاحظ: المغني 4: 513 - 514،
والشرح الكبير 4: 529.
(2) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطية والحجرية: " قطعه ". والظاهر ما أثبتناه.
(3) صحيح البخاري 3: 140، سنن أبي داود 3: 178 / 3073، سنن الترمذي 3:
662 / 1378، سنن الدار قطني 3: 36 / 144، الموطأ 2: 743 / 26، مسند أحمد
6: 446 - 447 / 22272.
(4) في النسخ الخطية والحجرية: " متعرض ". والظاهر ما أثبتناه.
143

أجنبي، ويخالف هذا ما إذا زرع المشتري الأرض وأفلس (1) ورجع البائع
في الأرض حيث لا يتمكن من تملك الزرع بالقيمة ولا من القلع وغرامة
الأرش؛ لأن للزرع أمدا منتظرا يسهل احتماله، والغراس والبناء للتأبيد، قال
كل ذلك الشافعي (2).
وقال أحمد: إذا بذل البائع قيمة الغرس والبناء ليكون له ذلك، أو
قال: أنا أقلع وأغرم الأرش، فإن قلنا: له الرجوع قبل القلع، فله ذلك؛ لأن
البناء و (3) الغراس حصل في ملكه لغيره بحق، فكان له أخذه بقيمته، أو
قلعه وضمان نقصه، كالشفيع إذا أخذ الأرض وفيها غراس وبناء للمشتري،
والمعير إذا رجع في أرضه بعد غرس المستعير. وإن قلنا: ليس له الرجوع
قبل القلع، لم يكن له ذلك؛ لأن المفلس بنى وغرس في ملكه، فلم يجبر
على بيعه لهذا البائع ولا على قلعه، كما لو لم يرجع في الأرض (4).
وليس عندي بعيدا من الصواب أن يقال: ليس للبائع إجبار المفلس
والغرماء على القلع ودفع الأرش، ولا على دفع قيمة البناء والغرس، بل إما
أن يختار العين أو يمضي البيع، فإن اختار العين وفسخ البيع، لم يكن له
القلع ولا دفع القيمة، بل يرجع والأرض مشغولة بهذا البناء والغراس،
فتكون قد تعيبت بالشغل بهما مؤبدا، فإن انهدم البناء أو قلع الغرس أو
مات، سقط حق المفلس، وليس لصاحب الأرض الرجوع بالأجرة مدة
مقامها (5) فيها؛ لأنه إنما يرجع في المعيب ثم يباع البناء أو الغراس على

(1) في النسخ الخطية والحجرية: " فلس ". والظاهر ما أثبتناه.
(2) العزيز شرح الوجيز 5: 54 - 55.
(3) الظاهر: " أو " بدل " و ".
(4) المغني 4: 514، الشرح الكبير 4: 530.
(5) في " ث ": " بقائها ". والظاهر: " مقامهما " أو " بقائهما ".
144

صاحب الأرض أو غيره (1) مستحقين للبقاء.
ولأحمد قول آخر: إنه يسقط حق بائع الأرض من الرجوع فيها؛ لأنه
لم يدرك البائع متاعه على وجه يمكنه أخذه منفردا عن غيره فلم يكن له
أخذه، كالحجر والبناء والمسامير في الباب، وكما لو كانت العين مشغولة
بالرهن - وهو قول بعض الشافعية - ولأن في ذلك ضررا على المشتري
والغرماء، فإنه لا يكون له طريق يسلكون منه إلى البناء والغراس، ولا يزال
الضرر بمثله. ولأنه لا يحصل بالرجوع هنا انقطاع النزاع والخصومة،
بخلاف ما إذا وجدها مفرغة (2).
مسألة 369: لو أراد البائع الرجوع في الأرض وحدها وإبقاء الغراس
والبناء للمفلس والغرماء، أجيب إلى ذلك، بل هو الوجه عندنا لو أراد
الرجوع في العين على ما تقدم.
وللشافعي قولان:
أحدهما: أنه يجاب إلى ذلك، كقولنا.
والثاني: أنه ليس له الرجوع في الأرض خاصة، وإبقاء البناء والغراس
للمفلس.
ولأصحابه طريقان:
أحدهما: أن في المسألة قولين:
أحدهما - وهو اختيار المزني -: له [أن] (3) يرجع كذلك، كما لو صبغ
الثوب المشتري ثم [أفلس] (4)، رجع (5) البائع في الثوب، ويكون المفلس

(1) في " ج، ر ": " أو على غيره ".
(2) المغني 4: 514، الشرح الكبير 4: 530 - 531.
(3) ما بين المعقوفين يقتضيه السياق، وكما في " العزيز شرح الوجيز ".
(4) في النسخ الخطية والحجرية: " فلس ". والظاهر ما أثبتناه.
(5) في النسخ الخطية والحجرية: " ورجع ". والمثبت هو الصحيح.
145

شريكا معه بالصبغ.
وأصحهما عنده: المنع؛ لما فيه من الضرر، فإن الغراس بلا أرض
والبناء بلا مقر ولا ممر ناقص القيمة، والرجوع إنما يثبت لدفع الضرر،
فلا يدفع بضرر، بخلاف الصبغ، فإن الصبغ كالصفة التابعة للثوب.
والثاني: تنزيل النصين على حالين، وله طريقان:
أحدهما: قال بعض الشافعية: إنه حيث قال: " يرجع " أراد ما إذا
كانت الأرض كثيرة القيمة، والبناء والغراس مستحقرين بالإضافة إليها،
وحيث قال: " لا يرجع " أراد ما إذا كانت الأرض مستحقرة بالإضافة إليهما.
والمعنى في الطريقين اتباع الأقل للأكثر.
ومنهم من قال: حيث قال: " يرجع " أراد ما إذا رجع في البياض
المتخلل بين الأبنية والأشجار، وضارب للباقي بقسطه من الثمن،
[يمكن] (1) منه؛ لأنه ترك بعض حقه في العين.
فإذا فرعنا على طريقة القولين، فإن قلنا: ليس له الرجوع في الأرض
وإبقاء البناء (2) والغراس للمفلس، فللبائع ترك الرجوع، ويضارب مع
الغرماء بالثمن، أو يعود إلى بذل قيمتهما أو قلعهما وغرامة أرش النقصان،
فإن مكناه منه فوافق البائع الغرماء وباع الأرض معهم حين باعوا البناء
والغراس، فذلك.
وإن أبى فهل يجبر؟ فيه للشافعية قولان:

(1) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطية والحجرية: " يتمكن ". والظاهر ما أثبتناه
كما في " العزيز شرح الوجيز ".
(2) فيما عدا " ث " من النسخ الخطية والحجرية: " العين " بدل " البناء ".
146

أحدهما: يجبر، كما في مسألة الصبغ.
وأصحهما عندهم: لا يجبر؛ لأن إفراد البناء والغراس بالبيع ممكن،
بخلاف الصبغ.
فإذا لم يوافقهم فباعوا البناء والغراس، بقي للبائع ولاية التملك
بالقيمة والقلع مع غرامة الأرش، وللمشتري الخيار في المبيع إن كان جاهلا
بحال ما اشتراه (1).
واعلم أن الجويني نقل أربعة أقوال في هذه المسألة.
أ: أن يقال: إن البائع فاقد عين ماله، ولا رجوع بحال؛ لأن الرجوع
في الأرض ينقص قيمة البناء والغراس.
ب: أن الأرض والبناء أو الغراس يباعان معا، دفعا للخسران عن
المفلس، كما في الثوب المصبوغ.
ج: أنه يرجع في الأرض، ويتخير بين أمور ثلاثة: إما تملك البناء
والغراس بالقيمة، وإما قلعهما مع غرامة أرش النقصان، وإما إبقاؤهما بأجرة
المثل تؤخذ من مالكهما (2).
فإذا عين واحدة من هذه الخصال الثلاث فاختار المفلس والغرماء
غيرها أو امتنعوا من الكل، فللشافعية وجهان في أنه يرجع إلى الأرض
ويقلع مجانا، أو يجبرون على ما عينه (3).

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 55، روضة الطالبين 3: 400 - 401.
(2) في النسخ الخطية والحجرية: " مالكها ". والصحيح ما أثبتناه، كما في المصدر
أيضا.
(3) في النسخ الخطية والحجرية: " عينوا " بدل " عينه ". والصحيح ما أثبتناه كما في
المصدر أيضا.
147

د: أنه إن كانت قيمة البناء أكثر، فالبائع فاقد عين. وإن كانت قيمة
الأرض أكثر، فواجد (1).
مسألة 370: لو اشترى من رجل أرضا فارغة واشترى من آخر غرسا
وغرسه في تلك الأرض ثم أفلس، كان لصاحب الأرض الرجوع فيها،
ولصاحب الغراس الرجوع فيه.
ثم ينظر فإن أراد صاحب الغراس قلعه، كان له ذلك، وعليه تسوية
الحفر؛ لأنه لتخليص ماله، وأرش نقص الأرض إن حصل نقص.
فإن أراد صاحب الأرض أن يعطيه قيمته إن لم يختر صاحبه قلعه،
قال الشافعي: يكون له مطلقا (2).
والأقوى عندي: أنه يكون له ذلك إن رضي صاحب الغرس، وإلا
فلا.
وإن أراد صاحب الأرض قلعه ويضمن ما نقص، كان له.
وإن أراد قلعه بغير ضمان، فالأقرب: أنه ليس له ذلك؛ لأن غرسه
ثابت في الأرض بحق، فلا يكون له قلعه مجانا.
ولو كان الغراس من المفلس، لم يجبر على قلعه من غير ضمان،
وهو أحد وجهي الشافعي.
والثاني: أنه يجاب إلى ذلك؛ لأنه إنما اشترى منه الغراس مقلوعا،
فكان عليه أن يأخذه كذلك، وليس له تبقيته في ملك غيره، ويفارق
المفلس؛ لأنه غرسه في ملكه فيثبت حقه في ذلك (3).

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 55 - 56، روضة الطالبين 3: 401.
(2) راجع: الحاوي الكبير 6: 293.
(3) راجع: الحاوي الكبير 6: 293، والعزيز شرح الوجيز 5: 56، وروضة الطالبين
3: 401.
148

ويحتمل عندي وجه آخر، وهو: أن يقال: صاحب الغراس (1)
لا يستحق الإبقاء في الأرض، وصاحب الأرض لا يستحق القلع مجانا؛ لأنه
أثبت بحق، فيقوم الغراس مقلوعا وثابتا، ويأخذ المفلس التفاوت بينهما؛
لأنه مستحق له.
مسألة 371: قد ذكرنا حكم الزيادة من خارج، القابلة للتميز، وبقي ما
لا يقبله، كمزج ذوات الأمثال بعضها ببعض، مثل أن يشتري صاعا من
حنطة أو شعير أو دخن أو غير ذلك من الحبوب ويمزجه بصاع له، أو
يشتري مكيلة من زيت أو سمن أو شيرج أو غير ذلك من الأدهان ثم
يمزجه بمكيلة، وكذا جميع ذوات الأمثال إذا امتزجت بحيث لا يمكن
تخليص بعضها من بعض، فأقسامه ثلاثة:
أ: أن يكون الممتزجان متماثلين ليس أحدهما أجود من الآخر،
لم يسقط حقه من العين - وبه قال الشافعي ومالك (2) - ويكون له المطالبة
بالقسمة؛ لأن عين ماله موجودة فيه، ويمكنه التوصل إلى حقه بالقسمة؛
لأن الزيت كله سواء، فيأخذ حقه بالكيل أو الوزن.
وقال أحمد: يسقط حقه من العين؛ لأنه لم يجد عين ماله، فلم يكن
له الرجوع، كما لو تلفت. ولأن ما يأخذه من غير ماله ممتزجا بعين ماله (3)

(1) في الطبعة الحجرية: " الغرس ".
(2) الأم 3: 203، مختصر المزني: 103، الحاوي الكبير 6: 300، المهذب
- للشيرازي - 1: 333، التهذيب - للبغوي - 4: 97، حلية العلماء 4: 513،
الوجيز 1: 175، الوسيط 4: 31، العزيز شرح الوجيز 5: 56، روضة الطالبين
3: 402، المغني 4: 501، الشرح الكبير 4: 519، التفريع 2: 251.
(3) في النسخ الخطية والحجرية: " ما يأخذه من عين ماله ممتزجا بغير ماله ". والمثبت
هو الصحيح.
149

إنما يأخذه عوضا عن ماله، فلم يختص به دون (1) الغرماء، كما لو تلف
ماله (2).
ويمنع عدم وجدانه لعين ماله، بل وجدها ممتزجة بغيرها.
والفرق بينه وبين التلف ظاهر؛ لأنه نقيضه.
وما يأخذه من غير (3) ماله وإن كان عوضا عن ماله إلا أنه يدخل
بواسطته في حق المفلس مالا، فكان مقدما به على باقي الغرماء.
وإن لم تجز القسمة وطالب (4) بالبيع، فالأقرب أنه يجاب إلى ذلك؛
لأن بالقسمة لا يصل إلى عين ماله، وربما كان له غرض في أن لا يأخذ من
زيت المشتري شيئا، وهو أحد قولي الشافعي.
والثاني: أنه لا يجاب إليه؛ لأنه يصل إلى جميع حقه بالقسمة، فهو
كجماعة ورثوا زيتا لا يكون لبعضهم أن يطالب بعضا بالبيع (5).
والفرق أن الوراث ملكوا الزيت ممزوجا، والمفلس كان قد ملك
متميزا عن ملك البائع، وكذا البائع ملك متميزا عن ملك المفلس، فافترقا.
ب: أن يمزجه المشتري بأردأ منه. وللبائع هنا أيضا الخيار بين
الفسخ (6) فيرجع في عينه بالكيل أو الوزن - وبه قال الشافعي ومالك (7) - لما

(1) في النسخ الخطية والحجرية: " إذن " بدل " دون ". والصحيح ما أثبتناه من المصدر.
(2) المغني 4: 501، الشرح الكبير 4: 519 - 520.
(3) في النسخ الخطية والحجرية: " عين " بدل " غير ". والظاهر ما أثبتناه.
(4) في الطبعة الحجرية: " فطالب ".
(5) المهذب - للشيرازي - 1: 333، الحاوي الكبير 6: 300، حلية العلماء 4:
513 - 514، العزيز شرح الوجيز 5: 56 - 57، روضة الطالبين 3: 402.
(6) كذا قوله: " بين الفسخ ". ولعلها: " في الفسخ ".
(7) الأم 3: 203، مختصر المزني: 103، الحاوي الكبير 6: 300، المهذب
- للشيرازي - 1: 333، التهذيب - للبغوي - 4: 97، حلية العلماء 4: 514،
الوجيز 1: 175، الوسيط 4: 31، العزيز شرح الوجيز 5: 57، روضة الطالبين
3: 402، المغني 4: 501، الشرح الكبير 4: 519.
150

تقدم في المساوي، فإذا رضي بالأردأ، كان أولى.
وقال أحمد: يسقط حقه من العين بمجرد المزج، سواء بالأجود أو
الأردأ أو المساوي (1).
وقد تقدم بطلانه؛ لأن عين ماله موجودة من طريق الحكم، فكان له
الرجوع، كما لو وجد عين ماله منفردة [و] لأنه ليس فيها أكثر من
اختلاطها، وهو لا يخرج الحقيقة عن حقيقتها، فأشبهت صبغ الثوب وبل
السويق بالزيت.
وفي كيفية أخذ حقه للشافعي طريقان:
أحدهما - وهو الأصح عنده وعندي -: أنه يقسم بالمكيال أو الوزن،
فإن تساويا قدرا، أخذ النصف. وإن تفاوتا، أخذ المقدار (2) الذي له، وإن
شاء ضارب مع الغرماء.
والثاني: أن المكيلين يباعان معا ويقسم الثمن بينهما على قدر
القيمتين؛ لأنه إن أخذ مكيله من الممتزج، نقص حقه، ولا يجب عليه
المسامحة، وإن أخذ أكثر من مكيله، لزم الربا، فعلى هذا لو كان المبيع
يساوي درهمين، والممتزج به يساوي درهما، قسم الثمن بينهما أثلاثا (3).
وهو خطأ؛ لأن هذا نقصان حصل في المبيع، فأشبه تعيب العبد

(1) المغني 4: 501، الشرح الكبير 4: 519.
(2) في النسخ الخطية والحجرية: " مقدار " بدل " المقدار ". والصحيح ما أثبتناه.
(3) المهذب - للشيرازي - 1: 333، الحاوي الكبير 6: 301، حلية العلماء 4:
514، العزيز شرح الوجيز 5: 57، روضة الطالبين 3: 402.
151

والثوب.
ج: أن يمتزج (1) بالأجود، فالأصح أنه يسقط حقه من العين، وليس له
إلا المضاربة بالثمن - قال الشافعي: بهذا أقول، وهو أصح الوجهين (2) - لأن
عين زيته تالفة من طريق المشاهدة والحكم.
أما من طريق المشاهدة والحقيقة: فللاختلاط.
وأما من طريق الحكم: فلأنه لا يمكنه الرجوع إلى عينه بالقسمة
وأخذ المكيل من الممتزج؛ لما فيه من الإضرار بصاحب الأجود، ولا
المطالبة بقيمته، بخلاف المساوي، فإنه يمكنه المطالبة بقسمته فيه،
وبخلاف الثوب المصبوغ، فإن عينه موجودة محسوسة، وكذا السويق، فإن
عينه لم تفقد وهي مشاهدة.
وقال المزني: له الفسخ، والرجوع إلى حقه من المخلوط، كالخلط
بالمثل والأردأ، وكما لو صبغ الثوب ولت السويق (3)، لا ينقطع (4) حق
الرجوع، فكذا هنا (5).
والفرق أن الزيت إذا اختلط، لم يمكن الإشارة إلى شيء من

(1) فيما عدا " ث " من النسخ الخطية والحجرية: " يمزج ".
(2) الأم 3: 203، مختصر المزني: 103، الحاوي الكبير 6: 301، المهذب
- للشيرازي - 1: 333، التهذيب - للبغوي - 4: 98، حلية العلماء 4: 515،
الوجيز 1: 175، العزيز شرح الوجيز 5: 57، روضة الطالبين 3: 402، المغني
4: 501، الشرح الكبير 4: 519.
(3) لت السويق: أي بله بالماء أو بغيره. لسان العرب 2: 82 و 83 " لتت ".
(4) في النسخ الخطية والحجرية: " لا يقطع ". والظاهر ما أثبتناه كما في " العزيز شرح
الوجيز ".
(5) مختصر المزني: 103، الحاوي الكبير 6: 301، المهذب - للشيرازي - 1:
333، التهذيب - للبغوي - 4: 98، حلية العلماء 4: 515، العزيز شرح الوجيز
5: 57.
152

المخلوط بأنه المبيع، فكأنه هلك، بخلاف الثوب والسويق.
ومن هذا الفرق خرج بعضهم في المزج بالمثل والأردأ قولا آخر: إنه
ينقطع به حق الرجوع، وأيد ذلك بأن الحنطة المبيعة لو انثالت عليها أخرى
قبل القبض، ينفسخ المبيع على قول؛ تنزيلا له منزلة التلف (1).
والمعتمد عندنا وعندهم (2) أن الخلط بالمثل والأردأ لا يمنع الرجوع،
على ما سبق. ويفارق اختلاط المبيع قبل القبض؛ لأن الملك غير مستقر،
فلا يبعد تأثره بما لا يتأثر الملك المستقر.
وعلى قول المزني بالرجوع في صورة المزج بالأجود، فيه قولان
للشافعي في كيفية الرجوع:
أصحهما عندهم: أنه يكون شريكا مع المفلس بقدر قيمة مكيله،
فيباع المكيلتان، ويقسم بينهما على قدر القيمتين، كما في صبغ الثوب.
والثاني: أن نفس المكيلتين يقسم بينهما باعتبار القيمة، فإذا كانت
المكيلة المبيعة تساوي درهما والمخلوطة درهمين، أخذ من المكيلتين
ثلثي مكيلة (3).
وقد خرج بعضهم هذا الخلاف على أن القسمة بيع أو إفراز حق؟ إن
قلنا: إنها بيع، لم يقسم عين الزيت؛ لما في القسمة من مقابلة مكيلة بثلثي
مكيلة. وإن قلنا بالثاني، فيجوز، وكأنه أخذ بعض حقه وترك البعض (4).

(1) التهذيب - للبغوي - 4: 98، الوسيط 4: 31، العزيز شرح الوجيز 5: 57،
روضة الطالبين 3: 402.
(2) العزيز شرح الوجيز 5: 57.
(3) المهذب - للشيرازي - 1: 333، التهذيب - للبغوي - 4: 98، حلية العلماء 4:
515، الوسيط 4: 32، العزيز شرح الوجيز 5: 57 - 58، روضة الطالبين 3:
402.
(4) العزيز شرح الوجيز 5: 58.
153

وقال بعضهم: إن هذا ليس بصحيح؛ لأن ذلك إن كان بيعا، كان ربا،
وإن أخذ ثلثه وأبرأه عما بقي من مكيلة زيته، لم تكن البراءة واجبة عليه،
فيكون له أن لا يفعل، ويطالب بالباقي، ولا يجوز ذلك؛ لأنه يأخذ حينئذ
أكثر مما له، فلم يبق إلا البيع لهما (1).
تذنيبان:
أ: إذا قلنا: الخلط يلحق المبيع بالمفقود - كما هو قول بعض
الشافعية، وقول أحمد (2) - لو كان أحد الخليطين كثيرا والآخر قليلا
ولا تظهر به زيادة في الحس، ويقع مثله بين المثلين، فإن كان الكثير
للبائع، فهو واجد عين ماله. وإن كان الكثير للمشتري، فهو فاقد.
وقال بعض الشافعية: الحكم الأول قطعي، والثاني ظاهر (3).
ب: لو كان المخلوط من غير جنس المبيع كالزيت والشيرج، فهو
فاقد عين ماله، وليس له الفسخ حينئذ، ويكون بمثابة ما لو تلف المبيع،
فيضارب بالثمن.
قال الجويني: وفيه احتمال، سيما على قوله ببيع المخلوط وقسمة
الثمن (4).
مسألة 372: قد ذكرنا من أقسام النوع الثاني من الزيادات قسما
واحدا، وهو أن تكون الزيادة عينا محضة، وبقي قسمان: ما يكون صفة
محضة، وما يتركب منهما، فنبدأ بالصفة المحضة.

(1) راجع المهذب - للشيرازي - 1: 333.
(2) العزيز شرح الوجيز 5: 58، روضة الطالبين 3: 402، المغني 4: 501، الشرح
الكبير 4: 519.
(3 و 4) العزيز شرح الوجيز 5: 58، روضة الطالبين 3: 402.
154

فنقول: إذا اشترى عينا وعمل فيها ما يزيد في صفتها - مثل أن
يشتري حنطة فيطحنها أو يزرعها، أو دقيقا فيخبزه، أو ثوبا فيقصره، أو
يخيطه قميصا بخيوط من الثوب، أو غزلا فينسجه، أو خشبا فينشره
ألواحا، أو ألواحا فينجرها بابا، وبالجملة أن يعمل شيئا يزيل اسمه - فإنه
لا يسقط حق الرجوع بذلك عندنا إذا أفلس - وبه قال الشافعي (1) - لأن
العين لم تخرج عن حقيقتها بتوارد هذه الصفات عليها، فكان واجدا عين
ماله، فله الرجوع فيها.
وقال أحمد: يسقط حق البائع من الرجوع؛ لأنه لم يجد عين ماله
بعينه، فلم يكن له الرجوع، كما لو أتلفه. ولأنه غير اسمه وصفته،
فلم يكن له الرجوع، كما لو كان نوى فنبت شجرا (2).
وليس بصحيح؛ لأنا قد بينا أن العين لم تخرج عن حقيقتها، وإلا
لكان الغاصب يملك المغصوب إذا فعل به هذه الصفات، وكان ينتقل حق
المغصوب منه إلى المثل أو القيمة، وليس كذلك. وتغيير الوصف لا ينافي
بقاء العين، ويخالف النوى؛ لأن الحقيقة قد زالت ووجدت أخرى.
إذا عرفت هذا، فنقول: إن لم تزد قيمة المبيع بهذه الصفات، لم يكن
للمفلس شركة فيه، بل يأخذه البائع موصوفا بهذه الصفة، سواء غرم عليها
المفلس شيئا أو لا.
وإن نقصت قيمته، فلا شيء للبائع معه.

(1) الأم 3: 303، مختصر المزني: 103، الحاوي الكبير 6: 303، المهذب
- للشيرازي - 1: 332، التنبيه: 102، التهذيب - للبغوي - 4: 96، حلية العلماء
4: 509، العزيز شرح الوجيز 5: 59، روضة الطالبين 3: 402، المغني 4:
502، الشرح الكبير 4: 512.
(2) المغني 4: 502، الشرح الكبير 4: 512 - 513.
155

وإن زادت، صار المفلس شريكا فيها، كما في زيادات الأعيان.
قال الشافعي: وبه أقول - وهو أصح القولين - لأنها زيادة حصلت
بفعل متقوم محترم، فوجب أن لا تضيع عليه، كما لو صبغ الثوب. ولأن
الطحن والقصارة أجريت مجرى الأعيان، ولهذا كان للطحان أن يمسك
الدقيق على الأجرة، وكذا القصار (1).
والقول الثاني للشافعي - وبه قال المزني -: إن الزيادة في هذه
الأعمال تجري مجرى الآثار، ولا شركة للمفلس فيها؛ لأنها صفات تابعة،
وليس للمفلس فيها عين مال، بل أثر صنعة، فهي كسمن الدابة بالعلف وكبر
الودي بالسقي والتعهد، وكتعلم الغلام صنعة، وكما لو اشترى لوزا فقشره
أو غنما فرعاها. ولأن القصارة تزيل الوسخ وتكشف عما فيه من البياض،
فلا تقتضي الشركة، كما لو كان المبيع لوزا فكسره وكشف اللب وزادت به
القيمة. ويدل عليه أن الغاصب لو قصر الثوب أو طحن الحنطة لم يستحق
شيئا (2).
والفرق ظاهر بين المتنازع وسمن الدابة بالعلف وكبر الودي بالسقي؛
لأن القصار إذا قصر الثوب، صار الثوب مقصورا بالضرورة، وأما السقي
والعلف فقد يوجدان كثيرا من غير سمن ولا كبر؛ لأن الأثر فيه غير منسوب
إلى فعله، بل هو محض صنع الله تعالى، ولهذا لا يجوز الاستئجار على

(1) الحاوي الكبير 6: 303، المهذب - للشيرازي - 1: 332، الوجيز 1: 175،
العزيز شرح الوجيز 5: 59، التهذيب - للبغوي - 4: 97، حلية العلماء 4: 509،
روضة الطالبين 3: 403، المغني 4: 502، الشرح الكبير 4: 512.
(2) المهذب - للشيرازي - 1: 332، التهذيب - للبغوي - 4: 96، الحاوي الكبير 6:
303، حلية العلماء 4: 509، الوجيز 1: 175، العزيز شرح الوجيز 5: 59،
روضة الطالبين 3: 402، المغني 4: 502، الشرح الكبير 4: 512.
156

تسمين الدابة و [تكبير] (1) الودي، ويجوز الاستئجار على القصارة.
ويخالف المشتري الغاصب؛ فإن الغاصب معتد بفعله، فلم يثبت له
فيها حق، بخلاف مسألتنا.
لا يقال: أليس لو صبغ الغاصب الثوب، كان شريكا فيه مع تعديه؟
لأنا نقول: الصبغ عين ماله، وله قلعه، فإذا تعذر ذلك، كان شريكا،
بخلاف المتنازع، إلا أن هذا الفرق يمنع اعتبار مسألتنا أيضا بالصبغ.
مسألة 373: لو اشترى دقيقا فخبزه، أو لحما فشواه، أو شاة فذبحها،
أو أرضا فضرب من ترابها لبنا، أو عرصة وآلات البناء فبناها فيها (2) دارا ثم
أفلس، كان شريكا بهذه الأفعال.
وللشافعي قولان (3).
أما لو علم العبد القرآن أو الصنعة أو الكتابة أو الشعر المباح، أو
راض الدابة، فكذلك عندنا؛ لأن هذه الأفعال تصح المعاوضة عليها،
فكانت زيادة.
وقد اختلفت الشافعية:
فقال أبو إسحاق: إن هذه لا تلحق بما تقدم، ولا تجري مجرى
الأعيان قطعا؛ لأنه ليس بيد المعلم والرائض إلا التعليم، وقد يجتهد فيه
فلا يحصل الغرض، فكان كالسمن ونحوه (4).
والأصح عندهم - وبه قال ابن سريج -: أنها من صور القولين؛ لأنها

(1) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطية والحجرية: " كبر ". وما أثبتناه يقتضيه
السياق.
(2) كذا، والظاهر: " فبنى فيها ".
(3) التهذيب - للبغوي - 4: 96 و 97، العزيز شرح الوجيز 5: 59، روضة الطالبين
3: 403.
(4) العزيز شرح الوجيز 5: 59، روضة الطالبين 3: 403.
157

أعمال يجوز الاستئجار عليها، ومقابلتها بالعوض (1).
وضبط صور القولين أن يصنع المفلس بالمبيع ما يجوز الاستئجار
عليه، فيظهر به أثر فيه.
وإنما اعتبرنا ظهور الأثر فيه؛ لأن حفظ الدابة وسياستها عمل يجوز
الاستئجار عليه، ولا تثبت به الشركة؛ لأنه لا يظهر بسببه أثر على الدابة.
ثم الأثر قد يكون صفة محسوسة كالطحن والقصارة، وقد يكون من
قبيل الأخلاق كالتعليم والرياضة.
فعلى أحد قولي الشافعي يأخذ البائع العين زائدة بهذا الوصف،
ويفوز بالزيادة مجانا.
وعلى ما أختاره - وهو القول الثاني له - تباع العين، ويكون للمفلس
من الثمن بنسبة ما زاد في قيمته.
فلو كانت قيمة الثوب خاما خمسة، ومقصورا ستة، كان للمفلس
سدس الثمن، فلو ارتفعت القيمة بالسوق أو انخفضت، فالزيادة أو النقصان
بينهما على النسبة.
ولو ارتفعت قيمة الثوب خاصة بأن صار مثل ذلك الثوب خاما
يساوي ستة، ويسوي مقصورا سبعة، فليس للمفلس إلا سبع الثمن؛ لأنه
قيمة صنعته، والزيادة حصلت في الثوب للبائع ليس للمفلس فيها شيء؛
لأنها زيادة سوقية.
ولو انعكس الفرض، فزادت قيمة الصنع خاصة بأن كان مثل هذا
الثوب يسوي مقصورا سبعة، ويساوي خاما خمسة، فالزيادة للمفلس
خاصة، فيكون له سبعا الثمن. وعلى هذا القياس.

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 60، روضة الطالبين 3: 403.
158

وهل للبائع إمساك المبيع ببذل قيمة ما فعله المفلس ومنعه من بيعه؟
الأقرب: ذلك؛ لوجوب البيع على كل تقدير، واعتبار الأصل بالبقاء أولى؛
إذ لا يجب بذل عينه للبيع، وبه قال بعض الشافعية؛ قياسا على أنه يبذل
قيمة الغراس والبناء (1).
ومنع بعضهم منه؛ لأن الصنعة لا تقابل بعوض (2).
ونحن لما منعنا - فيما تقدم - وجوب بذل البناء والغراس بدفع
القيمة، وأوجبنا هنا دفع الصنعة، قلنا ذلك؛ للفرق بين الأعيان التي تعد
أصولا، وبين الصفات التابعة.
تذنيبان:
أ: إذا استأجره للقصارة أو الطحن فعمل الأجير عمله، كان له حبس
الثوب والدقيق لاستيفاء الأجرة إن جعلنا القصارة والطحن كالأعيان، كما
يحبس البائع المبيع لقبض الثمن. وإن جعلنا القصارة وشبهها من الآثار،
فلا.
ب: إذا تمم القصار والطحان العمل وتلف الثوب والطحين في يده،
إن قلنا: إن فعله آثار لا تجري مجرى الأعيان، استحق الأجرة كأنه وقع
مسلما بالفراغ. وإن قلنا: إنه أعيان، لم يستحق؛ حيث تلف قبل التسليم،
كما يسقط الثمن بتلف المبيع قبل تسليمه.
مسألة 374: قد ذكرنا حكم الزيادة إذا كانت صفة محضة، وبقي ما إذا
كانت الزيادة عينا من وجه وصفة من وجه.
فنقول: إذا اشترى ثوبا فصبغه، أو سويقا ولته بزيت وأشباه ذلك ثم

(1 و 2) العزيز شرح الوجيز 5: 60، روضة الطالبين 3: 403.
159

فلس، فإن لم تزد القيمة بالصبغ والزيت أو نقصت، كان للبائع الرجوع في
عين ماله، ولا شيء للمفلس فيه، وجرى الصبغ هنا مجرى الصفة إذا
لم تزد بها قيمة الثوب، فإن الثوب مع الصفة يكون للبائع. وكذا الصبغ هنا.
وإن زادت القيمة، فإما أن تزيد بقدر قيمة الصبغ أو أقل أو أكثر.
فالأول كما لو كان الثوب يساوي أربعة، وكان الصبغ يساوي درهمين
وبيع مصبوغا بستة، فللبائع فسخ البيع في الثوب، ويكون شريكا في الصبغ
للمفلس، ويكون الثمن بينهما أثلاثا.
وقال أحمد: إذا صبغ الثوب أو طحن الحنطة أو نسج الغزل أو قطع
الثوب قميصا، سقط حقه من الرجوع (1).
وفي تقدير تنزيل الشركة للشافعية احتمالان:
أحدهما: أن يقال: كل الثوب للبائع، وكل الصبغ للمفلس، كما لو
غرس الأرض.
والثاني: أن يقال: بل يشتركان فيهما جميعا بالأثلاث؛ لتعذر التميز،
كما في خلط الزيت بمثله (2).
والوجه عندي: الأول.
ولو كانت الزيادة أقل من قيمة الصبغ، كما لو كانت قيمته مصبوغا
خمسة، فالنقصان على الصبغ؛ لأنه تتفرق أجزاؤه في الثوب وتهلك في
الثوب (3) والثوب قائم بحاله، فإذا بيع، قسم الثمن بينهما أخماسا: أربعة

(1) المغني 4: 502، الشرح الكبير 4: 512.
(2) التهذيب - للبغوي - 4: 94، العزيز شرح الوجيز 5: 61، روضة الطالبين 3:
404.
(3) " في الثوب " لم ترد في " ج ".
160

للبائع، وواحد للمفلس.
وإن كانت الزيادة أكثر من قيمة الصبغ، كما لو بلغ مصبوغا ثمانية،
فالزائد على القيمتين إنما زاد بصنعة الصبغ، فإن قلنا: إن الصنعة - كالقصارة
ونحوها من الأعمال - أعيان، فالزائد (1) على الصبغ للمفلس، فيكون
لصاحب الثوب أربعة، وللمفلس أربعة.
وإن قلنا: إنها آثار وقلنا: إن الآثار تتبع العين للبائع وليس للمفلس
منها (2) شيء، كان للبائع قيمة الثوب وأجرة الصبغ، وذلك ستة دراهم هي
ثلاثة أرباع الثمن، وللمفلس قيمة صبغه لا غير، وهو درهمان ربع الثمن،
قاله بعض الشافعية (3).
وقال بعضهم: نقص الزيادة على الثوب والصبغ حتى يجعل الثمن
بينهما أثلاثا، فيكون ثلثاه للبائع، والثلث للمفلس؛ لأن الصنعة اتصلت
بالثوب والصبغ جميعا (4).
والوجه عندي: أن الزيادة بأجمعها للمفلس؛ لأنها عوض الصبغ
والصنعة معا، وهما له لا شيء للبائع فيها.
ولو ارتفعت القيمة بعد الصبغ فبلغت ستة عشر، أو وجد زبون (5)
اشتراه بهذا المبلغ، ففي كيفية القسمة عند الشافعية الوجوه الثلاثة (6)،

(1) في النسخ الخطية: " فالزيادة ".
(2) في النسخ الخطية والحجرية: " عنها ". والظاهر ما أثبتناه.
(3 و 4) العزيز شرح الوجيز 5: 61، روضة الطالبين 3: 404.
(5) زبنت الشيء زبنا: إذا دفعته، وقيل للمشتري: " زبون " لأنه يدفع غيره عن أخذ
المبيع. وهي كلمة مولدة ليست من كلام أهل البادية. المصباح المنير: 251
" زبن ".
(6) العزيز شرح الوجيز 5: 62، روضة الطالبين 3: 404.
161

والربح على كل حال يقسم بحسب قيمة الأصل.
فإذا عرفت قيمة القدر الذي يستحقه المفلس من الثمن، فإن شاء
البائع تسليمه ليخلص له الثوب مصبوغا، فله ذلك.
ومنع منه بعض الشافعية (1).
ولو فرضنا أن المرتفع قيمة الصبغ خاصة، كانت الزيادة بأسرها
للمفلس؛ لأن قيمة الثوب لم تزد، فلا يأخذ البائع منها شيئا.
مسألة 375: لو اشترى ثوبا من زيد وصبغا منه أيضا ثم صبغه وفلس
بعد ذلك، فللبائع فسخ البيع والرجوع [فيهما] (2) معا، إلا أن تكون قيمة
الصبغ والثوب معا بعد الصبغ كقيمة الثوب [وحده] (3) قبل الصبغ أو دونها،
فيكون فاقدا للصبغ.
ويحتمل عندي أنه يخير بين أخذه مصبوغا، ولا يرجع بقيمة الصبغ،
وبين الضرب بالثمنين معا مع الغرماء.
ولو زادت القيمة بأن كانت قيمة الثوب أربعة وقيمة الصبغ درهمين
وقيمة الثوب مصبوغا ثمانية، فعلى ما تقدم من الخلاف في أن الصناعات
هل هي آثار أو أعيان؟ إن قلنا: آثار، أخذها، ولا شركة للمفلس. وإن قلنا:
أعيان، فالمفلس شريك بالربع.
وقد بينا أنه لا يرجع هنا عندنا للزيادة بالصنعة، إلا في الثوب خاصة،
فيكون الصبغ والزيادة بأجمعهما للمفلس.

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 62، روضة الطالبين 3: 404.
(2) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطية والحجرية: " إليهما ". والظاهر ما أثبتناه.
(3) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطية والحجرية: " وحدها ". والظاهر ما
أثبتناه.
162

مسألة 376: لو اشترى الثوب من واحد بأربعة هي قيمته والصبغ من
آخر بدرهمين هما قيمته، وصبغه به ثم أفلس، فأراد البائعان الرجوع في
العينين، فإن كان الثوب مصبوغا لا يساوي أكثر من أربعة وكان خاما
يساوي أربعة أيضا، فصاحب الصبغ فاقد ماله، وصاحب الثوب واجد ماله
بكماله إن لم ينقص عن أربعة، وناقصا إن نقص. وإن كان خاما يساوي
ثلاثة، ومصبوغا يساوي أربعة، كان لصاحب الثوب ثلاثة، ولصاحب الصبغ
درهم واحد.
والشافعية لم يفصلوا بين الصورتين، بل حكموا حكما مطلقا أن
الثوب إذا كان مصبوغا يساوي أربعة لا غير، فهي لصاحب الثوب،
وصاحب الصبغ فاقد. وإن كان الثوب مصبوغا يساوي أكثر من أربعة،
فصاحب الصبغ أيضا واجد لماله بكماله إن بلغت الزيادة درهمين، وناقصا
إن لم تبلغ (1).
وإن كانت القيمة بعد الصبغ ثمانية، فإن قلنا: الأعمال آثار، فالشركة
بين البائعين، كما قلنا في البائع والمفلس إذا صبغه بصبغ نفسه، تفريعا
على هذا القول. وإن قلنا: أعيان، فنصف الثمن لبائع الثوب، وربعه لبائع
الصبغ، والربع للمفلس.
مسألة 377: لو اشترى صبغا فصبغ به ثوبا له ثم أفلس، أو اشترى
زيتا فلت به سويقا ثم أفلس، فالأولى أن لبائع الصبغ والزيت الرجوع في
عين ماليهما - وبه قال الشافعي (2) - لأنهما وجدا عين أموالهما ممتزجين،
فكانا واجدين.

(1 و 2) العزيز شرح الوجيز 5: 62، روضة الطالبين 3: 405.
163

وقال أحمد: إن بائع الصبغ والزيت يضربان بالثمن مع الغرماء؛ لأنه
لم يجد عين ماله، فلم يكن له الرجوع، كما لو تلف (1).
إذا عرفت هذا، فإن الشافعي قال: بائع الصبغ إنما يرجع في عين
الصبغ لو زادت قيمة الثوب مصبوغا على ما كانت قبل الصبغ، وإلا فهو
فاقد - وقد بينا ما عندنا فيه - وإذا رجع، فالشركة بينهما على ما تقدم (2).
واعلم أن هذه الأحكام المذكورة في القسمين مفروضة فيما إذا باشر
المفلس القصارة والصبغ وما في معناهما بنفسه، أو استأجر لهما أجيرا
ووفاه الأجرة قبل التفليس، فأما إذا حصلهما بأجرة ولم يوفه، فسيأتي.
تذنيب: لو صبغ المشتري الثوب وفلس ورجع البائع في عين الثوب
وأراد قلع الصبغ عند الإمكان وأن يغرم للمفلس أرش النقصان، ففي إجابته
إلى ذلك إشكال ينشأ: من أنه إتلاف مال، فلا يجاب إليه، ومن مشابهته
للبناء والغراس، وهو قول الشافعي (3).
مسألة 378: لو اشترى ثوبا واستأجر قصارا يقصره ولم يدفع إليه
أجرته وفلس، فللأجير المضاربة بالأجرة مع الغرماء.
وقال الشافعي: إن قلنا: القصارة أثر، فليس للأجير إلا المضاربة
بالأجرة، وللبائع الرجوع في الثوب المقصور، ولا شيء عليه لما زاد (4).
وليس بجيد.
وقال بعض الشافعية: إن عليه أجرة القصار، وكأنه استأجره (5).
وغلطه باقي الشافعية في ذلك (6).
وإن قلنا: إنها عين، فإن لم تزد قيمته مقصورا على ما كان قبل

(1) المغني 4: 503 - 504، الشرح الكبير 4: 521 - 522.
(2) العزيز شرح الوجيز 5: 62، روضة الطالبين 3: 405.
(3 - 6) العزيز شرح الوجيزة 5: 63، روضة الطالبين 3: 405.
164

القصارة، فهو فاقد عين ماله. وإن زادت، فلكل واحد من البائع والأجير
الرجوع إلى عين ماله، فإن كانت قيمة الثوب عشرة، والأجرة درهما،
والثوب المقصور يساوي خمسة عشر، بيع بخمسة عشر، وصرف منها
عشرة إلى البائع، ودرهم إلى الأجير، والباقي للغرماء.
ولو كانت الأجرة خمسة دراهم، والثوب بعد القصارة يساوي أحد
عشر، فإن فسخ الأجير الإجارة، فعشرة للبائع، ودرهم للأجير، ويضارب
مع الغرماء بأربعة. وإن لم يفسخ، فعشرة للبائع، ودرهم للمفلس،
ويضارب مع الغرماء بخمسة (1).
لا يقال: إذا جعلنا القصارة عينا وزادت بفعله خمسة، وجب أن
يكون الكل له، كما لو زاد المبيع زيادة متصلة، فإن كانت أجرته خمسة
ولم يحصل بفعله إلا درهم، وجب أن لا يكون له إلا ذلك؛ لأن من وجد
عين ماله ناقصة ليس له إلا القناعة بها، والمضاربة مع الغرماء.
لأنا نقول: معلوم أن القصارة صفة تابعة للثوب، ولا نعني بقولنا:
" القصارة عين " أنها في الحقيقة تفرد بالبيع والأخذ والرد، كما يفعل بسائر
الأعيان، ولو كان كذلك، لجعلنا الغاصب شريكا للمالك إذا غصب الثوب
وقصره، وليس كذلك إجماعا، بخلاف ما إذا صبغه الغاصب، فإنه يكون
شريكا بالصبغ؛ وإنما المراد أنها مشبهة بالأعيان من بعض الوجوه؛ لأن
الزيادة الحاصلة بها متقومة مقابلة بالعوض، فكما لا تضيع الأعيان على
المفلس لا تضيع الأعمال عليه.
وأما بالإضافة إلى الأجير فليست القصارة مورد الإجارة حتى يرجع

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 63، روضة الطالبين 3: 405 - 406.
165

إليها، بل مورد الإجارة فعله المحصل للقصارة، وذلك الفعل يستحيل
الرجوع إليه، فيجعل الحاصل بفعله - لاختصاصه به - متعلق حقه،
كالمرهون في حق المرتهن.
[أو] (1) نقول: هي مملوكة للمفلس مرهونة بحق الأجير، ومعلوم أن
الرهن إذا زادت قيمته على الدين لا يأخذ المرتهن منه إلا قدر الدين، وإذا
نقصت، لا يتأدى به جميع الدين (2).
ولو قال الغرماء للقصار: خذ أجرتك ودعنا نكن شركاء صاحب
الثوب، هل يجبر عليه؟
قال بعض الشافعية: يجبر (3). وهو موافق أن القصارة مرهونة بحقه؛
إذ ليس للمرتهن التمسك بعين المرهون إذا أدي حقه.
وقال بعضهم: لا يجبر؛ قياسا على البائع إذا قدمه الغرماء بالثمن (4).
وهذا القائل كأنه يعطي القصارة حكم الأعيان من كل وجه.
ولو كانت قيمة الثوب عشرة فاستأجر صباغا فصبغه بصبغ قيمته
درهم وصارت قيمته مصبوغا خمسة عشر، فالأربعة الزائدة على القيمتين
إن حصلت بصفة الصبغ فهي للمفلس.
وقال الشافعي: هذه الزيادة حصلت بصفة الصبغ، فيعود فيها القولان
في أنها أثر أو عين؟ فإذا رجع كل واحد من الصباغ والبائع إلى ماله، بيع
بخمسة عشر، وقسمت على أحد عشر، إن جعلناها أثرا، فللبائع (5) عشرة،

(1) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطية والحجرية: " و ". والصحيح ما أثبتناه من
المصدر.
(2 - 4) العزيز شرح الوجيز 5: 64.
(5) في النسخ الخطية والحجرية: " للبائع ". والظاهر ما أثبتناه.
166

وللصباغ واحد؛ لأن الزيادة تابعة لماليهما. وإن جعلناها عينا، فعشرة منها
للبائع ودرهم للصباغ، وأربعة للمفلس يأخذها الغرماء (1).
ولو بيع بثلاثين؛ لارتفاع السوق، أو للظفر براغب، قال بعض
الشافعية: للبائع عشرون، وللصباغ درهمان وللمفلس ثمانية (2).
وقال بعضهم: يقسم الجميع على أحد عشر، عشرة للبائع، وواحد
للصباغ، ولا شيء للمشتري (3).
فالأول بناء على أنها عين، والثاني على أنها أثر.
وكذا لو اشترى ثوبا قيمته عشرة واستأجر على قصارته بدرهم
وصارت قيمته مقصورا خمسة عشر ثم بيع بثلاثين، قال بعض الشافعية
- بناء على قول العين -: إنه يتضاعف حق كل منهم، كما في الصبغ (4).
وقال الجويني: ينبغي أن يكون للبائع عشرون، وللمفلس تسعة،
وللقصار درهم كما كان، ولا يضعف حقه؛ لأن القصارة غير مستحقة
للقصار، وإنما هي مرهونة عنده بحقه (5).
مسألة 379: لو أخفى المديون بعض ماله وقصر الظاهر عن الديون
فحجر الحاكم عليه ورجع أصحاب الأعيان إليها وقسم الحاكم الباقي بين
الغرماء ثم ظهر فعله لم ينقص شيء من ذلك، فإن للقاضي أن يبيع أموال
الممتنع المماطل، وصرف الثمن في ديونه.
والرجوع إلى عين المال بامتناع المشتري [من] (6) أداء الثمن مختلف

(1 و 2) العزيز شرح الوجيز 5: 64، روضة الطالبين 3: 406.
(3) العزيز شرح الوجيز 5: 64 - 65، روضة الطالبين 3: 406.
(4 و 5) العزيز شرح الوجيز 5: 65، روضة الطالبين 3: 406.
(6) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطية والحجرية: " و ". والصحيح ما أثبتناه كما
في المصدر.
167

فيه، فإذا اتصل به حكم الحاكم، نفذ (1)، قاله بعض الشافعية (2).
وتوقف فيه بعض؛ لأن القاضي ربما لا يعتقد جواز الرجوع
بالامتناع، فكيف يجعل حكمه بناء على ظن آخر حكما بالرجوع
بالامتناع؟! (3)
وكل من له الفسخ بالإفلاس لو ترك الفسخ على مال، لم يثبت
المال.
وهل يبطل حقه من الفسخ إن كان جاهلا بجوازه، الأقرب: عدم
البطلان.
وللشافعي فيه قولان كما في الرد بالعيب (4).
البحث الخامس: في اللواحق.
مسألة 380: الأقرب عندي أن العين لو زادت قيمتها لزيادة السعر،
لم يكن للبائع الرجوع فيها؛ لأن الأصل عدم الجواز، ترك في محل النص،
وهو وجدان العين بعينها مع مساواة القيمة الثمن أو نقصها عنه؛ للإجماع
من مجوزيه، فبقي الباقي على الأصل؛ لما في مخالفته من الضرر الحاصل
للمفلس والغرماء، فيكون منفيا.
وكذا لو اشترى سلعة بدون ثمن المثل، لم يكن للبائع الرجوع؛ لما
فيه من الإضرار به بترك المسامحة التي فعلها البائع معه أولا.
ولو نقصت قيمتها؛ لنقص السوق، لم يمنع من أخذ عينه.
مسألة 381: لو أقر الغرماء بأن المفلس أعتق عبدا قبل فلسه، فأنكر

(1) في النسخ الخطية والحجرية بدل " نفذ ": " فقد ". وذلك تصحيف.
(2 - 4) العزيز شرح الوجيز 5: 65، روضة الطالبين 3: 407.
168

المفلس ذلك، فإن شهد منهم عدلان، قبل، وإلا لم يقبل قولهم. فإن دفع
العبد إليهم، وجب عليهم قبوله، أو إبراء ذمته من قدر ثمنه، فإذا قبضوه،
عتق عليهم.
ولو أقروا بأنه أعتق عبده بعد فلسه، فإن منعنا من عتق المفلس،
فلا أثر لإقرارهم.
وإن جوزناه، فهو كإقرارهم بعتقه قبل فلسه، فإن حكم الحاكم
بصحته أو فساده، نفذ حكمه على كل حال؛ لأنه فعل مجتهد فيه، فيلزم ما
حكم به الحاكم، ولا يجوز نقضه ولا تغييره.
ولو أقر المفلس بعتق بعض عبده، فإن سوغنا عتق المفلس، صح
إقراره به، وعتق؛ لأن من ملك شيئا ملك الإقرار به، لأن الإقرار بالعتق
يحصل به العتق، فكأنه أعتقه في الحال.
وإن قلنا: لا يصح عتقه، لم يقبل إقراره، وكان على الغرماء اليمين
أنهم لا يعلمون عتقه.
وكل موضع قلنا: على الغرماء اليمين، فإنها على جميعهم، فإن
حلفوا، أخذوا. وإن نكلوا، قضي للمدعي مع اليمين. وإن حلف بعض
دون بعض، أخذ الحالف نصيبه، وحكم الناكل ما تقدم.
ولو أقر المفلس أنه أعتق عبده منذ شهر، وكان بيد العبد كسب
اكتسبه بعد ذلك؛ فأنكر الغرماء، فإن قلنا: لا يقبل إقراره، حلف الغرماء
على نفي العلم، وأخذوا العبد والكسب.
وإن قلنا: يقبل إقراره مطلقا، قبل في العتق والكسب، ولم يكن
للغرماء عليه ولا على كسبه سبيل.
وإن قلنا: يقبل في العتق خاصة وأنه يقبل عتقه، قبل في العتق؛
169

لصحته منه، ولبنائه على التغليب والسراية، ولا يقبل في المال؛ لعدم ذلك
فيه، ولأنا نزلنا إقراره بالعتق منزلة إعتاقه في الحال، فلا تثبت له الحرية فيما
مضى، فيكون كسبه لسيده، كما لو أقر بعبد ثم أقر له بعين في يده.
مسألة 382: إذا قبض البائع الثمن وأفلس المشتري ثم وجد البائع
بالثمن عيبا، كان له الرد بالعيب، والرجوع في العين.
ويحتمل أن يضرب مع الغرماء بالثمن؛ لأن استحقاقه للعين متأخر
عن الحجر؛ لأنه إنما يستحق العين بالرجوع والرد، لا بمجرد العيب.
ولو قبض البائع بعض الثمن والسلعة قائمة وفلس المشتري،
لم يسقط حقه من الرجوع، بل يرجع في قدر ما بقي من الثمن؛ لأنه سبب
ترجع به العين كلها إلى العاقد، فجاز أن يرجع به بعضها، وهو القول
الجديد للشافعي.
وقال في القديم: إذا قبض من الثمن شيئا، سقط حقه من الرجوع،
وضارب بالباقي مع الغرماء - وبه قال أحمد وإسحاق - لما رواه أبو هريرة
عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: " أيما رجل باع سلعته فأدرك سلعته بعينها عند
رجل قد أفلس ولم يكن قد قبض من ثمنها شيئا فهي له، وإن كان قد قبض
من ثمنها شيئا فهو أسوة الغرماء " (1).
ولأن [في] (2) الرجوع في قسط ما بقي تبعض الصفقة على المشتري
وإضرارا به (3)، وليس ذلك للبائع.
لا يقال: لا ضرر على المفلس في ذلك؛ لأن ماله يباع ولا يبقى له،

(1) سنن ابن ماجة 2: 790 / 2359، سنن الدارقطني 3: 29 - 30 / 109.
(2) ما بين المعقوفين أضفناه لأجل السياق.
(3) في النسخ الخطية والحجرية: " ببعض... إضرار به ". والصحيح ما أثبتناه.
170

فيزول عنه الضرر.
لأنا نقول: لا يندفع الضرر بالبيع، فإن قيمته تنقص بالتشقيص،
ولا يرغب فيه مشقصا إلا البعض، فيتضرر المفلس والغرماء بنقص القيمة.
ولأنه سبب يفسخ به البيع، فلم يجز تشقيصه، كالرد بالعيب والخيار.
ولا فرق بين كون المبيع عينا واحدة أو عينين (1).
وقال مالك: هو مخير إن شاء رد ما قبضه، ورجع في جميع العين.
وإن شاء حاص الغرماء، ولم يرجع (2).
ولا بأس بقول أحمد عندي؛ لما فيه من التضرر بالتشقيص.
مسألة 383: لو باعه سلعة فرهنها المشتري قبل إيفاء الثمن ثم أفلس
المشتري، لم يكن للبائع الرجوع في العين؛ لسبق حق المرتهن إجماعا،
وقد سلف (3).
فإن كان دين المرتهن دون قيمة الرهن فبيع كله فقضي منه دين
المرتهن، كان الباقي للغرماء.
وإن بيع بعضه، فهل يختص البائع بالباقي بقسطه من الثمن؟ الأقوى
عندي ذلك - وبه قال الشافعي (4) - لأنه عين ماله لم يتعلق به حق غيره.
وقال أحمد: لا يختص به البائع؛ لأنه لم يجد متاعه بعينه، فلم يكن
له أخذه، كما لو كان (5) الدين مستغرقا (6).

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 44، روضة الطالبين 3: 392، المغني 4: 518، الشرح
الكبير 4: 509 - 510.
(2) بداية المجتهد 2: 288، المغني 4: 518، الشرح الكبير 4: 510.
(3) في ص 107، المسألة 349.
(4 و 6) المغني 4: 519، الشرح الكبير 4: 514.
(5) في النسخ الخطية والحجرية: " لو لم يكن " بدل " لو كان ". والصحيح ما أثبتناه كما
في المغني.
171

وهو غلط؛ فإن بعض حقه يكون حقا له.
والأصل فيه أن تلف بعض العين لا يسقط حق الرجوع عندنا - خلافا
له (1) - فكذا ذهاب بعضها بالبيع.
ولو رهن بعض العين، كان له الرجوع في الباقي بالقسط.
ومنع منه أحمد؛ لما فيه من التشقيص، وهو يقتضي الضرر (2).
وليس بجيد؛ لأن التشقيص حصل من المفلس برهن البعض، لا من
البائع.
أما لو باع عينين فرهن إحداهما (3)، فإنه يرجع في العين الأخرى
عندنا وعند أحمد في إحدى الروايتين، ولا يرجع في الأخرى (4).
ولو فك الرهن أو أبرىء المفلس من دينه، فللبائع الرجوع؛ لأنه
أدرك متاعه بعينه عند المشتري.
ولا فرق بين أن يفلس المشتري بعد فك الرهن أو قبله.
تذنيب: لو رهنه المشتري عند البائع على الثمن ثم أفلس المشتري،
تخير البائع بين فسخ البيع للإفلاس، فيأخذ العين، وبين إمضاء البيع،
فيقدم (5) حقه، فإن فضل عن الثمن شيء، كان للغرماء.
وإن كان رهنا عنده على دين غير الثمن، تخير في فسخ البيع
والرهن، فيأخذ عين ماله ويضرب بالدين مع باقي الغرماء، وبين إمضاء

(1) المغني 4: 519 - 520، الشرح الكبير 4: 514.
(2) المغني 4: 520، الشرح الكبير 4: 514.
(3) في النسخ الخطية والحجرية: " أحدهما ". والصحيح ما أثبت.
(4) المغني 4: 520، الشرح الكبير 4: 514.
(5) في الطبعة الحجرية: " فقدم ".
172

البيع والاختصاص في العين المرهونة بقدر الدين، ثم يشارك الغرماء في
الفاضل من العين، ويضارب بالثمن.
وهل له فسخ البيع فيما قابل الزائد عن الرهن بقدره من الثمن؟
الأقرب ذلك.
مسألة 384: لو باع عبدا فأفلس المشتري بعد تعلق أرش الجناية
برقبته، فللبائع الرجوع؛ لأنه حق لا يمنع تصرف المشتري فيه، فلم يمنع
الرجوع، كالدين في ذمته، وهو إحدى الروايتين عن أحمد.
والثانية: أنه ليس للبائع الرجوع؛ لأن تعلق الرهن يمنع الرجوع،
وأرش الجناية مقدم على حق المرتهن، فهو أولى أن يمنع (1).
والفرق بينه وبين الرهن ظاهر؛ فإن الرهن يمنع تصرف المشتري
فيه.
فعلى قوله بعدم الرجوع فحكمه حكم الرهن. وعلى قولنا بالرجوع
تخير إن شاء رجع فيه ناقصا بأرش الجناية، وإن شاء ضرب بثمنه مع
الغرماء.
وإن أبرئ الغريم من الجناية، فللبائع الرجوع فيه عندنا وعنده (2)؛
لأنه قد وجد عين ماله خاليا من تعلق حق غيره به.
مسألة 385: لو كان المبيع شقصا مشفوعا، فالشفيع أحق من البائع إذا
أفلس المشتري؛ لأن حقه أسبق؛ لأن حق البائع يثبت بالحجر، وحق
الشفيع بالبيع، والثاني أسبق. ولأن حقه آكد؛ لأنه يأخذ الشقص من
المشتري وممن نقله إليه، وحق البائع إنما يتعلق بالعين ما دامت في يد

(1 و 2) المغني 4: 520، الشرح الكبير 4: 515.
173

المشتري، وهو أحد وجهي الشافعية.
والثاني: أن البائع أحق؛ للخبر. ولأنه إذا رجع فيه، عاد الشقص
إليه، فزال الضرر عن الشفيع؛ لأنه عاد كما كان قبل البيع، ولم تتجدد شركة
غيره (1).
وهذان الوجهان للحنابلة (2) أيضا.
وللشافعية وجه ثالث: أن الثمن يؤخذ من الشفيع، فيختص به
البائع؛ جمعا بين الحقين، فإن غرض الشفيع [في] (3) عين الشقص
المشفوع، وغرض البائع في ثمنه، ويحصل الغرضان بما قلناه (4).
ويشكل بأن حق البائع إنما يثبت في العين، فإذا صار الأمر إلى
وجوب الثمن، تعلق بذمته، فساوى الغرماء فيه.
وللحنابلة وجه ثالث غير ما ذكروه من الوجهين، وهو أن الشفيع إن
كان قد طالب بالشفعة، فهو أحق؛ لأن حقه آكد وقد تأكد بالمطالبة. وإن
لم يكن طالب بها، فالبائع أولى (5).
مسألة 386: لو باع صيدا فأفلس المشتري وكان البائع حلالا في الحرم
والصيد في الحل، فللبائع الرجوع فيه؛ لأن الحرم إنما يحرم الصيد الذي
فيه، وهذا ليس من صيده فلا يحرمه.
ولو أفلس المحرم وفي ملكه صيد وكان البائع حلالا، كان له أخذه؛

(1) الحاوي الكبير 6: 272، المهذب - للشيرازي - 1: 330، حلية العلماء 4:
499، المغني 4: 522، الشرح الكبير 4: 515.
(2) المغني 4: 522، الشرح الكبير 4: 514.
(3) ما بين المعقوفين أضفناه من المغني والشرح الكبير لأجل السياق.
(4) نفس المصادر في الهامش (1).
(5) المغني 4: 522، الشرح الكبير 4: 514 - 515.
174

لانتفاء المانع عن البائع.
مسألة 387: لو اشترى طعاما نسيئة ونظر إليه وقلبه وقال: أقبضه غدا،
فمات البائع وعليه دين، فالطعام للمشتري، ويتبعه الغرماء بالثمن وإن كان
رخيصا - وبه قال الثوري وأحمد وإسحاق (1) - لأن الملك يثبت للمشتري
فيه بالشراء، وقد زال ملك البائع عنه، فلم يشارك الغرماء المشتري فيه،
كما لو قبضه.
مسألة 388: رجوع البائع في المبيع فسخ للبيع لا يفتقر إلى شروط
البيع، فيجوز الرجوع مع عدم المعرفة بالمبيع ومع عدم القدرة عليه ومع
اشتباهه بغيره، فلو كان المبيع غائبا وأفلس المشتري، كان للبائع فسخ
البيع، ويملك المبيع، سواء مضت مدة يتغير فيها المبيع قطعا أو لا.
ثم إن وجده البائع على حاله لم يتلف منه شيء، صح رجوعه.
وإن تلف منه شيء، فكذلك عندنا، وعند أحمد يبطل رجوعه؛
لفوات شرط الرجوع عنده (2).
ولو رجع في العبد بعد إباقه وفي الجمل بعد شروده، صح، وصار
ذلك له، فإن قدر عليه، أخذه، وإن تلف، كان من ماله.
ولو ظهر أنه كان تالفا حال الاسترجاع، بطل الرجوع، وكان له أن
يضرب مع الغرماء في الموجود من ماله.
ولو رجع في المبيع واشتبه بغيره، فقال البائع: هذا هو المبيع، وقال
المفلس: بل هذا، فالقول قول المفلس؛ لأنه منكر لاستحقاق ما ادعاه
البائع، والأصل معه، والغرماء كالمفلس.

(1) المغني 4: 523، الشرح الكبير 4: 534.
(2) المغني 4: 498 و 499، الشرح الكبير 4: 511 و 512.
175

مسألة 389: لو كان عليه ديون حالة ومؤجلة، فقد قلنا: إن المؤجلة
لا تحل بالحجر عليه، فإذا كانت أمواله تقصر عن الحالة فطلبوا القسمة،
قسم ماله عليها خاصة، فإن تأخرت القسمة حتى حلت المؤجلة، شارك
الغرماء، كما لو تجدد على المفلس دين بجناية.
ولو حل الدين بعد قسمة بعض المال، شاركهم في الباقي، وضرب
بجميع ماله، وضرب باقي الغرماء ببقية ديونهم. ولو مات وعليه دين
مؤجل، حل أجل الدين عليه. وسيأتي إن شاء الله تعالى.
مسألة 390: قد ذكرنا أن المفلس محجور عليه في التصرفات المالية،
فلو أعتق بعض عبده، لم ينفذ عتقه - وبه قال مالك وابن أبي ليلى
والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين (1) - لأنه تبرع، وهو ممنوع منه بحق
الغرماء، فلم ينفذ عتقه، كالمريض المستغرق دينه ماله. ولأنه محجور
عليه، فلم ينفذ عتقه، كالسفيه.
وقال أبو يوسف وأحمد - في الرواية الأخرى - وإسحاق: إنه ينفذ
عتقه؛ لأنه مالك رشيد، فينفذ، كما قبل الحجر، بخلاف سائر التصرفات؛
لأن للعتق تغليبا وسراية (2).
والفرق بين ما بعد الحجر وقبله ظاهر؛ لتعلق حق الغرماء في الثاني،
دون الأول، وتعلق حق الغير يمنع من نفوذ العتق، كالرهن، والسراية من
شرطها الإيسار حتى يؤخذ منه قيمة نصيب شريكه ولا يتضرر، ولو كان
معسرا، لم ينفذ عتقه، إلا في ملكه؛ صيانة لحق الغير وحفظا له عن
الضياع، فكذا هنا.

(1 و 2) المغني 4: 531، الشرح الكبير 4: 502.
176

مسألة 391: لو جنى المفلس بعد الحجر جناية أوجبت مالا، شارك
المجني عليه الغرماء؛ لأن حق المجني عليه ثبت (1) بغير اختياره.
ولو كانت الجناية موجبة للقصاص فعفا صاحبها عنها إلى مال، أو
صالحه المفلس على مال، قال أحمد: شارك الغرماء؛ لأن سببه يثبت بغير
اختياره، فأشبه ما لو أوجبت المال (2).
ويحتمل عندي أنه لا يشارك؛ لأن الجناية موجبها القصاص، وإنما
يثبت المال صلحا، وهو متأخر عن الحجر، فلا يشارك الغرماء، كما لو
استدان بعد الحجر.
لا يقال: لم لا قدم حق المجني عليه على سائر الغرماء، كما لو جنى
عبد المفلس، فإن حق المجني عليه مقدم هنا؟
لأنا نقول: الفرق ظاهر؛ فإن المجني عليه في صورة العبد تعلق حقه
بعين العبد، وهنا تعلق حقه بالذمة، فكان كغيره من الغرماء.
مسألة 392: قد بينا أنه لا يجوز أن يباع على المفلس مسكنه
ولا خادمه إن كان من أهله، سواء كان المسكن والخادم - اللذان لا يستغنى
عنهما - عين مال بعض الغرماء أو كان جميع أمواله أعيان أموال أفلس
بأثمانها، ووجدها أصحابها، أو لا.
وقال أحمد: إن كان المسكن والخادم عين مال بعض الغرماء، كان له
أخذهما؛ لقوله (عليه السلام): " من أدرك متاعه عند رجل بعينه قد أفلس فهو أحق
به " (3).

(1) في " ث " والطبعة الحجرية: " يثبت ".
(2) المغني 4: 532، الشرح الكبير 4: 502 - 503.
(3) تقدم تخريجه في ص 92، الهامش (1).
177

ولأن حقه تعلق بالعين، فكان أقوى سببا من المفلس. ولأن منعهم
من أخذ أعيان أموالهم يفتح باب الحيل بأن يشتري من لا مال له في ذمته
ثيابا يلبسها ودارا يسكنها وخادما يخدمه وفرسا يركبها وطعاما له ولعياله
ويمتنع على أربابها أخذها؛ لتعلق حاجته بها، فتضيع أموالهم، ويستغني
هو [بها] (1) (2).
والحديث ليس على إطلاقه؛ لأنه مشروط - إجماعا - بشرائط
مذكورة، فخرج عن الاحتجاج به في صورة النزاع؛ لأن شرط الأخذ عندنا
أن لا يكون مما يحتاج إليه المفلس في ضروريات معاشه، ولعموم الأخبار
الدالة على المنع من بيع المسكن، وقد ذكرنا بعضها في باب الدين (3)،
وحق المفلس تعلق أيضا بالعين حيث لا سواها، والتفريط في الحيل
المذكورة من البائع، لا من المفلس.
ولو كان للمفلس صنعة تكفيه لمؤونته وما يجب عليه لعياله، أو كان
يقدر على تكسب ذلك، لم يترك له شيء. وإن لم يكن له شيء من ذلك،
ترك له قوت يوم القسمة وما قبله من يوم الحجر، ولا يترك له أزيد من
ذلك، وهو إحدى الروايتين عن أحمد.
وفي الثانية: يترك له ما يقوم به معاشه (4).
وليس بجيد.
إذا عرفت هذا، فينبغي أن يترك له النفقة إلى يوم القسمة ويوم

(1) ما بين المعقوفين من المصدر.
(2) المغني 4: 538، الشرح الكبير 4: 537.
(3) راجع ج 13، ص 14، المسألة 11، وص 16، المسألة 13.
(4) المغني 4: 538، الشرح الكبير 4: 539.
178

القسمة أيضا، ويجعل ذلك مما لا يتعلق به حق بعضهم؛ لأن من تعلق حقه
بالعين أقوى سببا من غيره.
ولو تعلقت حقوق الجميع بالأعيان، قسط بينهم بالنسبة.
مسألة 393: لا يجب على المفلس التكسب، وقد تقدم (1)، فلا يجبر
على قبول هدية ولا صدقة ولا وصية ولا قرض، ولا تجبر المرأة على أخذ
مهرها من الزوج؛ لما في ذلك من المنة والتضرر لو قهرت الزوج على أخذ
المهر إن خافت من ذلك، وإلا أخذ منه، ولا تجبر على النكاح لتأخذ
مهرها؛ لما في النكاح من وجوب حقوق عليها.
مسألة 394: لو اشترى حبا فزرعه واشترى ماء فسقاه فنبت ثم أفلس
فإنهما (2) يضربان بثمن الحب والماء مع الغرماء، ولا يرجعان في الزرع؛
لأن عين مالهما غير موجودة فيه، كما لو اشترى طعاما فأطعمه عبده حتى
كبر، فإنه لا حق له في العين، ولأن نصيب الماء منه غير معلوم لأحد من
الناس.
وكذا لو اشترى بيضة وتركها تحت دجاجة حتى صارت فرخا ثم
أعسر، لم يرجع بائع البيضة في الفرخ؛ لأن عينها غير موجودة.
وللشافعي وجهان (3).
مسألة 395: إذا باع أمين الحاكم عينا للمفلس، فتلف الثمن في يده

(1) في ص 60، المسألة 309.
(2) أي: بائعا الحب والماء.
(3) الحاوي الكبير 6: 282 و 283، الوسيط 4: 27 - 28، حلية العلماء 4: 503،
التهذيب - للبغوي - 4: 94، العزيز شرح الوجيز 5: 46 - 47، روضة الطالبين 3:
394.
179

بغير تفريط ثم ظهر أن العين مستحقة، رجع (1) بالدرك على المفلس؛ لأنها
بيعت عليه.
ونقل المزني عن الشافعي أن المشتري يأخذ الثمن من مال
المفلس (2).
وروى غيره أنه يضرب بالثمن مع الغرماء (3).
واختلف أصحابه على طريقين، منهم من قال: على قولين، ومنهم
من قال: على اختلاف حالين (4).
والوكيل والولي كالأب والجد وأمين الحاكم إذا باعوا مال غيرهم ثم
استحق المال على المشتري، كانت العهدة على من بيع عليه.
وقد تقدم الكلام على ذلك في الرهن، فإن أبا حنيفة يقول: على
الوكيل، بخلاف الأب والجد، وقد سبق (5).
وإذا جنى عبد المفلس، تعلق الأرش برقبته، وكان ذلك مقدما على
حقوق الغرماء؛ لأن الجناية لا محل لها سوى رقبة الجاني، وديون الغرماء
متعلقة بذمة المفلس، فيقدم الحق المختص بالعين، كما يقدم حق الجناية
على حق الرهن.
إذا ثبت هذا، فإنه يباع العبد في الجناية، فإن كان وفق الجناية،
فلا بحث. وإن زادت قيمته، رد الباقي إلى الغرماء. وإن كانت أقل،

(1) في النسخ الخطية: " يرجع ".
(2 و 3) الحاوي الكبير 6: 330، المهذب - للشيرازي - 1: 329، العزيز شرح الوجيز
5: 21.
(4) الحاوي الكبير 6: 330 - 331، المهذب - للشيرازي - 1: 329، العزيز شرح
الوجيز 5: 21.
(5) في ج 13، ص 277 و 278، المسألة 190.
180

لم يثبت للمجني عليه سوى ذلك.
مسألة 396: قد بينا أنه إذا ظهر غريم آخر، نقض الحاكم القسمة، أو
يرجع على كل واحد بحصة يقتضيها الحساب.
ومع نقض القسمة لو كان قد حصل نماء متجدد بعد القسمة هل
يتشارك الغرماء فيه؟ الأقرب: ذلك؛ لظهور بطلان القسمة.
وكذا لو قسم التركة ثم ظهر بطلان القسمة وحصل النماء.
أما لو ظهر دين على الميت وأبطلت القسمة، فإن قلنا: النماء
للوارث، فلا بحث، وإلا تبع التركة.
ولو تلف المال بعد القبض، ففي احتسابه على الغرماء إشكال.
* * *
181

المقصد الرابع: في الحجر
الحجر في اللغة: المنع والتضييق. ومنه سمي الحرام حجرا؛ لما فيه
من المنع.
قال الله تعالى: (يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين
ويقولون حجرا محجورا) (1) أي حراما محرما.
وسمي العقل حجرا؛ لأنه يمنع صاحبه من ارتكاب القبائح وما يضر
عاقبته، قال الله تعالى: (هل في ذلك قسم لذي حجر) (2).
واعلم أن المحجور عليه نوعان:
أحدهما: من حجر عليه لمصلحة الغير.
والثاني: من حجر عليه لمصلحة نفسه.
وأقسام الأول خمسة:
أ: حجر المفلس لحق الغرماء.
ب: حجر الراهن لحق المرتهن.
ج: حجر المريض لحق الورثة.
د: حجر العبد لحق السيد، والمكاتب لحق السيد وحق الله تعالى.
ه‍: حجر المرتد لحق المسلمين.
وهذه الأقسام خاصة لا تعم جميع التصرفات، بل يصح منهم [الإقرار

(1) الفرقان: 22.
(2) الفجر: 5.
183

بالعقوبات] (1) وكثير من التصرفات، ولها أبواب مختصة بها.
وأقسام الثاني ثلاثة:
أ: حجر المجنون.
ب: حجر الصبي.
ج: حجر السفيه.
والمذكور في هذا المقصد ثلاثة: الصغير، والمجنون، والسفيه.
والحجر على هؤلاء عام؛ لأنهم يمنعون من التصرف في أموالهم وذممهم،
فهنا فصول:

(1) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطية والحجرية: " العقوبات ". والظاهر ما أثبتناه.
184

[الفصل] الأول: الصغير
وهو محجور عليه بالنص والإجماع - سواء كان مميزا أو لا - في
جميع التصرفات، إلا ما يستثنى، كعباداته وإسلامه وإحرامه وتدبيره
ووصيته وإيصاله الهدية وإذنه في دخول الدار على خلاف في ذلك.
قال الله تعالى: (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم
منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) (1) شرط في تصرفهم الرشد والبلوغ،
وعبر عن البلوغ بالنكاح؛ لأنه يشتهى بالبلوغ.
وقال الله تعالى: (فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو
لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل) (2).
قيل: السفيه: المبذر. والضعيف: الصبي؛ لأن العرب تسمي كل قليل
العقل ضعيفا. والذي لا يستطيع أن يمل: المغلوب على عقله (3).
مسألة 397: الحجر بالصبا يزول بزوال الصبا، وهو البلوغ. وله
أسباب:
منها: ما هو مشترك بين الذكور والإناث.
ومنها ما هو مختص بالنساء.

(1) النساء: 6.
(2) البقرة: 282.
(3) الحاوي الكبير 6: 340 - 341، التهذيب - للبغوي - 4: 125، وكما في العزيز
شرح الوجيز 5: 67.
185

أما المشترك: فثلاثة: الإنبات للشعر، والاحتلام، والسن.
والمختص أمران: الحيض، والحبل. وهما للنساء خاصة.
فهنا مباحث:
الأول: الإنبات.
والإنبات مختص بشعر العانة الخشن، ولا اعتبار بالزغب (1) والشعر
الضعيف الذي قد يوجد في الصغر، بل بالخشن الذي يحتاج في إزالته إلى
الحلق حول ذكر الرجل أو فرج المرأة.
ونبات هذا الشعر الخشن يقتضي الحكم بالبلوغ.
والأقرب: أنه دلالة على البلوغ؛ فإنا نعلم سبق البلوغ عليه؛ لحصوله
على التدريج.
وللشافعي قولان:
أحدهما: أنه بلوغ.
والثاني: أنه دليل على البلوغ (2).
وقال أبو حنيفة: الإنبات ليس بلوغا ولا دليلا عليه؛ لأنه إنبات شعر،
فأشبه شعر الرأس وسائر البدن (3).
والفرق ظاهر؛ فإن التجربة قاضية بأن هذا الشعر لا ينبت إلا بعد
البلوغ، بخلاف غيره من الشعور التي في البدن والرأس.

(1) الزغب: أول ما يبدو من شعر الصبي. لسان العرب 1: 450 " زغب ".
(2) الحاوي الكبير 6: 343، التنبيه: 103، المهذب - للشيرازي - 1: 337 - 338،
حلية العلماء 4: 533، التهذيب - للبغوي - 4: 133، العزيز شرح الوجيز 5:
70، روضة الطالبين 3: 412، المغني 4: 556، الشرح الكبير 4: 557.
(3) الحاوي الكبير 6: 343، حلية العلماء 4: 533، العزيز شرح الوجيز 5: 69،
المغني 4: 556، الشرح الكبير 4: 557.
186

ولما روى العامة أن سعد بن معاذ حكم على بني قريظة بقتل
مقاتلتهم وسبي ذراريهم، فكان يكشف عن مؤتزر المراهقين، فمن أنبت
منهم قتل، ومن لم ينبت جعل في الذراري (1).
وعن عطية القرظي قال: عرضنا على رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم قريظة
وكان من أنبت قتل، ومن لم ينبت خلي سبيله، فكنت في من لم ينبت،
فخلى سبيلي (2).
ومن طريق الخاصة: ما رواه حفص بن البختري (3) عن الصادق عن
الباقر (عليهما السلام)، قال: قال: " [إن] (4) رسول الله (صلى الله عليه وآله) عرضهم يومئذ على (5)
العانات، فمن وجده أنبت قتله، ومن لم يجده أنبت ألحقه بالذراري " (6).
ولأنه خارج ملازم للبلوغ غالبا، ويستوي فيه الذكر والأنثى، فكان
علما على البلوغ. ولأن الخارج ضربان: متصل ومنفصل، فلما كان من
المنفصل ما يثبت به البلوغ، كذا المتصل.
مسألة 398: نبات هذا الشعر دليل على البلوغ في حق المسلمين
والكفار، عند علمائنا أجمع - وبه قال مالك وأحمد والشافعي في أحد
القولين (7) - لأن ما كان علما على البلوغ في حق المشركين كان علما في

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 69، المغني 4: 556، الشرح الكبير 4: 557.
(2) سنن ابن ماجة 2: 849 / 2541، سنن أبي داود 4: 141 / 4404، سنن البيهقي
6: 58، مسند أحمد 5: 519 / 18928، العزيز شرح الوجيز 5: 69 - 70.
(3) في المصدر: " أبو البختري " بدل " حفص بن البختري ".
(4) ما بين المعقوفين من المصدر.
(5) في النسخ الخطية والحجرية: " عن " بدل " على ". والصحيح ما أثبتناه من المصدر.
(6) التهذيب 6: 173 / 339.
(7) المعونة 2: 1174، المغني 4: 556، الشرح الكبير 4: 557، الحاوي الكبير 6:
344، المهذب - للشيرازي - 1: 338، حلية العلماء 4: 533، التهذيب - للبغوي
- 4: 134، العزيز شرح الوجيز 5: 70.
187

حق المسلمين، كالحمل.
وفي الثاني: أنه لا يكون علما على البلوغ في المسلمين، ويكون
دليلا في حق الكفار.
هذا إذا قال: إنه دليل على البلوغ، وإن قال: إنه بلوغ، كان بلوغا في
حق المسلمين والكفار (1).
ووجه أنه بلوغ حقيقة: قياسه على سائر الأسباب.
ووجه أنه دليل عليه - وهو أظهر القولين عندنا -: أن البلوغ غير
مكتسب، والإنبات شيء يستعجل بالمعالجة.
وإنما فرق بين المسلمين والكفار إذا قلنا: إنه دليل على البلوغ بأن
جعله دليلا في حق الكفار خاصة؛ لأنه يمكن الرجوع إلى المسلمين في
معرفة البلوغ، ومراجعة الآباء من المسلمين والاعتماد على إخبارهم عن
تواريخ المواليد سهل، بخلاف الكفار، فإنه لا اعتماد على قولهم.
ولأن التهمة تلحق هذه العلامة في المسلمين، دون الكفار - لأن
المسلم يحصل له الكمال في الأحكام بذلك واستفادة الولايات - فربما
استعجلوا بالمعالجة، بخلاف الكفار، فإنهم لا يتهمون بمثله؛ لأنهم حينئذ
يقتلون، أو تضرب عليهم الجزية، والتهمة بالاستعجال قد لا تحصل في
المسلمين؛ لما روي أن غلاما من الأنصار شبب بامرأة في شعره، فرفع إلى

(1) الحاوي الكبير 6: 344، المهذب - للشيرازي - 1: 338، حلية العلماء 4:
533، التهذيب - للبغوي - 4: 134، العزيز شرح الوجيز 5: 70، المغني 4:
556، الشرح الكبير 4: 557.
188

عمر بن الخطاب، فلم يجده أنبت، فقال: لو أنبت الشعر لجلدتك (1).
مسألة 399: ولا اعتبار بشعر الإبط عندنا.
وللشافعي وجهان، هذا أصحهما؛ إذ لو كان معتبرا في البلوغ، لما
كشفوا عن المؤتزر؛ لحصول الغرض من غير كشف العورة.
والثاني: أنه نبات كنبات شعر العانة؛ لأن إنبات العانة يقع في أول
تحريك الطبيعة في الشهوة، ونبات الإبط يتراخى عن البلوغ في الغالب،
فكان أولى بالدلالة على حصول البلوغ (2).
وأما نبات اللحية والشارب فإنه أيضا لا أثر لهما في البلوغ، وهو أحد
وجهي الشافعية.
والثاني: أنهما يلحقان بشعر العانة (3).
وبعض الشافعية ألحق شعر الإبط بشعر العانة، ولم يلحق اللحية
والشارب بالعانة (4).
وأما ثقل الصوت ونهود الثدي ونتوء طرف الحلقوم وانفراق الأرنبة
فلا أثر له، كما لا أثر لاخضرار الشارب، وهو أحد قولي الشافعية (5).
والثاني: أنه ملحق بشعر العانة (6).
ولا بأس به عندي بناء على العادة القاضية بتأخر ذلك عن البلوغ.

(1) المهذب - للشيرازي - 1: 338، المغني 4: 556 - 557، الشرح الكبير 4:
557، العزيز شرح الوجيز 5: 70، وفيها: " لحددتك " بدل " لجلدتك ". ونحوه في
سنن البيهقي 6: 58.
(2 و 3) العزيز شرح الوجيز 5: 70، روضة الطالبين 3: 412.
(4) التهذيب - للبغوي - 4: 134، العزيز شرح الوجيز 5: 70 - 71، روضة الطالبين
3: 412.
(5 و 6) العزيز شرح الوجيز 5: 71، روضة الطالبين 3: 413.
189

البحث الثاني: في الاحتلام.
مسألة 400: الاحتلام - وهو خروج المني، وهو الماء الدافق الذي
يخلق منه الولد - بلوغ في الرجل والمرأة، عند علمائنا أجمع، ولا نعلم فيه
خلافا في الذكر.
قال الله تعالى: (وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا) (1) وقال
تعالى: (والذين لم يبلغوا الحلم منكم) (2).
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يحتلم
- وروي: حتى يبلغ الحلم - وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى
ينتبه " (3).
وقال (عليه السلام) لمعاذ: " خذ من كل حالم دينارا " (4).
وقد أجمع العلماء كافة على أن الفرائض والأحكام تجب على
المحتلم العاقل (5).
مسألة 401: ولا فرق في إفادة خروج المني البلوغ بين الرجال والنساء
كما في الشعر، عند عامة أهل العلم.
وللشافعي قول: إن خروج المني من النساء لا يوجب بلوغهن؛ لأنه
نادر فيهن، ساقط العبرة (6).

(1) النور: 59.
(2) النور: 58.
(3) سنن أبي داود 4: 140 - 141 / 4399 - 4403 بتفاوت يسير.
(4) راجع الهامش (4) من ص 291 في ج 9 من هذا الكتاب.
(5) كما في المغني والشرح الكبير 4: 556.
(6) الوسيط 4: 40، العزيز شرح الوجيز 5: 69، روضة الطالبين 3: 412.
190

وعلى هذا قال الجويني: الذي يتجه عندي أن لا يلزمها الغسل؛ لأنه
لو لزم لكان حكما بأن الخارج مني، والجمع بين الحكم بأنه مني وبين
الحكم بأنه لا يحصل البلوغ به متناقض (1).
قال بعض الشافعية: إن كان التناقض مأخوذا من تعذر التكليف
بالغسل مع القول بعدم البلوغ، فنحن لا نعني بلزوم الغسل سوى ما نعنيه
بلزوم الوضوء على الصبي إذا أحدث، فبالمعنى الذي أطلقنا ذلك
ولا تكليف نطلق هذا. وإن كان غير ذلك، فلابد من بيانه (2).
وعلى هذا القول تصير أسباب البلوغ ثلاثة أقسام: قسم مشترك بين
الرجال والنساء، وقسم مختص بالنساء، وقسم مختص بالرجال، وهو
خروج المني، لكن إطباق أكثر العلماء على خلاف هذا (3).
قالت أم سلمة: سألت النبي (صلى الله عليه وآله) عن المرأة ترى في منامها ما يرى
الرجل، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): " إذا رأت ذلك فلتغتسل " (4).
مسألة 402: الحلم هو خروج المني من الذكر أو قبل المرأة مطلقا،
سواء كان بشهوة أو غير شهوة، وسواء كان بجماع أو غير جماع، وسواء
كان في نوم أو يقظة.
ولا يختص بالاحتلام، بل هو منوط بمطلق الخروج مع إمكانه
باستكمال تسع سنين مطلقا عند الشافعي (5)، وعندنا في المرأة خاصة،

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 69، روضة الطالبين 3: 412.
(2) العزيز شرح الوجيز 5: 69.
(3) لاحظ العزيز شرح الوجيز 5: 69، والمغني 4: 556، والشرح الكبير 4: 555.
(4) نقله الشيخ الطوسي - كما في المتن - في المبسوط 2: 282. وفي صحيح مسلم
1: 250 / 311، وسنن البيهقي 1: 169، ومسند أحمد 4: 197 / 13598 عن
أم سليم.
(5) العزيز شرح الوجيز 5: 69، روضة الطالبين 3: 412.
191

ولا عبرة بما ينفصل قبل ذلك.
وفيه للشافعية وجهان آخران ذكرهما الجويني:
أحدهما: أن إمكان الاحتلام يدخل بمضي ستة أشهر من السنة
العاشرة.
والثاني: أنه يدخل بتمام العاشرة (1).
وهذه الوجوه عندهم كالوجوه في أقل سني الحيض، لكن العاشرة
هنا بمثابة التاسعة هناك؛ لأن في النساء حدة في الطبيعة وتسارعا إلى
الإدراك (2).
مسألة 403: الخنثى المشكل إذا خرج المني من أحد فرجيه،
لم يحكم ببلوغه؛ لجواز أن يكون الذي خرج منه المني خلقة زائدة.
وإن خرج المني من الفرجين جميعا، حكم ببلوغه.
وإن خرج الدم من فرج النساء، والمني من الذكر، حكم ببلوغه؛ لأنه
إن كان رجلا، فخروج الماء بلوغه. وإن كان أنثى، فخروج دم الحيض
بلوغه.
هذا هو المشهور عند علمائنا وعند الشافعي (3).
وللشافعي قول: إنه إذا أمنى وحاض؛ لم يحكم ببلوغه (4).

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 69، روضة الطالبين 3: 412.
(2) العزيز شرح الوجيز 5: 69.
(3) الحاوي الكبير 6: 348، المهذب - للشيرازي - 1: 338، الوسيط 4: 41 -
42، التهذيب - للبغوي - 4: 134، العزيز شرح الوجيز 5: 71، روضة الطالبين
3: 413، المغني 4: 559، الشرح الكبير 4: 558.
(4) الحاوي الكبير 6: 348، الوسيط 4: 41 - 42، العزيز شرح الوجيز 5: 71،
روضة الطالبين 3: 413.
192

وتأوله أصحابه بوجهين:
أحدهما: أنه يريد بذلك أنه: أمنى وحاض من فرج واحد.
والثاني: أنه أراد إن حاض [أو] (1) أمنى، لم أحكم ببلوغه؛ لما ذكرناه (2).
إذا ثبت هذا، فإذا خرج من ذكره ما هو بصفة المني ومن فرجه ما هو
بصفة الحيض، ففي الحكم ببلوغه عند الشافعية وجهان:
أصحهما عندهم: أنه يحكم به؛ لأنه إما ذكر وقد أمنى، وإما أنثى وقد
حاضت.
والثاني: لا؛ لتعارض الخارجين، وإسقاط كل واحد منهما حكم
الآخر، ولهذا لا يحكم - والحال هذه - بالذكورة ولا بالأنوثة (3). وهو ظاهر
قول الشافعي (4).
وإن وجد أحد الأمرين دون الآخر أو أمنى وحاض من الفرج، فعامة
الشافعية أنه لا يحكم ببلوغه؛ لجواز أن يظهر من الفرج الآخر ما يعارضه (5).
وقال الجويني: ينبغي أن يحكم بالبلوغ بأحدهما، كما يحكم
بالذكورة والأنوثة، ثم إن ظهر خلافه، غيرنا الحكم، وكيف ينتظم منا أن
نحكم بأنه ذكر أمنى (6) ولا نحكم بأنه قد بلغ!؟ (7)

(1) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطية والحجرية: " و ". والصحيح ما أثبتناه كما
في المصدر.
(2) الحاوي الكبير 6: 348.
(3) العزيز شرح الوجيز 5: 71، روضة الطالبين 3: 413.
(4) العزيز شرح الوجيز 5: 71.
(5) العزيز شرح الوجيز 5: 71، روضة الطالبين 3: 413.
(6) في العزيز شرح الوجيز 5: 71: " أو أنثى " بدل " أمنى ".
(7) العزيز شرح الوجيز 5: 71، روضة الطالبين 3: 413.
193

قال أكثر الحنابلة: إن خرج المني من ذكر الخنثى المشكل [فهو] علم
[على] بلوغه وأنه ذكر. وإن خرج من فرج المرأة أو حاض، فهو علم على
بلوغه وكونه أنثى؛ لأن خروج البول من [أحد] الفرجين دليل على كونه
رجلا [أو] (1) امرأة، فخروج المني أو الحيض أولى، وإذا ثبت كونه رجلا
خرج المني من ذكره أو امرأة خرج الحيض من فرجها، لزم وجود البلوغ.
ولأن خروج مني الرجل من المرأة أو الحيض من الرجل مستحيل، فكان
دليلا على التعيين، فإذا ثبت التعيين، لزم كونه دليلا على البلوغ، كما لو
تعين قبل خروجه. ولأنه مني خارج من ذكر أو حيض خارج من فرج،
فكان علما على البلوغ، كالمني الخارج من الغلام، والحيض الخارج من
الجارية. ولأن خروجهما معا دليل على البلوغ، فخروج أحدهما أولى؛ لأن
خروجهما معا يفضي إلى تعارضهما، وإسقاط دلالتهما؛ إذ لا يتصور أن
يجتمع حيض صحيح ومني رجل، فوجب أن يكون أحدهما فضلة خارجة
من غير محلها، وليس أحدهما بذلك أولى من الآخر، فتبطل دلالتهما،
كالبينتين إذا تعارضتا، وكالبول إذا خرج من المخرجين جميعا، بخلاف
ما إذا وجد أحدهما منفردا، فإن الله تعالى أجرى العادة أن الحيض يخرج
من فرج المرأة عند بلوغها، ومني الرجل يخرج من ذكره عند بلوغه، فإذا
وجد ذلك من غير معارض، وجب أن يثبت حكمه، ويقضى بثبوت حكم
دلالته، كالحكم بكونه رجلا بخروج البول من ذكره، وبكونه امرأة بخروجه
من فرجها، والحكم للغلام ببلوغه مع [خروج] المني من ذكره، وللجارية
بخروج الحيض من فرجها، فعلى هذا إن خرجا جميعا، لم يثبت كونه

(1) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطية والحجرية: " و ". وما أثبتناه من
المصدر.
194

رجلا ولا امرأة؛ لأن الدليلين تعارضا، فأشبه ما لو خرج البول من الفرجين (1).
وهذا لا بأس به عندي.
تذنيب: إذا خرج المني من الذكر والحيض من الفرج، فقد بينا أنهما
تعارضا في الحكم بالذكورة أو بالأنوثة، وسقط اعتبارهما فيهما.
وهل تثبت دلالتهما على البلوغ؟ الأقرب: ذلك - وبه قال الشافعي (2) -
لأنه إما رجل فقد خرج المني من ذكره، وإما امرأة فقد حاضت.
وقال بعض الجمهور: لا يثبت البلوغ؛ لأنه يجوز أن لا يكون هذا
حيضا ولا منيا، ولا يكون فيه دلالة، وقد دل تعارضهما على ذلك، فانتفت
دلالتهما على البلوغ، كانتفاء دلالتهما على الذكورية والأنوثية (3).
البحث الثالث: في السن.
مسألة 404: السن عندنا دليل على البلوغ - وبه قال جماهير العامة،
كالشافعي والأوزاعي وأبي حنيفة وأصحابه وأحمد بن حنبل (4) - لما رواه
العامة عن ابن عمر قال: عرضت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) في جيش يوم بدر
وأنا ابن ثلاث عشرة سنة، فردني، وعرضت عليه يوم أحد وأنا ابن أربع

(1) المغني 4: 558 - 559، الشرح الكبير 4: 558، وما بين المعقوفين من
المصدر.
(2) راجع المصادر في الهامش (3) من ص 192.
(3) المغني والشرح الكبير 4: 559.
(4) الحاوي الكبير 6: 344، المهذب - للشيرازي - 1: 337، التنبيه: 103، الوجيز
1: 176، الوسيط 4: 39، حلية العلماء 4: 532، التهذيب - للبغوي - 4: 131
و 132، العزيز شرح الوجيز 5: 68، روضة الطالبين 3: 411، الهداية
- للمرغيناني - 3: 284، بدائع الصنائع 7: 172، المغني 4: 557، الشرح الكبير
4: 556.
195

عشرة سنة، فردني ولم يرني بلغت، وعرضت عليه عام الخندق وأنا ابن
خمس عشرة سنة فقبلني وأخذني في المقاتلة (1).
وعن أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: " إذا استكمل المولود خمس عشرة
سنة كتب ما له وما عليه، وأخذت منه الحدود " (2).
ومن طريق الخاصة: رواية أبي حمزة الثمالي عن الباقر (عليه السلام)، قال:
قلت له: جعلت فداك في كم تجري الأحكام على الصبيان؟ قال: " في ثلاث
عشرة سنة وأربع عشرة سنة " قلت: فإنه لم يحتلم (3)، قال: " وإن لم يحتلم،
فإن الأحكام تجري عليه " (4).
وقال مالك: ليس السن دليلا على البلوغ ولا بلوغا في نفسه، ولا حد
للسن في البلوغ، بل يعلم البلوغ بغلظ الصوت وشق الغضروف، وهو
رأس الأنف (5).
وقال داود: لا حد للبلوغ من السن؛ لأن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: " رفع القلم
عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم " (6) فلا يحصل البلوغ بدون الاحتلام وإن
طعن في السن (7).

(1) الطبقات الكبرى - لابن سعد - 4: 143، تاريخ دمشق 31: 95، سنن البيهقي
6: 55، مسند الطياليسي: 254 / 1859.
(2) المغني 4: 557 - 558، العزيز شرح الوجيز 5: 68.
(3) كذا، وفي المصدر: " فإن لم يحتلم فيها ".
(4) التهذيب 6: 310 / 856.
(5) المعونة 2: 1174، الحاوي الكبير 6: 344، حلية العلماء 4: 532، العزيز
شرح الوجيز 5: 68، المغني 4: 557، الشرح الكبير 4: 556.
(6) سنن أبي داود 4: 141 / 4403، سنن الدار قطني 3: 139 / 173، سنن البيهقي
6: 206، المستدرك - للحاكم - 2: 59، مسند أحمد 7: 145 - 146 / 24173.
(7) حلية العلماء 4: 532، المغني 4: 557، الشرح الكبير 4: 556.
196

ولا دلالة في الخبر على امتناع إثبات البلوغ بغير الاحتلام إذا ثبت
بالدليل.
مسألة 405: الذكر والمرأة مختلفان في السن، فالذكر يعلم بلوغه
بمضي خمس عشرة سنة، والأنثى بمضي تسع سنين، عند علمائنا.
ومن خالف بين الذكر والأنثى أبو حنيفة. وسوى بينهما الشافعي
والأوزاعي وأبو ثور وأحمد بن حنبل ومحمد وأبو يوسف.
إذا عرفت هذا، فإن الشافعي والأوزاعي وأبا ثور وأحمد وأبا يوسف
ومحمد قالوا: حد بلوغ الذكر والأنثى بلوغ خمس عشرة سنة كاملة (1).
وقال أبو حنيفة: حد بلوغ المرأة سبع عشرة سنة بكل حال.
وله في الذكر روايتان:
إحداهما: سبع عشرة أيضا.
والأخرى: ثماني عشرة سنة كاملة (2).
وقال أصحاب مالك: حد البلوغ في الغلام والمرأة سبع عشرة سنة
و (3) ثماني عشرة سنة (4).

(1) الحاوي الكبير 6: 344، التنبيه: 103، المهذب - للشيرازي - 1: 337، الوجيز
1: 176، الوسيط 4: 39، حلية العلماء 4: 532، التهذيب - للبغوي - 4: 131 و
132، العزيز شرح الوجيز 5: 68، روضة الطالبين 3: 411، الهداية - للمرغيناني -
3: 284، بدائع الصنائع 7: 172، المغني 4: 557، الشرح الكبير 4: 556.
(2) الاختيار لتعليل المختار 2: 149، بدائع الصنائع 7: 172، الهداية - للمرغيناني -
3: 284، الحاوي الكبير 6: 344، الوسيط 4: 40، حلية العلماء 4: 532،
التهذيب - للبغوي - 4: 132، العزيز شرح الوجيز 5: 68.
(3) في أغلب المصادر: " أو " بدل " و ".
(4) التلقين 2: 423، الذخيرة 8: 237، المعونة 2: 1174، حلية العلماء 4: 532 -
533، المغني 4: 557، الشرح الكبير 4: 556.
197

وما قلناه أولى؛ لأن الغالب في مني الرجل أنه يحصل ببلوغ خمس
عشرة سنة، والمرأة قد تحيض ببلوغ تسع سنين، فإذا توافقت العلامات،
دل على حصول البلوغ بذلك.
وقول أبي حنيفة ومالك وداود (1) يدفعه ما تقدم (2) في خبر ابن عمر
وغيره.
تذنيب: لا يحصل البلوغ بنفس الطعن في السن الخامسة عشر إذا
لم يستكملها؛ عملا بالاستصحاب وفتوى الأصحاب، وهو الظاهر من
مذهب الشافعي (3).
وله وجه آخر: أن البلوغ يحصل بذلك؛ لأنه حينئذ يسمى ابن
خمس عشرة سنة (4).
وهو ممنوع.
ورواية (5) أبي حمزة عن الباقر (عليه السلام) في طريقها قول، على أن جريان
الأحكام عليه بمعنى التحفظ، أو على سبيل الاحتياط حتى يكلف العبادات
للتمرين عليها والاعتقاد لها، فلا يقع منه عند البلوغ الإخلال بشيء منها.
البحث الرابع: في الحيض والحبل.
مسألة 406: الحيض في وقت الإمكان دليل البلوغ، ولا نعلم فيه
خلافا.

(1) تقدم قول مالك وداود في ص 196، المسألة 404.
(2) في ص 195 - 196، المسألة 404.
(3 و 4) التهذيب - للبغوي - 4: 132، العزيز شرح الوجيز 5: 68، روضة الطالبين
3: 411.
(5) تقدمت الرواية في ص 196.
198

والأصل فيه قول النبي (صلى الله عليه وآله) قال لأسماء بنت أبي بكر: " إن المرأة إذا
بلغت المحيض لا يصلح أن يرى منها إلا هذا " وأشار إلى الوجه
والكفين (1)، علق وجوب الستر بالحيض، وذلك نوع تكليف، وقال (صلى الله عليه وآله):
" لا تقبل صلاة حائض إلا بخمار " (2) أشعر أنها بالحيض كلفت الصلاة.
ولو اشتبه الخارج هل هو حيض أم لا، لم يحكم بالبلوغ - إلا مع
تيقن أنه حيض - عملا بالاستصحاب.
مسألة 407: الحبل دليل البلوغ؛ لأنه مسبوق بالإنزال، لأن الله تعالى
أجرى عادته بأن الولد لا يخلق إلا من ماء الرجل وماء المرأة.
قال الله تعالى: (أمشاج نبتليه) (3) وقال تعالى: (فلينظر الإنسان مم
خلق * خلق من ماء دافق * يخرج من بين الصلب والترائب) (4).
لكن الولد لا يتيقن إلا بالوضع، فإذا وضعت حكمنا بالبلوغ قبل
الوضع بستة أشهر وشئ؛ لأن أقل الحمل ستة أشهر.
ولا فرق بين أن يكون ما ولدته تاما أو غير تام إذا علم أنه آدمي أو
مبدأ صورة آدمي، كعلقة تصورت، فإن كانت مطلقة وأتت بولد يلحق
الزوج، حكمنا ببلوغها لما قبل الطلاق.

(1) سنن أبي داود 4: 62 / 4104، سنن البيهقي 2: 226، و 7: 86.
(2) سنن الترمذي 2: 215 / 377، سنن البيهقي 2: 233، المستدرك - للحاكم - 1:
251.
(3) الإنسان: 2.
(4) الطارق: 5 - 7.
199

الفصل الثاني: الجنون
ولا خلاف بين العلماء كافة في الحجر على المجنون ما دام مجنونا،
وأنه لا ينفذ شيء من تصرفاته؛ لسلب أهليته عن ذلك.
والحديث يدل عليه، وهو قوله (عليه السلام): " رفع القلم عن ثلاث: عن
الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى ينتبه " (1).
ولا خلاف في أن زوال الجنون مقتض لزوال الحجر عن المجنون،
سواء حكم به حاكم أو لا، وسواء كان الجنون يعتوره دائما أو يأخذه
أدوارا.
نعم، ينفذ تصرفه حال إفاقته إذا عرف رشده، ولا ينفذ حالة جنونه
بلا خلاف.
الفصل الثالث: السفيه
وفيه مباحث:
الأول: في الحجر عليه.
مسألة 408: قال الله تعالى: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل
الله لكم قياما) (2) وقال تعالى: (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن
آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) (3).

(1) تقدم تخريجه في ص 190، الهامش (3).
(2) النساء: 5.
(3) النساء: 6.
201

وإنما أضاف الله تعالى الأموال إلى الأولياء وهي لغيرهم؛ لأنهم القوام
عليها والمدبرون لها، وقد يضاف الشيء إلى غيره بأدنى ملابسة، كما يقال
لأحد حاملي الخشبة: خذ طرفك. فقد شرط الله في دفع المال إلى اليتيم
أمرين: البلوغ، وقد سبق، والرشد؛ لأن الحجر عليه إنما كان لعجزه عن
التصرف في ماله على وجه المصلحة حفظا لماله عليه، وبالبلوغ والرشد
يقدر على التصرف، ويحفظ ماله، فيزول الحجر؛ لزوال سببه.
إذا عرفت هذا، فإنما يزول الحجر عن الصبي بأمرين: البلوغ،
والرشد؛ لقوله تعالى: (فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) (1).
والبلوغ قد سلف.
وأما الرشد: فقال الشيخ (رحمه الله): هو أن يكون مصلحا لماله، عدلا في
دينه، فإذا كان مصلحا لماله غير عدل في دينه، أو كان عدلا في دينه غير
مصلح لماله، فإنه لا يدفع إليه (2). وبه قال الشافعي والحسن البصري وابن
المنذر (3)؛ لقوله تعالى: (فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم
أموالهم) (4) والفاسق موصوف بالغي لا بالرشد.
وروي عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى: (فإن آنستم منهم

(1) النساء: 6.
(2) الخلاف 3: 283 - 284، المسألة 3.
(3) الأم 3: 215، مختصر المزني: 105، الحاوي الكبير 6: 339، المهذب
- للشيرازي - 1: 338، حلية العلماء 4: 533 - 534، التفسير الكبير - للرازي -
9: 188، الوجيز 1: 176، العزيز شرح الوجيز 5: 72، روضة الطالبين 3:
416، بداية المجتهد 2: 281، المغني 4: 566، الشرح الكبير 4: 559.
(4) النساء: 6.
202

رشدا) (1): هو أن يبلغ ذا وقار وحلم وعقل (2). ومثله عن مجاهد (3).
ولأن الفاسق غير رشيد، فلو ارتكب شيئا من المحرمات مما تسقط
به العدالة، كان غير رشيد.
وكذا لو كان مبذرا لماله وتصرفه في الملاذ النفسية والثياب الرفيعة
والمركوبات الجليلة التي لا يليق بحاله، كان سفيها، ولم يكن رشيدا.
وقال أكثر أهل العلم: الرشد الصلاح في المال خاصة، سواء كان
صالحا في دينه أو لا، وهو قول مالك وأبي حنيفة وأحمد (4)، وهو المعتمد
عندي؛ لقوله تعالى: (فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) (5).
روي عن ابن عباس أنه قال: يعني صلاحا في أموالهم (6).
وقال مجاهد: إذا كان عاقلا (7).
وإذا كان حافظا لماله، فقد أنس منه الرشد.
ولأن هذا نكرة مثبتة يصدق في صورة ما، ولا ريب في ثبوت الرشد

(1) النساء: 6.
(2) أحكام القرآن - للجصاص - 2: 63، تفسير ابن أبي حاتم 3: 865، الخلاف
- للطوسي - 3: 284، ضمن المسألة 3.
(3) تفسير الطبري (جامع البيان) 4: 169، تفسير ابن أبي حاتم 3: 865، أحكام
القرآن - للجصاص - 2: 63، الجامع لأحكام القرآن 5: 37، المغني 4: 566،
الشرح الكبير 4: 559، وفيها تفسير الرشد بالعقل فقط.
(4) بداية المجتهد 2: 281، المعونة 2: 1172، التهذيب - للبغوي - 4: 137،
التفسير الكبير - للرازي - 9: 188، العزيز شرح الوجيز 5: 73 - 74، المغني 4:
566، الشرح الكبير 4: 559.
(5) النساء: 6.
(6) تفسير الطبري (جامع البيان) 4: 169، تفسير ابن أبي حاتم 3: 865، المغني 4:
566، الشرح الكبير 4: 559.
(7) راجع المصادر في الهامش (3).
203

للمصلح لماله وإن كان فاسقا؛ لأنه قد وجد منه رشد. ولأن العدالة لا تعتبر
في الرشد في الدوام، فلا تعتبر في الابتداء، كالزهد في الدنيا. ولأن هذا
مصلح لماله، فأشبه العدل. ولأن الحجر عليه إنما كان لحفظ ماله عليه
وحراسته عن التلف بالتبذير، فالمؤثر فيه ما أثر في تضييع المال، والفاسق
وإن لم يكن رشيدا في دينه لكنه رشيد في ماله.
وينتقض قولهم بالكافر، فإنه غير رشيد في دينه، ولا يحجر عليه،
كذا الفاسق. ولأنه لو طرأ الفسق على المسلم بعد دفع ماله إليه، لم يزل
رشده، ولم يحجر عليه لأجل فسقه، ولو كانت العدالة شرطا في الرشد،
لزال بزوالها، كحفظ المال.
ولا يلزم من منع قبول شهادته منع دفع ماله إليه، فإن المعروف بكثرة
الغلط والغفلة والنسيان ومن لا يتحفظ من الأشياء المفضية إلى قلة المروءة
- كالأكل في السوق، وكشف الرأس بين الناس، ومد الرجل عندهم،
وأشباه ذلك - لا تقبل شهادته، وتدفع إليه أمواله (1) إجماعا.
إذا عرفت هذا، فإن الفاسق إن كان ينفق ماله في المعاصي - كشراء
الخمور وآلات اللهو والقمار - أو يتوصل به إلى الفساد، فهو غير رشيد
لا تدفع إليه أمواله إجماعا؛ لتبذيره لماله وتضييعه إياه في غير فائدة.
وإن كان فسقه لغير ذلك - كالكذب ومنع الزكاة وإضاعة الصلاة - مع
حفظه لماله، دفع إليه ماله؛ لأن الغرض من الحجر حفظ المال، وهو
يحصل بدون الحجر، فلا حاجة إليه.
وكذا لو طرأ الفسق الذي لا يتضمن تضييع المال ولا تبذيره، فإنه

(1) في النسخ الخطية والحجرية: " إليهم أموالهم ". وما أثبتناه يقتضيه السياق.
204

لا يحجر عليه إجماعا.
واعلم أن الشافعي قال: الصلاح في الدين حين تكون الشهادة
جائزة (1).
وقد بينا أن الشهادة قد ترد بترك المروءة، والصنائع الدنيئة، كالزبال،
والسؤال على أبواب الدور وإن كان ذلك لا يثبت الحجر.
مسألة 409: لو بلغ الصبي غير رشيد، لم يدفع إليه ماله وإن صار
شيخا وطعن في السن، وهذا قول أكثر علماء الأمصار من أهل الحجاز
والعراق والشام ومصر، فإنهم يرون الحجر على كل مضيع لماله، صغيرا
كان أو كبيرا - وبه قال مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأبو يوسف
ومحمد (2) - لقوله تعالى: (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن
آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) (3) علق دفع المال على
شرطين: البلوغ، والرشد، فلا يثبت الحكم بدونهما.
وقال تعالى: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) (4) يعني أموالهم.
وقال تعالى: (فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو
لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل) (5) أثبت الولاية على السفيه.

(1) الأم 3: 215، مختصر المزني: 105، الحاوي الكبير 6: 350.
(2) بداية المجتهد 2: 379 - 380، الجامع لأحكام القرآن 5: 37، حلية العلماء 4:
534، التهذيب - للبغوي - 4: 138، العزيز شرح الوجيز 5: 73، روضة الطالبين 3:
416، المغني 4: 554، الشرح الكبير 4: 553، مختصر اختلاف العلماء 5:
216 / 2311، الهداية - للمرغيناني - 3: 281، الاختيار لتعليل المختار 2: 252.
(3) النساء: 6.
(4) النساء: 5.
(5) البقرة: 282.
205

ولأنه مبذر لماله، فلا يجوز دفعه إليه، كغير البالغ خمسا وعشرين
سنة.
وقال أبو حنيفة: لا يدفع إليه ماله إذا كان قد بلغ سفيها، وإن
تصرف، نفذ تصرفه، فإذا بلغ خمسا وعشرين سنة، فك عنه الحجر،
ودفع إليه ماله وإن كان سفيها؛ لقوله تعالى: (ولا تقربوا مال اليتيم إلا
بالتي هي أحسن) (1) وقد زال اليتم.
ولأنه قد بلغ أشده، وصلح أن يصير جدا. ولأنه حر بالغ عاقل
مكلف، فلا يحجر عليه، كالرشيد (2).
والآية لا دلالة فيها، ولو دلت فإنما تدل بمفهوم الخطاب، وهو ليس
حجة عنده (3).
ثم هي مخصوصة بما قبل خمس وعشرين سنة بالإجماع، فيجب أن
تخص بما بعدها؛ لأن الموجب للتخصيص علة السفه، وهي موجودة فيما
بعدها، فيجب أن يخص بها، كما أن الآية لما خصصت في حق المجنون
لأجل جنونه قبل خمس وعشرين خصت أيضا به بعد خمس وعشرين.
والمنطوق الذي استدللنا به أولى من مفهومه.

(1) الأنعام: 152، الإسراء: 34.
(2) المبسوط - للسرخسي - 24: 161، الهداية - للمرغيناني - 3: 282، بدائع
الصنائع 7: 170، الاختيار لتعليل المختار 2: 152، مختصر اختلاف العلماء 5:
216 / 2311، الحاوي الكبير 6: 318، حلية العلماء 4: 534، العزيز شرح الوجيز
5: 73 - 74، المغني والشرح الكبير 4: 554.
(3) كما في المغني 4: 555، والشرح الكبير 4: 554، وفي ميزان الأصول 1:
445، وشرح اللمع 1: 428، والإشارة في معرفة الأصول 294 نسبته إلى أصحاب
أبي حنيفة.
206

وكونه جدا ليس تحته معنى يقتضي الحكم، ولا أصل له في الشرع
يشهد له بالاعتبار، فيكون إثباتا للحكم بالتحكم.
ثم هو ثابت في من له دون هذا السن، فإن المرأة تكون جدة لإحدى
وعشرين.
وقياسهم منتقض بمن له دون خمس وعشرين سنة، وموجب الحجر
قبل خمس وعشرين ثابت بعدها، فيثبت حكمه.
مسألة 410: هذا المحجور عليه للسفه قبل بلوغه خمسا وعشرين سنة
وبعد بلوغه بالاحتلام لا ينفذ تصرفه ألبتة في شيء، ولا ينفذ إقراره،
ولا يصح بيعه، عند علمائنا أجمع - وبه قال الشافعي (1) - لأنه لا يدفع إليه
ماله؛ لعدم رشده، فلا يصح تصرفه وإقراره، كالصبي والمجنون. ولأنه إذا
نفذ إقراره وبيعه، تلف ماله بذلك، ولم يفد منعه من ماله [شيئا] (2).
وقال أبو حنيفة: يصح بيعه وإقراره، وإنما لا يسلم إليه ماله إلا بعد
خمس وعشرين سنة.
وبنى ذلك على أصله من أن البالغ لا يحجر عليه، وإنما يمنع من
تسليمه المال؛ للآية (3) (4).
وهو خطأ؛ فإن تصرفه لو كان نافذا، لسلم إليه ماله، كالرشيد. ولأنه
لا فرق بين أن يسلم إليه أو إلى من يقبضه بسببه، فإنه إذا باع، وجب

(1) التهذيب - للبغوي - 4: 139، العزيز شرح الوجيز 5: 77، روضة الطالبين 3:
417.
(2) ما بين المعقوفين أضفناه لأجل السياق.
(3) الأنعام: 152، الإسراء: 34.
(4) الاختيار لتعليل المختار 2: 153، بدائع الصنائع 7: 171، الهداية - للمرغيناني -
3: 281، حلية العلماء 4: 536، المغني والشرح الكبير 4: 555.
207

تسليمه إلى المشتري، وإلا لم يفد تصرفه شيئا، فكان يتسبب إلى إتلاف
ماله بوسائط المشترين.
مسألة 411: لو بلغ وصرف أمواله في وجوه الخير كالصدقات وفك
الرقاب وبناء المساجد والمدارس وأشباه ذلك [فذلك] (1) ممن لا يليق به
- كالتاجر وشبهه - تبذير - وبه قال بعض الشافعية (2) - لأنه إتلاف للمال.
قال الله تعالى: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل
البسط فتقعد ملوما محسورا * إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء
ويقدر) (3) وهو صريح في النهي عن هذه الأشياء.
وتضييع المال بإلقائه في البحر أو باحتمال الغبن الفاحش في
المعاملات ونحوها تبذير.
وكذا الإنفاق في المحرمات.
وكذا صرفه في الأطعمة النفيسة - وبه قال بعض الشافعية (4) - للعادة.
وقال أكثرهم: لا يكون تبذيرا؛ لأن الغاية في تملك المال الانتفاع به
والالتذاذ (5).
وكذا قالوا: إن شراء الثياب الفاخرة وإن لم تكن لائقة به، والإكثار من
شراء الغانيات والاستمتاع بهن وما أشبهه ليس تبذيرا (6).
وبالجملة، حصر أكثرهم التبذير في التضييعات، كالرمي في البحر،
واحتمال الغبن الفاحش وشبهه، وفي الإنفاق في المحرمات (7).

(1) ما بين المعقوفين أضفناه لأجل السياق.
(2) العزيز شرح الوجيز 5: 72، روضة الطالبين 3: 414.
(3) الإسراء: 29 و 30.
(4 - 7) العزيز شرح الوجيز 5: 72، روضة الطالبين 3: 414.
208

وليس بجيد على ما سلف.
مسألة 412: المرأة - كالذكر - إذا بلغت وعلم رشدها، زال الحجر
عنها، ودفع إليها مالها، عند علمائنا أجمع - وبه قال الشافعي وأبو حنيفة
وعطاء والثوري وأبو ثور وابن المنذر وأحمد في إحدى الروايتين (1) - لعموم
قوله تعالى: (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم
رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) (2).
ولأنها يتيم بلغ وأنس منه الرشد، فيدفع إليه ماله، كالرجل. ولأنها
بالغة رشيدة، فدفع إليها مالها، ونفذ تصرفها، كالتي دخل بها الزوج.
وعن أحمد رواية أخرى: أن المرأة لا يدفع إليها مالها ما لم تتزوج أو
تلد أو يمضي لها في بيت زوجها سنة، سواء بلغت رشيدة أو لا - وبه قال
عمر بن الخطاب وشريح والشعبي وإسحاق - لما رواه شريح قال: عهد إلي
عمر بن الخطاب: أن لا تحبين (3) الجارية عطية حتى تحول في بيت زوجها
[حولا] (4) أو تلد ولدا (5).
وهذا الخبر ليس حجة؛ لأن قول عمر لا يجب المصير إليه، وليس
مشهورا، ولا ورد به الكتاب ولا عضده خبر عن النبي (صلى الله عليه وآله)، ولا أفتى به
أحد من الصحابة، ولا دل عليه قياس ولا نظر، مع أنه لو كان حجة، لكان
مختصا بالعطية. ولا يلزم من منع العطية منع مالها عنها ولا منعها من قبضه

(1) الأم 3: 216، مختصر المزني: 105، الحاوي الكبير 6: 352، التهذيب
- للبغوي - 4: 135، حلية العلماء 4: 536، العزيز شرح الوجيز 5: 74، روضة
الطالبين 3: 416، المغني والشرح الكبير 4: 560.
(2) النساء: 6.
(3) في المصدر: " لا أجيز " بدل " لا تحبين ".
(4) ما بين المعقوفين من المصدر.
(5) المغني والشرح الكبير 4: 560.
209

والتصرف فيه بما شاءت.
وقال مالك: لا يدفع إليها مالها حتى تتزوج، ويدخل عليها زوجها،
فإذا نكحت، دفع إليها مالها بإذن الزوج، ولا ينفذ تبرعها بما زاد على
الثلث، إلا بإذن الزوج ما لم تصر عجوزا؛ لأن كل حالة جاز للأب تزويجها
فيها من غير إذنها لم ينفك عنها الحجر، كالصغير، فإذا كان للأب إجبارها
على النكاح، كانت ولاية المال لغيرها (1).
ونحن نمنع إجبارها على النكاح، بل متى بلغت رشيدة كان أمرها في
النكاح وغيره إليها على ما سيأتي إن شاء الله تعالى.
سلمنا، لكن الفرق ظاهر؛ فإن مصلحتها في النكاح لا يقدر على
معرفتها إلا بمباشرة الأب أو بمباشرتها بعد وقوعه.
وبالجملة، فإن للأب إجبارها على النكاح؛ لأن اختبارها لا يمكن
بالنكاح، بخلاف المعاملات من البيع والشراء وغيرهما، فإنه يمكن معرفته
ومباشرته قبل النكاح وبعده.
وعلى هذه الرواية إذا لم تتزوج، دام الحجر عليها عند أحمد ومالك؛
لفقد شرط رفع الحجر (2).
مسألة 413: إذا بلغت المرأة رشيدة، صح تصرفها في مالها، سواء
أذن زوجها أو منع، وسواء كانت متبرعة أو لا، وسواء كان بقدر الثلث أو
أزيد، عند علمائنا أجمع - وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وابن المنذر وأحمد

(1) بداية المجتهد 2: 280 - 281، التلقين 2: 423 و 424، الحاوي الكبير 6:
353، التهذيب - للبغوي - 4: 135، حلية العلماء 4: 537، العزيز شرح الوجيز
5: 74، المغني 4: 560، الشرح الكبير 4: 561.
(2) المغني والشرح الكبير 4: 561.
210

في إحدى الروايتين (1) - لعموم قوله تعالى: (فإن آنستم منهم رشدا
فادفعوا إليهم أموالهم) (2) وهو ظاهر في فك الحجر عنهم وإطلاقهم في
التصرف.
وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " يا معشر النساء تصدقن ولو من
حليكن " (3) وإنهن تصدقن، فقبل صدقتهن ولم يسأل ولم يستفصل.
وجاءته امرأة عبد الله وامرأة أخرى يقال لها: زينب، فسألته عن
الصدقة هل يجزئهن أن يتصدقن على أزواجهن وأيتام لهن؟ فقال: " نعم " (4)
ولم يذكر لهن هذا الشرط.
ولأن من وجب دفع ماله إليه برشده جاز له التصرف فيه من غير
إذن، كالغلام. ولأن المرأة من أهل التصرف، ولا حق لزوجها في مالها،
فلم (5) يملك الحجر عليها في التصرف بجميعه، كحليها.
وقال مالك وأحمد في الرواية الأخرى: ليس لها أن تتصرف في مالها
بأزيد من الثلث بغير عوض، إلا بإذن زوجها (6).
وحكي عن مالك في امرأة أعتقت جارية لها ليس لها غيرها فخشيت
- ولها زوج - من ذلك [أن] يقليها (7) زوجها، قال: له أن يرد عليها، وليس

(1) الحاوي الكبير 6: 352 و 353، حلية العلماء 4: 537، المغني 4: 561،
الكافي في فقه الإمام أحمد 2: 113، الشرح الكبير 4: 577.
(2) النساء: 6.
(3) سنن الترمذي 3: 28 / 635.
(4) المغني 4: 562، الشرح الكبير 4: 577.
(5) في الطبعة الحجرية: " فلا ".
(6) الكافي في فقه أهل المدينة: 424، التلقين 2: 424، حلية العلماء 4: 537،
العزيز شرح الوجيز 5: 74، المغني 4: 561، الشرح الكبير 4: 577.
(7) القلى: البغض. لسان العرب 15: 198 " قلا ".
211

لها عتق؛ لما روي أن امرأة كعب بن مالك أتت النبي (صلى الله عليه وآله) بحلي لها، فقال
النبي (صلى الله عليه وآله): " لا يجوز للمرأة عطية حتى يأذن زوجها، فهل استأذنت كعبا؟ "
فقالت: نعم، فبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى كعب، فقال: " هل أذنت لها أن
تتصدق بحليها؟ " فقال: نعم، فقبله (1).
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال في
خطبة خطبها: " لا يجوز لامرأة عطية في مالها إلا بإذن زوجها، إذ هو مالك
عصمتها " (2).
ولقوله (عليه السلام): " تنكح المرأة لدينها وجمالها ومالها " (3) والعادة جارية
أنه (4) يتبسط في مالها، وينتفع بجهازها.
قالوا: وكذا يجب عليها عنده التجهيز، فلهذا كان له منعها.
ولأن العادة تقضي بأن الزوج يزيد في مهرها من أجل مالها، وإذا
أعسر بالنفقة أنظر، فجرى ذلك مجرى حقوق الورثة المتعلقة بمال
المريض (5).
وحديثهم مرسل، على أنه محمول على ما هو الظاهر منه، وهو أنه
لا يجوز عطيتها بماله بغير إذنه؛ لأنه وافق على تجويز عطيتها من مالها دون
الثلث (6).

(1) سنن ابن ماجة 2: 798 / 2389.
(2) سنن أبي داود 3: 293 / 3546، سنن ابن ماجة 2: 798 / 2388، سنن النسائي
6: 278، سنن البيهقي 6: 60.
(3) صحيح مسلم 2: 1087 / 54، سنن الترمذي 3: 396 / 1086، سنن النسائي 6:
65، مسند أحمد 4: 233 / 13825.
(4) أي الزوج.
(5) المغني 4: 561 - 562، الشرح الكبير 4: 577.
(6) راجع الهامش (6) من ص 211.
212

وليس معهم حديث يدل على تحديد المنع بالثلث، فيكون التحديد
بالثلث تحكما لا دليل فيه ولا قياس يدل عليه.
والفرق بين الزوجة والمريض من وجوه:
أ: المرض سبب يفضي إلى وصول [المال] (1) إليهم بالميراث،
والزوجية إنما تجعله من أهل الميراث، فهي (2) أحد وصفي العلة، فلا يثبت
الحكم بمجردها، كما لا يثبت للمرأة الحجر على زوجها ولا لسائر الوراث
بدون المرض.
ب: تبرع المريض موقوف، فإن برئ من مرضه، صح تبرعه، وهنا
أبطلوه على كل حال، والفرع لا يزيد على أصله.
ج: ينتقض ما ذكروه بالمرأة، فإنها تنتفع بمال زوجها، وتتبسط فيه
عادة، ولها النفقة منه، وانتفاعها بماله أكثر من انتفاعه من مالها، وليس لها
الحجر عليه، على أن هذا المعنى ليس موجودا في الأصل، ومن شرط
صحة القياس ثبوت الحكم في الأصل، والمرأة قد ترغب في الرجل لماله،
ولا تعترض عليه في تصرفه، فكذا الرجل، وانتفاعه بمالها لا يستحقه،
ولا يجب عليها التجهيز له، ولو كان كذلك (3)، لاختص بما يستعمل، دون
سائر مالها.
مسألة 414: قد بينا أن للمرأة الصدقة من مال زوجها بالشيء اليسير
من المأكول والمأدوم بشرط عدم الإضرار، وعدم المنع منه - وهو إحدى

(1) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطية والحجرية: " النظر ". والظاهر أن الصحيح
ما أثبتناه.
(2) في النسخ الخطية والحجرية: " فهو ". والظاهر ما أثبتناه.
(3) في النسخ الخطية والحجرية: " لذلك " بدل " كذلك ". والظاهر ما أثبتناه.
213

الروايتين عن أحمد (1) - لأن عائشة قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " ما أنفقت
المرأة من بيت زوجها غير مفسدة كان لها أجرها (2)، وله مثله بما كسب،
ولها بما أنفقت، وللخازن (3) مثل ذلك من غير أن ينتقص من أجورهم
شيء " (4) ولم يذكر إذنا.
وأتت أسماء النبي (صلى الله عليه وآله) فقالت: يا رسول الله ليس لي شيء إلا
ما أدخل الزبير، فهل علي جناح أن أرضخ (5) مما يدخل علي؟ فقال:
" ارضخي بما استطعت، ولا توعي (6) [فيوعى] (7) عليك " (8).
وأتت امرأة النبي (صلى الله عليه وآله)، فقالت: يا رسول الله إنا كل على أزواجنا
وأبنائنا، فما يحل لنا من أموالهم؟ قال: " الرطب تأكلنه " (9).
ولأن العادة قاضية بالسماح به وطيب النفس عنه، فجرى مجرى
التصريح بالإذن، كما أن تقديم الطعام بين يدي الآكل قائم مقام صريح
الإذن في أكله.

(1) المغني 4: 564، الشرح الكبير 4: 582.
(2) في النسخ الخطية والحجرية: " أجره " والمثبت كما في المصادر ما عدا سنن
أبي داود، ففيه: " أجر ما أنفقت ".
(3) في النسخ الخطية والحجرية: " وللجارية " بدل " وللخازن ". وما أثبتناه من
المصادر.
(4) صحيح مسلم 2: 710 / 81، سنن ابن ماجة 2: 770 / 2294، سنن أبي داود 2:
131 / 1685، مسند أحمد 7: 67 / 23651 بتفاوت يسير في بعضها.
(5) الرضخ: العطية القليلة. النهاية - لابن الأثير - 2: 328 " رضخ ".
(6) أي لا تجمعي وتشحي بالنفقة فيشح عليك. النهاية - لابن الأثير - 5: 208
" وعا ".
(7) ما بين المعقوفين من المصدر.
(8) صحيح مسلم 2: 714 / 89، سنن البيهقي 4: 187، و 6: 60.
(9) المصنف - لابن أبي شيبة - 6: 585 / 2126، منتخب مسند عبد بن حميد:
79 / 147، أسد الغابة 2: 228 / 2056.
214

والرواية الثانية عن أحمد: أنه لا يجوز؛ لأن أبا أمامة الباهلي (1) قال:
سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: " لا تنفق المرأة شيئا من بيتها إلا بإذن
زوجها " قيل: يا رسول الله و [لا] (2) الطعام؟ قال: " ذاك أفضل أموالنا " (3).
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب
نفسه " (4).
وقال: " إن الله حرم بينكم دماءكم وأموالكم كحرمة يومكم هذا في
شهركم هذا في بلدكم هذا " (5).
ولأنه تبرع بمال غيره بغير إذنه، فلم يجز، كغير الزوجة (6).
والحق: الأول؛ لما تقدم من الأدلة، والأحاديث من طريق العامة
والخاصة خاصة، فتقدم على أحاديث أحمد، العامة، والحديث الخاص
بهذه الصورة ضعيف. وقياس المرأة على غيرها باطل؛ لأن العادة قاضية
بالفرق بينهما، فإن المرأة تتبسط في مال زوجها، وتتصرف بالمأكول منه
بالعادة، والإذن العرفي قائم مقام الإذن الحقيقي.

(1) في النسخ الخطية والحجرية: " الكاهلي " بدل " الباهلي ". والصحيح ما أثبتناه من
المصادر.
(2) ما بين المعقوفين من المصادر.
(3) سنن ابن ماجة 2: 770 / 2295، سنن أبي داود 3: 296 - 297 / 3565، سنن
الترمذي 3: 57 - 58 / 670، و 4: 433 / 2120، مسند أحمد 6: 357 -
358 / 21791، المصنف - لابن أبي شيبة - 6: 585 / 2127.
(4) سنن البيهقي 6: 100.
(5) صحيح مسلم 2: 889 / 1218، سنن ابن ماجة 2: 1025 / 3074، سنن أبي داود
2: 185 / 1905، مسند أحمد 6: 69 / 20172، و 570 / 22978 بتفاوت في أوله
فيما عدا الموضع الثاني من مسند أحمد.
(6) المغني 4: 564، الشرح الكبير 4: 582.
215

أما لو منعها فقال: لا تتصدقي من مالي لا بقليل ولا بكثير ولا تتبرعي
بشيء منه، فإنها لا يجوز لها التصرف في شيء إلا بإذنه إجماعا؛ لأن المنع
الصريح نفي الإذن العرفي.
ولو كان في بيت الرجل من يقوم مقام امرأته، كجارية وأخت
وخادمة وبنت ممن يتصرف في مأكول الرجل، جرى مجرى الزوجة إن
لم يعلم الكراهية.
ولو كانت امرأته ممنوعة من التصرف في بيت زوجها كالتي يطعمها
بالفرض ولا يمكنها من طعامه ولا من التصرف في شيء من ماله، لم يجز
لها الصدقة بشيء من ماله.
مسألة 415: إذا بلغ الصبي لم يدفع إليه ماله إلا بعد العلم برشده،
ويستديم التصرف في ماله من كان متصرفا فيه قبل بلوغه أبا كان أو جدا أو
وصيا أو حاكما أو أمين حاكم، فإن عرف رشده، انفك الحجر عنه، ودفع
إليه المال.
وهل يكفي العلم بالبلوغ والرشد في فك الحجر عنه، أم يفتقر إلى
حكم الحاكم وفك القاضي؟ الأقرب: الأول؛ لقوله تعالى: (فإن آنستم
منهم رشدا فادفعوا) (1).
ولزوال المقتضي للحجر، وهو الصبا، وعدم العلم بالرشد، فيزول
الحجر. ولأنه حجر لم يثبت بحكم الحاكم، فلا يتوقف زواله على إزالة
الحاكم، كحجر المجنون، فإنه يزول بمجرد الإفاقة. ولأنه لو توقف على
ذلك، لطلب الناس عند بلوغهم فك الحجر عنهم من الحكام، ولكان ذلك

(1) النساء: 6.
216

عندهم من أهم الأشياء، وهو أصح قولي الشافعية (1).
وقال بعضهم: يحتاج إلى فك القاضي؛ لأن الرشد يعلم بنظر
واجتهاد (2).
قال هؤلاء: فكما ينفك الحجر عن الصبي عند البلوغ والرشد بفك
القاضي، ينفك بفك الأب والجد (3).
وفي الوصي والقيم لهم وجهان (4).
وهو يقتضي بطلان قولهم بحاجة إزالة الفك إلى النظر والاجتهاد.
قالوا: وإذا كان الحجر لا يزول حتى يزيله القاضي أو من ذكرنا،
فتصرفه قبل إزالة الحجر كتصرف من أنشىء الحجر عليه بالسفه الطارئ
بعد البلوغ، ويجري الخلاف فيما إذا بلغ غير رشيد ثم صار رشيدا (5).
مسألة 416: إذا بلغ رشيدا وزال الحجر عنه ثم صار مبذرا وعاد إلى
السفه، حجر عليه ثانيا، عند علمائنا أجمع - وبه قال القاسم بن محمد
ومالك والشافعي والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد
وأبو يوسف ومحمد (6) - لقوله تعالى: (فإن آنستم منهم رشدا
فادفعوا) (7) دل بمفهومه على تعليل جواز الدفع بعلم الرشد، فإذا انتفت

(1 و 2) المهذب - للشيرازي - 1: 338، التنبيه: 103، حلية العلماء 4: 538،
العزيز شرح الوجيز 5: 74، روضة الطالبين 3: 416، منهاج الطالبين: 124.
(3 و 4) التهذيب - للبغوي - 4: 138، العزيز شرح الوجيز 5: 74، روضة الطالبين
3: 416.
(5) العزيز شرح الوجيز 5: 74.
(6) الأم 3: 218 - 219، مختصر المزني: 105، الحاوي الكبير 6: 363، المهذب
- للشيرازي - 1: 339، التهذيب - للبغوي - 4: 138، العزيز شرح الوجيز 5:
74، روضة الطالبين 3: 416، التفسير الكبير 9: 190، المغني 4: 568، الشرح
الكبير 4: 570.
(7) النساء: 6.
217

العلة انتفى الحكم.
واستدل الشافعي أيضا بإجماع الصحابة عليه؛ لما رواه عروة بن
الزبير أن عبد الله بن جعفر (رحمه الله) ابتاع بيعا، فقال علي (عليه السلام): " لآتين عثمان
ليحجر عليك " فأتى عبد الله بن جعفر الزبير، فقال: قد ابتعت بيعا وإن
عليا (عليه السلام) يريد أن يأتي عثمان فيسأله الحجر علي، فقال الزبير: أنا شريكك
في البيع، فأتى علي (عليه السلام) عثمان، فقال له: " إن عبد الله بن جعفر قد ابتاع
بيع كذا فاحجر عليه " فقال الزبير: أنا شريكه في البيع، فقال عثمان: كيف
أحجر على رجل شريكه الزبير!؟ (1).
قال أحمد: لم أسمع هذا إلا من أبي يوسف القاضي، ولم يخالف
علي (عليه السلام) ذلك، وهذه قضية مشهورة يشتهر مثلها، ولم ينقل خلاف،
فكانت إجماعا.
ولأن التبذير لو قارن البلوغ، منع من دفع المال، فإذا حدث، أوجب
انتزاع المال، كالجنون. ولأن المقتضي للحجر عليه أولا حفظ المال؛ لأن
الصبي وإن لم يتلف المال فإنه غير مأمون عليه؛ لإمكان صدور الإتلاف
عنه، فإذا كان الإتلاف صادرا عنه حقيقة، كان الحجر عليه أولى (2).
وقال أبو حنيفة وزفر: لا يحجر عليه، وتصرفه نافذ في ماله - وهو
مروي عن ابن سيرين والنخعي - لأنه حر مكلف، فلا يحجر عليه،
كالرشيد. ولأنه يصح طلاقه، فتصح عقوده، كالرشيد (3).

(1) سنن البيهقي 6: 61.
(2) المغني 4: 568 - 569، الشرح الكبير 4: 570 - 571.
(3) حلية العلماء 4: 539، التفسير الكبير 9: 190، المغني 4: 568، الشرح الكبير
4: 570.
218

والقياس باطل؛ لأن الرشيد حافظ لماله، فدفع إليه، بخلاف السفيه.
والطلاق ليس إتلاف مال ولا يتضمنه، فلم يمنع منه، ولهذا يملكه العبد،
دون التصرف في المال بغير إذن سيده.
مسألة 417: إذا عاد مبذرا مضيعا لماله بعد رشده ودفع المال إليه،
فإنه يحجر عليه، ويؤخذ المال منه، كما تقدم.
ولا يحجر عليه إلا الحاكم، ولا يصير محجورا عليه إلا بحكم القاضي
- وبه قال الشافعي وأحمد وأبو يوسف (1) - لأن التبذير يختلف ويحتاج إلى
الاجتهاد، فإذا افتقر السبب إلى الاجتهاد، لم يثبت إلا بحكم الحاكم، كما أن
ابتداء مدة العنة لا يثبت إلا بحكم الحاكم؛ لموضع الاختلاف فيها
والاجتهاد، فكذا هنا. ولأنه حجر مختلف فيه، فلا يثبت إلا بحكم الحاكم،
كالحجر على المفلس.
وقال محمد: يصير بالتبذير محجورا عليه وإن لم يحكم به الحاكم؛
لأن التبذير سبب يثبت معه الحجر، فلم يفتقر إلى حكم الحاكم،
كالجنون (2).
والفرق: أن الجنون لا يفتقر إلى الاجتهاد، ولا خلاف فيه.
وقال بعض الشافعية: إن الحجر يعيده الأب والجد (3). وليس
مشهورا.

(1) حلية العلماء 4: 539، العزيز شرح الوجيز 5: 74، روضة الطالبين 3: 416،
المغني 4: 569، الشرح الكبير 4: 571، المبسوط - للسرخسي - 24: 163، الهداية
- للمرغيناني - 3: 282، الاختيار لتعليل المختار 2: 151 - 152.
(2) المبسوط - للسرخسي - 24: 163، الهداية - للمرغيناني - 3: 282، الاختيار لتعليل
المختار 2: 152، حلية العلماء 4: 539، المغني 4: 569، الشرح الكبير 4: 571.
(3) العزيز شرح الوجيز 5: 74، روضة الطالبين 3: 416.
219

مسألة 418: إذا قلنا بمذهب الشيخ (رحمه الله): أن الرشد عبارة عن العدالة
وصلاح المال (1)، فلو بلغ رشيدا عدلا فأزيل الحجر عنه ثم صار بعد فك
الحجر عنه فاسقا في دينه، فهل يعاد عليه الحجر؟.
قال الشيخ (رحمه الله): الأحوط أن يحجر عليه.
واستدل عليه بقوله تعالى: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) (2).
وما رواه العامة أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: " اقبضوا على أيدي سفهائكم " (3)
ولا يصح القبض إلا بالحجر.
ومن طريق الخاصة: ما روي عنهم (عليهم السلام) أنهم قالوا: " شارب الخمر
سفيه " (4) (5).
وللشافعي وجهان:
أحدهما: يحجر عليه - وهو قول أبي العباس بن سريج - لأن ذلك
مانع في فك الحجر، فأوجب الحجر عليه، ويستدام الحجر به، كالتبذير.
والثاني: لا يحجر عليه - وبه قال أبو إسحاق - لأن الحجر إنما كان
لحفظ المال، والفسق في الدين يورث تهمة فيه، فمنع ذلك ثبوت الرشد
وفك الحجر، وإذا طرأ بعد ذلك، أورث تهمة في المال، فلم يثبت بذلك

(1) المبسوط - للطوسي - 2: 284، الخلاف 3: 283، المسألة 3.
(2) النساء: 5.
(3) لم نجده في المصادر الحديثية المتوفرة لدينا، وأورده الشيخ الطوسي في الخلاف 3:
288، ضمن المسألة 7، وفي الحاوي الكبير 6: 356، والجامع لأحكام القرآن 6: 4،
وكنز العمال 3: 67 / 5525 نقلا عن الطبراني في المعجم الكبير، بلفظ: " خذوا
على... ".
(4) تفسير العياشي 1: 220 / 22.
(5) المبسوط - للطوسي - 2: 285، الخلاف 3: 289، المسألة 8.
220

ابتداء الحجر، بخلاف التبذير؛ لأنه قد علم منه إفساده للمال، ولم ينقل
عن أحد أنه حجر حاكم على فاسق.
ولا يجوز القياس على استدامة الحجر؛ لأن الحجر هناك كان ثابتا،
والأصل بقاؤه، وهنا ثبت الإطلاق، والأصل بقاؤه، فلا يلزم من الاكتفاء
بالفسق للاستصحاب الاكتفاء به لترك الأصل، ويخالف التبذير؛ لأنه تتحقق
به إضاعة المال، وبالفسق لا تتحقق (1).
ونحن لما ذهبنا إلى أن الفسق لا يوجب الحجر، وأنه لا تشترط في
الرشد العدالة، لم يثبت الحجر عندنا بطريان الفسق ما لم ينضم إليه تضييع
المال في المحارم وغيرها.
مسألة 419: السفيه إذا زال تبذيره أو فسقه، فك الحاكم الحجر عنه،
فإن عاد إلى ذلك، أعاد عليه الحجر؛ لأن الحجر كان لعلة، وإذا زالت
العلة، زال الحكم، فإن عادت العلة، عاد الحكم؛ قضاء للعلية، ولا يحجر
عليه إلا بحكم الحاكم، ولا يزول الحجر عنه إلا بحكمه؛ لاحتياجه إلى
الاجتهاد في حجره وفي فكه معا.
وحجر المفلس قد بينا أنه لا يثبت إلا بحكم الحاكم.
والأقرب: زواله بقضاء الديون.
وللشافعي وجهان (2).
وأما المرتد فإنه يحجر عليه بنفس الردة، وهو أحد قولي الشافعي.

(1) المهذب - للشيرازي - 1: 339، حلية العلماء 4: 539 - 540، العزيز شرح
الوجيز 5: 75.
(2) المهذب - للشيرازي - 1: 334، التهذيب - للبغوي - 4: 106، حلية العلماء 4:
519، العزيز شرح الوجيز 5: 24، روضة الطالبين 3: 382.
221

والثاني: أنه بحكم الحاكم، كالسفيه (1).
فإذا أسلم ولم يكن عن فطرة، زال حجره - إجماعا - بنفس الإسلام.
إذا ثبت هذا، فكل من صار محجورا عليه بحكم الحاكم فأمره في
ماله إلى الحاكم، ومن حجر عليه بغير حكم الحاكم فأمره في ماله إلى الأب
أو الجد للأب.
إذا عرفت هذا، فإذا حجر من طرأ عليه السفه ثم عاد رشيدا، فإن
قلنا: الحجر عليه لا يثبت إلا بحكم الحاكم، فلا يرفع إلا برفعه.
وإن قلنا: يثبت بنفسه، ففي زواله خلاف بين الشافعية كما فيما إذا
بلغ رشيدا (2).
ومن الذي يلي أمر من حجر عليه للسفه الطارئ؟ إن قلنا: إنه لابد
من ضرب الحاكم، فهو الذي يليه.
وإن قلنا: إنه يصير محجورا عليه بنفس السفه، فوجهان عند الشافعية
مشبهان بالوجهين فيما إذا طرأ عليه الجنون بعد البلوغ:
أحدهما: أنه يلي أمره الأب أو الجد، كما في حالة الصغر، وكما إذا
بلغ مجنونا.
والثاني: يليه الحاكم؛ لأن ولاية الأب قد زالت فلا تعود (3).
والثاني أصح عندنا وعندهم، بخلاف المجنون؛ فإن حجره بالجنون
لا بحكم الحاكم، فكان أمره إلى الأب.

(1) الحاوي الكبير 6: 342، حلية العلماء 4: 541.
(2) العزيز شرح الوجيز 5: 75، روضة الطالبين 3: 416.
(3) العزيز شرح الوجيز 5: 75، روضة الطالبين 3: 416 - 417.
222

فروع:
أ - ذهب بعض الشافعية إلى أن عود مجرد الفسق أو مجرد التبذير
لا أثر له في الحجر، وإنما المؤثر في عود الحجر أو إعادته عود الفسق
والتبذير جميعا (1).
وليس بجيد، وقد أطبق أكثر الشافعية على أن عود التبذير وحده
كاف في عود الحجر أو إعادته (2).
ب - لو كان يغبن في بعض التصرفات خاصة، فالأولى الحجر عليه
في ذلك النوع خاصة؛ لعدم مقتضي الحجر في غيره، ووجوده فيه،
ولا بعد في تجزي الحجر، كما في العبد حيث يحجر عليه في المال دون
الطلاق، وكما في المفلس.
وللشافعية وجهان:
هذا أحدهما.
والثاني: استبعاد اجتماع الحجر والإطلاق في الشخص الواحد (3).
وقد بينا وقوعه، فكيف يستبعد!؟
ج - الشحيح على نفسه جدا مع اليسار لا يحجر عليه؛ لأن الغرض
من الحجر حفظ المال، والتقدير أنه بالغ في الحفظ الغاية.
وللشافعية وجهان:
أحدهما: أنه يحجر عليه.
والأصح عندهم: المنع (4).

(1) الغزالي في الوجيز 1: 176، ولاحظ: الوسيط 4: 38، وحكاه عنه الرافعي في
العزيز شرح الوجيز 5: 76، والنووي في روضة الطالبين 3: 417.
(2 و 3) العزيز شرح الوجيز 5: 76، روضة الطالبين 3: 417.
(4) حلية العلماء 4: 540، العزيز شرح الوجيز 5: 76، روضة الطالبين 3: 417.
223

البحث الثاني: في الاختبار.
مسألة 420: يجب اختبار الصبي قبل فك الحجر عنه، فإن أونس منه
الرشد، دفع إليه المال، وإلا فلا؛ لقوله تعالى: (وابتلوا اليتامى) (1)
والابتلاء: الاختبار، كما قال تعالى: (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) (2) أي
يختبركم.
وكيفية الاختبار: أن اليتيم إن كان صبيا، فإن كان من أولاد التجار،
فوض إليه البيع والشراء، فإذا تكرر ذلك منه وسلم من الغبن والتضييع
وإتلاف شيء من المال وصرفه في غير وجهه، فهو رشيد.
وإن كان من أولاد الدهاقين والوزراء والأكابر الذين يصانون عن
الأسواق، فإن اختباره يكون بأن يسلم إليه نفقة مدة قريبة - كالشهر - لينفقها
في مصالحه، فإن كان قيما بذلك يصرفها في مواضعها ويستوفي الحساب
على وكيله ويستقصي عليه، فهو رشيد.
وإن كان أنثى لم تختبر بالبيع والشراء في الأسواق؛ لأن العادة أن
المرأة لا تباشر ذلك في السوق، وإنما تختبر بأن يفوض إليها ما يفوض إلى
ربة البيت من استئجار الغزالات، وتوكيلها في شراء القطن والكتان
والإبريسم والاعتناء بالاستغزال والاستنساج، فإذا كانت ضابطة في ذلك
حافظة للمال الذي في يدها مستوفية لما استأجرت له من الأجراء، فهي
رشيدة.
تذنيب: لا تكفي المرة الواحدة في الاختبار، بل لابد من التكرار

(1) النساء: 6.
(2) هود: 7، الملك: 2.
224

مرارا يحصل معها غلبة الظن بالرشد.
مسألة 421: وقت الاختبار قبل البلوغ - وهو قول بعض الشافعية
وأحمد في إحدى الروايتين (1) - لقوله تعالى: (وابتلوا اليتامى حتى إذا
بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) (2).
وظاهر الآية أن الابتلاء قبل البلوغ؛ لأنه تعالى سماهم يتامى، وإنما
يصدق عليهم هذا الاسم قبل البلوغ. ولأنه تعالى مد اختبارهم إلى البلوغ
بلفظ (حتى) فدل على أن الاختبار قبل البلوغ.
ولأن تأخير اختباره إلى بعد البلوغ يؤدي إلى الحجر على البالغ
الرشيد، لأن الحجر يمتد إلى أن يختبر ويعلم رشده بمنع ماله، واختباره
قبل البلوغ يمنع ذلك، فكان أولى.
وقال بعض الشافعية وأحمد في الرواية الأخرى: إن الاختبار إنما
يكون بعد البلوغ؛ لأنه قبل البلوغ محجور عليه؛ لبقاء الصغر، وإنما يزول
الحجر عنه بالبلوغ، وتصرف الصبي قد بينا أنه غير نافذ (3).
والأول أصح الوجهين عند الشافعية، وهو الذي اخترناه، فعليه كيف
يختبر؟
الأولى أن الولي يأمره بالمساومة في السلع ويمتحنه في الممارسة
والمماكسة والمساومة وتقرير الثمن، فإذا آل الأمر إلى العقد، عقده الولي
- فإذا رآه قد اشترى بثمن مثله ولم يغبن واستوفى مقاصد البيع، علم رشده

(1 و 3) الحاوي الكبير 6: 350، المهذب - للشيرازي - 1: 338، حلية العلماء 4:
535، العزيز شرح الوجيز 5: 73، روضة الطالبين 3: 415، منهاج الطالبين:
124، المغني 4: 568، الشرح الكبير 4: 562.
(2) النساء: 6.
225

- لأن تصرف الصبي لا ينفذ فكيف يمكن أن يتولى العقد!؟ وهو أصح
وجهي الشافعية.
والثاني: أنه يسلم الولي إليه شيئا من المال ليشتري به، ويصح بيعه
وشراؤه؛ لموضع الحاجة إلى ذلك (1).
وقال بعضهم: يشتري الولي سلعة ويتركها في يد البائع ويواطئه على
بيعها من الصبي، فإن اشتراها منه وفعل ما يكون صلاحا ورشدا، علم منه
الرشد (2).
والأول عندي أقوى؛ جمعا بين المصالح.
تذنيب: إن قلنا: إنه يدفع إليه المال للاختبار فتلف في يده،
لم يكن على الولي الضمان؛ لأصالة براءة الذمة.
البحث الثالث: في فائدة الحجر على السفيه.
مسألة 422: السفيه إذا حجر عليه الحاكم، منع من التصرف في ماله،
ولا يصح منه العقود المتعلقة بالمال، سواء صادف التصرف في العين
- كبيع السلعة التي له وشراء غيرها من السلع، والعتق والكتابة والهبة - أو
صادف ما في الذمة، كالشراء بعين مال في الذمة، أو صادف غير المال،
كالنكاح؛ لأن فائدة الحجر حفظ ماله، وإنما يحصل بمنعه من ذلك كله.
وللشافعية وجه ضعيف في الشراء بمال في ذمته، تخريجا من شراء

(1) الحاوي الكبير 6: 350 - 351، المهذب - للشيرازي - 1: 338، حلية العلماء
4: 535، العزيز شرح الوجيز 5: 73، روضة الطالبين 3: 415.
(2) لم نعثر عليه فيما بين أيدينا من المصادر المتوفرة سواء كانت قبل زمن العلامة أو
بعده. نعم، نقله في المجموع (التكملة الثانية) 13: 369.
226

العبد بغير إذن مولاه (1).
والمذهب المشهور لهم (2) كما ذهبنا إليه من المنع من ذلك أيضا؛ لأن
الحجر تبرع في حقه نظرا له، وذلك يقتضي الرد حالا ومآلا، والحجر على
العبد لحق المولى، فلا يمتنع الحكم بصحته بحيث لا يضر بالمولى.
مسألة 423: إذا باع السفيه بعد الحجر عليه وأقبض، استرد المتاع من
المشتري، ولو تلف في يده، ضمن؛ لعدوانه بالقبض من غير من له أهلية
الإقباض.
ولو اشترى وقبض أو استقرض فتلف المال في يده أو أتلفه،
فلا ضمان عليه، والذي أقبضه ذلك هو المضيع لماله، ولوليه استرداد
الثمن إن كان قد أقبضه.
ولا فرق بين أن يكون من عامله عالما بحاله أو جاهلا؛ إذ كان من
حقه أن يبحث عنه ولا يعامل أحدا إلا عن بصيرة.
وكما لا يجب الضمان في الحال على السفيه، لا يجب بعد رشده
ورفع الحجر عنه؛ لأنه حجر ضرب لمصلحته، فأشبه الصبي، إلا أن الصبي
لا يأثم، والسفيه يأثم؛ لأنه مكلف.
وقال بعض الشافعية: إذا أتلف بنفسه، ضمن بعد رفع الحجر عنه (3).
ولا بأس به.

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 77، روضة الطالبين 3: 418.
(2) التهذيب - للبغوي - 4: 139، العزيز شرح الوجيز 5: 77، روضة الطالبين 3:
417.
(3) العزيز شرح الوجيز 5: 77، روضة الطالبين 3: 418.
227

مسألة 424: يستحب للحاكم إذا حجر على السفيه أن يشهر حاله،
ويشيع حجره عند الناس ليمتنعوا من معاملته وتسلم أموالهم عليهم.
وإن احتاج في ذلك إلى النداء عليه، نادى بذلك ليعرفه الناس،
ولا يشترط الإشهاد عليه؛ لأنه قد يشتهر أمره ويعرفه الناس.
فإذا حجر عليه واشترى، كان الشراء باطلا، واسترجع الحاكم منه
العين، ودفعها إلى البائع.
وكذا ما يأخذه من أموال الناس بقرض أو شبهه مما يرضى به أرباب
الأموال، فإن الحاكم يسترده من السفيه، ويدفعه إلى أربابه إن كان باقيا،
وإن كان تالفا، فهو من ضمان صاحبه، كما تقدم.
هذا إن كان صاحبه قد سلطه عليه، وأما إن حصل في يده باختيار
صاحبه من غير تسليط عليه كالوديعة والعارية، فالأقرب عندي: أنه يلزمه
الضمان إن أتلفه أو تلف بتفريطه؛ لأن المالك لم يسلطه عليه، وقد أتلفه
بغير اختيار صاحبه، فكان ضامنا له، كما لو غصبه وأتلفه، وهو قول بعض
العامة (1).
وقال قوم منهم: لا يضمن؛ لأن التفريط من المالك حيث سلطه عليه
بإقباضه إياه وعرضه لإتلافه (2).
وإن كان المالك لم يدفع إليه ولم يسلطه، بل أتلفه بغير اختياره،
كالغصب والجناية، فعليه ضمانه؛ لأنه لا تفريط من المالك هنا. ولأن
الصبي والمجنون لو فعلا ذلك، لزمهما الضمان، فالسفيه أولى.

(1 و 2) المغني 4: 570.
228

ومذهب الشافعي (1) في ذلك كما قلناه.
مسألة 425: وحكم الصبي والمجنون كما قلنا في السفيه في وجوب
الضمان عليهما إذا أتلفا مال غيرهما بغير إذنه، أو غصباه فتلف في يدهما،
وانتفاء الضمان عنهما فيما حصل في أيديهما باختيار صاحبه كالمبيع
والقرض.
وأما الوديعة والعارية إذا دفعهما صاحبهما إليهما فتلفتا، فلا ضمان
عليهما، فإن أتلفاهما، فالأقرب: أنه كذلك.
ولبعض (2) العامة وجهان:
أحدهما: لا ضمان؛ لأنه عرضها للإتلاف وسلطه عليها، فأشبه
المبيع.
والثاني: عليه الضمان؛ لأنه أتلفها بغير اختيار صاحبها، فأشبه
الغصب.
مسألة 426: لو أذن الولي للسفيه في التصرف، فإن أطلق، كان لغوا.
وإن عين له نوعا من التصرف وقدر العوض، فالأقرب: الجواز، كما
لو أذن له في النكاح؛ لأن المقصود عدم التضرر وأن لا يضر بنفسه
ولا يتلف ماله، فإذا أذن له الولي، أمن المحذور، وانتفى المانع، وهو أحد
قولي الشافعية.
والثاني: المنع؛ لأنه محجور عليه لمصلحة نفسه، فلا يصح الإذن له
في شيء من التصرفات، كالصبي. ولأن الحجر عليه لتبذيره وسوء (3)

(1) التهذيب - للبغوي - 4: 139، المغني 4: 570.
(2) المغني 4: 570.
(3) في الطبعة الحجرية: " لسوء " بدل " وسوء ".
229

تصرفه، فإذا أذن له فقد أذن فيما لا مصلحة فيه، فلم يصح، كما لو أذن في
بيع ما يساوي عشرة بخمسة (1).
والفرق ظاهر بين الصبي والسفيه مع الإذن؛ لأنه مكلف عاقل،
والتبذير مانع إلا مع الإذن؛ لأنا نشترط فيه الاقتصار على ما يعينه له من
جنس المبيع والثمن.
وبعض الشافعية منع من الإذن في النكاح (2)، وهذا يقتضي سلب
عبارته بالكلية.
وعلى ما قلناه إنما سلبنا عنه الاستقلال بالنكاح.
وعلى هذين الوجهين لو وكله غيره في شيء من التصرفات، فعندنا
يصح؛ لأن عبارته معتبرة لم يسلب الشارع حكمها عنه، فصح عقده
للموكل حيث لم يصادف تصرفه مالا ولا ما يتضرر به.
وللشافعية وجهان (3).
وكذا عندنا يصح أن يقبل الهبة والوصية؛ لحصول النفع الذي هو ضد
المحذور.
وللشافعية وجهان (4).
مسألة 427: لو أقر السفيه بما يوجب قصاصا أو حدا أو تعزيرا
- كالزنا والسرقة والشرب والقذف والشتم والقتل العمد وقطع الجارحة -
قبل منه؛ لأنه مكلف عاقل، ويحكم عليه به في الحال، ولا نعلم فيه خلافا
بين أهل العلم؛ لأنه لا تعلق لهذا الإقرار بالمال حتى يتأثر بالحجر.

(1 و 2) العزيز شرح الوجيز 5: 77، روضة الطالبين 3: 418.
(3 و 4) العزيز شرح الوجيز 5: 78، روضة الطالبين 3: 418.
230

ويقبل في السرقة إقراره بها، ويقطع.
والأقوى أنه لا يقبل في المال - وهو أحد قولي الشافعي (1) - لأنه متهم
فيه، بخلاف القطع؛ لتعلقه بالبدن، وهو ليس محجورا عليه فيه.
والثاني: أنه يقبل، وبناه على اختلاف قوليه في العبد إذا أقر
بالسرقة (2).
هذا إن قلنا: لا يقبل إقراره بدين الإتلاف، فإن قبلناه، فأولى أن يقبل
هنا.
مسألة 428: إذا أقر السفيه بما يوجب القصاص فعفا المقر له على
مال، لم يثبت عندنا؛ لأن موجب العمد القصاص لا غير، والدية إنما تثبت
بالصلح.
أما من يقول: إن موجب العمد أحد الأمرين: إما الدية أو القصاص،
فيحتمل ثبوت الدية - وبه قال الشافعي (3) - لأن المال تعلق ثبوته باختيار
الغير، لا بإقرار السفيه. ولأنه عفو على مال عن قصاص ثابت فصح، كما لو
ثبت بالبينة.
والأقوى ما قلناه؛ ولأنه لو صح لاتخد ذلك وسيلة إلى الإقرار بالمال
بأن يتواطأ المحجور عليه والمقر له على الإقرار والعفو عنه إلى مال. ولأن
وجوب المال مستند إلى إقراره، فلم يثبت، كالإقرار به ابتداء.
فعلى هذا القول - الذي اخترناه - لا يسقط القصاص، ولا يجب المال
في الحال.
مسألة 429: لو أقر السفيه بنسب صحيح، صح، وثبت النسب؛ لانتفاء
المانع، وهو مصادفة الإقرار المال.
ولو وجب الإنفاق على المقر به، أنفق عليه من بيت المال.

(1 - 3) العزيز شرح الوجيز 5: 78، روضة الطالبين 3: 419.
231

وقال بعض العامة: تثبت أحكام النسب - كما يثبت النسب - من
وجوب النفقة وغيرها؛ لكون ذلك حصل ضمنا، فأشبه نفقة الزوجة (1).
والوجه: ما قلناه.
مسألة 430: إذا أقر السفيه بدين أو بما يوجب المال - كجناية الخطأ
وشبه العمد وإتلاف المال وغصبه - لم يقبل إقراره به؛ لأنه محجور عليه
لحظه، فلم يصح إقراره، كالصبي والمجنون. ولأنا لو قبلنا إقراره في ماله،
لزال معنى الحجر؛ لأنه يقر به فيأخذه المقر له. ولأنه أقر بما هو ممنوع من
التصرف فيه، فلم ينفذ، كإقرار الراهن بالرهن.
ولا فرق بين أن يسنده إلى ما قبل الحجر أو إلى ما بعده، وهو قول
أكثر الشافعية وأحمد في إحدى الروايتين (2).
وللشافعية قول آخر: إنه إذا أسند إقراره إلى ما قبل الحجر، قبل،
تخريجا من الخلاف في أن المفلس إذا أقر بدين سابق على الحجر هل
يزاحم المقر له الغرماء؟ (3).
وللشافعية فيما إذا أقر بإتلاف أو جناية توجب المال قولان:
أصحهما: الرد، كما لو أقر بدين معاملي.
والثاني: القبول؛ لأنه لو أثبتنا (4) الغصب والإتلاف، يضمن، فإذا أقر
به، يقبل (5).

(1) المغني والشرح الكبير 4: 575.
(2) العزيز شرح الوجيز 5: 78، روضة الطالبين 3: 418، المغني والشرح الكبير 4:
575.
(3) العزيز شرح الوجيز 5: 78، روضة الطالبين 3: 419.
(4) في النسخ الخطية والحجرية: " أنشأ " بدل " أثبتنا ". والمثبت هو الصحيح.
(5) العزيز شرح الوجيز 5: 78، روضة الطالبين 3: 419.
232

مسألة 431: إذا أقر السفيه بالمال وقد كان حجر عليه الحاكم، فقد
قلنا: إنه لا يقبل. وإن لم يكن قد حجر عليه، قبل؛ لعدم المانع، كما أنه
لا يمنع من البيع والشراء وغيرهما إلا بالحجر.
وإذا أقر بالمال بعد الحجر، لم ينفذ في الحال.
وهل يلزمه حكم إقراره بعد فك الحجر عنه؟ الوجه: أنه لا يلزمه،
بل يرد، كما رددناه حالة السفه؛ لأنه محجور عليه؛ لعدم رشده، فلم يلزمه
حكم إقراره بعد فك الحجر عنه، كالصبي والمجنون. ولأن المنع من نفوذ
إقراره في الحال إنما ثبت لحفظ ماله عليه، ودفع الضرر عنه، فلو نفذ بعد
فك الحجر، لم يفد إلا تأخر الضرر عليه إلى أكمل حالتيه، بخلاف
المحجور عليه للفلس، فإن المانع تعلق حق الغرماء بماله، فيزول المانع
بزوال الحق عن ماله، فيثبت مقتضى إقراره، وفي مسألتنا انتفى الحكم
لانتفاء سببه، فلم يثبت كونه سببا، وبزوال الحجر لم يكمل السبب،
ولا يثبت الحكم باختلال السبب، كما لم يثبت قبل فك الحجر. ولأن
الحجر لحق الغرماء لا يمنع تصرفهم، فأمكن تصحيح إقرارهم على وجه
لا يضر بذلك الغير بأن يلزمهم بعد زوال حق الغير، والحجر هنا ثبت لحفظ
نفسه من أجل ضعف عقله وسوء تصرفه، ولا يندفع الضرر إلا بإبطال
إقراره بالكلية، كالصبي والمجنون، وهو قول الشافعي (1).
وقال أبو ثور: إنه يلزمه ما أقر به بعد فك الحجر عنه؛ لأنه مكلف أقر
بمال، فيلزمه؛ لقوله (عليه السلام): " إقرار العقلاء على أنفسهم جائز " (2) منع من

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 78، روضة الطالبين 3: 419، المغني والشرح الكبير 4:
575.
(2) لم نجده في المصادر الحديثية.
233

إمضائه في الحال بسبب الحجر، فيمضى بعد فك الحجر عنه، كالعبد يقر
بدين، والراهن يقر على الرهن، والمفلس [على المال] (1) (2).
وقد سبق الفرق.
مسألة 432: هذا حكم تكليفنا في الظاهر، أما حكمه فيما بينه وبين
الله تعالى فإن علم بصحة ما أقر به - كدين لزمه، وجناية لزمته، ومال لزمه
قبل الحجر عليه - فيجب عليه أداؤه بعد فك الحجر عنه؛ لأنه حق ثابت
عليه، فلزمه أداؤه، كما لو لم يقر به. وإن علم فساد إقراره - مثل أن يقر بدين
ولا شيء عليه، أو أقر بجناية ولم توجد منه - لم يلزمه أداؤه؛ لأنه يعلم أنه
لا دين عليه، فلم يلزمه شيء، كما لو لم يقر به.
وكذا لا يجب عليه الأداء فيما أتلفه بدفع صاحب المال إليه وتسليطه
عليه بالبيع وشبهه.
تذنيب: لو ادعى عليه شخص بدين معاملة لزمه قبل الحجر، فأقام
عليه البينة، سمعت، وحكم عليه بمقتضى الشهادة. وإن لم تكن بينة، فإن
قلنا: إن النكول ورد اليمين كالبينة، سمعت دعواه. وإن قلنا: كالإقرار،
لم تسمع؛ لأن غايته أن يقر وإقراره غير مقبول.
مسألة 433: إذا طلق السفيه، نفذ طلاقه، سواء طلق قبل الحجر عليه
أو بعده في قول عامة أهل العلم (3)؛ لأنه لا يدخل تحت حجر الولي

(1) ما بين المعقوفين من المصدر.
(2) المغني والشرح الكبير 4: 575.
(3) المغني 4: 571، الشرح الكبير 4: 574، الحاوي الكبير 6: 363، التنبيه:
103، التهذيب - للبغوي 4: 140، العزيز شرح الوجيز 5: 78، روضة الطالبين
3: 419، الهداية - للمرغيناني - 3: 282، بداية المجتهد 2: 282.
234

وتصرفه، ولهذا لا يطلق الولي أصلا، بل المحجور عليه يطلق بنفسه إذا كان
مكلفا، كالعبد. ولأن الحجر إنما يثبت عليه لإبقاء ماله عليه، والبضع ليس
بمال ولا هو جار مجرى الأموال، ولهذا لا ينتقل إلى الورثة، ولا يمنع
المريض من إزالة الملك عنه. ولأنه ليس بتصرف في المال، فصح وقوعه
منه، كالإقرار بالحد والقصاص. ولأنه يصح من العبد بغير إذن سيده مع
منعه من التصرف في المال، وهذا يقتضي أن البضع لا يجري مجرى
المال. ولأنه مكلف طلق مختارا، فوجب أن ينفذ، كالعبد والمكاتب.
وقال ابن أبي ليلى: لا يقع طلاقه؛ لأن البضع يجري مجرى المال؛
بدليل أنه يملكه بمال، ويصح أن يزول ملكه عنه بمال، فلم يملك
التصرف فيه، كالمال (1).
وقد سلف بطلانه.
مسألة 434: يصح الخلع من السفيه؛ لأنه إذا صح منه الطلاق مجانا
من غير مقابلة بشيء، فصحة الخلع الذي هو طلاق بعوض أولى.
إذا ثبت هذا، فإن مال الخلع لا يدفع إليه، وإن دفع إليه، لم يصح
قبضه، وإن أتلفه، لم يضمنه، ولم تبرأ المرأة بدفعه إليه، وهو من ضمانها
إن أتلفه أو تلف في يده؛ لأنها سلطته على إتلافه.
وهل يشترط في خلعه أن يخالع بمهر المثل أو أزيد؟ إشكال ينشأ:
من أنه يصح الطلاق بغير شيء ألبتة، فمهما كان من العوض يكون أولى،
ومن أنه يجري مجرى المعاوضة، فلا يجوز بدون مهر المثل، كالبيع بدون

(1) الحاوي الكبير 6: 363، حلية العلماء 4: 541، بداية المجتهد 2: 283،
المغني 4: 571، الشرح الكبير 4: 574.
235

ثمن المثل.
وكذا يصح منه الظهار، ويكفر بالصوم، ويصح منه الرجعة؛ لأنها
ليست ابتداء نكاح، بل تمسك بالعقد السابق، ويصح منه نفي النسب
باللعان وما أشبه ذلك؛ لأن هذه لا تعلق لها بالمال.
ولو كان السفيه مطلاقا مع حاجته إلى النكاح فتسرى بجارية، فإن
تبرم (1) بها، أبدلت له.
مسألة 435: قد بينا أن عتق السفيه غير نافذ؛ لأنه إتلاف للمال
وتصرف فيه بغير عوض، فلا يصح. ولأنه إذا منع من البيع الذي هو إخراج
ملكه عن العين بعوض يساويها أو يزيد عليها، فمنعه عن العتق أولى، فإن
أعتق، لم يصح، ولا يلزمه حكمه بعد رفع الحجر عنه، وبه قال الشافعي
والحكم (2) وأحمد في إحدى الروايتين (3).
وفي الأخرى: أنه يصح عتقه معجلا؛ لأنه عتق من مكلف مالك تام
الملك، فصح، كعتق الراهن والمفلس (4).
والفرق ظاهر؛ لأن المفلس والراهن حجر عليهما لحق غيرهما، مع
أنا نمنع الحكم في الأصل. ولأنه تبرع فلم ينفذ، كهبته ووقفه. ولأنه
محجور عليه لحفظه (5)، فلم يصح عتقه، كالصبي والمجنون.

(1) تبرم: تضجر. لسان العرب 12: 43 " برم ".
(2) قوله: " والحكم " كذا ورد في النسخ الخطية والحجرية، وليس في المصادر - في
الهامش التالي - منه ذكر. وفي المغني والشرح: " القاسم بن محمد " بدل " الحكم ".
(3) الحاوي الكبير 6: 360، التهذيب - للبغوي - 4: 139، العزيز شرح الوجيز 5:
77، روضة الطالبين 3: 417، المغني 4: 572، الشرح الكبير 4: 573.
(4) المغني 4: 572، الشرح الكبير 4: 573.
(5) أي: لحفظ ماله عليه.
236

مسألة 436: الأقوى أنه لا يصح منه عقد النكاح مستقلا، بل يشترط
إذن الولي في النكاح - وبه قال الشافعي وأبو ثور (1) - لأنه تصرف يتضمن
المال، وهو الالتزام بالصداق، فكان ممنوعا منه؛ لتعلقه بالمال. ولأنه
يجري مجرى المعاوضة المالية، فمنع منه، كالبيع.
وقال أبو حنيفة وأحمد: يصح منه الاستقلال بالنكاح وإن منعه
الولي؛ لحاجته إليه. ولأنه عقد غير مالي، فصح منه، كخلعه وطلاقه، وإن
لزم منه المال فحصوله بطريق الضمن، ولا يمنع من العقد، كما لو لزم ذلك
من الطلاق (2).
ويمنع من كونه غير مالي؛ لأن التصرف في المال ممنوع منه، سواء
كان بطريق الأصالة أو الضمن، ولهذا أوجبنا نفقة الولد - الذي أقر به - في
بيت المال، وأثبتنا النسب.
مسألة 437: لا يصح تدبير السفيه ولا وصيته بالتبرعات؛ لأنه تصرف
في المال، فلم ينفذ منه، كغيرهما من التصرفات المالية.
وقال أحمد: يصحان؛ لأن ذلك محض مصلحة؛ لأنه تقرب إلى الله
تعالى (3).
ويمنع صلاحية التقرب للنفوذ؛ فإن صدقته ووقفه لا ينفذان وإن
تقرب بهما إلى الله تعالى.

(1) التنبيه: 103، التهذيب - للبغوي - 4: 140، العزيز شرح الوجيز 5: 77،
روضة الطالبين 3: 417 - 418، المغني والشرح الكبير 4: 572.
(2) المغني والشرح الكبير 4: 572.
(3) المغني 4: 572، الشرح الكبير 4: 573.
237

ويصح منه الاستيلاد، وتعتق الأمة المستولدة بموته؛ لأنه إذا صح
ذلك من المجنون فصحته من السفيه العاقل أولى.
وله المطالبة بالقصاص؛ لأنه موضوع للتشفي والانتقام. وله العفو
على مال؛ لأنه تحصيل للمال، وليس تضييعا له. وإذا ثبت المال، لم يكن
له التصرف فيه، بل يقبضه الولي.
وإن عفا على غير مال، صح عندنا؛ لأن الواجب في العمد القصاص،
والدية إنما تثبت بالصلح والتراضي، والقصاص ليس مالا، فلا يمنع من
التصرف فيه بالإسقاط؛ لأن ذلك ليس تضييعا للمال.
ومن قال: الواجب أحد الشيئين، لم يصح عفوه عن المال، ووجب
المال، كما لو سقط القصاص بعفو أحد الشريكين عندهم (1).
مسألة 438: حكم السفيه في العبادات حكم الرشيد، إلا أنه لا يفرق
الحقوق المالية بنفسه، كالزكاة والخمس؛ لأنه تصرف في المال، وهو
ممنوع منه على الاستقلال.
ولو أحرم بالحج أو بالعمرة، صح إحرامه بغير إذن الولي.
ثم إن كان قد أحرم بحجة الإسلام أو بعمرته، لم يكن للولي عليه
الاعتراض، سواء زادت نفقة السفر أو لا، وينفق عليه الولي.
وكذا لو أحرم بحج أو عمرة واجبتين بنذر أو شبهه كان قد أوجبه قبل
الحجر عليه.
وإن كان الحج أو العمرة مندوبين، فإن تساوت نفقته سفرا وحضرا،

(1) المغني والشرح الكبير 4: 573.
238

انعقد إحرامه، وصح نسكه، وكان على الولي الإنفاق عليه، أو يدفع النفقة
إلى ثقة؛ لأنه لا ضرر على المال في هذا الإحرام.
وإن كان نفقة السفر أكثر، فإن قال: أنا أكتسب الزيادة، فكالأول يدفع
إليه نفقته الأصلية في الحضر، ويتكسب هو في الطريق الزيادة؛ لانتفاء
الضرر عن ماله.
وإن لم يكن له كسب أو كان ولا يفي بتلك الزيادة، فللولي منعه،
وتحلله بالصوم، كالمحصور إذا جعلنا لدم الإحصار بدلا؛ لأنه محجور عليه
في المال، وهو أصح وجهي الشافعية.
والثاني: أن عجزه عن النفقة لا يلحقه بالمحصر، بل هو كالمفلس
الفاقد للزاد والراحلة لا يتحلل إلا بلقاء البيت (1).
وهو مشتمل على الضرر، فالأول أولى.
ولو نذر الحج بعد الحجر عليه، فالأقوى انعقاده، لكن لا يمكن منه
إن زادت نفقته في السفر ولم يكن له كسب يفي بها، بل إذا رفع الحجر عنه
حج.
وقال بعض الشافعية: الحجة المنذورة بعد الحجر كالمنذورة قبله إن
سلكنا بالمنذور مسلك واجب الشرع، وإلا فهي كحجة التطوع (2).
ولو نذر التصدق بعين ماله، لم ينعقد، ولو نذر في الذمة، انعقد.
ولو حلف، انعقدت يمينه، فإن حنث، كفر بالصوم، كالعبد.

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 79، روضة الطالبين 3: 420.
(2) العزيز شرح الوجيز 5: 79.
239

ولو فك الحجر عنه قبل تكفيره بالصوم في اليمين، وحلف النذر،
والظهار والإفطار وغير ذلك، لزمه العتق إن قدر عليه؛ لأنه الآن متمكن.
ولو فك بعد صومه للكفارة، لم يلزمه شيء.
* * *
240

الفصل الرابع: في المتولي لمال الطفل والمجنون والسفيه
مسألة 439: قد بينا أنه ليس للصغير التصرف في شيء ما من الأشياء
قبل بلوغه خمس عشرة سنة في الذكر وتسع سنين في الأنثى، سواء كان
مميزا أو لا، مدركا لما يضره وينفعه أو لا، حافظا لماله أو لا.
وقد روي أنه " إذا بلغ الطفل عشر سنين بصيرا جازت وصيته
بالمعروف وصدقته وأقيمت عليه الحدود التامة " (1) وفي رواية أخرى: " إذا
بلغ خمسة أشبار " (2).
والمعتمد ما تقدم.
ولو أذن له الولي، لم يصح، إلا في صورة الاختبار إن قلنا بأنه قبل
البلوغ على ما تقدم (3).
ولو قلنا بالرواية، نفذ تصرفه في الوصية بالمعروف والصدقة، وقبل
إقراره بهما؛ لأن من ملك شيئا ملك الإقرار به.
وهل يصح بيع المميز وشراؤه بإذن الولي؟ الوجه عندي: أنه لا يصح
ولا ينفذ - وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وبه قال الشافعي (4) - لقوله
تعالى: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) (5) وإنما يعرف زوال السفه بالبلوغ

(1) الكافي 7: 28 (باب وصية الغلام والجارية...) ح 1، الفقيه 4: 145 / 502،
التهذيب 8: 248 / 898.
(2) التهذيب 10: 233 / 922، الاستبصار 4: 287 / 1085.
(3) في ص 225، المسألة 421.
(4) المغني 4 321، الشرح الكبير 4: 578، الوجيز 1: 133، العزيز شرح الوجيز
4: 15، روضة الطالبين 3: 9، المجموع 9: 155 - 156 و 158.
(5) النساء: 5.
241

والرشد. ولأنه غير مكلف فأشبه غير المميز. ولأن العقل لا يمكن الوقوف
عليه على الحد الذي يصلح به التصرف والذي لا يصلح؛ لخفائه وتزايده
إلى وقت البلوغ على التدريج، والمراتب خفية في الغاية، فجعل الشارع له
ضابطا، وهو البلوغ، فلا تثبت له أحكام العقلاء قبل وجود المظنة.
وقال أبو حنيفة وأحمد في الرواية الأخرى: يجوز بيع المميز وشراؤه
وتصرفه بإذن الولي؛ لقوله تعالى: (وابتلوا اليتامى) (1) أي اختبروهم ليعلم
رشدهم، وإنما يتحقق اختبارهم بتفويض التصرف إليهم من البيع والشراء
وغيرهما ليعلم هل بلغ حد الرشد أم لا؟ ولأنه عاقل مميز محجور عليه،
فصح تصرفه بإذن الولي، بخلاف غير المميز، فإنه لا يصلح تحصيل
المصلحة بتصرفه؛ لعدم تميزه وعدم معرفته، ولا حاجة إلى اختباره؛ لأنه
قد علم حاله (2).
وقد بينا الخلاف في أن الاختبار هل هو قبل البلوغ أو بعده؟ فإن
قلنا: إنه بعد البلوغ، فلا بحث. وإن قلنا: إنه قبله، قلنا: المراد المساومة
والمماكسة، فإذا وقف الحال على شيء، باع الولي وباشر العقد بيعا وشراء
دون الصبي، وبهذا يحصل الاختبار، والعقل غير معلوم السمة له، وإنما
يعلم بما ضبطه الشارع علامة عليه، وهو البلوغ، كالمشقة المنوطة
بالمسافة.
تذنيب: قال أبو حنيفة: لو تصرف الصبي المميز بالبيع والشراء
وشبههما، صح تصرفه، ويكون موقوفا على إجازة الولي، وأما غير المميز
فلا يصح تصرفه، سواء أذن الولي أو لا؛ لسلب أهليته عن مباشرة

(1) النساء: 6.
(2) بدائع الصنائع 5: 135، المغني 4: 321، الشرح الكبير 4: 578، حلية العلماء
4: 12، العزيز شرح الوجيز 4: 15، المجموع 9: 158.
242

التصرفات (1).
ولا فرق بين الشيء اليسير والكثير في المنع من تصرف غير المميز.
وقال أحمد: يصح تصرف غير المميز في الشيء اليسير؛ لأن
أبا الدرداء اشترى عصفورا من صبي وأرسله (2).
وفعله ليس حجة، وجاز أن يكون قد عرف أنه ليس ملكا للصبي
فاستنقذه منه.
مسألة 440: يثبت الرشد عند الحاكم بشهادة رجلين عدلين في
الرجال، وفي النساء أيضا؛ لأن شهادة الاثنين مناط الأحكام.
ويثبت في النساء بشهادة أربع أيضا؛ لأنه مما تطلع عليه النساء
ولا يطلع عليه الرجال غالبا، فلو اقتصرنا في ثبوت رشدهن على شهادة
الرجال، لزم الحرج والضيق، وهو منفي بالإجماع.
وكذا يثبت بشهادة رجل وامرأتين وبشهادة أربع خناثى؛ لجواز أن
يكون نساء.
ولا يثبت بتصديق الغريم، سواء كان ممن يؤخذ منه الحق أو يدفع
إليه؛ لما فيه من التهمة.
مسألة 441: الولاية في مال المجنون والطفل للأب والجد له وإن علا،
ولا ولاية للأم إجماعا، إلا من بعض الشافعية (3)، بل إذا فقد الأب والجد
وإن علا، كانت الولاية لوصي أحدهما إن وجد، فإن لم يوجد، كانت
الولاية للحاكم يتولاها بنفسه أو يوليها أمينا.

(1) بدائع الصنائع 5: 135، العزيز شرح الوجيز 4: 15، المجموع 9: 158.
(2) المغني 4: 321، الشرح الكبير 4: 8، المجموع 9: 158.
(3) المهذب - للشيرازي - 1: 335، حلية العلماء 4: 525، الوجيز 1: 177،
العزيز شرح الوجيز 5: 80، روضة الطالبين 3: 422.
243

ولا ولاية لجد الأم، كما لا ولاية للأم، ولا لغير الأب والجد له من
الأعمام والأخوال و (1) غيرهما من الأنساب، قربوا أم بعدوا.
وقد روي أن للأم ولاية الإحرام بالصبي (2).
والمعتمد ما قلناه.
وقال أبو سعيد الإصطخري من الشافعية: إن للأم ولاية المال بعد
الأب والجد، وتقدم على وصيهما؛ لزيادة شفقتها (3).
وهو خارق للإجماع.
مسألة 442: الولاية في مال السفيه للحاكم، سواء تجدد السفه عليه
بعد بلوغه أو بلغ سفيها؛ لأن الحجر يفتقر إلى حكم الحاكم، وزواله أيضا
يفتقر إليه، فكان النظر في ماله إليه، ولا ولاية للأب ولا للجد ولا لوصيهما
على السفيه.
وقال أحمد: إن بلغ الصبي سفيها، كانت الولاية للأب أو الجد له أو
الوصي لهما مع عدمهما، وإلا فالحاكم (4).
ولا بأس به.
إذا عرفت هذا، فإن كان الأب للصبي والجد موجودين، اشتركا في
الولاية، وكان حكم الجد أولى لو عارضه حكم الأب.

(1) في الطبعة الحجرية: " أو " بدل " و ".
(2) راجع التهذيب 5: 6 - 7 / 16، والاستبصار 2: 146 - 147 / 478، وصحيح
مسلم 2: 974 / 1336، وسنن أبي داود 2: 142 - 143 / 1736، وسنن النسائي
5: 120، وسنن البيهقي 5: 155.
(3) راجع المصادر في الهامش (3) من ص 243.
(4) المغني 4: 570 - 571، الشرح الكبير 4: 562 - 563.
244

الفصل الخامس: في كيفية التصرف
مسألة 443: الضابط في تصرف المتولي لأموال اليتامى والمجانين
اعتبار الغبطة، وكون التصرف على وجه النظر والمصلحة، فللولي أن يتجر
بمال اليتيم، ويضارب به ويدفعه إلى من يضارب له به، ويجعل له نصيبا
من الربح، ويستحب له ذلك، سواء كان الولي أبا أو جدا له أو وصيا أو
حاكما أو أمين حاكم، وبه قال علي (عليه السلام) وعمر وعائشة والضحاك (1).
ولا نعلم فيه خلافا إلا ما روي عن الحسن البصري كراهة ذلك؛ لأن
خزنه أحفظ وأبعد له من التلف (2).
والأصح ما ذكرناه؛ لما رواه العامة عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن
النبي (صلى الله عليه وآله) قال: " من ولي يتيما له مال فليتجر له، ولا يتركه حتى تأكله
الصدقة " (3).
ومن طريق الخاصة: ما رواه أسباط بن سالم أنه قال للصادق (عليه السلام):
كان لي أخ هلك فأوصى إلى أخ أكبر مني وأدخلني معه في الوصية وترك
ابنا صغيرا وله مال أفيضرب به للابن فما كان من فضل سلمه لليتيم وضمن
له ماله؟ فقال: " إن كان لأخيك مال يحيط بمال اليتيم إن تلف فلا بأس به،
وإن لم يكن له مال فلا يعرض لمال اليتيم " (4).

(1 و 2) المغني 4: 317، الشرح الكبير 4: 564.
(3) سنن الدارقطني 2: 109 - 110 / 1، المغني 4: 317، الشرح الكبير 4: 564 -
565.
(4) التهذيب 6: 342 / 957.
245

ولأن ذلك أنفع لليتيم وأكثر حظا له، لأنه ينفق من ربحه، ويستدرك
من فائدته ما [يقله] (1) الإنفاق، كما يفعله البالغون في أموالهم وأموال من
يعز عليهم من أولادهم.
مسألة 444: وإذا اتجر لهم ينبغي أن يتجر في المواضع الآمنة،
ولا يدفعه إلا لأمين، ولا يغرر بماله.
وقد روي أن عائشة أبضعت مال محمد بن أبي بكر في البحر (2).
ويحتمل أن يكون في موضع مأمون قريب من الساحل، أو أنها
ضمنته إن هلك غرمته هي، أو أنها أخطأت في ذلك فليس فعلها حجة.
إذا عرفت هذا، فإن للوصي أن يتجر بنفسه، ويجعل الربح بينه وبين
اليتيم على جاري العادة؛ لأنه جاز أن يدفعه كذلك إلى غيره فجاز أن يأخذ
ذلك لنفسه.
وقال بعض العامة: لا يجوز أن يعمل به بنفسه؛ لأن الربح نماء مال
اليتيم، فلا يستحقه غيره إلا بعقد، فلا يجوز أن يعقد الولي المضاربة مع
نفسه (3).
وهو ممنوع؛ لجواز أن يتولى طرفي العقد.
وإذا دفعه إلى غيره، كان للعامل ما جعله له الولي ووافقه عليه؛ لأن
الوصي نائب عن اليتيم فيما فيه مصلحته، وهذا فيه مصلحته، فصار تصرفه
فيه كتصرف المالك في ماله.
مسألة 445: ويشترط في التاجر بمال اليتيم أن يكون وليا وأن يكون

(1) بدل ما بين المعقوفين في " ج، ر " والطبعة الحجرية: " يعلمه " وفي " ث ": " يعد ".
والصحيح ما أثبتناه.
(2 و 3) المغني 4: 317، الشرح الكبير 4: 565.
246

مليا، فإن انتفى أحد الوصفين، لم يجز له التجارة في ماله، فإن اتجر، كان
الضمان عليه، والربح لليتيم؛ لما رواه ربعي بن عبد الله عن الصادق (عليه السلام) في
رجل عنده مال اليتيم، فقال: " إن كان محتاجا ليس له مال، فلا يمس ماله،
وإن هو اتجر به فالربح لليتيم وهو ضامن " (1).
وفي الحسن عن محمد بن مسلم عن الصادق (عليه السلام) في مال اليتيم
قال: " العامل به ضامن، ولليتيم الربح إذا لم يكن للعامل به مال " وقال: " إن
أعطب أداه " (2).
مسألة 446: ويجوز لولي اليتيم إبضاع ماله، وهو دفعه إلى من يتجر
به، والربح كله لليتيم؛ لأن ذلك أنفع من المضاربة، لأنه إذا جاز دفعه بجزء
من ربحه فدفعه إلى من يدفع جميع ربحه إلى اليتيم أولى.
ويستحب أن يشتري له العقار؛ لأنه مصلحة له، لأنه يحصل منه
الفضل، ولا يفتقر إلى كثير مؤونة، وسلامته متيقنة، والأصل باق مع
الاستنماء، والغرر فيه أقل من التجارة، بل هو أولى منها؛ لما في التجارة
من الأخطار وانحطاط الأسعار، فإن لم يكن في شرائه مصلحة إما لفضل
الخراج وجور السلطان أو إشراف الموضع على البوار، لم يجز.
ويجوز أن يبني عقاره ويستجده إذا استهدم من الدور والمساكن؛
لأنه في معنى الشراء، إلا أن يكون الشراء أنفع، فيصرف المال إليه، ويقدمه
على البناء، فإن فضل شيء، صرفه في البناء.
وإذا أراد البناء، بنى بما فيه الحظ لليتيم، ويبنيه بالآجر والطين، وإن
اقتضت المصلحة البناء باللبن، فعل، وإلا فلا؛ لأنه إذا هدم لا مرجوع له.

(1) الكافي 5: 131 / 3، التهذيب 6: 341 - 342 / 955.
(2) الكافي 5: 131 / 2، التهذيب 6: 342 / 956.
247

وبالجملة، يفعل الأصلح.
وقال الشافعي: يبني بالآجر والطين لا غير؛ لأنه إذا بنى باللبن
خاصة، لم يكن له مرجوع، وإذا بناه بالآجر والجص، لم يتخلص منه إلا
بكسره (1).
وما قلناه أولى؛ لأنه إذا كان الحظ في البناء بغير الآجر، فتركه تضييع
حظه وماله، ولا يجوز تضييع الحظ العاجل وتحمل الضرر المتيقن لتوهم
مصلحة بقاء الآجر عند هدم البناء، وربما لا يقع ذلك في حياته ولا يحتاج
إليه، مع أن كثيرا من البلاد لا يوجد فيها الآجر، وكثيرا من البلدان لم تجر
عادتهم بالبناء بالآجر، فلو كلفوا البناء به لاحتاجوا إلى غرامة كثيرة
لا يحصل منها طائل، فالأولى البناء في كل بلد على عادته.
مسألة 447: لا يجوز بيع عقار الصبي لغير حاجة؛ لأنا نأمر الولي
بالشراء له لما فيه من الحظ والمصلحة، فيكون بيعه تفويتا للحظ، فإن
احتيج إلى بيعه، جاز، وبه قال الثوري والشافعي وأصحاب الرأي وإسحاق
وأحمد (2).
وقال بعض العامة: لا يجوز إلا في موضعين:
أ: أن يكون به ضرورة إلى كسوة أو نفقة أو قضاء دين أو ما لابد له
منه، ولا تندفع حاجته إلا بالبيع، أو قصرت غلته عن الوفاء بنفقته وما
يحتاج إليه.
ب: أن يكون في بيعه غبطة بأن يدفع فيه زيادة كثيرة على ثمن مثله

(1) المهذب - للشيرازي - 1: 335، العزيز شرح الوجيز 5: 80، روضة الطالبين 3:
422، المغني 4: 317، الشرح الكبير 4: 567.
(2) المهذب - للشيرازي - 1: 335، العزيز شرح الوجيز 5: 80، روضة الطالبين 3:
422، المغني 4: 318، الشرح الكبير 4: 569.
248

ويرغب إليه شريك أو جار بأكثر من ثمن مثله وهو يجد مثله ببعض ذلك
الثمن، أو يخاف عليه الخراب والهلاك بغرق أو حرق أو نحوه، أو يكون
ثقيل الخراج ومنزل الولاة ونحوه، وبه قال الشافعي (1).
وقال أحمد: كل موضع يكون البيع أنفع ويكون نظرا لهم، جاز،
ولا يختص بما تقدم، وكذا لو كانت الدار سيئة الجيران ويتضرر الصبي
بالمقام فيها، جاز بيعها وشراء عوضها، والجزئيات غير محصورة، فالضابط
اعتبار الغبطة، وقد يكون الغبطة له في ترك البيع وإن أعطاه الباذل ضعفي
ثمنه إذا لم يكن به حاجة إلى الثمن أو لا يمكن صرف ثمنه في مثله
ويخاف ضياعه، فقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: " من باع دارا أو عقارا
ولم يصرف ثمنه في مثله لم يبارك له فيه " (2) (3).
مسألة 448: يجوز للولي عن الطفل أو (4) المجنون بيع عقاره وغيره
في موضع الجواز بالنقد والنسيئة وبالعرض بحسب ما تقتضيه المصلحة.
وإذا باع نسيئة زاد على ثمنه نقدا، وأشهد عليه، وارتهن به رهنا
وافيا، فإن لم يفعل، ضمن، وهو قول أكثر الشافعية (5).
ونقل الجويني وجهين في صحة البيع إذا لم يرتهن وكان المشتري
مليا، وقال: الأصح: الصحة، ولا يكون ضامنا؛ اعتمادا على ذمة الملي (6).
وليس بمعتمد؛ لأنه في معرض الإتلاف، بخلاف الإقراض؛ لأنه

(1) المغني 4: 318، الشرح الكبير 4: 569، المهذب - للشيرازي - 1: 336،
العزيز شرح الوجيز 5: 80 - 81، روضة الطالبين 3: 422 - 423.
(2) سنن ابن ماجة 2: 832 / 2490، سنن البيهقي 6: 34، مسند أحمد 5:
397 / 18264 بتفاوت يسير.
(3) المغني 4: 318، الشرح الكبير 4: 569.
(4) في النسخ الخطية والحجرية: " و " بدل " أو ". والظاهر ما أثبتناه.
(5 و 6) العزيز شرح الوجيز 5: 81، روضة الطالبين 3: 423.
249

يجوز عند خوف الإتلاف.
ولا يحتاج الأب إذا باع مال ولده من نفسه نسيئة أن يرتهن له من
نفسه، بل يؤتمن في حق ولده.
وكذا البحث لو اشترى له سلما مع الغبطة بذلك.
مسألة 449: إذا باع الأب أو الجد عقار الصبي أو المجنون وذكر أنه
للحاجة، ورفع الأمر إلى الحاكم، جاز له أن يسجل على البيع،
ولم يكلفهما إثبات الحاجة أو الغبطة؛ لأنهما غير متهمين في حق ولدهما.
ولو باع الوصي أو أمين الحاكم، لم يسجل الحاكم، إلا إذا قامت البينة
على الحاجة أو الغبطة، فإذا بلغ الصبي وادعى على الأب أو الجد بيع ماله
من غير مصلحة، كان القول قول الأب أو الجد مع اليمين، وعليه البينة؛
لأنه يدعي عليهما خلاف الظاهر؛ إذ الظاهر من حالهما الشفقة وعدم البيع
إلا للحاجة.
ولو ادعاه على الوصي أو الأمين، فالقول قوله في العقار، وعليهما
البينة؛ لأنهما مدعيان، فكان عليهما البينة.
وفي غير العقار الأولى ذلك أيضا؛ لهذا الدليل، وهو أحد وجهي
الشافعية.
وفي الآخر: أنه يقبل قولهما مع اليمين، والفرق عسر الإشهاد في كل
قليل وكثير يبيعه (1).
ومن الشافعية من أطلق وجهين من غير فرق بين الأولياء، سواء كانوا
آباء أو أجدادا أو غرباء، ولا بين العقار وغيره (2).
ودعوى الصبي والمجنون على المشتري من الولي كدعواهما على

(1 و 2) العزيز شرح الوجيز 5: 81، روضة الطالبين 3: 423.
250

الولي.
مسألة 450: وهل للوصي والأمين بيع مال الطفل والمجنون من نفسه
وبيع مال نفسه منه؟ منع منه جماعة من علمائنا (1) والشافعي (2) أيضا؛
لقوله (صلى الله عليه وآله): " لا يشتري الوصي من مال اليتيم " (3).
والأقرب عندي: الجواز، والتهمة منتفية مع الوثوق بالعدالة. ولأن
التقدير أنه بالغ في النصيحة، ولا استبعاد في كونه موجبا قابلا، كما في
الأب والجد.
إذا عرفت هذا، فهل للأب والجد للأب ذلك؟ الأولى ذلك - وبه قال
الشافعي (4) - لأن شفقتهما عليه توجب المناصحة له.
وكذا يبيع الأب أو الجد عن أحد الصغيرين ويشتري للآخر.
وهل يشترط العقد، فيقول: " بعت كذا عن فلان، اشتريت كذا من
فلان "؟ الأقرب: ذلك، كما لو باع من غيره، وهو أحد وجهي الشافعية.
والثاني: أنه يكتفي بأحدهما، ويقام مقامهما، كما أقيم الشخص
الواحد مقام اثنين، سواء كان بائعا عن أحد الصغيرين ومشتريا عن الآخر،
أو كان مشتريا لنفسه وبائعا عن الصغير، أو بالعكس (5).
وإذا اشترى الولي للطفل فليشتر من ثقة أمين يؤمن من جحوده في
الثاني وحيلته في إفساد البيع بأن يكون قد أقر لغيره قبل البيع وما أشبه

(1) منهم: الشيخ الطوسي في الخلاف 3: 346، المسألة 9، والمبسوط 2: 381.
(2) العزيز شرح الوجيز 5: 81، روضة الطالبين 3: 424.
(3) أورده الرافعي في العزيز شرح الوجيز 5: 81.
(4) العزيز شرح الوجيز 5: 81، روضة الطالبين 3: 424، المغني 5: 242، الشرح
الكبير 4: 563.
(5) العزيز شرح الوجيز 5: 81، روضة الطالبين 3: 424.
251

ذلك، وحذرا من خروج الملك مستحقا.
ولا يجوز لولي الطفل أن يبيع إلا بثمن المثل. وقد تفرض المصلحة
في البيع بدون ثمن المثل في بعض جزئيات الصور، فليجز حينئذ.
مسألة 451: وأما قرض مال الطفل والمجنون فإنه غير جائز إلا مع
الضرورة؛ لما فيه من التغرير والتعريض للإتلاف، بل إن أمكن الولي
التجارة به أو شراء عقار له فيه الحظ، لم يقرضه؛ لما فيه من تفويت الحظ
على اليتيم.
وإن لم يمكن ذلك - بأن خاف من إبقائه في يده [من تلف] (1) أو
نهب أو سرقة أو حرق أو غير ذلك من الأسباب المتلفة أو المنقصة
للمالية، وكذا إذا أراد الولي السفر وخاف من استصحابه معه أو إبقائه في
البلد - جاز له إقراضه من ثقة مليء. وإن تمكن من الارتهان عليه، وجب،
فإن لم يتفق الرهن ووجد كفيلا، طالب بالكفيل.
ولو تمكن من الارتهان عليه فطلب الكفيل وترك الارتهان، فقد
فرط.
ولو استقرض الولي مع الولاية والملاءة، جاز؛ نظرا لمصلحة الطفل،
فقد روى العامة أن عمر استقرض مال اليتيم (2).
ومن طريق الخاصة: ما رواه أبو الربيع عن الصادق (عليه السلام) أنه سئل عن
رجل ولي [مال] يتيم فاستقرض منه شيئا، فقال: " إن علي بن الحسين (عليهما السلام)
قد كان يستقرض من مال أيتام كانوا في حجره، فلا بأس بذلك " (3).

(1) زيادة يقتضيها السياق.
(2) المغني 4: 319.
(3) التهذيب 6: 341 / 953، وما بين المعقوفين من المصدر.
252

ولأنه ولي له التصرف في ماله بما يتعلق به مصلحة اليتيم، فجاز له
إقراضه للمصلحة.
وإذا كان للصبي مال في بلد فأراد الولي نقله عن ذلك البلد إلى آخر،
كان له إقراضه من ثقة مليء، ويقصد بذلك حفظه من السارق وقاطع
الطريق، أو الغرق، أو غير ذلك.
وكذا لو خاف على مال اليتيم التلف، كما إذا كان له غلة من حنطة
وشبهها وخاف عليها تطرق الفساد إليها، أقرضها من الثقة الملئ خوفا من
تسويسها وتغيرها؛ لأنه يشتمل على نفع اليتيم، فجاز، كالتجارة.
ولو لم يكن لليتيم فيه حظ، وإنما قصد إرفاق المقترض وقضاء
حاجته، لم يجز إقراضه، كما لم يجز هبته.
ولو أراد الولي السفر، لم يسافر به، وأقرضه من مليء مأمون، وهو
أولى من الإيداع؛ لأن الوديعة لا تضمن.
ولو لم يوجد المقترض بهذه الصفة، أودعه من ثقة أمين، فهو أولى
من السفر به؛ لأنه موضع الحاجة والضرورة.
ولو أودعه من الثقة مع وجود المقترض الملئ المأمون، لم يكن
مفرطا، ولا ضمان عليه، فإنه قد يكون الإيداع أنفع له من القرض، وهو
أضعف وجهي الشافعية.
وأصحهما عندهم: أنه لا يجوز إيداعه مع إمكان الإقراض، فإن فعل
ضمن (1).
وكل موضع جاز له أن يقرضه فيه فإنه يشترط أن يكون المقترض

(1) المهذب - للشيرازي - 1: 336، العزيز شرح الوجيز 5: 83، روضة الطالبين 3:
426.
253

مليا أمينا، ليأمن جحوده وتعذر الإيفاء.
فإن تمكن من الارتهان، ارتهن، وإن تعذر، جاز من غير رهن؛ لأن
الظاهر ممن يستقرض من أجل حظ اليتيم أنه لا يبذل رهنا، فاشتراط
الرهن تفويت لهذا الحظ.
ويشترط فيمن يودع عنده الأمانة وفي المقترض الأمانة واليسار معا،
فإن أودع أو أقرض من غير الثقة، ضمن.
مسألة 452: لو أخذ إنسان من ولي اليتيم مالا وتصرف في بعضه بغير
إذنه ثم أيسر بعد ذلك، كان عليه رد المال إلى الولي أو إلى الطفل إن كان
قد بلغ رشيدا.
ويجوز إذا دفعه إلى الطفل أن لا يشعر بالحال وأن يدفعه إليه موهما
له أنه على وجه الصلة؛ لأن الغرض والمقصود بالذات إيصال الحق إلى
مستحقه؛ لما رواه عبد الرحمن بن الحجاج - في الصحيح - عن
الكاظم (عليه السلام) في الرجل يكون عند بعض أهل بيته المال لأيتام فيدفعه إليه
فيأخذ منه دراهم يحتاج إليها ولا يعلم الذي كان عنده المال للأيتام أنه أخذ
من أموالهم شيئا ثم تيسر بعد ذلك، أي ذلك خير له؟ أيعطيه الذي كان في
يده، أم يدفعه إلى اليتيم وقد بلغ؟ وهل يجزئه أن يدفعه إلى صاحبه على
وجه الصلة ولا يعلمه أنه أخذ له مالا؟ فقال: " يجزئه أي ذلك فعل إذا
أوصله إلى صاحبه، فإن هذا من السرائر إذا كان من نيته إن شاء رده إلى
اليتيم إن كان قد بلغ على أي وجه شاء وإن لم يعلمه أنه كان قبض له شيئا،
وإن شاء رده إلى الذي كان في يده " وقال: " إذا كان صاحب المال غائبا
254

فليدفعه إلى الذي كان المال في يده " (1).
مسألة 453: ومن كان عنده مال لأيتام فهلك الأيتام قبل دفع المال
إليهم فيصالحه وارثهم على البعض، حل له ذلك، وبرئت ذمته من جميع
المال مع إعلام الوارث؛ لما رواه عبد الرحمن بن الحجاج وداود بن فرقد
جميعا عن الصادق (عليه السلام)، قالا: سألناه عن الرجل يكون عنده المال لأيتام
فلا يعطيهم حتى يهلكوا فيأتيه وارثهم ووكيلهم فيصالحه على أن يأخذ
بعضا ويدع بعضا ويبرئه مما كان له أيبرأ منه؟ قال: " نعم " (2).
مسألة 454: يجب على الولي الإنفاق على من يليه بالمعروف،
ولا يجوز له التقتير عليه في الغاية ولا الإسراف في النفقة، بل يكون في
ذلك مقتصدا.
ويجرى الطفل على عادته وقواعد أمثاله من نظرائه، فإن كان من أهل
الاحتشام، أطعمه وكساه ما يليق بأمثاله من المطعوم والملبوس، وكذا إن
كان من أهل الفاقة والضرورة، أنفق عليه نفقة أمثاله.
فإذا ادعى الولي الإنفاق بالمعروف على الصبي أو على عقاره أو ماله
أو دوابه إن كان ذا دواب، فإن كان أبا أو جدا، كان القول قولهما فيه، إلا أن
يقيم الصبي البينة بخلافه.
فإن ادعى الصبي بعد بلوغه خلاف ذلك، كان القول قول الأب أو
الجد للأب مع يمينه، إلا أن يكون مع الابن بينة.
وإن كان وصيا أو أمينا، قبل قوله فيه مع اليمين، ولا يكلفان البينة

(1) الكافي 5: 132 / 7، التهذيب 6: 342 / 958.
(2) التهذيب 6: 343 / 959.
255

أيضا - وهو أصح قولي الشافعية (1) - لتعذر إقامة البينة على ذلك.
وفي الآخر: لا يقبل إلا بالبينة، كالبيع، لا يقبل قولهما إلا ببينة (2).
والفرق: عدم تعذر إقامة البينة على البيع؛ لأن الظاهر من حال العدل
الصدق، وهو أمين عليه، فكان القول قوله مع اليمين.
ولو ادعى خلاف ما تقتضيه العادة، فهو زيادة على المعروف،
ويكون ضامنا.
وكذا لو ادعى تلف شيء من ماله في يده بغير تفريط، أو أن ظالما
قهره عليه وأخذه منه، قدم قوله باليمين؛ لأنه أمين.
أما لو ادعى الإنفاق عليه منذ ثلاث سنين، فقال الصبي: ما مات
أبي إلا منذ سنتين، قدم قول الصبي مع اليمين؛ لأن الأصل حياة أبيه،
واختلافهما في أمر ليس الوصي أمينا فيه، فكان القول قول من يوافق قوله
الأصل مع اليمين.
مسألة 455: لما نزل قوله تعالى: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى
ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا) (3) تجنب أصحاب
رسول الله (صلى الله عليه وآله) أموال اليتامى وأفردوها عنهم، فنزل قوله تعالى: (وإن
تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله
لأعنتكم) (4) أي: ضيق عليكم وشدد، فخالطوهم في مأكولهم ومشروبهم (5)

(1) المهذب - للشيرازي - 1: 337، حلية العلماء 4: 527 - 528.
(2) المهذب - للشيرازي - 1: 337، حلية العلماء 4: 527.
(3) النساء: 10.
(4) البقرة: 220.
(5) تفسير الطبري (جامع البيان) 2: 217، تفسير السمرقندي (بحر العلوم) 1:
204، زاد المسير: 1: 243 - 244، سنن أبي داود 3: 114 - 115 / 2871،
سنن النسائي 6: 256، سنن البيهقي 6: 5، المستدرك - للحاكم - 2: 278 -
279.
256

وينبغي للولي النظر في حال اليتيم، فإن كانت الخلطة له أصلح - مثل أن
يكون إذا خلط دقيقه بدقيقه وخبزه دفعة واحدة، كان أرفق باليتيم في
المؤونة (1) وألين في الخبز وما أشبه ذلك - جاز له، بل كان أولى نظرا
لليتيم، كما قال تعالى: (يسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن
تخالطوهم) (2) الآية. وإن كان الإفراد أرفق له وأصلح، أفرده.
وسأل [سماعة] (3) الصادق (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (وإن
تخالطوهم فإخوانكم) قال: " يعني اليتامى إذا كان الرجل يلي الأيتام في
حجره فليخرج من ماله قدر ما يخرج لكل إنسان منهم فيخالطهم ويأكلون
جميعا، ولا يرزأ من أموالهم شيئا، إنما هي النار " (4).
إذا عرفت هذا، فينبغي أن يتغابن مع الأيتام، فيحسب لكل واحد من
عياله وأتباعه أكثر من أكل اليتيم وإن ساوى الواحد منهم؛ تحفظا لمال
اليتيم، وتحرزا من تلف بعضه.
ولو تعدد اليتامى واختلفوا كبرا وصغرا، حسب على الكبير بقسطه
وعلى الصغير بقسطه لئلا يضيع مال الصغير بقسطه على نفقة الكبير؛ لما
رواه أبو الصباح الكناني عن الصادق (عليه السلام) في قوله عز وجل: (ومن كان

(1) في الطبعة الحجرية: " المؤن ".
(2) البقرة: 220.
(3) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطية والحجرية: " عثمان بن عيسى ". وهو
- في المصدر - مذكور قبل " سماعة ".
(4) الكافي 5: 129 - 130 / 2، التهذيب 6: 340 / 949 بتفاوت.
(5) النساء: 6.
257

فقيرا فليأكل بالمعروف) (5) قال: " ذلك رجل يحبس نفسه عن المعيشة،
فلا بأس أن يأكل بالمعروف إذا كان يصلح لهم أموالهم، فإن كان المال قليلا
فلا يأكل منه شيئا " قال: قلت: أرأيت قول الله عز وجل: (وإن تخالطوهم
فإخوانكم) (1)؟ قال: " تخرج من أموالهم قدر ما يكفيهم، وتخرج من مالك
قدر ما يكفيك ثم تنفقه " قلت: أرأيت إن كانوا يتامى صغارا وكبارا وبعضهم
أعلى [كسوة] (2) من بعض وبعضهم آكل من بعض ومالهم جميعا؟ فقال:
" أما الكسوة فعلى كل إنسان ثمن كسوته، وأما الطعام فاجعله (3) جميعا، فإن
الصغير يوشك أن يأكل مثل الكبير " (4).
مسألة 456: إذا بلغ الصبي رشيدا، زالت ولاية الوصي وغيره عنه،
سواء كان حاضرا أو غائبا، فلا يجوز له بيع مال الغائب بعد بلوغه ورشده،
فإن باع كان باطلا، وبه قال الشافعي (5).
ولا فرق بين أن يكون مال الغائب مشتركا مع صبي آخر له عليه ولاية
أو لا، ولا بين أن يكون الصغار محتاجين (6) إلى بيع المشترك مع الغائب أو
لا، ولا بين أن يكون المتاع مما يقبل القسمة أو لا؛ لأن البلوغ والرشد أزالا
عنه الولاية، فلا ينفذ تصرف غيره في ماله إلا بإذنه، وبيع الوصي مال

(1) البقرة: 220.
(2) ما بين المعقوفين من المصدر.
(3) في المصدر: " فاجعلوه ".
(4) الكافي 5: 130 / 5، التهذيب 6: 341 / 952.
(5) المغني 4: 321.
(6) في " ث، ر ": " يحتاجون ". وفي " ج " والطبعة الحجرية: " محتاجون ". والصحيح
ما أثبتناه.
258

الغائب الرشيد تصرف في مال غيره بغير وكالة ولا ولاية، فلم يصح، كبيع
ماله المنفرد أو ما لا تضر قسمته.
وقال أحمد: يجوز للوصي البيع على الغائب البالغ إذا كان من طريق
النظر (1).
وقال أصحابه: يجوز للوصي البيع على الصغار والكبار إذا كانت
حقوقهم مشتركة في عقار في قسمته إضرار وبالصغار حاجة إلى البيع إما
لقضاء دين أو لمؤونة لهم (2).
وقال أبو حنيفة وابن أبي ليلى: يجوز البيع على الصغار والكبار فيما
لابد منه (3).
وكأنهما أرادا هذه الصورة؛ لأن في ترك القسمة نظرا للصغار
واحتياطا للميت في قضاء دينه.
والحق ما قلناه؛ فإن ما ذكروه لا أصل له يقاس عليه، ولا له شهادة
شرع بالاعتبار. ولأن مصلحة الصغار يعارضها أن فيه ضررا على الكبار ببيع
مالهم بغير إذنهم. ولأنه لا يجوز بيع غير العقار فلم يجز له بيع العقار،
كالأجنبي.
مسألة 457: قال بعض (4) علمائنا: ليس لولي الصبي استيفاء القصاص
المستحق له؛ لأنه ربما يرغب في العفو، وليس له العفو؛ لأنه ربما يختار
الاستيفاء تشفيا.
والوجه عندي: أن له الاستيفاء مع المصلحة؛ لأن ولايته عامة،

(1 و 2) المغني 4: 320.
(3) المغني 4: 320، الشرح الكبير 6: 634.
(4) الشيخ الطوسي في المبسوط 7: 54.
259

فمهما فرض له مصلحة كان للولي السعي فيها تحصيلا وإيفاء، ولدلالة
العفو على مال إن كان ذلك أصلح لليتيم.
وإن عفا مطلقا، فالأقرب اعتبار المصلحة أيضا، فإن كانت المصلحة
في العفو مجانا، اعتمدها، كما أن له الصلح ببعض ماله مع المصلحة.
مسألة 458: ليس للولي أن يعتق عبد الطفل والمجنون مجانا؛ لأن فيه
إتلاف ماله.
وهل له إعتاقه على مال إذا اقتضت المصلحة ذلك وكان الحظ للطفل
فيه، أو كتابته كذلك؟ الأقرب عندي: الجواز، وذلك مثل أن تكون قيمة
العبد ألفا فيكاتبه على ألفين أو يعتقه على ألفين. وإن لم يكن للطفل فيه
حظ، لم يصح قطعا، وبه قال أحمد (1).
وقال أبو حنيفة ومالك: لا يجوز إعتاقه بمال؛ لأن الإعتاق بمال
تعليق له على شرط فلم يملكه ولي اليتيم، كالتعليق على دخول الدار (2).
وقال الشافعي: لا تجوز كتابته ولا إعتاقه على مال؛ لأن المقصود
منهما العتق دون المعاوضة، فلم يجز، كالإعتاق بغير عوض (3).
وهو غلط؛ للفرق بين التعليق على أداء المال ودخول الدار؛ فإن في
الأول نفعا لليتيم، بخلاف الثاني، فجاز الأول دون الثاني، كالبيع مع زيادة
على ثمن المثل وبدونه.
وكذا الفرق واقع بين الإعتاق على عوض وبدونه، كالفرق بين البيع

(1) المغني 4: 318، الشرح الكبير 4: 563.
(2) الهداية - للمرغيناني - 3: 258، بدائع الصنائع 5: 153، المغني 4: 318، الشرح
الكبير 4: 563 - 564.
(3) المهذب - للشيرازي - 1: 335 و 336، العزيز شرح الوجيز 5: 81، روضة
الطالبين 3: 424، المغني 4: 318، الشرح الكبير 4: 564.
260

بثمن المثل وبدونه.
والأصل فيه أن ذلك يشتمل على معاوضة مطلوبة عند العقلاء، فجاز
للولي فعلها مع الطفل للمصلحة، ولا فرق بينها (1) وبين البيع بثمن مؤجل،
ولا عبرة بنفع العبد، ولا يضره كونه معلقا، فإنه إذا حصل الحظ للطفل
لم يتضرر بنفع غيره.
وما ذكروه إنما امتنع الحكم فيه لانتفاء المقتضي؛ إذ المقتضي لتسويغ
التصرف حصول المصلحة، ولا مصلحة في تعليق العتق بدخول الدار
ولا في الإعتاق بغير عوض.
ولو فرض أن المصلحة في العتق مجانا، فالأقرب: جوازه، كما لو
كان له عبد كبير لا ينتفع به في الاستخدام وغيره ولا يرغب في شرائه راغب
فيعتقه ليخلص من مؤونته ونفقته.
وكذا لو كان له جارية وأمها وهما تساويان مجتمعتين مائة، ولو
انفردت البنت ساوت مائتين، ولا يمكن إفرادهما بالبيع فأعتقت الأم ليكثر
ثمن البنت، كان جائزا.
مسألة 459: وللولي أن يهب مال الطفل بشرط الثواب مع المصلحة
إما مع زيادة الثواب على العين أو مع تحصيل أمر من المتهب ينتفع به
الطفل نفعا يزيد على بقاء العين له.
وقال الشافعي: لا تجوز الهبة لا مطلقا ولا بشرط الثواب؛ إذ لا يقصد
بالهبة العوض (2).

(1) في " ج، ر ": " بينهما ".
(2) المهذب - للشيرازي - 1: 335، العزيز شرح الوجيز 5: 81، روضة الطالبين 3:
424.
261

وهو ممنوع؛ إذ التقدير أنه قصد الثواب.
وكذا للولي بذل مال الطفل في مصالحه، كاستكفاف الظالم بالرشوة
وتخليص ماله من تعويقه وإطلاق زرعه وماء شربه وأشباه ذلك.
ولو طمع السلطان في مال اليتيم فأعطاه الوصي شيئا منه، فإن كان
يقدر على دفعه بدون المدفوع، ضمن، وإلا فلا.
مسألة 460: ليس للولي أن يطلق زوجة الصبي لا مجانا ولا بعوض؛
لأن المصلحة بقاء الزوجية، لأنه لا نفقة لها عليه قبل الدخول.
ولو باع شريكه شقصا مشفوعا، كان له الأخذ أو الترك بحسب
المصلحة، فإن ترك بحكم المصلحة ثم بلغ الصبي وأراد الأخذ، لم يمكن
منه؛ لأن ترك وليه مع اقتضاء المصلحة كان ماضيا، والشفعة على الفور،
فكما لا تثبت له لو كان بالغا وترك، كذا لا تثبت مع ترك الولي - وهذا أصح
وجهي الشافعية - كما لو أخذ بحكم المصلحة ثم بلغ وأراد رده، لم يكن له
ذلك.
والثاني: يجاب إلى ذلك؛ لأنه لو كان بالغا لكان له الأخذ، سواء
وافق المصلحة أو خالفها، والأخذ المخالف للمصلحة لم يدخل تحت
ولاية الولي، فلا يفوت عليه بتصرف الولي (1).
مسألة 461: لا يجوز أن يشتري الوصي أضحية ويضحي بها عن
اليتيم، وكذا الأب لا يضحي عن ولده الصغير من مال الصغير، وإن ضحى
من مال نفسه، كان متبرعا - وبه قال أبو حنيفة (2) - إذ لا مصلحة لليتيم فيه.

(1) المهذب - للشيرازي - 1: 336، حلية العلماء 4: 528، العزيز شرح الوجيز 5:
81 - 82، روضة الطالبين 3: 424.
(2) نسب عكسه إليه ابنا قدامة في المغني 11: 109، والشرح الكبير 4: 567.
262

وقال أحمد: يجوز للولي أن يشتري للصبي أضحية إن كان من
أهل ذلك وكان له مال وافر لا يتضرر بشراء الأضحية، ويكون ذلك
على وجه التوسعة في النفقة في هذا [اليوم الذي هو] (1) يوم الفرح
والسرور، الذي هو عيد، وفيه جبر قلب الطفل وأهله وتطييبه وإلحاقه بمن
له أب، فينزل منزلة شراء اللحم خصوصا مع استحباب التوسعة في هذا
اليوم وجري العادة عليه، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " إنها أيام أكل وشرب
وبعال " (2) (3).
ولا بأس به.
ويجوز للولي أن يجعل الصبي في المكتب وعند معلم القرآن العزيز
والأدب والفقه وغيرها من العلوم إن كان من أهل ذلك وله ذكاء وفطنة، كما
يفعل الإنسان بولده ذلك؛ لأن ذلك كله من مصالحه، فجرى مجرى نفقته
كمأكوله ومشروبه وملبوسه، وبه قال أحمد (4).
وقال سفيان: ليس للوصي أن يسلم الصبي إلى معلم الكتابة إلا بقول
الحاكم (5).
وأنكر أحمد ذلك غاية الإنكار (6).
وكذا يجوز للوصي تسليم الصبي إلى معلم الصناعة إذا كانت مصلحته
في ذلك.

(1) ما بين المعقوفين من المصدر.
(2) صحيح مسلم 2: 800 / 1142 بتفاوت.
(3) المغني 4: 318 - 319، الشرح الكبير 4: 567.
(4 - 6) المغني 4: 319، الشرح الكبير 4: 568.
263

والأقرب عندي: أنه لا يسلمه (1) إلا في صناعة تليق به ولا تثلم من
مجده إن كان (2) من أرباب البيوت.
وليس له أن يسلمه إلى معلم السباحة؛ لما فيه من التغرير، إلا أن
يكون تعليمه في ماء لا يغمره ولا يخاف عليه الغرق فيه.
مسألة 462: ويجب على الولي أن يخرج من ماله الحقوق الواجبة في
ماله، كأروش الجنايات والديون التي ركبته بسبب استدانة الولي عنه أو
بسبب ديون مورثه. وكذا يخرج عنه الزكاة المستحبة مع ثبوت استحبابها
وإن لم تطلب، ونفقة الأقارب إن طلبت.
وإذا دعت الضرورة في حريق أو نهب إلى المسافرة بماله، سافر به
وإن لم يكن هناك ضرورة، فإن كان الطريق مخوفا، لم يجز له السفر به،
فإن سافر، ضمن.
وإن كان أمينا، فالأقرب أنه لا يجوز إلا مع تيقن الأمن.
وللشافعية وجهان:
المنع مطلقا، كالمسافرة بالوديعة.
والجواز مطلقا؛ لأن المصلحة قد تقتضي ذلك، والولي مأمور
بالمصلحة، بخلاف المودع (3).
وإذا كان له أن يسافر به، كان له أن يبعثه على يد أمين.
مسألة 463: لا يجوز لغير الولي والحاكم إقراض مال الصغير؛ لانتفاء
ولايته عليه، فإن أقرض، ضمن، إلا أن تحصل ضرورة إلى الإقراض،

(1) فيما عدا " ث " من النسخ: " لا يسلم ".
(2) في الطبعة الحجرية: " وكان " بدل " إن كان ".
(3) العزيز شرح الوجيز 5: 82 - 83، روضة الطالبين 3: 425 - 426.
264

فيجوز للعدل إقراضه من ثقة ملي، كما إذا حصل نهب أو حريق،
ولا ضمان حينئذ؛ لأنه بفعله محسن، فلا يستعقب فعله الضمان، لأنه سبيل
وقد قال تعالى: (ما على المحسنين من سبيل) (1).
وكذا لا يجوز للولي إقراض مال اليتيم لغير ضرورة من نهب أو غرق
أو حرق أو إذا سافر.
أما الحاكم فإنه يجوز له الإقراض وإن لم تحصل هذه الموانع، لكثرة
أشغاله، قاله بعض الشافعية (2).
وسوى آخرون بين الحاكم وغيره في جواز الإقراض مع الضرورة،
وعدمه مع عدمها (3)، وهو الوجه عندي.
مسألة 464: قال الله تعالى: (وابتلوا اليتامى) أي اختبروهم
(... فإن آنستم منهم رشدا) (4) أي أبصرتم، كما قال الله تعالى حكاية
عن موسى (عليه السلام): (إنى آنست نارا) (5) أي أبصرت.
وقوله تعالى: (ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا) معناه
لا تأكلوا أموال اليتامى مبادرة لئلا يكبروا فيأخذوها (ومن كان غنيا
فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف) (6).
إذا عرفت هذا، فالولي إما أن يكون غنيا أو فقيرا.
فإن كان غنيا، استحب له أن يستعفف عنه، فلا يأكل منه شيئا، عملا
بالآية (7).

(1) التوبة: 91.
(2 و 3) العزيز شرح الوجيز 5: 83، روضة الطالبين 3: 426.
(4) النساء: 6.
(5) القصص: 29.
(6 و 7) النساء: 6.
265

وهل يسوغ له مع الاستغناء أخذ شيء من ماله؟ الأقرب ذلك على
سبيل أجرة المثل، ولا يأخذ زيادة عليه؛ لما رواه عبد الله بن سنان - في
الصحيح - عن الصادق (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (فليأكل بالمعروف)
قال: " المعروف هو القوت، وإنما عنى الوصي والقيم في أموالهم ما
يصلحهم " (1).
وعن حنان بن سدير عن الصادق (عليه السلام)، قال: قال الصادق: " سألني
عيسى بن موسى عن القيم للأيتام في الإبل ما يحل له منها، فقلت: إذا لاط
حوضها (2) وطلب ضالتها وهنأ (3) جرباها فله أن يصيب من لبنها من غير
نهك (4) بضرع ولا فساد نسل " (5).
وعن هشام بن الحكم عن الصادق (عليه السلام)، قال: سألته في من تولى
مال اليتيم ما له أن يأكل منه؟ قال: " ينظر إلى ما كان غيره يقوم به من الأجر
فليأكل بقدر ذلك " (6).
فهذا يدل على الرجوع إلى أجرة المثل.
قال الشيخ في النهاية: [فمن] (7) كان وليا يقوم بأمرهم وبجمع أموالهم
وسد خلاتهم وجمع غلاتهم ومراعاة مواشيهم جاز له أن يأخذ من أموالهم
قدر كفايته وحاجته من غير إسراف ولا تفريط.

(1) الكافي 5: 130 / 3، التهذيب 6: 340 / 950.
(2) لاط حوضها: طينه وأصلحه. النهاية - لابن الأثير - 4: 277 " لوط ".
(3) هنأ الإبل: طلاها بالهناء، وهو ضرب من القطران. لسان العرب 1: 186 " هنأ ".
(4) النهك: المبالغة في الحلب. لسان العرب 10: 500 " نهك ".
(5) الكافي 5: 130 / 4، التهذيب 6: 340 / 951.
(6) التهذيب 6: 343 / 960.
(7) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطية والحجرية: " فمتى ". وما أثبتناه من
المصدر.
266

ثم قال: والمتولي لأموال اليتامى والقيم بأمورهم يستحق أجرة مثله
فيما يقوم به من مالهم من غير زيادة ولا نقصان، فإن نقص نفسه، كان له
في ذلك فضل وثواب، وإن لم يفعل، كان له المطالبة باستيفاء حقه من
أجرة المثل، فأما الزيادة فلا يجوز له أخذها على حال (1).
ولأنه عمل يستحق عليه الأجرة، فكان لعامله المطالبة بالأجرة،
كغيرها من الأعمال.
وقال الشافعي: إذا كان غنيا، لم يجز له أخذ شيء من مال اليتيم
- وبه قال أحمد - للآية (2) (3).
وقال أحمد: إن كان أبا، كان له أن يأخذ الأجرة (4)
والآية محمولة على الاستحباب؛ لقوله: (فليستعفف) (5) فإن
المفهوم منه الاستحباب.
وقد روى سماعة عن الصادق (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (ومن
كان فقيرا فليأكل بالمعروف) (6) قال: " من كان يلي شيئا لليتامى وهو
محتاج ليس له ما يقيمه فهو يتقاضى أموالهم ويقوم في ضيعتهم فليأكل
بقدر ولا يسرف، وإن كانت ضيعتهم لا تشغله عما يعالج لنفسه فلا يرزأ
من أموالهم شيئا " (7).

(1) النهاية: 361 - 363.
(2) النساء: 6.
(3) الحاوي الكبير 6: 352، المهذب - للشيرازي - 1: 337، حلية العلماء 4:
531، العزيز شرح الوجيز 5: 82، روضة الطالبين 3: 424، المغني 4: 319،
الشرح الكبير 4: 576.
(4) المغني 4: 319، الشرح الكبير 4: 576.
(5 و 6) النساء: 6.
(7) الكافي 5: 129 / 1، التهذيب 6: 340 / 948.
267

وإن كان فقيرا، جاز أن يأخذ إجماعا.
وفي قدره خلاف، الأقرب: أن نقول: يستحق أجرة المثل؛ لما
تقدم، لكن يستحب له أن يأخذ أقل الأمرين من أجرة المثل وقدر الكفاية؛
لقوله تعالى: (ومن كان غنيا فليستعفف) (1) وبحصول الكفاية يحصل
الاستغناء.
وقال الشافعي: إن كان فقيرا وانقطع بسببه من الاكتساب، فله أخذ
قدر النفقة (2).
وقال بعض أصحابنا (3): يأخذ أقل الأمرين من قدر النفقة وأجرة
المثل - وبه قال أحمد (4) - لأنه يستحقه بالعمل والحاجة جميعا، فلم يجز له
أن يأخذ إلا إذا وجدا فيه.
فإذا أكل منه ذلك القدر ثم أيسر، فإن كان أبا، لم يلزمه عوضه عنده
رواية واحدة؛ لأن للأب أن يأخذ من مال ولده ما شاء مع الحاجة
وعدمها (5).
وإن كان غير الأب، فهل يلزمه عوض ذلك؟ له روايتان:
إحداهما: لا يلزمه - وبه قال الحسن البصري والنخعي والشافعي في
أحد القولين - لأن الله تعالى أمر بالأكل من غير ذكر عوض، فأشبه سائر ما
أمر بأكله. ولأنه عوض عن عمل فلم يلزمه بدله، كالأجير والمضارب.

(1) النساء: 6.
(2) المهذب - للشيرازي - 1: 337، حلية العلماء 4: 530 - 531، العزيز شرح
الوجيز 5: 82، روضة الطالبين 3: 425.
(3) الشيخ الطوسي في الخلاف 3: 179، المسألة 295، والمبسوط 2: 163.
(4 و 5) المغني 4: 319، الشرح الكبير 4: 576.
268

والثانية: يلزمه عوضه - وهو قول عبيدة السلماني وعطاء ومجاهد
وسعيد بن جبير وأبي العالية والشافعي في أحد القولين - لأنه استباحه
للحاجة من مال غيره، فلزمه قضاؤه، كالمضطر إلى طعام غيره (1).
وبه رواية عندنا عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن أبي
الحسن (عليه السلام)، قال: سألته عن رجل يكون في يده مال لأيتام فيحتاج إليه
فيمد يده فيأخذه وينوي أن يرده، قال: " لا ينبغي له أن يأكل إلا القصد
ولا يسرف، فإن كان من نيته أن لا يرده إليهم فهو بالمنزل الذي قال الله عز
وجل: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما) (2) " (3).
والمعتمد: الأول؛ لما قلناه. وهذه الرواية في طريقها قول. ولأنه لو
وجب أداؤه مع اليسار لكان واجبا في الذمة قبل اليسار، فإن اليسار ليس
بسبب للوجوب، فإذا لم يجب بالسبب الذي هو الأكل لم يجب بعده،
بخلاف المضطر، فإن العوض واجب عليه في ذمته؛ لأنه لم يأكله عوضا
عن شيء، وهنا بخلافه.
مسألة 465: للوصي الاستنابة فيما لا يقدر على مباشرته إجماعا، دفعا
للضرر، وكذا ما يقدر عليه لكن لا يصلح مثله لمباشرته، قضاء للعادة،
وتنزيلا للإطلاق على المتعارف من المباشرة والمعهود بينهم.
وأما ما يصلح لمثله أن يليه: الأولى المنع؛ لأنه يتصرف في مال غيره
بالإذن، فلم يكن له الاستنابة، كالوكيل. ولأنه غير مأذون له فيه، وهو
إحدى الروايتين عن أحمد. وفي الأخرى: يجوز للوصي ذلك (4).

(1) المغني 4: 319، الشرح الكبير 4: 576، المهذب - للشيرازي - 1: 337، حلية
العلماء 4: 530 - 531، العزيز شرح الوجيز 5: 82، روضة الطالبين 3: 425.
(2) النساء: 10.
(3) الكافي 5: 128 / 3، التهذيب 6: 339 / 946.
(4) المغني 5: 216 - 217، الشرح الكبير 5: 210.
269

وفي الوكيل روايتان أيضا عنده (1).
وعندنا ليس للوكيل أن يوكل غيره.
هذا كله مع الإطلاق، أما مع التنصيص على الاستنابة فإنه جائز
إجماعا في الوكيل والوصي، ومع التنصيص على المنع لا يجوز إجماعا.
مسألة 466: يجوز لأمين الحاكم أن يبيع على الحاكم مال اليتيم في
موضع جواز البيع، وكذا للوصي وإن كان الحاكم هو الذي جعله أمينا أو وصيا.
وهل للقاضي أن يبيع ماله من اليتيم؟ أو يشتري لنفسه منه؟ منع منه
أبو حنيفة؛ لأن ذلك قضاء منه، وقضاؤه لنفسه باطل (2). ولا بأس به.
ولو وكل رجل الوصي بأن يشتري له شيئا من مال اليتيم، فاشترى
الوصي لموكله، فالأقرب: الجواز عندنا، خلافا لأبي حنيفة، مع أنه جوز
أن يشتري الوصي مال اليتيم لنفسه إذا كان خيرا لليتيم (3).
واعتبر أصحابه الخيرية في غير العقار بأن يبيع مال نفسه من اليتيم ما
يساوي خمسة عشر بعشرة، وأن يشتري لنفسه ما يساوي عشرة بخمسة
عشر، وفي العقار يعتبر الخيرية عند بعضهم بأن يشتري لنفسه بضعف
القيمة، وأن يبيع من اليتيم بنصف القيمة (4).
مسألة 467: إذا اتجر الولي بمال الطفل نظرا له وشفقة عليه فربح، كان
الربح للطفل والخسران على الطفل أيضا؛ لأنه تصرف سائغ، فلا يستعقب
ضمان التصرف فيه.
ويستحب للولي أن يخرج زكاة التجارة حينئذ.
وإن اتجر لنفسه وكان مليا في الحال، جاز له ذلك، وكان المال قرضا

(1) المغني 5: 216، الشرح الكبير 5: 210.
(2) فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهندية 2: 288.
(3 و 4) فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهندية 2: 286.
270

عليه، فإن ربح كان له، [وإن] (1) خسر كان عليه، وكان عليه الزكاة في ماله
استحبابا.
وإن اتجر لنفسه من غير ولاية أو من غير ملاءة بمال الطفل، كان
ضامنا للمال، والربح للطفل؛ لأنه تصرف فاسد، والربح نماء ملك الطفل،
فيكون له، وإن خسر كان ضامنا؛ لما رواه ربعي بن عبد الله - في الصحيح -
عن الصادق (عليه السلام) في رجل عنده مال لليتيم، فقال: " إن كان محتاجا ليس له
مال فلا يمس ماله، وإن هو اتجر به فالربح لليتيم، وهو ضامن " (2).
وفي الحسن عن محمد بن مسلم عن الصادق (عليه السلام) في مال اليتيم
قال: " العامل به ضامن، ولليتيم الربح إذا لم يكن للعامل به مال " وقال: " إن
عطب أداه " (3).
وبالجملة، التنزه عن الدخول في أموال اليتامى أحوط.
وقد روى عبد الله بن يحيى الكاهلي عن الصادق (عليه السلام)، قال: قيل له:
إنا ندخل على أخ لنا في بيت أيتام ومعهم خادم لهم فنقعد على بساطهم
ونشرب من مائهم ويخدمنا خادمهم وربما طعمنا فيه الطعام من عند
صاحبنا (4) وفيه من طعامهم، فما ترى في ذلك؟ قال: " إن كان دخولكم
عليهم منفعة لهم فلا بأس، وإن كان فيه ضرر فلا " وقال: " بل الإنسان على
نفسه بصيرة وأنتم لا يخفى عليكم وقد قال الله عز وجل: (وإن تخالطوهم
فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح) (5) " (6).

(1) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطية والحجرية: " فإن ". والظاهر ما أثبتناه.
(2) الكافي 5: 131 / 3، التهذيب 6: 341 - 342 / 955.
(3) الكافي 5: 131 / 2، التهذيب 6: 342 / 956.
(4) في النسخ الخطية والحجرية: " صاحبها " بدل " صاحبنا ". والمثبت من المصدر.
(5) البقرة: 220.
(6) الكافي 5: 129 / 4، التهذيب 6: 339 - 340 / 947.
271

مسألة 468: لو كانت مصلحة اليتيم في بيع عقاره، جاز للوصي بيعه
على ما تقدم، فإن باعه على أنه ينفق على نفسه، صح البيع، وضمن الثمن
لليتيم إذا أنفقه على نفسه.
ولو كان الورثة كبارا لا حجر عليهم وللميت وصي ولا دين عليه
ولا وصية، لم يكن للوصي التصرف في شيء من التركة.
وإن كان عليه دين مستغرق للتركة أو أوصى بوصية مرسلة، كأن
يؤخذ من التركة ألف مثلا، كان للوصي أن يبيع من التركة ما يقضي به
الدين، أو ينفذه في الوصية من الثلث، ويقدم بيع العروض ويؤخر العقار،
فإن دعت الحاجة إلى بيعه، بيع.
ولو طلب الوارث قضاء الدين أو إنفاذ الوصية من ماله وإبقاء عين
التركة له، أجيب إلى ذلك، ولم يكن للوصي الاعتراض؛ لأن الحق عندنا
أن التركة تنتقل إلى الوارث بالموت، ويكون الدين متعلقا بالتركة تعلق
الدين بالرهن، أو أرش الجناية بالمال، وقد بينا أن الورثة إذا كانوا كبارا،
لم يكن للوصي عليهم ولاية، سواء كانوا حضورا أو غيابا.
وليس للوصي أن يبيع أيضا شيئا من مالهم.
وقال أبو حنيفة: يبيع ما ليس بعقار؛ استحسانا، لأنه يخشى تلفه،
فكان البيع حفظا لماله وتحصنا (1).
ولا يملك الوصي إجارة شيء من مال الكبار.
وقال أبو حنيفة: يملك إذا كانوا غيابا إجارة الجميع (2).
ولو كان بعض الورثة حاضرا وبعضهم غائبا أو واحد منهم غائبا،
لم يملك الوصي بيع نصيب الغائب.
وقال أبو حنيفة: يملك بيعه إذا كان عروضا ورقيقا ومنقولا لأجل

(1 و 2) فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهندية 2: 287.
272

الحفظ. ثم قال: وإذا ملك بيع نصيب الغائب ملك بيع نصيب الحاضر
أيضا (1).
وقال أبو يوسف ومحمد: لا يملك (2).
وهذه إحدى المسائل الأربع.
والثانية: لو كان على الميت دين لا يحيط بالتركة، فإن الوصي يملك
البيع بقدر الدين عندنا وعند الحنفية (3).
وهل يملك بيع الباقي؟
أما عندنا وعند أبي يوسف ومحمد (4) فإنه لا يملك.
وقال أبو حنيفة: يملك بيع الباقي (5).
[و] الثالثة: لو كان في التركة وصية بمال مرسل، فإن الوصي يملك البيع
بقدر ما تنفذ به الوصية عندنا وعندهم (6).
وهل يملك بيع ما زاد عليه؟
أما عندنا وعند أبي يوسف ومحمد (7) لا يملك.
وقال أبو حنيفة: يملك (8).
[و] الرابعة: إذا كان الورثة كبارا وفيهم صغير، فإن الوصي يملك بيع
نصيب الصغير عند الكل (9).
وهل يملك بيع نصيب الكبار؟
أما عندنا وعند أبي يوسف ومحمد (10) فلا.
وأما عند أبي حنيفة فنعم (11).
مسألة 469: حكم وصي وصي الأب حكم وصي الأب، وكذا حكم
وصي الجد للأب ووصي وصيه ووصي القاضي ووصي وصيه عندنا.
وقال أبو حنيفة: إن وصي القاضي بمنزلة وصي الأب إلا في شيء

(1 - 11) فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهندية 2: 287.)
273

واحد، وهو أن القاضي إذا جعل [أحدا] (1) وصيا في نوع كان وصيا في ذلك
النوع خاصة، والأب إذا جعل [أحدا] (2) وصيا في نوع كان وصيا في الأنواع
كلها (3).
وإذا مات الرجل ولم يوص إلى أحد، كان لأبيه - وهو الجد - بيع
العروض والشراء، إلا أن وصي الأب لو باع العروض أو العقار لقضاء الدين
أو تنفيذ الوصية، جاز.
والجد إذا باع التركة لقضاء الدين وتنفيذ الوصية، لم يجز عنده (4).
وعندنا يجوز إذا لم يكن للميت وصي.
وإذا كان الوصي ثقة كافيا، لم يجز للقاضي عزله. ولو عزله،
لم ينعزل، وبه قال بعض الحنفية (5).
وقال بعضهم: لو عزله، انعزل (6).
وليس بجيد؛ لأنه مخالف لقوله تعالى: (فمن بدله بعد ما سمعه
فإنما إثمه على الذين يبدلونه) (7).
أما لو فسق فإنه يعزله الحاكم، ويستبدل به قطعا.
ولو كان عدلا عاجزا، لم يكن للحاكم الاستبدال به، وكان عليه أن
يضم إليه ثقة يعينه على التصرف.
وقال بعض الحنفية: إن للقاضي عزله؛ لعجزه (8). وليس بجيد.
مسألة 470: للوصي أن يستقرض مال اليتيم مع ملاءته، كالأب؛ لأنه
ولي عليه، وله أن يقضي دين نفسه من مال اليتيم.

(1 و 2) ما بين المعقوفين من المصدر.
(3 - 6) فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهندية 2: 287.
(7) البقرة: 181.
(8) فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهندية 2: 287.
274

ومنع منه الحنفية، وجوزوه في الأب؛ لأن الأب لو باع مال اليتيم من
نفسه بثمن المثل، جاز (1).
والوصي لا يملك البيع من نفسه إلا أن يكون خيرا لليتيم.
وقال بعضهم: لا فرق بين الأب والوصي في أنه ليس له أن يقضي
دينه (2).
وروي عن محمد أنه ليس للوصي أن يستقرض مال اليتيم في قول
أبي حنيفة (3).
وللأب والوصي أن يرهن مال اليتيم بدين نفسه مع ملاءة الوصي.
ومن قياس مذهب أبي حنيفة أنه لا يجوز، وبه قال أبو يوسف (4).
وقال بعضهم: يجوز للأب أن يرهن مال ولده بدين عن نفسه
استحسانا (5).
ولو رهن الأب أو الوصي مال اليتيم بدينهما وقيمته أكثر من الدين
فهلك الرهن عند المرتهن، ضمناه بقيمته عندنا.
وفرق الحنفية مما وراء النهر بين الأب والوصي، فقالوا: يضمن الأب
مقدار الدين خاصة، والوصي يضمن جميع القيمة (6).
وقال بعض الحنفية (7) بما قلناه أولا.
وهل لأحد الوصيين أن يبيع على الآخر مال اليتيم؟ الأقوى عندنا
ذلك؛ لأن الولاية لهما.
وقال أبو حنيفة: لا يجوز؛ لأن أحد الوصيين إذا باع من الأجنبي
لم يجز عنده فكذا إذا باع من الوصي الآخر (8).
مسألة 471: إذا كانت التركة في يد الوارث وظهر دين، طولب
الوارث.

(1 - 8) فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهندية 2: 288.
275

ولو قضى الوارث الدين من مال نفسه بنية الرجوع إذا كان هناك
وارث آخر، كان له الرجوع في التركة، فتصير التركة مشغولة بدينه.
وإن لم يقل وقت القضاء: إني أقضي لأرجع في التركة، وكان
متبرعا، لم يكن له الرجوع.
وقال أبو حنيفة: له الرجوع (1).
ويجوز للوصي أن يبيع مال الطفل نسيئة مع خوف التلف، وبدونه
مع الغبطة.
ولو باع بتأجيل فاحش بأن لا يباع هذا المال بهذا الأجل، لم يجز.
وكذا إن خاف جحود المشتري عند حلول الأجل أو هلاك الثمن
عليه، لم يجز؛ لانتفاء مصلحة اليتيم في ذلك.
ولو طلب الملي والأملى البيع ودفع الأملى أقل مما دفع الملي وكان
بثمن المثل، استحب له أن يبيع الأملى.
وكذا المتواجران لو تفاوتا في الأجرة وصاحب الأقل أملى من الآخر.
مسألة 472: قال الشيخ: إن كان لليتيم على إنسان مال، جاز لوليه أن
يصالحه على شيء يراه صلاحا في الحال، ويأخذ الباقي، وتبرأ بذلك ذمة
من كان عليه المال (2).
والوجه: أن نقول: إن كان ما في ذمة الغريم أكثر وعلم بذلك، لم تبرأ
ذمته؛ إذ لا مصلحة لليتيم في إسقاط ما له، ولا تبرأ ذمة الوصي أيضا. أما
إذا كان المدعى عليه منكرا للمال ولا بينة عليه فصالح الوصي، برئت ذمته
دون ذمة من عليه المال.

(1) فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهندية 2: 288.
(2) النهاية: 362.
276

ولو كان من عليه المال لا يعلم قدره فصالح على قدر لا يعلم ثبوته
في ذمته أو ثبوت ما هو أزيد أو أقل، صح الصلح، وبرئت ذمته. وينبغي له
الاحتياط وتغليب الأكثر في ظنه.
وللوصي أن يصالح من يدعي على الميت إن كان للمدعي بينة أو
علم القاضي بدعواه، وإلا لم يجز.
ولو احتال الوصي بمال اليتيم، فإن كان المحال عليه أملى من الأول
أو مساويا له في المال والعدالة، جاز.
وقال أبو حنيفة: إذا كان مثله، لم يجز (1). وليس بجيد.
ولو كان أدون منه مالا وعدالة، لم يجز قطعا.
تم الجزء التاسع (2) من كتاب تذكرة الفقهاء بحمد الله تعالى وحسن
توفيقه، وصلى الله على محمد وآله أجمعين.

(1) فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهندية 2: 289.
(2) حسب تجزئة المصنف (قدس سره).
277

بسم الله الرحمن الرحيم
وبه ثقتي
المقصد الخامس: في الضمان
وفصوله ثلاثة:
الأول: في ضمان المال
وفيه مباحث:
الأول: في ماهية الضمان ومشروعيته وأركانه.
الضمان عقد شرع للتعهد بمال أو نفس. ويسمى الأول ضمانا بقول
مطلق، ويخص (1) الثاني باسم الكفالة.
وقد تطلق الكفالة على ضمان المال لكن بقيد، فيقال: كفالة بالمال.
والضمان عندنا مشتق من التضمن؛ لأن ذمة الضامن تتضمن الحق.
وقال بعضهم: إنه مشتق من الضم، فإن الضامن قد ضم ذمته إلى ذمة
المضمون عنه في التزام الحق، فيثبت في ذمتهما جميعا، فلصاحب الحق
مطالبة من شاء منهما (2).
ونحن نخالف في ذلك على ما سيأتي إن شاء الله تعالى.
ويقال: ضامن وضمين وكفيل وزعيم وحميل وصبير وقبيل بمعنى

(1) في " ر ": " يختص ".
(2) المغني والشرح الكبير 5: 70.
279

واحد.
مسألة 473: والضمان ثابت بالكتاب والسنة والإجماع.
قال الله تعالى: (ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم) (1) قال
ابن عباس: الزعيم الكفيل (2).
لا يقال: هذه الآية لا يصح لكم الاستدلال بها؛ لأن حمل البعير
مجهول. ولأنها جعالة. ولأنه حكاية عن منادي يوسف (عليه السلام)، ولا يلزمنا
شرعه.
لأنا نقول: حمل البعير معروف عندهم، ولهذا سموه وسقا، وعلق
عليه النبي (صلى الله عليه وآله) نصاب الغلات، فقال: " ليس فيما دون خمسة أوسق
صدقة " (3).
وأما الجعالة فنمنع بطلان الكفالة بها؛ لأنها تؤول إلى اللزوم.
سلمنا عدم جواز الضمان فيها، لكن اللفظ اقتضى جواز الكفالة
وجوازها بالجعالة ثم قام دليل على أن الجعالة لا يتكفل بها، وهذا الدليل
لا ينفي مقتضى اللفظ عن ظاهره.
وأما شرع من قبلنا فقد قيل (4): إنه يلزمنا إذا لم يدل دليل على
إنكاره، وليس هنا ما يدل على إنكار الكفالة، فيكون ثابتا في حقنا.

(1) يوسف: 72.
(2) صحيفة علي بن أبي طلحة: 294 / 661، جامع البيان (تفسير الطبري) 13: 14،
المغني والشرح الكبير 5: 70.
(3) صحيح البخاري 2: 144، سنن أبي داود 2: 94 / 1558، سنن النسائي 5: 17،
سنن البيهقي 4: 121، المصنف - لابن أبي شيبة - 3: 137، مسند أحمد 3:
118 / 8968، و 465 / 11181.
(4) لم نتحقق القائل.
280

وأيضا قوله تعالى: (سلهم أيهم بذلك زعيم) (1).
وأما السنة: فقد روى العامة أن النبي (صلى الله عليه وآله) خطب يوم فتح مكة (2)
وقال (3) في خطبته: " العارية مؤداة، والمنحة مردودة، والدين مقضي،
والزعيم غارم " (4).
وعن أبي سعيد قال: كنا مع النبي (صلى الله عليه وآله) في جنازة فلما وضعت قال:
" هل على صاحبكم من دين؟ " قالوا: نعم، درهمان، قال: " صلوا على
صاحبكم " فقال علي (عليه السلام): " هما علي يا رسول الله وأنا لهما ضامن " فقام
رسول الله (صلى الله عليه وآله) فصلى عليه ثم أقبل على علي (عليه السلام) فقال: " جزاك الله عن
الإسلام خيرا، فك الله رهانك كما فككت رهان أخيك " (5).
وعن جابر بن عبد الله أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان لا يصلي على رجل عليه
دين، فأتي بجنازة فقال: " هل على صاحبكم دين؟ " فقالوا: نعم، ديناران،
فقال: " صلوا على صاحبكم " فقال أبو قتادة: هما علي يا رسول الله، قال:
فصلى عليه، قال: فلما فتح الله على رسوله (صلى الله عليه وآله) قال: " أنا أولى بالمؤمنين
من أنفسهم، من ترك مالا فلورثته، ومن ترك دينا فعلي " (6).
وعن سلمة بن الأكوع أن النبي (صلى الله عليه وآله) أتي برجل ليصلي عليه، فقال:

(1) القلم: 40.
(2) في المصادر: " حجة الوداع " بدل " يوم فتح مكة ". وما في المتن كما في المبسوط
- للطوسي - 2: 322.
(3) في " ث " والطبعة الحجرية: " فقال " بدل " وقال ".
(4) سنن الترمذي 4: 433 / 2120، سنن الدار قطني 3: 40 - 41 / 166، مسند
أحمد 6: 358 / 21791، المعجم الكبير - للطبراني - 8: 160 / 7615.
(5) المغني 5: 82، العزيز شرح الوجيز 5: 143، ونحوه عن عاصم بن ضمرة عن
علي (عليه السلام) في سنن الدار قطني 3: 46 - 47 / 194، وسنن البيهقي 6: 73.
(6) سنن النسائي 4: 65 - 66، سنن البيهقي 6: 73.
281

" هل عليه دين؟ " قالوا: نعم، ديناران، فقال: " هل ترك لهما وفاء؟ " قالوا:
لا، فتأخر فقيل: لم لا تصلي عليه؟ فقال: " ما تنفعه صلاتي وذمته مرهونة
إلا قام أحدكم فضمنه " فقال أبو قتادة: هما علي يا رسول الله، فصلى
النبي (صلى الله عليه وآله) عليه (1).
ومن طريق الخاصة: ما رواه عيسى بن عبد الله قال: احتضر عبد الله
ابن الحسن، فاجتمع عليه غرماؤه فطالبوه بدين لهم، فقال: ما عندي
ما أعطيكم ولكن ارضوا بمن شئتم من بني عمي: علي بن الحسين (عليهما السلام)، أو
عبد الله بن جعفر، فقال الغرماء: أما عبد الله بن جعفر فملي مطول، وعلي
ابن الحسين رجل لا مال له صدوق، وهو أحبهما إلينا، فأرسل إليه فأخبره
الخبر، فقال: " أضمن لكم المال ولي غلة " ولم تكن له غلة كملا (2)، فقال
القوم: قد رضينا وضمنوه، فلما أتت الغلة أتاح الله له بالمال فأداه (3).
وعن عطاء عن الباقر (عليه السلام) قال: قلت له: جعلت فداك، إن علي دينا
إذا ذكرته فسد علي ما أنا فيه، فقال: " سبحان الله أوما بلغك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله)
كان يقول في خطبته: من ترك ضياعا فعلي ضياعه، ومن ترك دينا فعلي
دينه، ومن ترك مالا فلله (4)، وكفالة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ميتا ككفالته حيا،
وكفالته حيا ككفالته ميتا؟ " فقال الرجل: نفست عني جعلني الله فداك (5).
وقد أجمع المسلمون كافة على جوازه وإن اختلفوا في فروعه.

(1) المغني 5: 70 - 71، وفيه: "... إلا إن قام... " وفي صحيح البخاري 3:
126، وسنن النسائي 4: 65، وسنن البيهقي 6: 72 مختصرا.
(2) في الكافي: " تجملا " بدل " كملا ". وكلتاهما لم ترد في التهذيب.
(3) الكافي 5: 97 / 7، التهذيب 6: 211 / 495، بتفاوت يسير في بعض الألفاظ.
(4) في المصدر: " فآكله " بدل " فلله ".
(5) التهذيب 6: 211 / 494.
282

إذا عرفت هذا، فقد نقل العلماء (1) أن امتناع النبي (صلى الله عليه وآله) من الصلاة
على المديونين [كان] (2) في ابتداء الإسلام، ولم يكن (صلى الله عليه وآله) يصلي على من
لا يخلف وفاء عن ديونه؛ لأن صلاته عليه شفاعة موجبة للمغفرة،
ولم يكن حينئذ في الأموال سعة، فلما فتح الله تعالى الفتوح قال (صلى الله عليه وآله): " أنا
أولى بالمؤمنين من أنفسهم " (3) وقال (صلى الله عليه وآله) في خطبته: " من خلف مالا أو
حقا فلورثته، ومن خلف كلا أو دينا فكله إلي ودينه علي " قيل:
يا رسول الله وعلى كل إمام بعدك؟ قال: " وعلى كل إمام بعدي " (4).
إذا عرفت هذا، فأركان الضمان خمسة.
البحث الثاني: في أركان الضمان.
أركان الضمان خمسة:
أ: المضمون عنه.
ب: المضمون له.
ج: الضامن.
د: المال المضمون.
ه‍: الصيغة.
فالنظر هنا يتعلق بأمور خمسة:
النظر الأول: في صيغة الضمان.
مسألة 474: لابد في الضمان من صيغة تدل على الالتزام، مثل:

(1) كما في العزيز شرح الوجيز 5: 144.
(2) إضافة يقتضيها السياق.
(3 و 4) كما في العزيز شرح الوجيز 5: 144.
283

ضمنت لك ما لك على فلان، أو: تكفلت به، أو: تحملته، أو: تقلدته،
أو: التزمته، أو: أنا بهذا المال ضمين، أو كفيل، أو ضامن، أو زعيم، أو
حميل، أو قبيل.
وقال بعض الشافعية: لفظ القبيل ليس بصريح في الضمان (1).
وقال أبو حنيفة (2) كما قلناه من أنه صريح فيه.
ولو قال: دين فلان علي، فهو ضامن.
ولو قال: دين فلان إلي، ففيه للشافعية وجهان (3).
ولو قال: أؤدي المال أو أحضره (4)، فهذا ليس بالتزام، وإنما هو
وعد.
مسألة 475: لا يكفي في الضمان الكتابة مع القدرة، ولابد من النطق
صريحا، فإن عجز و كتب [أو] (5) فعل من الإشارة ما يدل على الرضا
بالضمان، ثبت، وإلا فلا؛ لإمكان العبث.
ولا فرق بين أن يكون الكاتب غائبا أو حاضرا.
ولو عجز عن النطق والكتابة وأشار بما يدل عليه، صح، كالأخرس.
ولو قيل له: ضمنت عن فلان أو تحملت عنه دينه، فقال: نعم، كفى
في الإيجاب؛ لأن " نعم " في تقدير إعادة المسؤول عنه.
مسألة 476: يشترط في الضمان التنجيز، فلو علقه بمجيء الشهر أو

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 167، روضة الطالبين 3: 492.
(2) تحفة الفقهاء 3: 237، المبسوط - للسرخسي - 19: 168، الهداية
- للمرغيناني - 3: 87، الاختيار لتعليل المختار 2: 271.
(3) العزيز شرح الوجيز 5: 167، روضة الطالبين 3: 492.
(4) أي: أحضر الشخص.
(5) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطية والحجرية: " و ". والظاهر ما أثبتناه.
284

قدوم زيد، لم يصح.
وكذا لو شرط الضامن الخيار لنفسه، كان باطلا؛ لأنه ينافي مقصود (1)
الضمان، فإن (2) الضامن على يقين من الغرر (3).
ولو شرط الخيار للمضمون له، لم يضر؛ لأن للمضمون له الخيار في
الإبراء والمطالبة أبدا، سواء شرط له أو لا، وكذا الكفالة، وبه قال
الشافعي (4).
وقال أبو حنيفة: إن شرط الخيار لا يبطلهما، لكنه يلغو (5).
ولو قال: إن لم يؤد إليك غدا فأنا ضامن، لم يصح عندنا - وبه قال
الشافعي (6) - لأنه عقد من العقود، فلا يقبل التعليق، كالبيع ونحوه - وقال
أبو حنيفة: لو قال رجل لآخر: إن لم يعطك فلان مالك فهو علي، فتقاضاه
صاحب المال فلم يعطه المديون شيئا ساعة تقاضاه، لزم الكفيل؛
استحسانا (7) - وكما أن عقد الضمان لا يقبل التأقيت [بأن يقول:] (8) أنا ضامن
إلى شهر فإذا مضى ولم أغرم فأنا بريء.
وقال ابن سريج: إذا جاز على القديم للشافعي ضمان المجهول أو
ما لم يجب، جاز التعليق؛ لأن من ضرورة الضمان قبل الوجوب تعليق

(1) في " ث، ر " والطبعة الحجرية: " مقتضى " بدل " مقصود ".
(2) في النسخ الخطية: " لأن " بدل " فإن ".
(3) كذا، والظاهر: " الغرم ".
(4) العزيز شرح الوجيز 5: 167، روضة الطالبين 3: 493.
(5) العزيز شرح الوجيز 5: 167.
(6) العزيز شرح الوجيز 5: 167، روضة الطالبين 3: 493.
(7) فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهندية 3: 60.
(8) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطية والحجرية: " فلو قال ". والصحيح ما
أثبتناه.
285

مقصوده بالوجوب. وبه قال أبو حنيفة (1).
وقال الجويني: ويجيء في تعليق الإبراء القولان بطريق الأولى، فإن
الإبراء إسقاط. قال: وكان لا يمتنع (2) من جهة القياس المسامحة به في
الجديد أيضا؛ لأن سبب امتناع التعليق في العقود (3) المشتملة على الإيجاب
والقبول خروج الخطاب والجواب بسببه عن النظم اللائق بهما، فإذا
لم يشترط القبول فيه، كان بمثابة الطلاق والعتاق (4).
وكل هذا عندنا باطل، فإن التعليق في الضمان والإبراء مبطل لهما؛
عملا بالاستصحاب.
مسألة 477: إذا قال له: إذا بعت عبدك من فلان بألف فأنا ضامن
للثمن، فباعه بألف، لم يصح الضمان عندنا؛ لأنه ضمان ما لم يجب،
وسيأتي بطلانه.
ولو باعه بألفين، فكذلك.
ومن جوز التعليق جوز في الأول.
وقال أبو يوسف في الثاني: إنه يصير ضامنا لألف؛ لأن مقصود
الضامن أن الزيادة على الألف غير ملتزم، ولا غرض له في قدر الثمن (5).
وقال بعض الشافعية: إنه وجه لهم (6).

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 168، روضة الطالبين 3: 493.
(2) في النسخ الخطية والحجرية: " إسقاط مال، وكان لا يمنع ". وما أثبتناه من
" العزيز شرح الوجيز ".
(3) في النسخ الخطية والحجرية: " الصور " بدل " العقود ". وما أثبتناه من " العزيز شرح
الوجيز ".
(4) العزيز شرح الوجيز 5: 168، روضة الطالبين 3: 493.
(5) العزيز شرح الوجيز 5: 168.
(6) العزيز شرح الوجيز 5: 168، روضة الطالبين 3: 493.
286

وقال ابن سريج من الشافعية: لا يكون ضامنا لشيء؛ لأن الشرط
- وهو البيع بالألف - لم يتحقق (1).
ولو باعه بخمسمائة، ففي كونه ضامنا لها للشافعية الوجهان (2).
ولو قال: إذا أقرضه عشرة فأنا ضامن لها، فأقرضه خمسة عشر،
لم يصح الضمان عندنا؛ لتعليقه على الشرط، وهو أحد قولي الشافعي،
وعلى الآخر: يصح (3).
ويضمن عشرة على الوجهين سواء قلنا: إنه إذا قال: إذا بعته بألف
فأنا ضامن للثمن فباعه بألفين، يبطل الضمان؛ لفقدان الشرط، أو قلنا: إنه
يصح ضمان الألف خاصة.
والفرق: أن من اقترض خمسة عشر فقد اقترض عشرة، وأما البيع
بخمسة عشر فليس بيعا بعشرة.
ولو أقرضه خمسة، فعن ابن سريج: تسليم كونه ضامنا لها (4).
قال الجويني: وهو خلاف قياسه؛ لأن الشرط لم يتحقق (5).
مسألة 478: لو ضمن الدين الحال حالا أو أطلق، لزمه الدين حالا.
وإن ضمن الدين المؤجل مؤجلا بذلك الأجل أو أطلق، لزمه كذلك.
وإن ضمن الحال مؤجلا إلى أجل معلوم، صح الضمان والأجل
عندنا؛ لأن الضمان تبرع، فيحتمل فيه اختلاف الدينين في الكيفية للحاجة.
ولأن فيه الجمع بين المصالح، فإن صاحب الحق قد انتقل حقه إلى ذمة
أوفى، والضامن ارتفق بتأخير الحق عليه، وكذا المضمون عنه، وهو أصح
وجهي الشافعية.

(1 - 5) العزيز شرح الوجيز 5: 168، روضة الطالبين 3: 493.
287

وفي الثاني: أنه لا يصح الضمان؛ لأن الملتزم مخالف لما على
الأصيل (1).
فعلى الأول يثبت الأجل، ولا يطالب الضامن إلا بعد حلول الأجل،
ولا نقول: التحق الأجل بالدين الحال، وإنما ثبت عليه مؤجلا ابتداء.
ولا استبعاد عند الشافعية في الحلول في حق الأصيل دون الكفيل،
كما لو مات الأصيل وعليه الدين المؤجل (2).
هذا قول بعضهم (3).
وادعى الجويني إجماع الشافعية على أن الأجل لا يثبت (4).
وهل يفسد الضمان بفساد هذا الشرط؟ عندهم وجهان، أظهرهما:
الفساد (5).
وقد بينا أن الحق عندنا صحة الضمان والأجل؛ لقوله (عليه السلام):
" المؤمنون عند شروطهم " (6) وقوله تعالى: (أوفوا بالعقود) (7) والضامن
عقد مؤجلا، فلا يثبت عليه إلا كذلك.
تذنيب: لو كان الدين مؤجلا إلى شهر فضمنه مؤجلا إلى شهرين،
فهو كما لو ضمن الحال مؤجلا.
وعلى قولنا بصحة الضمان والشرط ليس لصاحب المال مطالبة
الضامن قبل الأجل، ولا مطالبة المضمون عنه؛ لأن الدين عندنا قد سقط

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 169، روضة الطالبين 3: 494.
(2) العزيز شرح الوجيز 5: 169.
(3 - 5) العزيز شرح الوجيز 5: 169، روضة الطالبين 3: 494.
(6) التهذيب 7: 371 / 1503، الاستبصار 3: 232 / 835، الجامع لأحكام القرآن 6:
33.
(7) المائدة: 1.
288

عن ذمته وتحول إلى ذمة الضامن على ما يأتي.
وأما الشافعي فإنه جوز على تقدير صحة الضمان المؤجل مطالبة
المضمون عنه معجلا - بناء على أصله من أن الضمان غير ناقل، بل هو
مقتض لتشريك الذمتين بالدين (1) - وليس له مطالبة الضامن معجلا (2).
مسألة 479: لو كان الدين مؤجلا فضمنه الضامن حالا والتزم التبرع
بالتعجيل، صح الضمان عندنا، كما يصح ضمان الحال مؤجلا، وكان عليه
أداء المال في الحال كأصل الضمان، وهو أحد وجوه الشافعية.
والثاني لهم: أنه لا يصح الضمان؛ لأن الضامن فرع المضمون عنه،
فلا يستحق مطالبته دون أصيله.
والثالث لهم: أنه يصح الضمان، ويكون مؤجلا كأصله، ولا يلزم
الضامن تبرعه بالتعجيل، كما لو التزم الأصيل التعجيل لم يلزمه، فكذا
الضامن. ولأن الضامن فرع الأصيل، فينبغي أن يكون ما لزمه مضاهيا لما
على الأصيل (3).
فعلى هذا القول هل يثبت الأجل في حقه مقصودا أم تبعا لقضاء حق
المشابهة؟ للشافعية وجهان (4).
وتظهر فائدتهما فيما لو مات الأصيل والحال هذه.

(1) مختصر المزني: 108، الحاوي الكبير 6: 436، المهذب - للشيرازي - 1:
348، حلية العلماء 5: 58، التهذيب - للبغوي - 4: 171، العزيز شرح الوجيز
5: 171، روضة الطالبين 3: 496.
(2) الحاوي الكبير 6: 455، المغني 5: 80، الشرح الكبير 5: 95.
(3) حلية العلماء 5: 57 - 58، العزيز شرح الوجيز 5: 169، روضة الطالبين 3:
494.
(4) العزيز شرح الوجيز 5: 169، روضة الطالبين 3: 494.
289

وعكس بعض الشافعية الترتيب، فقال: في صحة شرط التعجيل
وجهان، فإن فسد ففي إفساده الضمان وجهان (1)
تذنيب: لو ضمن المؤجل إلى شهرين مؤجلا إلى شهر، فهو كما لو
ضمن المؤجل حالا. وعلى قولنا يصح، ويكون لصاحب المال مطالبة
الضامن بالمال بعد شهر، وليس له مطالبة المضمون عنه بشيء.
آخر (2): على قولنا: إنه يصح ضمان المؤجل حالا إذا أدى الضامن
المال إلى صاحبه، لم يكن له مطالبة المضمون عنه إلا عند الأجل إن أذن له
في مطلق الضمان.
ولو أذن له في الضمان عنه معجلا، ففي حلوله عليه إشكال، أقربه:
عدم الحلول أيضا.
مسألة 480: لو ضمن رجل عن غيره ألفا وشرط المضمون له أن
يدفع إليه الضامن أو المضمون عنه كل شهر درهما لا يحسبه من مال
الضمان، بطل الشرط إجماعا.
وهل يبطل الضمان؟ الأقوى عندي: بطلانه؛ بناء على أن كل شرط
فاسد تضمنه عقد فإن العقد يبطل ببطلانه، وهو أحد وجهي الشافعية.
والثاني: لا يبطل الضمان ببطلان هذا الشرط (3).
مسألة 481: لو ضمن دينا أو كفل بدن إنسان ثم ادعى أنه كفل وضمن
ولا حق على المضمون عنه أو المكفول به، فالقول قول المضمون له
والمكفول له؛ لأن الضمان والكفالة إنما يصحان بعد ثبوت الحق على

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 169.
(2) في " ث، ج " والطبعة الحجرية: " تذنيب " بدل " آخر ".
(3) العزيز شرح الوجيز 5: 170، روضة الطالبين 3: 495.
290

المضمون والمكفول.
وهل يحلف المضمون له والمكفول له؟ الأقرب عندي: اليمين؛ لأنه
منكر لدعوى لو صدق فيها لبطلت دعواه.
وللشافعية (1) وجهان (2).
فإن قلنا باليمين فنكل، حلف الضامن والكفيل، وسقطت المطالبة
عنهما.
ولو أقر الضامن بأنه قد ضمن على شرط أو كفل عليه، فأنكر
صاحب الحق الشرط، فالقول قول صاحب الحق مع اليمين؛ لصحة
الضمان في نفس الأمر، وأصالة عدم الشرط.
وقالت الشافعية: إن هذا مبني على أن الإقرار هل يتبعض أم لا؟ فإن
قيل بالتبعيض، فالقول قول المضمون له. وإن قلنا: لا يتبعض، فالقول قول
الضامن (3).
ولو ادعى الكفيل أن المكفول برئ من الحق وارتفعت الكفالة،
وأنكر المكفول له، فالقول قول المكفول له مع يمينه، فإن نكل وحلف
الكفيل، برئ من الكفالة، ولم يبرأ المكفول بيمين الكفيل.
النظر الثاني: الضامن.
مسألة 482: يشترط في الضامن أن يكون صحيح العبارة أهلا للتبرع،
فلا يصح ضمان الصبي والمجنون؛ لقوله (صلى الله عليه وآله): " رفع القلم عن ثلاث: عن

(1) في " ث، ر " والطبعة الحجرية: " للشافعي ".
(2) العزيز شرح الوجيز 5: 170، روضة الطالبين 3: 495.
(3) العزيز شرح الوجيز 5: 170 - 171، روضة الطالبين 3: 496.
291

الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى ينتبه " (1).
ولأنهما غير مكلفين، فلم يكن [لكلامهما] (2) حكم.
وكذا لا يصح ضمان الساهي والغافل والهازل، كل ذلك لسقوط
التكليف في حق أكثرهم، وعدم الوثوق بعبارتهم.
والمغمى عليه (3) والمبرسم - الذي يهذي ويخلط في كلامه - والنائم؛
لأنه لا عبرة بصيغتهم الصادرة عنهم، كغيره من العقود.
ولو ضمن السكران، لم يصح عندنا؛ لعدم الوثوق بعبارته.
وللشافعي قولان، كما في سائر تصرفاته (4).
والأخرس (5) الذي ليس له إشارة مفهومة (6) ولا كتابة ولا يعلم أنه ضمن
حتى يصحح أو يبطل.
وإن كانت له إشارة مفهومة وعلم ضمانه بها، صح، كما في بيعه
وسائر تصرفاته، وبه قال أكثر العامة (7).
وقال بعض الشافعية: لا يصح ضمانه؛ لأنه لا ضرورة إلى الضمان،
بخلاف سائر التصرفات (8).
وهو خطأ؛ فإن الضرورة لا تصحح الدلالة الباطلة في نفسها.
ولو ضمن بالكتابة، فإن حصل معها إشارة مفهومة أنه قصد

(1) المغني 3: 94، وبتفاوت في سنن أبي داود 4: 141 / 4403.
(2) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطية والحجرية: " لكلامهم ". والصحيح ما أثبتناه.
(3) عطف على قوله: " لا يصح ضمان... ".
(4) العزيز شرح الوجيز 5: 146، روضة الطالبين 3: 475.
(5) عطف على قوله: " لا يصح ضمان... ".
(6) كذا قوله: " مفهومة " هنا وفيما يأتي، والظاهر: " مفهمة ".
(7) المغني 5: 80، الشرح الكبير 5: 78، الحاوي الكبير 6: 461، التهذيب
- للبغوي - 4: 185، العزيز شرح الوجيز 5: 146، روضة الطالبين 3: 475.
(8) العزيز شرح الوجيز 5: 146، روضة الطالبين 3: 475.
292

الضمان، صح.
وإن انفردت (1) إشارته المفهومة بالضمان، صح أيضا.
ولو (2) انفردت كتابته عن الإشارة [المفهمة] (3) للضمان، لم يصح
الضمان، سواء كان يحسن الإشارة أو لا؛ لأن الكتابة قد تكون عبثا أو
تجربة للقلم (4) أو حكاية خط، فلم يثبت بها (5) الضمان.
وللشافعية في الكتابة المنفردة عن إشارة مفهمة (6) أنه قصد الضمان
وجهان، أصحهما عندهم: الصحة عند وجود القرينة المشعرة بالمقصود (7).
ونحن أيضا نقول بذلك، وليس النزاع فيه، بل في مجرد الكتابة.
وهذا الشرط يقتضي نفي الخلاف، وأن الكتابة المجردة غير كافية.
أما الناطق فلا يكفي في حقه الكتابة ما لم يتلفظ بالعقد.
وللشافعية فيه الوجهان (8)، كما في الأخرس.
مسألة 483: يشترط في الضامن الملاءة بالمال الذي ضمنه وقت
الضمان، أو علم المضمون له بالإعسار، فلو ضمن المعسر ولم يعلم
المضمون له بإعساره ثم ظهر الإعسار، كان بالخيار [بين] (9) فسخ الضمان

(1) في " ر ": " تفردت ".
(2) في " ر ": " وإن " بدل " ولو ".
(3) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطية والحجرية: " المفهومة ". والصحيح ما أثبتناه.
(4) في النسخ الخطية والحجرية: " وتجربة القلم ". والظاهر ما أثبتناه.
(5) في النسخ الخطية والحجرية: " به " بدل " بها ". والظاهر ما أثبتناه.
(6) في " ج " والطبعة الحجرية: " مفهومة " بدل " مفهمة ". وما في المتن من " ث، ر ".
(7) الحاوي الكبير 6: 461، العزيز شرح الوجيز 5: 146، روضة الطالبين 3:
475.
(8) العزيز شرح الوجيز 5: 146، روضة الطالبين 3: 475.
(9) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطية والحجرية: " في ". والظاهر ما أثبتناه.
293

والرجوع على المضمون عنه، وبين إجازته والصبر على الضامن إلى زمان
قدرته.
ولو علم بإعساره وقت الضمان ورضي به، لم يكن له بعد ذلك
خيار، ولزمه الضمان.
وكذا يلزمه الضمان لو كان الضامن مليا وقت الضمان وتجدد إعساره
قبل الأداء، وليس للمضمون له حينئذ الرجوع على المضمون عنه بشيء.
مسألة 484: لو ادعى المضمون له أن الضامن ضمن بعد البلوغ، وقال
الضامن: بل ضمنت لك قبله، فإن عينا للضمان وقتا وكان البلوغ غير
محتمل فيه، قدم قول الصبي؛ لحصول العلم بعدم البلوغ، ولا يمين على
الصبي؛ لأنها إنما تثبت في المحتمل.
وإن كان الصغر غير محتمل، قدم قول المضمون له من غير يمين؛
للعلم بصدقه، فلا يزال باليمين شك حاصل.
وإن احتمل الأمران أو لم يعينا وقتا، فالقول قول الضامن مع يمينه
- وبه قال الشافعي (1) - لأصالة عدم البلوغ وقت الضمان، وعدم ثبوت الحق
عليه.
وقال أحمد: القول قول المضمون له؛ لأن الأصل صحة العقد
وسلامته، كما لو اختلفا في شرط مبطل (2).
والفرق: أن المختلفين في الشرط المفسد يقدم فيه قول مدعي
الصحة؛ لاتفاقهما على أهلية التصرف، والظاهر أن من له أهلية التصرف

(1) التهذيب - للبغوي - 4: 185، العزيز شرح الوجيز 5: 146، روضة الطالبين 3:
475، المغني 5: 78، الشرح الكبير 5: 75 - 76.
(2) المغني 5: 78، الشرح الكبير 5: 75.
294

لا يتصرف إلا تصرفا صحيحا، فكان القول قول مدعي الصحة؛ لأنه يدعي
الظاهر، وهنا اختلفا في أهلية التصرف، وليس مع من يدعي الأهلية ظاهر
يستند إليه، ولا أصل يرجع إليه، فلا مرجح لدعواه.
وكذا لو ادعى أنه ضمن بعد البلوغ وقبل الرشد، وادعى المضمون له
أنه بعد الرشد. وكذا لو ادعى من يعتوره الجنون أنه ضمن حال جنونه،
وادعى المضمون له أن ضمانه في حال إفاقته؛ فإن القول قول الضامن؛ لما
تقدم.
أما لو لم يعهد منه جنون سابق فادعى أنه حالة الضمان كان مجنونا،
فإنه لا تسمع دعواه، وله إحلاف المضمون له إن ادعى علمه بالجنون.
وأما من يعتاد الشرب فادعى أنه حالة الضمان كان سكران، وادعى
صاحب الحق أنه كان حالة الضمان صاحيا، فالوجه: تقديم قول الضامن مع
اليمين.
ولو لم يعهد منه الشرب، قدم قول المضمون له مع اليمين بانتفاء
سكره.
مسألة 485: ولا فرق بين أن يكون الصبي مميزا أو غير مميز في
بطلان ضمانه، ولا بين أن يأذن له الولي في الضمان أو لا، وهو قول
الشافعي (1).
وعن أحمد روايتان، إحداهما: أنه يصح ضمان المميز بإذن الولي،
كما يصح إقراره وتصرفاته بإذن وليه (2).

(1) مختصر المزني: 109، الحاوي الكبير 6: 461، التنبيه: 105، المهذب
- للشيرازي - 1: 346، التهذيب - للبغوي - 4: 185، العزيز شرح الوجيز 5:
146، روضة الطالبين 3: 474 - 475، المغني 5: 78، الشرح الكبير 5: 75.
(2) المغني 5: 78، الشرح الكبير 5: 75.
295

والأصل عندنا ممنوع، على أن الفرق واقع بين الضمان والبيع؛ فإن
الضمان التزام مال لا فائدة له فيه، فلم يصح منه، كالنذر، بخلاف البيع.
ولو قلنا بالرواية (1) الدالة على نفاذ تصرفه في المعروف إذا بلغ عشرا
وكان مميزا، احتمل جواز الضمان إذا كان في معروف.
مسألة 486: شرطنا في صحة الضمان كون الضامن أهلا للتبرع،
فلا يصح ضمان العبد والمحجور عليه لسفه، فإنه لو ضمن لم ينفذ؛ لأن
الضمان إما إقراض إن تعقبه الرجوع، وإما تبرع إن لم يثبت الرجوع،
وكلاهما يتبع المحجور عليه لتبذير منه. ولأنه إثبات مال في ذمته،
فلم يصح منه، كالبيع وغيره، وبه قال الشافعي (2).
وقال بعض العامة: يصح ضمانه، ويتبع به بعد فك الحجر عنه؛ لأنه
مكلف يصح إقراره ويتبع به بعد فك الحجر عنه، فكذا ضمانه (3).
والفرق: أن الإقرار إخبار بحق سابق، وجاز أن يكون في ذمته حق،
فوجب عليه الاعتراف به بحيث يؤدي بعد فك الحجر عنه، بخلاف
الضمان، فإنه تبرع محض، فكان ممنوعا منه، كسائر التبرعات.
وقال بعض أصحاب الشافعي: إنه يصح الضمان من المحجور عليه
للتبذير؛ لأنه إقراض لا محض تبرع؛ لأن الشافعي قال: إذا ضمن في مرض
موته بغير إذن من عليه الحق، فهو محسوب من ثلثه، وإن ضمن بإذنه،
فهو محسوب من رأس المال؛ لأن للورثة أن يرجعوا على الأصيل (4).

(1) تقدم تخريجها في ص 241، الهامش (1).
(2) الحاوي الكبير 6: 461، التنبيه: 105، المهذب - للشيرازي - 1: 346، العزيز
شرح الوجيز 5: 146، روضة الطالبين 3: 475، المغني 5: 78، الشرح الكبير
5: 75.
(3) المغني 5: 78، الشرح الكبير 5: 75.
(4) العزيز شرح الوجيز 5: 147، روضة الطالبين 3: 475.
296

والحق ما قلناه؛ لأنه وإن لم يكن تبرعا (1) فإنه ممنوع منه؛ كما منع (2)
من البيع وسائر التصرفات المالية.
ولو أذن له الولي في الضمان، فهو كما لو أذن له في البيع.
وأما المحجور عليه للفلس فإنه يصح ضمانه مع رضا المضمون له،
ويتبع به بعد فك الحجر؛ لأنه من أهل التصرف، والحجر عليه في ماله
لا في ذمته، فأشبه الراهن إذا تصرف في غير الرهن، وكما لو اقترض أو
اشترى في ذمته، فإنه لا يزاحم الغرماء.
مسألة 487: العبد إن أذن له مولاه في الضمان فضمن، صح،
ولا نعلم فيه خلافا؛ لأن الحجر لحق السيد، فإذا أذن له فيه، زال الحجر،
وكان كما لو أذن له في الاستدانة فاستدان.
وإن ضمن بغير إذنه، فإن لم يكن مأذونا له في التجارة، فالأقرب
عندي: صحة الضمان، كما لو استدان بغير إذن سيده، ويتبع به بعد العتق،
إلا أن الفرق بين الدين والضمان: أن صاحب المال لو وجد عين ماله، كان
له انتزاعها منه، والمضمون له ليس له انتزاع المال الذي ضمنه ما دام عبدا؛
لأنه مكلف له قول صحيح، وإنما منع من التصرف فيما يتعلق بسيده؛
لاشتماله على ضرر سيده، والضمان لا ضرر فيه على السيد؛ لأنه إنما
يطالب به بعد العتق، فلا يمنع منه، ولهذا لو أقر بدين في ذمته، لزمه
الإقرار، وكان للمقر له أن يتبعه به بعد العتق. ولو أقر بالجناية، لم يقبل.
لا يقال: في ذلك إضرار بالسيد؛ لأن السيد يستحق إرث ماله بالولاء
إذا أعتق، وثبوت الدين يمنع الإرث.

(1) في النسخ الخطية: " متبرعا ".
(2) في النسخ الخطية: " يمنع ".
297

لأنا نقول: حكم الإرث لا يمنع الضمان، بخلاف حكم الملك،
ولهذا لا يمنع الإقرار، والملك يمنع الإقرار فيه. وكذا الحر لا يمنع من
الضمان لحق ورثته.
وهو أحد قولي الشافعية.
والثاني لهم: أنه لا يصح ضمانه؛ لأنه إثبات مال لآدمي بعقد،
فلم يصح من العبد بغير إذن سيده، كالمهر (1).
والفرق: أن المهر يتعلق بكسبه، والنفقة بالسيد، فيضر به على
التقديرين.
والشيخ (رحمه الله) مال إلى بطلان الضمان؛ لقوله تعالى: (عبدا مملوكا
لا يقدر على شئ) (2) (3) وهو الأصح عند الشافعية، وبه قال ابن أبي ليلى
والثوري وأبو حنيفة (4).
وإن كان مأذونا له في التجارة، فحكمه حكم غير المأذون في التجارة
في الضمان، إن ضمن بإذن سيده، صح إجماعا. وإن ضمن بغير إذن سيده،
فالقولان.
وقال أبو ثور: إن كان من جهة التجارة، جاز. وإن كان من غير
ذلك، لم يجز (5).

(1) الحاوي الكبير 6: 457، التنبيه: 105 - 106، المهذب - للشيرازي - 1: 346 -
347، حلية العلماء 5: 48 - 49، التهذيب - للبغوي - 4: 185 - 186، الوجيز
1: 183، الوسيط 3: 235، العزيز شرح الوجيز 5: 147، روضة الطالبين 3:
476، المغني 5: 79، الشرح الكبير 5: 76.
(2) النحل: 75.
(3) الخلاف 3: 321، المسألة 15.
(4) العزيز شرح الوجيز 5: 147، روضة الطالبين 3: 476، المغني 5: 79، الشرح
الكبير 5: 76.
(5) المغني 5: 79، الشرح الكبير 5: 76 - 77.
298

مسألة 488: إذا ضمن بإذن سيده، صح قولا واحدا.
وهل يتعلق المال بالذمة أو الكسب؟ الأقرب: الأول؛ لأن ذمة العبد
محل الضمان، فعلى هذا يتبع به بعد العتق، ولا يجب على السيد شيء،
ولا يستكسب العبد فيه، كما لو لم يأذن، وهو أحد قولي الشافعية؛ لأنه
إنما أذن له في الالتزام دون الأداء.
وأظهرهما عندهم: أنه يتعلق بما يكسبه العبد بعد الإذن؛ لأنه ثبت
بإذن السيد، كما لو أذن لعبده في النكاح، تتعلق النفقة والمهر باكتسابه (1).
وحكى بعض الشافعية وجها غريبا للشافعية: أنه يتعلق برقبته، فيباع
فيه (2).
وعن أحمد روايتان:
إحداهما: أنه يتعلق برقبة العبد.
والثانية - وهي الأظهر عنده -: أنه يتعلق بذمة السيد (3).
هذا إذا لم يكن مأذونا له في التجارة، ولو كان مأذونا له فيها فأذن له
في الضمان، فكالأول عندنا، ويتعلق بذمته؛ لما تقدم من أنه أذن له في
التزام المال خاصة، دون الأداء.
وللشافعية وجهان مرتبان على الوجهين في غير المأذون، وأولى بأن
[لا] (4) يحال على الذمة؛ لإشعار ظاهر الحال بخلافه (5).

(1) المهذب - للشيرازي - 1: 347، حلية العلماء 5: 49، العزيز شرح الوجيز 5:
147 - 148، روضة الطالبين 3: 476.
(2) العزيز شرح الوجيز 5: 148، روضة الطالبين 3: 476.
(3) المغني 5: 79، الشرح الكبير 5: 77.
(4) ما بين المعقوفين من المصدر.
(5) العزيز شرح الوجيز 5: 148.
299

وعلى هذا يتعلق بما يكسبه من بعد، أم به وبما في يده من الربح
الحاصل، أم بهما وبرأس المال؟ فيه وجوه ثلاثة أشبهها عندهم: الثالث (1).
وعلى رأي لبعض الشافعية: إذا كان مأذونا له في الضمان، تعلق
بكسبه، وإلا لم يتعلق إلا بالذمة (2).
مسألة 489: إذا قال السيد لعبده: اضمن واقضه مما تكتسبه، صح
ضمانه، وتعلق المال بكسبه.
وكذا لو قال للمأذون له في التجارة: اضمن واقض من المال الذي
في يدك، قضى منه. وكذا إن عين مالا وأمره بالقضاء منه.
وحيث قلنا: يؤدي مما في يده لو كان عليه ديون، فإن المضمون له
يشارك الغرماء؛ لأنه دين لزم بإذن المولى، فأشبه سائر الديون، وهو أحد
وجوه الشافعية.
والثاني لهم: أن الضمان لا يتعلق بما في يده أصلا؛ لأنه كالمرهون
بحقوق الغرماء.
والثالث: أنه يتعلق بما فضل عن حقوقهم رعاية للجانبين (3).
هذا إذا لم يحجر عليه الحاكم.
ويحتمل عندي أن مال الضمان يقدم على ديون الغرماء؛ لأن مولاه
عينه فيه.
أما لو حجر عليه الحاكم باستدعاء الغرماء ثم ضمن بإذن مولاه وجعل
الضمان مما في يده، لم يتعلق الضمان بما في يده؛ لتعلق حقوق الغرماء به

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 148، روضة الطالبين 3: 476.
(2) العزيز شرح الوجيز 5: 148.
(3) العزيز شرح الوجيز 5: 148، روضة الطالبين 3: 477.
300

بمقتضى حجر الحاكم عليه.
ولو عين السيد مال الضمان من رقبته، تعين، كما لو ضمن الحر
على أن يؤدي من مال معين، فإن مال الضمان يتعلق بذلك المال المعين،
كذا هنا؛ لأن الحقوق تتعلق بأعيان الأموال كالرهن، وأما تعلق الضمان بعين
ماله دون ذمته فلا يصح، وصح هذا في حق العبد؛ لأن له ذمة.
ولو أذن للعبد في التجارة وفي الضمان ولم يعين المال من أين
يؤدى، فقد قلنا: إن الأقوى تعلقه بذمة العبد. ويحتمل بكسبه وبذمة
المولى.
وقال الشافعي: يتعلق بما في يده من أموال التجارة، فيقضيه منها
على الوجه الذي يتعلق بكسبه (1).
وليس بجيد؛ لأنه إنما أذن له في الضمان بالإطلاق، فهو ينصرف إلى
ذمته أو كسبه أو ذمة مولاه.
مسألة 490: المدبر وأم الولد والمكاتب المشروط كالقن في الضمان
لا يصح إلا بإذن سيده؛ لأنه تبرع بالتزام مال، فأشبه نذر الصدقة، أو نقول:
يصح ويتبع به بعد العتق على الخلاف الذي سبق كما قلناه في العبد القن.
ولو ضمن بإذن سيده، صح، كما لو أذن للعبد، ولأن الحق للمكاتب
أو للسيد لا يخرج عنهما، وقد اتفقا على الضمان، فلا مانع.
ويحتمل أن لا يصح؛ لأن فيه تفويت الحرية.
والوجه عندي: الصحة إن استعقب ضمانه الرجوع، كما لو أذن له
المضمون عنه في الضمان، ويكون الضمان مصلحة لا مفسدة فيه، كما لو
كان المضمون عنه معسرا، فإنه لا يصح، وكما لو تبرع؛ لأن للسيد منعه من

(1) حلية العلماء 5: 50.
301

التصرف بغير الاكتساب.
وأما المكاتب المطلق فليس للسيد منعه من الضمان مطلقا كيف شاء؛
لانقطاع تصرفات المولى عنه.
ولو كان بعض العبد حرا وبعضه رقا ولا مهايأة بينه وبين السيد،
لم يكن له الضمان إلا بإذنه؛ لتعلق حق السيد برقبته وتصرفه.
وكذا لو كان بينهما مهايأة وضمن في أيام السيد.
ولو ضمن في أيام نفسه، فالأقرب: الجواز.
قال بعض الشافعية: يجوز أن يخرج ضمان المعتق بعضه على
الخلاف في الاكتسابات النادرة هل يدخل في المهايأة أم لا؟ (1).
وضمان المكاتب - عند الشافعية - بغير إذن السيد كضمان القن،
وبالإذن مبني على الخلاف في تبرعاته (2).
مسألة 491: إذا أذن السيد لعبده في الضمان، صح، وانتقل المال إلى
ذمة العبد أو ذمة السيد أو مال العبد الذي في يده لمولاه على الخلاف.
فإن أدى مال الضمان حالة الرق، فحق الرجوع للسيد؛ لأن الأداء من
مال السيد، سواء كان من رقبة العبد أو مما في يده أو من كسبه.
وإن أداه بعد عتقه، فحق الرجوع للعبد؛ لأنه أداه من ماله.
ولو قلنا: إنه إذا ضمن بإذن سيده، تعلق الضمان بذمة السيد أو
بكسب العبد، فالأقرب: أن حق الرجوع للسيد أيضا.
وللشافعية وجهان فيما إذا أدى بعد العتق:
أصحهما: أن حق الرجوع للعبد.
والثاني: أنه للسيد؛ لأن مال الضمان كالمستثنى عن اكتسابه،

(1 و 2) العزيز شرح الوجيز 5: 148، روضة الطالبين 3: 477.
302

فلا يستحقها بالعتق (1).
ولو ضمن العبد لسيده عن أجنبي، لم يصح؛ لأنه يؤديه من كسبه،
وكسبه لسيده، فهو كما لو ضمن المستحق لنفسه.
ولو ضمن لأجنبي عن سيده، فإن لم يأذن السيد، فهو كما لو ضمن
عن أجنبي. وإن ضمن بإذنه، صح.
ثم إن أدى قبل العتق، فلا رجوع له. وإن أدى بعده، ففي رجوعه
على السيد احتمال.
وللشافعية فيه وجهان مبنيان على الوجهين فيما لو آجر (2) عبده مدة
ثم أعتقه في ابتدائها أو (3) في أثنائها هل يرجع بأجرة المثل لبقية المدة أو
لا؟ (4).
مسألة 492: يصح ضمان المرأة، ولا نعلم فيه خلافا، كما يصح
ضمان الرجل؛ لأن الضمان عقد يقصد به المال، فيصح من المرأة، كالبيع.
ولأنها حرة عاقلة مالكة لأمرها نافذة التصرف في مالها تصح منها الاستدانة
وغيرها من التصرفات، فيصح منها الضمان، كالرجل.
ولا فرق في صحة ضمانها بين أن تكون خلية من بعل أو تكون ذات
بعل.
ولا تحتاج إلى إذن الزوج، كما في سائر تصرفاتها، وبه قال أكثر أهل
العلم من العامة والخاصة.
وقال مالك: إنه لابد من إذن الزوج (5). وليس بمعتمد.

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 148، روضة الطالبين 3: 477.
(2) في " ث، ر " والطبعة الحجرية: " آجره ".
(3) كذا قوله: " في ابتدائها أو ". والجملة لم ترد في المصدر.
(4) العزيز شرح الوجيز 5: 148، روضة الطالبين 3: 477.
(5) الوجيز 1: 183، العزيز شرح الوجيز 5: 147.
303

مسألة 493: المريض يصح ضمانه، ولا نعلم فيه خلافا، سواء كان
مرض الموت أو لا، لكن إن لم يكن مرض الموت وعوفي من مرضه،
صح ضمانه مطلقا.
وإن كان مرض الموت، فإن تبرع بالضمان، نفذ من الثلث عند كل
من أثبت تبرعاته من الثلث. ومن جعل منجزاته من الأصل أمضاه هنا من
الأصل.
وإن لم يتبرع بالضمان، بل ضمن بسؤال المضمون عنه، كان حكمه
حكم ما لو باع نسيئة.
والوجه: أنه إن علم تعذر الرجوع لفقر المديون بحيث يعلم عدم
وصول مال إليه، كان ماضيا من الثلث، كما لو تبرع، وإلا مضى من الأصل.
وأطلق بعض العامة احتساب ضمان المريض من الثلث؛ لأنه تبرع
بالتزام مال لا يلزمه ولم يأخذ عنه عوضا، فأشبه الهبة (1).
ونمنع التبرع في المتنازع.
النظر الثالث: في المضمون عنه.
مسألة 494: المضمون عنه هو المديون، وهو الأصيل.
ولا يشترط رضاه في صحة الضمان بالإجماع، كما يجوز أداء الدين
عن الغير بغير إذنه، فالتزامه في الذمة أولى بالجواز. ولأنه يصح الضمان عن
الميت بالإجماع. ولما تقدم (2) من امتناع النبي (صلى الله عليه وآله) من الصلاة على الميت
حتى ضمنه أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، ومعلوم أنه لا يتصور الرضا من

(1) المغني 5: 79 - 80، الشرح الكبير 5: 77 - 78.
(2) في ص 281، ضمن المسألة 473.
304

الميت.
مسألة 495: ولا يشترط حياة المضمون عنه، بل يجوز الضمان عن
الميت، سواء خلف الميت وفاء أو لا، عند علمائنا أجمع - وبه قال
الشافعي ومالك وأبو يوسف ومحمد (1) - لما تقدم (2) من أحاديث العامة عن
أمير المؤمنين (عليه السلام) و [أبي] قتادة لما ضمنا الدين عن الميت، وما رواه
الخاصة أيضا.
ولأن كل من يصح الضمان عنه إذا كان له ضامن صح وإن لم يكن له
ضامن كما لو خلف وفاء أو كان حيا.
وقال أبو حنيفة والثوري: لا يصح الضمان عن الميت إذا لم يخلف
وفاء بمال أو ضمان ضامن؛ لأن الموت مع عدم الوفاء يسقط المطالبة
بالحق والملازمة عليه، فوجب أن يمنع صحة الضمان، كالإبراء (3).
وهو باطل؛ لأن الإبراء إسقاط للحق، ولهذا لا يصح بعده إبراء، وهنا
بخلافه.
وساعدنا أبو حنيفة فيما إذا ضمن عنه في حياته ثم مات معسرا أنه

(1) الأم 3: 229 - 230، و 7: 118، الحاوي الكبير 6: 454، المهذب - للشيرازي
1: 346، الوسيط 3: 233، حلية العلماء 5: 48، العزيز شرح الوجيز 5: 144،
روضة الطالبين 3: 473، بداية المجتهد 2: 298، المعونة 2: 1232، بدائع
الصنائع 6: 6، الهداية - للمرغيناني - 3: 93، الاختيار لتعليل المختار 2: 277،
المحلى 8: 112، المغني 5: 73، الشرح الكبير 5: 83.
(2) في ص 281 و 282، ضمن المسألة 473.
(3) بدائع الصنائع 6: 6، الهداية - للمرغيناني - 3: 93، الاختيار لتعليل المختار 2:
277، الأم 7: 118، الحاوي الكبير 6: 454، الوسيط 3: 233، حلية العلماء
5: 48، التهذيب - للبغوي - 4: 180، العزيز شرح الوجيز 5: 144، المحلى 8:
112، بداية المجتهد 2: 298، المعونة 2: 1232، المغني 5: 73، الشرح الكبير
5: 83.
305

لا يبطل الضمان (1).
مسألة 496: ولا تشترط معرفة المضمون عنه، فلو ضمن الضامن
عمن لا يعرفه، صح ضمانه، عند علمائنا - وبه قال الشافعي في أصح
القولين (2) - لما تقدم (3) من أن عليا (عليه السلام) وأبا قتادة ضمنا عمن لا يعرفانه.
ولأن الواجب أداء الحق، فلا حاجة إلى معرفة من يؤدى عنه؛ لأنه لا معاملة
بينهما في ذلك. ولأنه لا يشترط رضاه فلا تشترط معرفته، وبه قال أحمد (4)
أيضا.
والثاني للشافعي: أنه تشترط معرفته ليعرف حاله، وأنه هل يستحق
اصطناع المعروف إليه أو لا؟ (5).
وليس بشيء.
إذا عرفت هذا، فهل تشترط معرفة ما يميزه عن غيره؟ الأقرب:
العدم، بل لو قال: ضمنت لك الدين الذي (6) لك على من كان من الناس،
جاز على إشكال.
نعم، لابد من معرفة المضمون عنه بوصف يميزه عند الضامن بما
يمكن القصد معه إلى الضمان عنه لو لم يقصد الضمان عن أي من كان.

(1) التهذيب - للبغوي - 4: 180، العزيز شرح الوجيز 5: 144، وراجع: بدائع
الصنائع 6: 6.
(2) الحاوي الكبير 6: 433، المهذب - للشيرازي - 1: 347، الوسيط 3: 233،
حلية العلماء 5: 52، التهذيب - للبغوي - 4: 171، العزيز شرح الوجيز 5:
144، روضة الطالبين 3: 473، المغني 5: 71 - 72، الشرح الكبير 5: 79.
(3) في ص 281، ضمن المسألة 473.
(4) المغني 5: 71، الشرح الكبير 5: 79.
(5) نفس المصادر في الهامش (2).
(6) في " ج، ر " زيادة: " كان ".
306

تذنيب: لو تبرع الضامن بالضمان ورضي المضمون له بضمانه، صح
الضمان وانعقد وبرئت ذمة المضمون عنه.
ولو أنكر المضمون عنه الضمان، لم يبطل ضمانه، وبه قال
الشافعي (1).
النظر الرابع: في المضمون له.
مسألة 497: المضمون له هو مستحق الدين.
وهل تشترط معرفته عند الضامن؟ إشكال ينشأ: من عدم التعرض له
والبحث عنه في ضمان (2) علي (عليه السلام) وأبي قتادة، ولأن الواجب أداء الحق،
فلا حاجة إلى ما سوى ذلك. ومن أنه لابد وأن يعرفه الضامن ليأمن الغرر،
فإن الناس يتفاوتون في المعاملة والاقتضاء والاستيفاء تشديدا وتسهيلا،
وتختلف الأغراض في ذلك، فالضمان مع إهماله غرر وضرر من غير
ضرورة.
وللشافعية وجهان، أصحهما: الثاني عندهم (3).
ولا بأس به؛ لحصول المعاملة بين الضامن وبينه بالضمان، فافتقر إلى
معرفته للحاجة.
وقال الشيخ (رحمه الله) في الخلاف: لا تشترط معرفة الضامن المضمون له
ولا المضمون عنه. واستدل بضمان علي (عليه السلام) وأبي قتادة (4).

(1) لم نعثر على قوله بحدود المصادر المتوفرة لدينا.
(2) تقدم تخريجه في ص 281، الهامش (5 و 6) و 282، الهامش (1).
(3) الحاوي الكبير 6: 433، المهذب - للشيرازي - 1: 347، التنبيه: 106،
الوسيط 3: 234، حلية العلماء 5: 52، التهذيب - للبغوي - 4: 171، العزيز
شرح الوجيز 5: 145، روضة الطالبين 3: 474، منهاج الطالبين: 129.
(4) الخلاف 3: 313، المسألة 1.
307

مسألة 498: يشترط رضا المضمون له في صحة الضمان، وهو قول
أكثر علمائنا (1) - وبه قال أبو حنيفة ومحمد والشافعي في أحد القولين (2) -
لأنه إثبات مال لآدمي، وتجدد سلطنة وولاية لم تكن، فلا يثبت إلا برضاه
أو من ينوب عنه، كالبيع والشراء، ويبعد أن يتملك الإنسان بتمليك الغير
شيئا من غير رضاه.
والقول الثاني للشافعي: إنه لا يشترط رضاه (3)، وهو قول
الشيخ (4) (رحمه الله)؛ لأن عليا (عليه السلام) وأبا قتادة ضمنا الدين عن الميت (5) والنبي (صلى الله عليه وآله)
لم يسأل عن رضا المضمون له.
ثم قال الشيخ (رحمه الله): ولو قيل: إن من شرطه رضا المضمون له، كان
أولى؛ بدلالة أنه إثبات حق في الذمة، فلابد من اعتبار رضاه، كسائر
الحقوق.
ثم قال: والأول أليق بمذهبنا؛ لأن الثاني قياس (6).
إذا عرفت هذا، فقد قال أبو يوسف بالقول الثاني للشافعي أيضا؛ لأن

(1) منهم: ابن حمزة في الوسيلة: 280، والمحقق الحلي في شرائع الإسلام 2:
108، ويحيى بن سعيد في الجامع للشرائع: 301.
(2) الهداية - للمرغيناني - 3: 93، الاختيار لتعليل المختار 2: 276، الحاوي الكبير
6: 434، المهذب - للشيرازي - 1: 347، الوسيط 3: 234، حلية العلماء 5:
52، التهذيب - للبغوي - 4: 171، العزيز شرح الوجيز 5: 145، روضة الطالبين
3: 474، المغني 5: 71، الشرح الكبير 5: 79.
(3) الحاوي الكبير 6: 434، المهذب - للشيرازي - 1: 347، الوسيط 3: 234،
حلية العلماء 5: 52، التهذيب - للبغوي - 4: 171، العزيز شرح الوجيز 5:
145، روضة الطالبين 3: 474، المغني 5: 71، الشرح الكبير 5: 79.
(4) الخلاف 3: 313، المسألة 2.
(5) تقدم تخريجه في ص 281، الهامش (5 و 6) و 282، الهامش (1).
(6) الخلاف 3: 313 - 314 المسألة 2.
308

الضمان محض التزام، وليس موضوعا على قواعد المعاملات (1).
تذنيب: أبو حنيفة وافقنا على اشتراط رضا المضمون له في الضمان
إلا في مسألة واحدة استثناها، وهي: أن المريض لو التمس من الورثة أن
يضمنوا دينه فأجابوا، صح وإن لم يرض المضمون له (2).
مسألة 499: نحن وأبو حنيفة والشافعي - في أحد القولين - لما
اشترطنا في صحة الضمان رضا المضمون له تفرع عندنا فرع، وهو: أنه هل
يشترط قبول (3) المضمون له، أو لا، بل يكفي في صحة الضمان الرضا؟
إشكال ينشأ: من أنه تملك في مقابلة تمليك الضامن، فيعتبر فيه القبول،
كسائر التمليكات والتملكات. ومن أصالة عدم الاشتراط، مع قيام الفرق
بينه وبين سائر التملكات؛ فإن الضمان لا يثبت ملك شيء جديد، وإنما
يتوثق به الدين الذي كان مملوكا.
وينتقض بالرهن؛ فإنه لا يفيد إلا التوثيق، ويعتبر فيه القبول.
وللشافعية قولان - كالاحتمالين - لكن الأصح عندهم: الثاني (4).
والأقرب عندي: الأول؛ لأنه عقد، فلابد من القبول.
قال بعض الشافعية: يقرب هذا الخلاف من الخلاف في اشتراط
القبول في الوكالة؛ لأن كل واحد منهم يجدد سلطنة لم تكن، فإن شرطنا
القبول فليكن بينه وبين الضمان من التواصل ما بين الإيجاب والقبول في

(1) الهداية - للمرغيناني - 3: 93، الاختيار لتعليل المختار 2: 276، حلية العلماء
5: 52.
(2) الهداية - للمرغيناني - 3: 93، الاختيار لتعليل المختار 2: 277، فتاوى
قاضيخان بهامش الفتاوى الهندية 3: 63، العزيز شرح الوجيز 5: 145.
(3) أي القبول لفظا.
(4) الحاوي الكبير 6: 434 - 435، الوسيط 3: 234، العزيز شرح الوجيز 5:
145، روضة الطالبين 3: 474، منهاج الطالبين: 129.
309

سائر العقود. وإن لم نشترط، فيجوز أن يتقدم (1) (2).
وقد فرع الجويني على عدم اشتراط رضا المضمون له، فقال: إذا
ضمن من غير رضاه، نظر إن ضمن بغير إذن المضمون عنه، فالمضمون له
بالخيار إن شاء طالب الضامن، وإن شاء تركه. وإن كان الضمان بإذنه،
فحيث قلنا: يرجع الضامن على المضمون عنه [يجبر] (3) المضمون له على
قبوله؛ لأن ما يؤديه في حكم ملك المضمون عنه. وحيث قلنا: لا يرجع،
فهو كما لو قال لغيره: أد ديني عني، ولم يشترط الرجوع وقلنا: إنه
لا يرجع (4).
وهل يستحق المدين والحال هذه أن يمتنع من القبول؟ فيه وجهان
بناء على أن المؤدى يقع فداء أو موهوبا ممن عليه الدين؟ إن قلنا بالثاني،
لم يكن له الامتناع، وهو الأشهر عندهم (5).
وقد ظهر من هذا أن للشافعية في اشتراط معرفة المضمون له
والمضمون عنه ثلاثة أقوال:
قال بعضهم: لا تشترط معرفتهما.
وقال آخرون: تشترط معرفتهما.
وقال قوم: تشترط معرفة المضمون له دون المضمون عنه؛ إذ
لا معاملة معه (6).

(1) أي: يتقدم الرضا على الضمان، كما في المصدر.
(2) العزيز شرح الوجيز 5: 145.
(3) ما بين المعقوفين أضفناه من " روضة الطالبين ". وبدلها في " العزيز شرح الوجيز ":
" يتخير ".
(4) العزيز شرح الوجيز 5: 145 - 146، روضة الطالبين 3: 474.
(5) العزيز شرح الوجيز 5: 146، روضة الطالبين 3: 474.
(6) الحاوي الكبير 6: 433، المهذب - للشيرازي - 1: 347، حلية العلماء 5: 52 -
53، التهذيب - للبغوي - 4: 171، العزيز شرح الوجيز 5: 145 - 146، روضة
الطالبين 3: 474، المغني 5: 71 - 72، الشرح الكبير 5: 79.
310

وزاد الجويني قولا رابعا، وهو: اشتراط معرفة المضمون عنه دون
المضمون له (1).
النظر الخامس: في الحق المضمون به.
مسألة 500: يشترط في الحق المضمون به أمران:
الأول: المالية، فلا يصح ضمان ما ليس بمال. والضابط فيه أن
يكون مما يصح تملكه وبيعه، وكما لا يصح بيع المحرمات والربويات
وغيرهما مما تقدم، كذا لا يصح ضمانها.
الثاني: الثبوت في الذمة، فلو ضمن دينا لم يجب بعد وسيجب
بقرض أو بيع أو شبههما، لم يصح.
ولو قال لغيره: ما أعطيت فلانا فهو علي، لم يصح أيضا عند علمائنا
أجمع - وبه قال أحمد (2) - لأن الضمان ضم ذمة إلى ذمة في التزام الدين،
فإذا لم يكن على المضمون عنه شيء فلا ضم فيه ولا يكون ضمانا. ولأن
الضمان شرع لوثيقة الحق، فلا يسبق وجوب الحق كالشهادة.
وللشافعية هنا طريقان:
أحدهما: قال ابن سريج: المسألة على قولين:
القديم: أنه يصح ضمان ما لم يثبت في الذمة ولم يجب؛ لأن
الحاجة قد تمس إليه، كما أنه في القديم جوز ضمان نفقة المستقبل. وبهذا
قال أبو حنيفة ومالك.
والجديد: المنع، وبه قال أحمد.

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 146، روضة الطالبين 3: 474.
(2) العزيز شرح الوجيز 5: 149.
311

والثاني: القطع بالمنع، ويخالف ضمان النفقة؛ لأن النفقة - على
القديم - تجب بالعقد، فضمانها ضمان ما وجب لا ما لا يجب (1).
مسألة 501: لو قال: ضمنت لك ما تبيعه من فلان، فباع الشيء بعد
الشيء، لم يصح هذا الضمان عندنا، وهو أحد قولي الشافعي (2).
وفي القديم: يصح، ويكون ضامنا للكل؛ لأن " ما " من أدوات الشرط
فتقتضي التعميم (3).
ولو قال: إذا بعت من فلان فأنا ضامن، فإنه يضمن الأول لا غير؛ لأن
" إذا " ليست من أدوات الشرط.
وقال أبو حنيفة: إذا قال لغيره: إذا بعت فلانا شيئا فهو علي، فباعه
شيئا ثم باعه شيئا آخر، لزم الضامن المال الأول خاصة. ولو قال: ما بعته اليوم فهو
علي، لزمه ما يبيعه اليوم. ولو قال: من باع فلانا اليوم فهو علي، فباعه
رجل، لا يلزم الضامن (4).
مسألة 502: إذا شرطنا معرفة المضمون له عند ثبوت الدين، فهنا
- أي في صورة ضمان ما لم يجب - أولى.
وإن لم نشترط، فللشافعية وجهان (5).
وكذا معرفة المضمون عنه.
وإذا ضمن ما لم يجب، فلا يطالب الضامن ما لم يلزم الدين على
الأصيل، فيطالب حينئذ عند من جوزه، وأما عندنا فلا.
قال مجوزوه: إذا ضمن ما لم يجب ثم رجع عن الضمان، فإن كان

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 149، روضة الطالبين 3: 478.
(2) العزيز شرح الوجيز 5: 149.
(3) العزيز شرح الوجيز 5: 149، روضة الطالبين 3: 478.
(4) فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهندية 3: 60.
(5) العزيز شرح الوجيز 5: 149، روضة الطالبين 3: 478.
312

بعد لزوم المال، لم يكن له الرجوع.
وإن كان قبله، فعن ابن سريج من الشافعية: أن له أن يرجع (1).
وقال غيره من الشافعية: لا يرجع؛ لأن وضع الضمان على اللزوم (2).
وعلى قولنا ببطلان ضمان ما لم يثبت لو قال: اقرض فلانا كذا وعلي
ضمانه، فأقرضه، قال بعض الشافعية: المذهب أنه لا يجوز (3).
وقال ابن سريج: إنه يجوز؛ لأنه ضمان مقرون بالقبض (4).
مسألة 503: يصح ضمان النفقة الماضية للزوجة، سواء كانت نفقة
الموسرين أو نفقة المعسرين، وكذا ضمان الإدام ونفقة الخادم وسائر
المؤن؛ لأنها تثبت في الذمة واستقرت بمضي الزمان.
وكذا يصح ضمان نفقة اليوم الحاضر؛ لأنها تجب بطلوع الفجر.
وأما النفقة المستقبلة - كنفقة الغد والشهر المستقبل والسنة المستقبلة -
فإنها غير واجبة في الذمة، فلا يصح ضمانها؛ لأن النفقة عندنا إنما تجب
بالعقد والتمكين، والتمكين في المستقبل لم يحصل، فلم تجب النفقة إلا
مع حصوله، فيكون ضمانها ضمان ما لم يجب، وهو القول الجديد
للشافعي.
وقال في القديم: يصح (5).
وهو مبني على أن النفقة تجب بالعقد خاصة، والأول مبني على أنها
تجب بالعقد والتمكين.
وقال الجويني: إن قلنا بالقديم، صح الضمان. وإن قلنا بالثاني،
فالأصح: البطلان (6).

(1 - 4) العزيز شرح الوجيز 5: 150، روضة الطالبين 3: 478.
(5) الحاوي الكبير 6: 442، العزيز شرح الوجيز 5: 150، روضة الطالبين 3: 478 -
479.
(6) العزيز شرح الوجيز 5: 150، روضة الطالبين 3: 479.
313

وفيه قول آخر مع تفريعنا على أن ضمان ما لم يجب باطل؛ لأن
سبب وجوب النفقة ناجز، وهو النكاح (1).
وفيه إشكال؛ لأن سبب وجوب النفقة إما النكاح أو التمكين في
النكاح، فإن كان الأول، فالنفقة واجبة، فكيف قال: ولم تجب!؟ وإن كان
الثاني، فالسبب غير موجود.
مسألة 504: قد بينا أن ضمان نفقة المدة المستقبلة للزوجة باطل.
وعلى قول الشافعي بالجواز يشترط أمران:
أحدهما: أن يقدر المدة، فلو أطلق لم يصح فيما بعد الغد. وفي الغد
وجهان أخذا من الخلاف فيما إذا قال: آجرتك كل شهر بدرهم،
ولم يقدر، هل يصح في الشهر الأول؟ قولان.
الثاني: أن يكون المضمون نفقة المعسرين وإن كان المضمون عنه
موسرا أو متوسطا؛ لأنه ربما يعسر، فالزائد على نفقة المعسر غير ثابت؛
لأنه يسقط بالعسر (2).
وقال بعض الشافعية: إنه يجوز ضمان نفقة الموسرين والمتوسطين؛
لأن الظاهر استمرار حاله (3).
وأما نفقة القريب للمدة المستقبلة فإنها عندنا أولى بالبطلان؛ لعدم
وجوبها، وبه قال الشافعي (4).
أما نفقة اليوم، فالأقرب: جواز ضمانها؛ لوجوبها بطلوع الفجر.
وللشافعي وجهان، أحدهما: أنه لا يصح (5).
والفرق بينها وبين نفقة الزوجة: أن سبيل هذه النفقة سبيل البر
والصلة، لا سبيل الديون، ولهذا تسقط بمضي الزمان وضيافة الغير، ونفقة
الزوجة نفقة معاوضة، فسبيلها سبيل الديون.

(1 - 5) العزيز شرح الوجيز 5: 150، روضة الطالبين 3: 479.
314

مسألة 505: لا يشترط في المال اللزوم، بل مطلق الثبوت، سواء كان
مستقرا لازما، كثمن المبيع إذا كان في الذمة، أو متزلزلا، كضمان الثمن في
مدة الخيار، فإنه يصح ضمانه - وهو أصح وجهي الشافعي (1) - لأنه ينتهي
إلى اللزوم بنفسه، فيحتاج فيه إلى التوثيق، وأصل وضع البيع اللزوم.
والثاني: لا يصح ضمانه؛ لأنه ليس بلازم (2).
ويمنع اشتراط اللزوم.
وهذا الخلاف بين قولي الشافعي إنما هو فيما إذا كان الخيار للمشتري
أو لهما، أما إذا كان الخيار مختصا بالبائع، فإنه يصح ضمانه بلا خلاف؛
لأن الدين لازم في حق من هو عليه (3).
وهو ممنوع.
وقال الجويني: تصحيح الضمان في بيع الخيار مبني على أن الخيار
لا يمنع نقل الملك في الثمن إلى البائع، أما إذا منعه فهو ضمان ما لم يثبت
بعد (4).
مسألة 506: الحقوق على أربعة أضرب:
[الأول]: حق لازم مستقر، كالثمن بعد قبض المبيع، والأجرة بعد
انقضاء المدة، والمهر بعد الدخول، وهذا يصح ضمانه إجماعا.
الثاني: لازم غير مستقر، كالثمن قبل القبض، والمهر قبل الدخول،
والأجرة قبل انقضاء المدة، فهذا يصح ضمانه أيضا؛ لأنه لازم في الحال
وإن جاز أن يسقط، كما يسقط المستقر بالقضاء والإبراء وبالرد بالعيب وغير
ذلك.

(1 - 4) العزيز شرح الوجيز 5: 156، روضة الطالبين 3: 483.
315

وكذا (1) السلم يصح ضمانه عندنا وعند الشافعي (2)؛ لأنه دين لازم،
فصح ضمانه، كالقرض.
وقال أحمد بن حنبل في إحدى الروايتين: إنه لا يصح ضمانه؛ لأنه
يؤدي إلى استيفاء المسلم فيه من غير المسلم إليه، فلا يجوز، كالحوالة
به (3).
والفرق أنه في الحوالة يطالب ببدل الحق، وفي الضمان يطالب بنفس
الحق.
الثالث: ما ليس بلازم ولا يؤول إلى اللزوم، كالكتابة عند بعض (4)
علمائنا.
الرابع: ما ليس بلازم ولكن يؤول إلى اللزوم، كمال الجعالة.
مسألة 507: الأقرب عندي: أنه يصح ضمان مال الكتابة - وهو إحدى
الروايتين عن أحمد، وبه قال أبو حنيفة والشافعي في وجه (5)، وخرجه ابن
سريج على ضمان ما لم يجب ووجد سبب وجوبه (6). وقال بعضهم: إنه
مأخوذ من تجويز ضمان الجعل في الجعالة على إحدى الروايتين (7) - لأنه
دين على المكاتب، فصح ضمانه، كسائر الديون عليه وعلى غيره.

(1) في النسخ الخطية: " كذلك ".
(2) الحاوي الكبير 5: 390، المهذب - للشيرازي - 1: 347، التهذيب - للبغوي -
4: 174، المغني 4: 377، الشرح الكبير 4: 378.
(3) المغني 4: 377، و 5: 75، الشرح الكبير 4: 377 - 378، و 5: 88، الكافي
في فقه الإمام أحمد 2: 131.
(4) الشيخ الطوسي (رحمه الله) في المبسوط 2: 325.
(5) المغني 5: 75، الشرح الكبير 5: 86، الكافي في فقه الإمام أحمد 2: 131،
العزيز شرح الوجيز 5: 155.
(6 و 7) العزيز شرح الوجيز 5: 155.
316

والمشهور من مذهب الشافعي - وإليه مال الشيخ (1) (رحمه الله) وأحمد في
الرواية الأخرى -: أنه لا يصح؛ لأن مال الكتابة ليس بلازم ولا يؤول إلى
اللزوم، فإن للمكاتب أن يعجز نفسه ويمتنع من أدائه، فإذا لم يلزم (2)
الأصيل فالضمين أولى (3).
ويمنع عدم لزومه وأن للمكاتب تعجيز نفسه، بل يجب عليه القيام
في المال؛ لأنه قد صار دينا عليه.
تذنيب: لو ضمن إنسان عن المكاتب غير نجوم الكتابة، فإن كان
الدين لأجنبي، صح الضمان، وإذا أدى الضامن، رجع على المكاتب إن كان
قد ضمن بإذنه.
وإن ضمنه لسيده، جاز أيضا.
والشافعي بناه على أن ذلك الدين هل يسقط بعجزه؟ وهو على
وجهين، إن قلنا: نعم، لم يصح، كضمان النجوم، وإلا جاز (4).
مسألة 508: [في ضمان] (5) ما ليس بلازم في الحال وله مصير إلى
اللزوم، والأصل في وضعه الجواز، كمال الجعالة.
فنقول: إن ضمن قبل الشروع في العمل، لم يصح الضمان؛ لأنه

(1) المبسوط - للطوسي - 2: 336.
(2) في النسخ الخطية والحجرية: " لم يلزمه ". والظاهر ما أثبتناه.
(3) الحاوي الكبير 6: 460، المهذب - للشيرازي - 1: 347، الوسيط 3: 238،
حلية العلماء 5: 53، التهذيب - للبغوي - 4: 175، العزيز شرح الوجيز 5: 155،
روضة الطالبين 3: 482، المغني 5: 75، الشرح الكبير 5: 86، الكافي في فقه
الإمام أحمد 2: 131.
(4) العزيز شرح الوجيز 5: 155، روضة الطالبين 3: 482.
(5) ما بين المعقوفين أثبتناه كما استظهر في هامش الطبعة الحجرية، ولم يرد في
النسخ الخطية.
317

ضمان ما لم يجب؛ إذ العقد غير لازم، والمال الثابت بالعقد غير ثابت في
الذمة فكيف يلزم فرعه!؟
وإن ضمن بعد فراغ العمل واستحقاقه للمال، صح ضمانه قطعا؛ لأنه
ضمان ما قد ثبت وجوبه.
وإن ضمن بعد الشروع في العمل وقبل إتمامه، فالأقرب: جواز
الضمان؛ لوجود سبب الوجوب، ولانتهاء الأمر فيه إلى اللزوم، كالثمن في
مدة الخيار، وهو أحد قولي الشافعي.
وأصحهما عنده: المنع؛ لأن الموجب للجعل هو العمل؛ إذ به يتم
الموجب، فكأنه لا ثبوت له قبل العمل (1).
وقال بعض الشافعية: يمكن بناء الوجهين على الوجهين في جواز
رجوع المالك بعد الشروع في العمل، فنقول: إن لم نجوز الرجوع، فقد
لزم الجعل من قبله. وإن جوزناه، لم يصح ضمانه (2).
وأما مال المسابقة والمناضلة فمبني على أن عقدهما جعالة أو إجارة،
فإن كان إجارة، صح الضمان. وإن كان جعالة، فهو كضمان الجعل.
وقال الشيخ (3) (رحمه الله) وأحمد: يصح ضمان مال الجعالة والمسابقة؛ لأنه
يؤول إلى اللزوم. ولقوله تعالى: (ولمن جاء به حمل بعير وأنا به
زعيم) (4) ولأنه يؤول إلى اللزوم إذا عمل العمل، وإنما الذي لا يلزم

(1) المهذب - للشيرازي - 1: 347، العزيز شرح الوجيز 5: 156، و 4: 460،
روضة الطالبين 3: 483، المغني 5: 74، الشرح الكبير 5: 87.
(2) العزيز شرح الوجيز 4: 460، و 5: 156.
(3) الخلاف 3: 316 و 317، المسألتان 7 و 8 من كتاب الضمان، المبسوط
- للطوسي - 2: 325.
(4) يوسف: 72.
318

العمل، والمال يلزم لوجوده، والضمان للمال دون العمل (1).
وكلامه يشعر بجواز الضمان قبل الشروع في العمل.
مسألة 509: يصح ضمان أرش الجناية، عند علمائنا، سواء كان من
النقدين أو من الإبل وغيرها (2) من الحيوانات - وبه قال أحمد (3) - لأنه ثابت
مستقر في الذمة، فصح ضمانه، كغيره من الحقوق الثابتة في الذمم، وكغير
الحيوانات من الأموال.
وقال أصحاب الشافعي: إذا لم نجوز ضمان المجهول ففي ضمان إبل
الدية وجهان، ويقال قولان:
أحدهما: لا يصح؛ لأنه مجهول الصفة واللون.
والثاني: أنه صحيح (4).
ونمنع بطلان ضمان المجهول.
سلمنا، لكن نمنع الجهالة؛ فإن الإبل الواجبة في الذمة عن النفس
والأعضاء والجراحات معلومة العدد والسن، وجهالة اللون وغيره من
الصفات الباقية لا تضر؛ لأن الذي يلزمه أدنى لون أو صفة أو غالب إبل
البلد، فتحصل معلومة. ولأن جهل ذلك لا يمنع وجوبه بالإتلاف فلم يمنع
وجوبه بالالتزام. ولأن الضمان تلو الإبراء، والإبراء عنها صحيح فكذا
الضمان.

(1) الكافي في فقه الإمام أحمد 2: 130، المغني 5: 74، الشرح الكبير 5: 87.
(2) في الطبعة الحجرية: " أو من غيرهما " بدل " وغيرها ".
(3) الكافي في فقه الإمام أحمد 2: 130، المغني 5: 74، الشرح الكبير 5: 87.
(4) الحاوي الكبير 6: 442، المهذب - للشيرازي - 1: 347، الوسيط 3: 238،
التهذيب - للبغوي - 4: 178، العزيز شرح الوجيز 5: 158، روضة الطالبين 3: 485.
319

وهذا الوجه (1) عند الشافعية أظهر حتى أن بعضهم قطع به (2).
تذنيب: إذا كان الضمان بحيث يقتضي الرجوع - كما إذا ضمن
بسؤاله - فإنه يرجع بالحيوان.
وللشافعية خلاف كما وقع في اقتراض الحيوان (3).
وهل يصح ضمان الدية على العاقلة قبل تمام السنة؟ الأقرب:
جوازه؛ لأن سبب الوجوب ثابت.
وقالت الشافعية: لا يجوز؛ لأنها غير ثابتة بعد (4).
مسألة 510: إذا ضمن عينا لمالكها وهي في يد غيره، فإن كانت أمانة
لم يتعد فيها الأمين، لم يصح الضمان، كالوديعة والعارية غير المضمونة
ومال الشركة والمضاربة والعين التي يدفعها إلى الصانع والمال في يد الوكيل
والوصي والحاكم وأمينه إذا لم يقع منهم تعد أو تفريط، عند علمائنا أجمع
- وبه قال الشافعي (5) - لأنها غير مضمونة العين ولا مضمونة الرد، وإنما
الذي يجب على الأمين مجرد التخلية، وإذا لم تكن مضمونة على ذي اليد
فكذا على ضامنه.
ولو ضمنها إن تعدى فيها، لم يصح؛ لأنه ضمان ما لم يجب
ولم يثبت في الذمة، فيكون باطلا، كما لو ضمن عنه ما يدفعه إليه غدا
قرضا.
وقال أحمد: يصح ضمانه، فعلى هذا إن تلفت بغير تعد من القابض
ولا تفريط، لم يلزم الضامن شيء؛ لأنه فرع المضمون عنه، والمضمون عنه

(1) أي الوجه الثاني.
(2 - 4) العزيز شرح الوجيز 5: 158، روضة الطالبين 3: 485.
(5) التهذيب - للبغوي - 4: 177، العزيز شرح الوجيز 5: 162، روضة الطالبين 3:
488.
320

لا يلزمه شيء. وإن تلفت بتعد أو تفريط، يلزمه ضمانها، ولزم الضامن
ذلك؛ لأنها مضمونة على من هي في يده، فلزم ضامنه، كالمغصوب (1).
وهذا في الحقيقة ضمان ما لم يجب، وقد بينا بطلانه.
مسألة 511: الأعيان المضمونة - كالمغصوب والمستعار مع التضمين
أو كونه أحد النقدين والمستام والأمانات - إذا خان فيها أو تعدى، فله
صورتان:
الأولى: أن يضمن رد أعيانها. وهو جائز؛ لأنه ضمان مال مضمون
على المضمون عنه، وبه قال أبو حنيفة وأحمد (2).
والمشهور عند الشافعية تخريجه على [قولي] (3) كفالة الأبدان (4).
ومنهم من قطع بالجواز مع إثبات الخلاف في كفالة الأبدان. والفرق:
أن حضور الخصم ليس مقصودا في نفسه، وإنما هو ذريعة إلى تحصيل
المال، فالتزام المقصود أولى بالصحة من التزام الذريعة (5).
إذا ثبت هذا، فإن ردها الضامن أو الغاصب، برئ من الضمان.
وإن تلفت وتعذر الرد، فهل عليه قيمتها؟ فيه للشافعية وجهان،

(1) الكافي في فقه الإمام أحمد 2: 131، المغني 5: 76، الشرح الكبير 5: 86.
(2) تحفة الفقهاء 3: 243، بدائع الصنائع 6: 7، الهداية - للمرغيناني - 3: 92،
الاختيار لتعليل المختار 2: 276، الكافي في فقه الإمام أحمد 2: 130، المغني
5: 75، الشرح الكبير 5: 87، حلية العلماء 5: 76، العزيز شرح الوجيز 5:
162.
(3) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطية والحجرية: " قول ". والصحيح ما أثبتناه
من المصادر.
(4) المهذب - للشيرازي - 1: 351، حلية العلماء 5: 76، التهذيب - للبغوي - 4:
177، العزيز شرح الوجيز 5: 161، روضة الطالبين 3: 488.
(5) العزيز شرح الوجيز 5: 161، روضة الطالبين 3: 488.
321

كالوجهين في وجوب الغرم على الكفيل إن [مات المكفول ببدنه (1).
فإن أوجبنا فيجب في المغصوب أقصى القيم أم قيمته يوم التلف؛
لأن الكفيل] (2) لم يكن متعديا؟ حكى الجويني فيه وجهين (3).
ولو ضمن تسليم المبيع وهو في يد البائع، جرى الخلاف في
الضمان، فإن صححناه وتلف، انفسخ البيع، فإن لم يوفر المشتري
[الثمن] (4) لم يطالب الضامن بشيء.
وإن كان قد وفره، عاد الوجهان في أن الضامن هل يغرم؟
فإن أغرمناه، فيغرم الثمن أو أقل الأمرين من الثمن وقيمة المبيع؟
للشافعية وجهان، أظهرهما عندهم: الأول (5).
الثانية: أن يضمن قيمتها لو تلفت.
والأقوى عندي: الصحة؛ لأن ذلك ثابت في ذمة الغاصب، فصح
الضمان.
وقالت الشافعية: يبنى ذلك على أن المكفول ببدنه إذا مات هل يغرم
الكفيل الدين؟ إن قلنا: نعم، صح ضمان القيمة لو تلفت العين، وإلا
لم يصح، وهو الأصح عندهم (6).
ولو تكفل ببدن العبد الجاني جناية توجب المال، فهو كما لو ضمن
عينا من الأعيان.

(1) الحاوي الكبير 6: 434، المهذب - للشيرازي - 1: 351، حلية العلماء 5: 76 -
77، التهذيب - للبغوي - 4: 178، العزيز شرح الوجيز 5: 162، روضة الطالبين
3: 488.
(2) ما بين المعقوفين من " العزيز شرح الوجيز " و " روضة الطالبين ".
(3) العزيز شرح الوجيز 5: 162، روضة الطالبين 3: 488.
(4) ما بين المعقوفين من المصدر.
(5 و 6) العزيز شرح الوجيز 5: 162، روضة الطالبين 3: 488.
322

وجزم بعض الشافعية بالمنع هنا. وفرق بأن العين المضمونة مستحقة
ونفس العبد ليست مستحقة، وإنما المقصود تحصيل الأرش من بدله،
وبدله مجهول (1).
ولو باع شيئا بثوب أو دراهم معينة فضمن ضامن عهدة المبيع حتى
إذا خرج مستحقا رد عليه الثمن وهو قائم في يد البائع، فهذا من صور
ضمان الأعيان، فإن تلف في يد البائع فضمن قيمته، فهو كما لو كان الثمن
في الذمة وضمن العهدة.
ولو رهن ثوبا من إنسان ولم يقبضه، فضمن رجل تسليمه،
لم يصح؛ لأنه ضمان ما لم يجب.
إذا عرفت هذا، فقد اختلف قول الشافعية في صحة ضمان الأعيان
المضمونة، كالغصب وشبهه.
فقال بعضهم: يصح، وبه قال أبو حنيفة وأحمد على ما تقدم (2)؛
لأنها مضمونة على من هي في يده، فهي كالديون الثابتة في الذمة.
والثاني (3): لا يصح ضمانها؛ لأنها غير ثابتة في الذمة، وإنما يصح
ضمان ما كان ثابتا في الذمة، ووصفنا إياها بأنها مضمونة معناه أنه يلزمه
قيمتها بتلفها، والقيمة مجهولة، وضمان المجهولة لا يجوز (4).
مسألة 512: للشيخ (رحمه الله) قولان في ضمان المجهول.
قال في الخلاف: لا يصح (5)، وبه قال ابن أبي ليلى والثوري والليث

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 162، روضة الطالبين 3: 488.
(2) في ص 321، المسألة 511.
(3) أي القول الثاني للشافعية.
(4) المغني 5: 75، الشرح الكبير 5: 87، وأيضا راجع المصادر في الهامش (4) من
ص 321.
(5) الخلاف 3: 319، المسألة 13.
323

وأحمد (1)؛ لأنه إثبات مال في الذمة بعقد لآدمي، فلم يصح في المجهول،
كالبيع وكما لو قال: ضمنت لك بعض ما لك على فلان.
وقال في النهاية: لو قال: أنا أضمن لك ما يثبت لك عليه إن لم يأت
به إلى وقت كذا، ثم لم يحضره، وجب عليه ما قامت به البينة للمضمون
عنه، ولا يلزمه ما لم تقم به البينة مما يخرج به الحساب في دفتر أو كتاب،
وإنما يلزمه ما قامت له به البينة، أو يحلف خصمه عليه، فإن حلف على
ما يدعيه واختار هو ذلك، وجب عليه الخروج منه (2). وهذا يشعر بجواز
ضمان المجهول، وبه قال أبو حنيفة ومالك (3).
وعن أحمد روايتان (4).
وللشافعية طريقان:
أحدهما: أنه على قولين: القديم: أنه يصح. والجديد: المنع.
والثاني: القطع بالمنع (5).
واحتج المجوزون بقوله تعالى: (ولمن جاء به حمل بعير وأنا به

(1) حلية العلماء 5: 56، المغني 5: 72، الشرح الكبير 5: 80، وفي الأخيرين وكذا
في الكافي في فقه الإمام أحمد 2: 131 صحة ضمان المجهول، على العكس
مما نسب إلى أحمد في المتن.
(2) النهاية: 315 - 316.
(3) المبسوط - للسرخسي - 19: 174، الهداية - للمرغيناني - 3: 90، الاختيار
لتعليل المختار 2: 274، بداية المجتهد 2: 298، الإشراف على نكت مسائل
الخلاف 2: 602، عيون المجالس 4: 1666، حلية العلماء 5: 56، الإشراف
على مذاهب أهل العلم 1: 121، العزيز شرح الوجيز 5: 156، المغني 5: 72،
الشرح الكبير 5: 80.
(4) لاحظ المصادر في الهامش (1).
(5) الوسيط 3: 238، الوجيز 1: 184، العزيز شرح الوجيز 5: 156، روضة الطالبين
3: 483.
324

زعيم) (1) وحمل البعير مجهول، ويختلف باختلاف الأجناس.
ولعموم قوله (عليه السلام): " الزعيم غارم " (2).
ولأنه التزام حق في الذمة عن معاوضة، فصح مع الجهالة، كالنذر
والإقرار. ولأنه يصح تعليقه بغرر وخطر، وهو ضمان العهدة، وكما إذا قال
لغيره: ألق متاعك في البحر وعلي ضمانه، أو قال: ادفع ثيابك إلى هذا
[الرفاء] (3) وعلي ضمانها، فصح في المجهول، كالعتق والطلاق (4).
تذنيب: إن قلنا بصحة ضمان المجهول فإنما يصح في صورة يمكن
العلم فيها بعد ذلك، كما لو قال: أنا ضامن للدين الذي عليك، أو أنا
ضامن لثمن ما بعت من فلان، وهو جاهل بالدين والثمن؛ لأن معرفته
ممكنة، والخروج عن العهدة مقدور عليه، أما لو لم يمكن الاستعلام، فإن
الضمان فيه لا يصح قولا واحدا، كما لو قال: ضمنت لك شيئا مما لك على
فلان.
مسألة 513: الإبراء - عندنا - من المجهول يصح؛ لأنه إسقاط عما في
الذمة، بل هو أولى من ضمان المجهول؛ لأن الضمان التزام، والإبراء
إسقاط.
والخلاف المذكور للشافعية في ضمان المجهول آت لهم في
الإبراء (5).

(1) يوسف: 72.
(2) سنن ابن ماجة 2: 804 / 2405، سنن أبي داود 3: 297 / 3565، سنن الترمذي
3: 565 / 1265، سنن الدارقطني 4: 70 / 8، سنن البيهقي 6: 72، مسند أحمد
6: 358 / 21792.
(3) ما بين المعقوفين من المصدر.
(4) المغني 5: 72، الشرح الكبير 5: 80 - 81.
(5) العزيز شرح الوجيز 5: 156، روضة الطالبين 3: 484.
325

وذكروا للخلاف في الإبراء مأخذين:
أحدهما: الخلاف في صحة شرط البراءة من العيوب، فإن العيوب
مجهولة الأنواع والأقدار.
والثاني: أن الإبراء محض إسقاط، كالإعتاق، أو هو تمليك للمديون
ما في ذمته، ثم إذا ملكه يسقط.
وفيه قولان إن قلنا: إنه إسقاط، صح الإبراء عن المجهول - كما ذهبنا
نحن إليه - وبه قال أبو حنيفة ومالك. وإن قلنا: تمليك، لم يصح، وهو
ظاهر مذهب الشافعي (1).
وخرجوا على هذا الأصل مسائل:
أ: لو عرف المبرىء قدر الدين ولم يعرفه المبرأ عنه، هل يصح أم
لا؟ وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الوكالة.
ب: لو كان له دين على اثنين، فقال: أبرأت أحدكما، إن قلنا: إنه
إسقاط، صح، وطولب بالبيان. وإن قلنا: تمليك، لم يصح، كما لو كان في
يد كل واحد منهما ثوب، فقال: ملكت أحدكما الثوب الذي في يده.
ج: لو كان للأب دين على شخص فأبرأه الولد وهو لا يعلم موت
أبيه، إن قلنا: إنه إسقاط، صح، كما لو قال لعبد أبيه: أعتقتك، وهو لا يعلم
موت الأب. وإن قلنا: إنه تمليك، فهو كما لو باع مال أبيه على ظن أنه حي
وهو ميت
د: الإبراء إذا كان إسقاطا، لم يحتج إلى القبول، وهو ظاهر مذهب
الشافعي. وإن قلنا: إنه تمليك، لم يحتج إليه أيضا؛ لأنه وإن كان تمليكا

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 156 - 157، روضة الطالبين 3: 484.
326

فالمقصود منه الإسقاط. فإن اعتبرنا القبول، ارتد بالرد. وإن لم نعتبره، ففي
ارتداده بالرد وجهان للشافعية (1).
وعندنا أنه لا يرتد.
واحتج بعض الشافعية على أن الإبراء تمليك: بأنه لو قال للمديون:
ملكتك ما في ذمتك، صح وبرئت ذمته من غير نية وقرينة، ولولا أنه
تمليك لافتقر إلى نية أو قرينة، كما إذا قال لعبده: ملكتك رقبتك، أو
لزوجته: ملكتك نفسك، فإنه يحتاج عندهم إلى النية (2).
ولا يتأتى ذلك على مذهبنا؛ لأن العتق والطلاق لا يقعان بالكناية،
وإن الإبراء عندنا إسقاط محض، ولا يعتبر فيه رضا المبرىء، ولا أثر لرده.
تذنيب: لو اغتاب شخص غيره ثم جاء إليه فقال: إني اغتبتك
فاجعلني في حل، ففعل وهو لا يدري بم اغتابه، فللشافعية وجهان:
أحدهما: أنه يبرأ؛ لأن هذا إسقاط محض، فصار كما لو عرف أن
عبدا قطع عضوا من عبده ولم يعرف عين العضو المقطوع فعفا عن
القصاص، يصح.
والثاني: لا يصح؛ لأن المقصود حصول رضاه، والرضا بالمجهول
لا يمكن، بخلاف مسألة القصاص؛ لأن العفو عن القصاص مبني على
التغليب والسراية، وإسقاط المظالم غير مبني عليه (3).
مسألة 514: إذا منعنا من ضمان المجهول، فلو قال: ضمنت ما لك
على فلان من درهم إلى عشرة، فالأقوى: الصحة؛ لأن ضمان المجهول إذا
أبطلناه فإنما كان باطلا؛ لما فيه من الغرر، ومع بيان الغاية ينتفي الغرر،

(1 و 2) العزيز شرح الوجيز 5: 157، روضة الطالبين 3: 484.
(3) العزيز شرح الوجيز 5: 157 - 158، روضة الطالبين 3: 484.
327

فينتفي المقتضي للفساد، فيبقى أصل الصحة سليما عن المبطل، وحيث
وطن نفسه على تلك الغاية فأي غرر يبقى فيه؟ وهو أحد قولي الشافعي.
والثاني: لا يصح؛ لما فيه من الجهالة (1).
فإذا قلنا بالصحة وكان له عليه عشرة أو أكثر، فيلزمه العشرة؛ إدخالا
للطرفين في الملتزم، وهو المتعارف، وهو أحد وجوه الشافعية.
والثاني: أنه يلزمه ثمانية؛ إخراجا للطرفين.
والثالث: تسعة؛ إدخالا للطرف الأول؛ لأنه مبدأ الالتزام (2).
وما اخترناه أصحهما عندهم (3).
أما لو قال: ضمنت لك ما بين درهم وعشرة، فإن عرف أن دينه
لا ينقص عن عشرة، صح ضمانه، وكان ضامنا لثمانية.
وإن لم يعرف، ففي صحته في الثمانية للشافعية قولان (4).
ولو قال: ضمنت لك الدراهم التي لك على فلان، وقلنا ببطلان
ضمان المجهول وهو لا يعرف قدرها، احتمل صحة ضمان ثلاثة؛ لدخولها
قطعا في اللفظ على كل حال، كما لو قال: آجرتك كل شهر بدرهم، هل
يصح في الشهر الأول؟ للشافعية وجهان (5).
وكل هذه المسائل آتية في الإبراء.
تذنيب: هل يجوز ضمان الزكاة عمن هي عليه؟ الأقوى عندي:
الجواز؛ لأنها دين ثابت لله تعالى، فجاز ضمانها.
والمضمون له هنا الحاكم أو المستحق؟ إشكال.

(1 و 2) التهذيب - للبغوي - 4: 179، العزيز شرح الوجيز 5: 158، روضة الطالبين 3:
485.
(3 - 5) العزيز شرح الوجيز 5: 158، روضة الطالبين 3: 485.
328

وللشافعية وجه يمنع الضمان؛ لأنها حق الله تعالى، فأشبه الكفالة
ببدن الشاهد لأداء الشهادة (1).
وعلى ما اخترناه هل يعتبر الإذن عند الأداء؟ للشافعية وجهان
أظهرهما: الاعتبار (2).
تذنيب: يجوز ضمان المنافع الثابتة في الذمم، كالأموال؛ لأنها
مستحقة في ذمة المضمون عنه معلومة، فلا مانع من صحة ضمانها
كالأموال.
البحث الثالث: في ضمان العهدة.
مسألة 515: من باع شيئا فخرج المبيع مستحقا لغير البائع، وجب
على البائع رد الثمن، ولا حاجة فيه إلى شرط والتزام.
قال بعض (3) العلماء: من الحماقة اشتراط ذلك في القبالات.
وإن ضمن عنه ضامن ليرجع المشتري عليه بالثمن لو خرج مستحقا،
فهو ضمان العهدة، ويسمى أيضا ضمان الدرك.
وسمي ضمان العهدة؛ لالتزام الضامن ما في عهدة البائع رده، أو لما
ذكره صاحب الصحاح، فقال: يقال: في الأمر عهدة بالضم، أي: لم يحكم
بعد، وفي عقله عهدة، أي ضعف (4)، فكأن الضامن ضمن ضعف العقد،
والتزم ما يحتاج إليه فيه من غرم، أو أن الضامن التزم رجعة المشتري عليه

(1 و 2) العزيز شرح الوجيز 5: 159، روضة الطالبين 3: 485.
(3) هو القفال من الشافعية، كما في العزيز شرح الوجيز 5: 151، وروضة الطالبين
3: 479.
(4) الصحاح 2: 515 " عهد ".
329

عند الحاجة.
وأما الدرك فقال في الصحاح: الدرك: التبعة (1).
وقيل: سمي ضمان الدرك؛ لالتزامه الغرامة عند إدراك المستحق عين
ماله (2).
وهذا الضمان عندنا صحيح إن كان البائع قد قبض الثمن، وإن
لم يكن قد قبض، لم يصح.
وللشافعي في صحة ضمان العهدة طريقان:
أظهرهما: أنه على قولين:
أحدهما: أنه لا يصح؛ لأنه ضمان ما لم يجب. ولأنه لا يجوز الرهن
به فكذا الضمين.
وأصحهما - وهو قول الشافعي في كتاب الإقرار - أنه صحيح - وبه
قال أبو حنيفة ومالك وأحمد - لإطباق الناس عليه، وإيداعه الصكوك في
جميع الأعصار. ولأن الحاجة تمس إلى معاملة من لا يعرف من الغرماء
ولا يوثق بيده وملكه ويخاف عدم الظفر به لو ظهر الاستحقاق، فيحتاج إلى
التوثيق.
والثاني: القطع بالصحة (3).
ونمنع كون ضمان العهدة ضمان ما لم يجب؛ لأنه إذا ظهر عدم

(1) الصحاح 4: 1582 " درك ".
(2) العزيز شرح الوجيز 5: 151، روضة الطالبين 3: 479.
(3) الحاوي الكبير 6: 441، المهذب - للشيرازي - 1: 349، الوسيط 3: 236،
حلية العلماء 5: 64، التهذيب - للبغوي - 4: 175، العزيز شرح الوجيز 5:
151، روضة الطالبين 3: 479، الهداية - للمرغيناني - 3: 90، بدائع الصنائع 6:
9، الاختيار لتعليل المختار 2: 280، الذخيرة 9: 212، المغني 5: 76، الشرح
الكبير 5: 84.
330

استحقاق البائع للعين، ظهر استحقاق الثمن عليه، وثبوته في ذمته، وأنه
يجب عليه رد الثمن إلى المشتري، إلا أنا لم نكن نعرف ذلك لخفاء
الاستحقاق عندنا.
ونمنع عدم جواز الرهن عليه وقد روى داود بن سرحان عن
الصادق (عليه السلام)، قال: سألته عن الكفيل والرهن في بيع النسيئة، قال:
" لا بأس " (1).
سلمنا، لكن الفرق ظاهر؛ لأن تجويز الرهن يؤدي إلى أن تبقى العين
مرهونة أبدا.
مسألة 516: قد بينا أن الضمان في عهدة الثمن ودركه إن كان بعد
قبض البائع الثمن، صح، وبه قال الشافعي في أصح القولين عنده (2).
وإن كان قبله، فوجهان عنده:
أصحهما: البطلان - كما قلناه نحن - لأن الضامن إنما يضمن ما دخل
في ضمان البائع ولزمه رده، وقبل القبض لم يتحقق ذلك.
والثاني: الجواز؛ لأن الحاجة تمس إليه والضرورة تقود إليه؛ إذ ربما
لا يثق المشتري بتسليم الثمن إلا بعد الاستيثاق (3).
واعلم أن ضمان العهدة في المبيع يصح عن البائع للمشتري وعن
المشتري للبائع، أما ضمانه عن البائع للمشتري فهو أن يضمن عن البائع
الثمن متى خرج المبيع مستحقا أو رد بعيب، أو أرش العيب. وأما ضمانه
عن المشتري للبائع فهو أن يضمن الثمن الواجب بالبيع قبل تسليمه، وإن

(1) الفقيه 3: 55 / 188، التهذيب 6: 210 / 491.
(2) العزيز شرح الوجيز 5: 151، روضة الطالبين 3: 479.
(3) المهذب - للشيرازي - 1: 349، حلية العلماء 5: 65، التهذيب - للبغوي - 4:
175، العزيز شرح الوجيز 5: 151، روضة الطالبين 3: 480.
331

ظهر فيه عيب أو استحق، رجع بذلك على الضامن، فضمان العهدة في
الموضعين ضمان الثمن أو جزء منه عن أحدهما للآخر.
وحقيقة العهدة الكتاب الذي يكتب فيه وثيقة البيع، ويذكر فيه الثمن
فغرمه عن الثمن الذي يضمنه.
مسألة 517: وكما يصح ضمان العهدة للمشتري يصح ضمان نقصان
الصنجة للبائع، فإذا جاء المشتري بصنجة ووزن بها الثمن، فاتهمه البائع
فيها، فضمن ضامن النقصان إن كانت الصنجة ناقصة، صح الضمان؛ لأنه
من ضمان العهدة.
وكذا لو ضمن رداءة الثمن إذا شك البائع في أن الثمن الذي دفعه
المشتري إليه هل هو من الضرب الذي يستحقه، صح، فإذا خرج ناقصا،
طالب البائع الضامن بالنقصان.
وكذا لو خرج رديئا من غير الجنس الذي يستحقه المشتري، فرده
على البائع، طالب المشتري الضامن بالضرب المستحق له.
ولو اختلف المتبايعان في نقصان الصنجة، فالقول قول البائع مع
يمينه؛ لأصالة عدم القبض، فإذا حلف طالب المشتري بالنقصان،
ولا يطالب الضامن، على أقيس الوجهين للشافعية؛ لأن الأصل براءة ذمته،
فلا يطالب إلا إذا اعترف بالنقصان أو قامت عليه البينة (1).
ولو اختلف البائع والضامن في نقصان الصنجة، صدق الضامن - وهو
أصح وجهي الشافعية (2) - لأن الأصل براءة ذمته، بخلاف المشتري، فإن
ذمته كانت مشغولة بحق البائع، فالأصل (3) بقاء الشغل.

(1 و 2) العزيز شرح الوجيز 5: 152، روضة الطالبين 3: 480.
(3) كذا، والظاهر: " والأصل ".
332

ويحتمل تقديم قول البائع؛ لاعتضاده بالأصل.
ولو باع وشرط كون المبيع من نوع كذا، فخرج المبيع من نوع أردأ،
ثبت للمشتري الخيار والرجوع بالثمن، فإذا ضمن ضامن، كان له الرجوع
على الضامن أيضا.
وفيه نظر عندي؛ إذ الثمن هنا لم يكن واجبا على البائع، وإنما وجب
بفسخ المشتري البيع.
ولو شرط كون المبيع كذا رطلا، فخرج دونه، فإن قلنا ببطلان البيع
- كما هو أحد قولي الشافعي (1) - كان للمشتري الرجوع على ضامن الصنجة
عن البائع.
وإن قلنا بأن البيع صحيح وثبت للمشتري الخيار فإذا فسخ رجع على
الضامن أيضا.
وفيه النظر الذي قلناه.
مسألة 518: لو ضمن رجل عهدة الثمن لو خرج مستحقا - كما قلناه
في طرف المبيع - فإذا خرج الثمن مستحقا، كان للبائع مطالبة الضامن
بالعين التي دفعها إلى المشتري إن كان ذلك بعد الدفع، وفيما قبله قولان
للشافعي تقدما (2).
ولو ضمن عهدة الثمن لو خرج المبيع مستحقا، فلا شك في صحته
كما سبق (3)، إلا من بعض الشافعية (4)، وقد بينا خطأهم فيه.
أما لو ضمن عهدة الثمن لو خرج المبيع معيبا ورده أو بان فساد البيع

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 152.
(2) في ص 331، المسألة 516.
(3) في ص 330، ضمن المسألة 515.
(4) راجع: الهامش (3) من ص 330.
333

بسبب غير الاستحقاق، كتخلف شرط معتبر في المبيع أو اقتران شرط فاسد
به، فالأقوى عندي: عدم الجواز في الصورة التي خرج المبيع فيها معيبا؛
لأن وجوب رد الثمن على البائع بسبب حادث، وهو الفسخ، والضمان
سابق عليه، فيكون ضمان ما لم يجب، وهو أحد قولي الشافعي (1).
وأما إذا ظهر فساد البيع بسبب غير الاستحقاق من تخلف شرط معتبر
أو اقتران شرط فاسد به، فالأقوى عندي: صحة الضمان؛ لأن الثمن يجب
رده على البائع، فأشبه ما لو بان الفساد بالاستحقاق، وهو أحد قولي
الشافعي.
وفي الثاني: لا يصح الضمان؛ لأن هذا الضمان إنما جوز للحاجة،
وإنما تظهر الحاجة في الاستحقاق؛ لأن التحرز عن ظهور الاستحقاق
لا يمكن، والتحرز عن سائر أسباب الفساد ممكن، بخلاف حالة ظهور
الاستحقاق (2).
ونمنع إمكان التحرز عن جميع أسباب الفساد.
فإن قلنا بالصحة لو ضمن ذلك صريحا، قالت الشافعية: فيه وجهان
في اندراجه تحت مطلق ضمان العهدة (3).
مسألة 519: ألفاظ ضمان العهدة أن يقول الضامن للمشتري: ضمنت
لك عهدته، أو ثمنه، أو دركه، أو خلصتك منه.
ولو قال: ضمنت لك خلاص المبيع والعهدة، لم يصح ضمان
الخلاص؛ لأنه لا يقدر على ذلك متى خرج مستحقا.

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 152، روضة الطالبين 3: 480.
(2) العزيز شرح الوجيز 5: 152 - 153، روضة الطالبين 3: 480.
(3) العزيز شرح الوجيز 5: 153، روضة الطالبين 3: 480.
334

وفي العهدة قولا تفريق الصفقة للشافعية (1).
وقال أبو يوسف: العهدة كتاب الابتياع، فإذا ضمن العهدة، كان
ضمانا للكتاب (2).
وهو غلط؛ لأن العهدة صار في العرف عبارة عن الدرك وضمان
الثمن، وإذا ثبت للاسم عرف، انصرف الإطلاق إليه.
ولو شرط في البيع كفيلا بخلاص المبيع، قال الشافعي: بطل،
بخلاف ما لو شرط كفيلا بالثمن (3).
ويشترط أن يكون قدر الثمن معلوما للضامن إن شرطنا العلم بالمال
المضمون، فإن لم يكن، فهو كما لو لم يكن قدر الثمن معلوما في
المرابحة.
ويصح ضمان المسلم فيه للمسلم إليه لو خرج رأس المال مستحقا
بعد تسليم المسلم فيه، وقبله للشافعية وجهان، أصحهما عندهم: أنه
لا يصح (4).
ولا يجوز ضمان رأس المال للمسلم لو خرج المسلم فيه مستحقا؛
لأن المسلم فيه في الذمة، والاستحقاق لا يتصور فيه، وإنما يتصور في
المقبوض، وحينئذ يطالب بمثله لا برأس المال.
مسألة 520: ضمان المال - عندنا - ناقل للمال من ذمة المديون إلى
ذمة الضامن على ما يأتي.

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 153، روضة الطالبين 3: 480.
(2) حلية العلماء 5: 66، وانظر: المغني 5: 77، والشرح الكبير 5: 85.
(3) العزيز شرح الوجيز 5: 153، روضة الطالبين 3: 480.
(4) العزيز شرح الوجيز 5: 153، روضة الطالبين 3: 481.
335

وفي ضمان الأعيان المضمونة والعهدة إشكال أقربه عندي: جواز
مطالبة كل من الضامن والمضمون عنه بالعين المغصوبة.
أما الضامن: فللضمان.
وأما المضمون عنه: فلوجود العين في يده أو تلفها فيه.
وفي العهدة إن شاء المشتري طالب البائع، وإن شاء طالب الضامن؛
لأن القصد هنا بالضمان التوثيق لا غير.
ولا فرق بين أن يخرج المبيع مغصوبا، وبين أن يكون شقصا قد
ثبتت فيه الشفعة ببيع سابق، فأخذ الشفيع بذلك البيع.
ولو بان بطلان البيع بشرط أو غيره، ففي مطالبة الضامن للشافعية
وجهان:
أحدهما: يطالب، كما لو خرج مستحقا، وهو الذي قلنا نحن به.
والثاني: لا يطالب؛ للاستغناء عنه بإمكان حبس المبيع إلى استرداد
الثمن، لأن السابق إلى الفهم من ضمان العهدة هو الرجوع بسبب الاستحقاق (1).
وليس بجيد، بل بسبب الاستحقاق والفساد.
ولو خرج المبيع معيبا فرده المشتري، ففي مطالبة الضامن بالثمن
عندي إشكال.
وللشافعية وجهان، قالوا: وأولى بأن لا يطالب فيه؛ لأن الرد هنا
بسبب حادث، وهو [مختار] (2) فيه، فأشبه ما إذا (3) فسخ بخيار شرط أو
مجلس، أو تقايلا (4).

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 153 - 154، روضة الطالبين 3: 481.
(2) ما بين المعقوفين من المصدر.
(3) في " ر، ث ": " لو " بدل " إذا ".
(4) العزيز شرح الوجيز 5: 154، روضة الطالبين 3: 481.
336

وهذا إذا كان العيب مقرونا بالعقد، أما لو حدث في يد البائع بعد
العقد، قال بعض الشافعية: لا يطالب الضامن - وهو المعتمد عندي - لأن
سبب رد الثمن لم يكن مقرونا بالعقد ولم يوجد من البائع تفريط فيه، وفي
العيب الموجود عند البيع سبب الرد مقرون بالعقد، والبائع مفرط بالإخفاء،
فألحق بالاستحقاق (1).
ولو تلف المبيع قبل القبض بعد قبض الثمن وانفسخ العقد، فهل
يطالب الضامن بالثمن؟ إن قلنا: إن البيع ينفسخ من أصله، فهو كظهور
الفساد بغير الاستحقاق. وإن قلنا: ينفسخ من حينه، فكالرد بالعيب.
مسألة 521: لو خرج بعض المبيع مستحقا، كان البيع في الباقي
صحيحا، وللمشتري فسخه على ما تقدم (2).
وللشافعي في صحة البيع في الباقي قولا تفريق الصفقة (3).
فعلى ما اخترناه وعلى قوله بالصحة في تفريق الصفقة إذا أجاز
المشتري بالحصة من الثمن، طالب المشتري الضامن بحصة المستحق من
الثمن. وإن أجاز بجميع الثمن، لم يكن له مطالبة الضامن بشيء.
وللشافعية قولان في أنه هل يجيز بجميع الثمن أو بالحصة؟ (4).
والحكم على ما قلناه.
وإن فسخ، طالب الضامن بحصة المستحق من الثمن، وأما حصة
الباقي من الثمن فإنه يطالبه بها البائع.
وهل له مطالبة الضامن؟ أما عندنا فلا.

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 154، روضة الطالبين 3: 481.
(2) في ج 12، ص 6، ضمن المسألة 550.
(3 و 4) العزيز شرح الوجيز 5: 154، روضة الطالبين 3: 481.
337

وللشافعي قولان (1)، كما لو فسخ بالعيب.
وعلى القول الثاني للشافعي في بطلان البيع مع تفريق الصفقة فله
طريقان:
أحدهما: أنه كما لو بان فساد العقد بشرط ونحوه.
والثاني: القطع بتوجيه المطالبة؛ لاستناد الفساد إلى الاستحقاق، لأن
فسخ العقد ثبت له بسبب الاستحقاق، وما ثبت له بسبب الاستحقاق يرجع
به على ضامن العهدة، كما لو كان الكل مستحقا (2).
هذا إذا ضمن بالصيغة المذكورة أولا، أما إذا كان قد عين جهة
الاستحقاق، فقال: ضمنت لك الثمن متى خرج المبيع مستحقا، لم يطالب
بجهة أخرى.
وكذا لو عين جهة أخرى، لا يطالب عند ظهور الاستحقاق.
مسألة 522: لو اشترى أرضا وبنى فيها أو غرس ثم ظهر استحقاق
الأرض، وقلع المستحق البناء والغراس، فهل يجب على البائع أرش
النقصان، وهو ما بين قيمته قائما ومقلوعا؟ فيه خلاف يأتي، والظاهر
وجوبه، وبه قال الشافعي (3).
وقال أبو حنيفة: إن كان البائع حاضرا، رجع المشتري بقيمة البناء
والغراس عليه قائما، ثم المستحق إن شاء أعطى البائع قيمته مقلوعا، وإن
شاء أمر بقلعه. وإن كان البائع غائبا، قال المستحق للمشتري: إن شئت

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 154، روضة الطالبين 3: 481.
(2) العزيز شرح الوجيز 5: 154، روضة الطالبين 3: 481 - 482.
(3) التهذيب - للبغوي - 4: 177، العزيز شرح الوجيز 5: 154، روضة الطالبين 3:
482.
338

أعطيتك قيمته مقلوعا، وإلا فاقلعه، فإن قلعه، رجع المشتري بقيمته على
البائع مقلوعا؛ لأنه سلمه إليه مقلوعا (1).
وإذا قلنا بوجوب الأرش على البائع، فلو ضمنه [ضامن] (2)، فإن كان
قبل ظهور الاستحقاق، لم يصح عند الشافعي؛ لأنه مجهول. ولأنه ضمان
ما ليس بواجب.
وإن كان بعد الاستحقاق وقبل القلع، فكمثله (3).
وقال أبو حنيفة: يصح في الصورتين (4).
فإن ضمنه بعد القلع وكان قدره معلوما، صح، وإلا فقولان.
وإن ضمن ضامن عهدة الأرض وأرش [نقص] (5) البناء والغراس في
عقد واحد، قال الشافعي: لم يصح في الأرش، وفي العهدة قولا تفريق
الصفة (6).
ولو كان البيع بشرط أن يعطيه كفيلا بهما، فهو كما لو شرط في البيع
رهنا فاسدا عند الشافعي (7).
وقال جماعة من الشافعية: إن ضمان نقصان البناء والغراس كما

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 154 - 155.
(2) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطية والحجرية: " منه ". والصحيح ما أثبتناه.
(3) التهذيب - للبغوي - 4: 177، العزيز شرح الوجيز 5: 155، روضة الطالبين 3:
482.
(4) العزيز شرح الوجيز 5: 155.
(5) ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.
(6) التهذيب - للبغوي - 4: 177، العزيز شرح الوجيز 5: 155، روضة الطالبين 3:
482.
(7) العزيز شرح الوجيز 5: 155، روضة الطالبين 3: 483.
339

لا يصح من غير البائع لا يصح من البائع (1).
وهذا إن أريد به أنه لغو، كما لو ضمن العهدة لوجوب الأرش عليه
من غير التزام، فهو مستمر على ظاهر مذهب الشافعية (2)، وإلا فهو ذهاب
منهم إلى أنه لا أرش عليه.
مسألة 523: استحقاق رجوع المشتري بالثمن إن كان بسبب حادث
بعد العقد - كتلف المبيع في يد البائع أو بغصب منه، أو تقايل المشتري -
فإن المشتري يرجع هنا على البائع خاصة؛ لأن هذا الاستحقاق لم يكن
موجودا حال العقد، وإنما ضمن في العقد الاستحقاق الموجود حال العقد.
ومن جوز ضمان ما لم يجب جعل للمشتري هنا الرجوع على
الضامن.
وإن كان الاستحقاق للثمن بسبب كان موجودا حال العقد، فإن كان
لا بتفريط من البائع كالشفعة، فإن أخذ الشقص من المشتري، رجع
المشتري عليه، ولا يرجع على البائع ولا على الضامن؛ لأن الشفعة مستحقة
على المشتري.
وإن كان بتفريطه، فإن كان المشتري رد بعيب كان موجودا حال
العقد، رجع على البائع.
وفي رجوعه على الضامن إشكال.
وللشافعية وجهان (3).
وإن كان فيه عيب وحدث فيه عند المشتري عيب، فليس له رده،

(1 و 2) العزيز شرح الوجيز 5: 155، روضة الطالبين 3: 482.
(3) العزيز شرح الوجيز 5: 154، روضة الطالبين 3: 481.
340

وله الرجوع بأرش العيب، ويرجع به على البائع.
وفي رجوعه على الضامن الإشكال السابق.
والوجهان للشافعية (1).
مسألة 524: لو ضمن البائع له ما يحدث المشتري في المبيع من بناء
أو غراس أو ما يلزمه من غرامة عن أجرة ونفع، فالأقرب: صحة الضمان،
وبه قال أبو حنيفة وأحمد؛ لأن ضمان ما لم يجب - عندهما - وضمان
المجهول صحيحان (2).
وعندنا أن ضمان المجهول صحيح، وضمان ما لم يجب باطل، لكن
نمنع هنا كون المضمون غير واجب.
وقال الشافعي: لا يصح؛ لأنه مجهول ولم يجب، وكلاهما لا يصح
ضمانه (3).
فعلى قوله إذا ضمن ذلك البائع في عقد البيع أو ضمنه غيره وشرط
ذلك في العقد، فسد به العقد عنده، وكذا إن كان في زمن الخيار. وإن كان
بعد لزوم العقد، لم يصح ولم يؤثر في العقد.
وإن ضمن ذلك مع العهدة، فإن كان البائع، لم يصح ضمان ما
يحدث عنده، والعهدة واجبة عليه بغير ضمان. وإن كان أجنبيا، فسد
ضمان ما يحدث عنده.

(1) روضة الطالبين 3: 481.
(2) المغني 5: 78، الشرح الكبير 5: 86، حلية العلماء 5: 66.
(3) الحاوي الكبير 6: 441، حلية العلماء 5: 66، المغني 5: 78، الشرح الكبير
5: 86.
341

البحث الرابع: في أحكام الضمان.
وهي أربعة: مطالبة المستحق والضامن، والرجوع، وما يرجع به،
ففيها أربعة أنظار:
الأول: الضمان عندنا ناقل للمال من ذمة المضمون عنه إلى ذمة
الضامن، فللمضمون له مطالبة الضامن بالمال، وليس له مطالبة المضمون
عنه، عند علمائنا أجمع - وبه قال ابن أبي ليلى وابن شبرمة وداود
وأبو ثور (1) - لما رواه العامة عن أبي سعيد الخدري أنه كان مع النبي (صلى الله عليه وآله)
في جنازة، فلما وضعت قال: " هل على صاحبكم من دين؟ " قالوا: نعم،
درهمان، فقال: " صلوا على صاحبكم " فقال علي (عليه السلام): " يا رسول الله صل
عليه وأنا لهما ضامن " فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله) فصلى عليه ثم أقبل على
علي (عليه السلام) فقال: " جزاك الله عن الإسلام خيرا، وفك رهانك كما فككت
رهان أخيك " فقلت: يا رسول الله هذا لعلي خاصة، أم للناس عامة؟ قال:
" للناس عامة " (2) فدل على أن المضمون عنه بري.
وعن جابر قال: توفي صاحب لنا فأتينا به النبي (صلى الله عليه وآله) ليصلي عليه،
فخطا خطوة ثم قال: " أعليه دين؟ " قلنا: نعم، ديناران، فانصرف فتحملهما
أبو قتادة، فقال: الديناران علي، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " وجب حق
الغريم، وبرئ الميت منهما؟ " قال: نعم، فصلى عليه، ثم قال بعد ذلك: " ما
فعل الديناران؟ " قال: إنما مات أمس، قال: فعاد إليه من الغد فقال: قد

(1) الإشراف على نكت مسائل الخلاف 2: 601 / 1012، المغني 5: 82، الشرح
الكبير 5: 71، الحاوي الكبير 6: 436، حلية العلماء 5: 58.
(2) سنن الدار قطني 3: 78 - 79 / 291 و 292، المغني 5: 82، الشرح الكبير 5:
71.
342

قضيتهما، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " الآن بردت جلده " (1).
ومن طريق الخاصة: ما رواه عطاء عن الباقر (عليه السلام)، قال: قلت له:
جعلت فداك إن علي دينا إذا ذكرته فسد علي ما أنا فيه، فقال: " سبحان الله
أو ما بلغك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يقول في خطبته: من ترك ضياعا
فعلي ضياعه، ومن ترك دينا فعلي دينه، ومن ترك مالا فلله (2)، فكفالة
رسول الله (صلى الله عليه وآله) ميتا ككفالته حيا، وكفالته حيا ككفالته ميتا " فقال الرجل:
نفست عني جعلني الله فداك (3). فلولا براءة ذمته من الدين، لم يحصل له
نفع بالضمان ولا تنفس عنه كربه.
ولأنه دين واحد فمحله واحد، فإذا صار في ذمة الضامن، برئت ذمة
الأول، كالمحال به، وذلك لأن الواحد لا يحل في محلين، وثبوت دين
آخر في ذمة الضامن يقتضي تعدد الدينين.
وقال عامة الفقهاء - كالثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد
وأصحاب الرأي -: إن المضمون عنه لا يبرأ من المال، وللمضمون له
مطالبة من شاء من الضامن ومن المضمون عنه؛ لقوله (صلى الله عليه وآله) لأبي قتادة حين
قضى الدين عن الميت: " الآن بردت عليه جلده " (4).
وقوله (عليه السلام): " نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه " (5).

(1) سنن الدار قطني 3: 79 / 293، سنن البيهقي 6: 74 و 75، المستدرك - للحاكم -
2: 58، مسند الطياليسي: 233 / 1673، مسند أحمد 4: 280 - 281 / 14127،
وعن الأخير ابنا قدامة في المغني 5: 82، والشرح الكبير 5: 72.
(2) في المصدر: " فأكله " بدل " فلله ".
(3) التهذيب 6: 211 / 494.
(4) تقدم تخريجه في الهامش (1).
(5) سنن ابن ماجة 2: 806 / 2413، سنن الترمذي 3: 389 - 390 / 1078 و 1079، سنن
البيهقي 6: 49، المستدرك - للحاكم - 2: 26 - 27.
343

ولأن الضمان يفارق الحوالة باسم، فاختص عنها بحكم يخالفها (1).
وقوله لأبي قتادة إنما كان لأنه بالقضاء تحقق فائدة الضمان، وعلم
إبراء ذمة الميت، وصح الحكم منه (صلى الله عليه وآله) ببرد جلده، والضمان عنه قضاء
أيضا. والفرق بالاسم لا يستلزم ما ذكروه؛ لجواز اختصاص الضمان بأمور
لا تثبت في الحوالة.
مسألة 525: ليس للمضمون له مطالبة المضمون عنه، بل يطالب
الضامن خاصة عندنا.
وقال الشافعي وأبو حنيفة وأحمد وغيرهم: يرجع على من شاء من
الضامن والمضمون عنه (2).
وقال مالك: إنه لا يطالب الضامن، إلا إذا عجز عن تحصيله من
الأصيل؛ لغيبته أو إعساره؛ لأن الضمان وثيقة، فلا يستوفى الحق منها إلا
عند تعذره، كالرهن (3).
واحتج الشافعي: بأن الحق ثابت في ذمة كل منهما، فكان له مطالبته
كالضامنين، ولا يشبه الرهن؛ لأنه مال من عليه الحق، وليس بذي ذمة

(1) المغني 5: 81 - 83، الشرح الكبير 5: 70 - 73، الكافي في فقه الإمام أحمد
2: 129، المحلى 8: 113، مختصر المزني: 108، الحاوي الكبير 6: 436،
المهذب - للشيرازي - 1: 348، الوسيط 3: 247، حلية العلماء 5: 58، التهذيب
- للبغوي - 4: 171، الوجيز 1: 185، العزيز شرح الوجيز 5: 171، روضة
الطالبين 3: 496، بداية المجتهد 2: 296.
(2) الهداية - للمرغيناني - 3: 90، بدائع الصنائع 6: 10، الاختيار لتعليل المختار
2: 274، وراجع أيضا المصادر في الهامش (1).
(3) المدونة الكبرى 5: 256، بداية المجتهد 2: 296، حلية العلماء 5: 59،
التهذيب - للبغوي - 4: 171، العزيز شرح الوجيز 5: 171، المغني 5: 83،
الشرح الكبير 5: 71.
344

يطالب، وإنما يطالب من عليه الحق، فيقضى منه أو من غيره (1).
هذا إذا ضمن مطلقا، ولو ضمن بشرط براءة الأصيل، ففي صحته
عند الشافعية وجهان:
أشبههما عندهم: المنع؛ لأنه قرن به شرطا يخالف مقتضى الضمان.
والثاني: يصح؛ لما روي أنه لما ضمن أبو قتادة الدينارين عن
الميت، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): " هما عليك [وجب] (2) حق الغريم وبرىء
الميت؟ " فقال: نعم، فصلى عليه (3) (4).
وهذا عندنا ساقط؛ لأنا نقول ببراءة الأصيل.
وإن لم يشترطه، فلا فائدة لهذا الشرط عندنا. وأما عند الشافعي
فوجهان كما قلنا.
فعلى تقدير الصحة في صحة الشرط وجهان عندهم يشبهان الخلاف
في براءة المحيل إذا أحال على من لا دين عليه وقلنا بصحة هذه الحوالة (5).
وقد يعكس بعض الشافعية الترتيب فيقول: في صحة الشرط
وجهان، إن فسد، ففي فساد الضمان وجهان.
وإذا صححنا العقد والشرط، برئ الأصيل، وكان للضامن الرجوع
عليه في الحال إن ضمن بإذنه؛ لأنه حصل له براءة ذمته، كما لو أدى (6).
وعندنا ينبغي أن لا يكون، بل يرجع عليه مع الأداء.

(1) المهذب - للشيرازي - 1: 348، المغني 5: 83، الشرح الكبير 5: 71.
(2) ما بين المعقوفين أضفناه كما تقدم.
(3) تقدم تخريجه في ص 343، الهامش (1).
(4) العزيز شرح الوجيز 5: 171 - 172، روضة الطالبين 3: 496.
(5 و 6) العزيز شرح الوجيز 5: 172، روضة الطالبين 3: 496.
345

مسألة 526: إذا أبرأ المالك للدين ذمة الضامن، برئ الأصيل عند
علمائنا؛ لأن الضمان عندنا ناقل للدين من ذمة الأصيل إلى ذمة الضامن،
وليس للضامن أن يرجع على المضمون عنه إلا بما أداه، فإذا أسقط الدين
عنه لم يؤد شيئا، فلم يرجع بشيء.
ولو تعدد الضمناء على الترتيب بأن ضمن الدين ضامن ثم ضمن
الضامن ضامن آخر، فإذا أبرأ الضامن الأخير، برئ الأصيل ومن تفرع عليه
عندنا؛ لما تقدم.
ولو أبرأ المستحق للدين ذمة الأصيل، لم يبرأ الضامن؛ لأن الحق
سقط عن ذمة الأصيل بالنسبة إلى صاحب الدين، فلا يصادف الإبراء
استحقاقا فلا يكون صحيحا.
ولو أبرأ المستحق الضامن الأوسط، لم يبرأ الأخير.
وقال العامة: إذا أبرأ المستحق الأصيل، برئ الضمناء؛ لسقوط الحق،
كما لو أدى الأصيل الدين أو أحال مستحق الدين على إنسان، أو أحال
المستحق غريمه عليه. وكذا يبرأ ببراءة ضامن الضامن (1).
ولو أبرأ الضامن، لم يبرأ الأصيل عندهم؛ لأن إبراءه إسقاط للوثيقة،
وذلك لا يقتضي سقوط أصل الدين كفك الرهن (2).
وهذا بناء على بقاء الدين في ذمة الأصيل، وقد بينا بطلانه.
مسألة 527: لو ضمن الدين المؤجل فمات الأصيل وحل عليه الدين،

(1) المهذب - للشيرازي - 1: 348، الوسيط 3: 247، العزيز شرح الوجيز 5:
172، روضة الطالبين 3: 496، المغني 5: 83، الشرح الكبير 5: 73.
(2) المهذب - للشيرازي - 1: 348، الوسيط 3: 247، العزيز شرح الوجيز 5:
172، روضة الطالبين 3: 496 - 497.
346

لم يحل على الضامن؛ لأنه حي يرتفق بالأجل، قاله أكثر الشافعية (1).
وقال بعضهم: يحل على الضامن أيضا؛ لأنه فرع على الأصيل (2).
ويحجر الحاكم من تركة الأصيل بقدر الدين، فإن تلف، ضمن
الوارث، كما أن النماء له.
ولو أخر المستحق المطالبة، كان للضامن أن يطالبه بأخذ حقه من
تركة الأصيل، ولا يجعل في يده؛ لأنه إنما يستحق أن يأخذ ما أدى، وهو
الآن لم يؤد شيئا، بل يجعل في يد أمين أو في يد الورثة مع التضمين إن
رأى الحاكم ذلك صلاحا، أو يطالب المستحق بإبراء ذمته؛ لأنه قد تهلك
التركة، فلا يجد مرجعا إذا غرم.
وقال بعض الشافعية: ليس للضامن هذه المطالبة (3).
وليس بجيد؛ لأن الميت عليه دين قطعا لم تبرأ ذمته منه بالكلية،
أقصى ما في الباب أن المال انتقل من ذمته إلى ذمة الضامن بالنسبة إلى
المضمون له لا مطلقا، والديون على الميت تحل قطعا بلا خلاف، وليس
للمضمون له المطالبة بهذا الدين من التركة عندنا على ما تقدم، فيبقى
المطالب الضامن خاصة، لكن القبض على ما صورناه.
ولو مات الضامن، حل عليه الدين فإن أخذ المستحق المال من تركة
الضامن، لم يكن لورثته الرجوع على المضمون عنه قبل حلول الأجل.
وقال زفر: إنهم يرجعون عليه؛ لأنه هو أدخلهم في ذلك مع علمه
أنه يحل بموته (4).
وهو غلط؛ لأن الدين مؤجل على المضمون عنه، فلا تجوز مطالبته

(1 - 3) العزيز شرح الوجيز 5: 172، روضة الطالبين 3: 497.
(4) حلية العلماء 5: 58، المغني 5: 81، الشرح الكبير 5: 94.
347

به قبل الأجل، ولم يدخله في الحال، بل في المؤجل، وحلوله بموته
بسبب من جهته، فهو كما لو قضى قبل الأجل.
وقال بعض الشافعية: لا يحل على الضامن، كما لم يحل على
الأصيل (1).
النظر الثاني: في مطالبة الضامن.
مسألة 528: إذا ضمن الضامن دينا على رجل من آخر، لم يثبت
للضامن حق على الأصيل الذي هو المضمون عنه إن كان قد تبرع بالضمان،
وضمن بغير سؤال من المضمون عنه؛ لأنه لم يدخله في الضمان.
وليس للضامن متبرعا مطالبة المضمون عنه بتخليصه من الضمان، بل
يؤدي المال، ولا يرجع به على أحد.
وإن لم يكن متبرعا بالضمان وضمن بسؤال المضمون عنه، فهل
يثبت للضامن حق عليه ويوجب علقة بينهما؟ للشافعية وجهان:
أحدهما: أنه يثبت؛ لأنه اشتغلت ذمته بالحق كما ضمن، فليثبت له
عوضه على الأصيل.
والثاني: لا يثبت؛ لأنه لا يفوت عليه قبل الغرم شيء، فلا يثبت له
شيء إلا بالغرم (2).
إذا عرفت هذا، فإن كان المضمون له يطالب الضامن بأداء المال،
فهل للضامن مطالبة الأصيل بتخليصه؟ قال أكثر الشافعية: نعم، كما أنه
يغرم إذا غرم (3).

(1 و 2) العزيز شرح الوجيز 5: 172، روضة الطالبين 3: 497.
(3) العزيز شرح الوجيز 5: 172 - 173، روضة الطالبين 3: 497.
348

وقال القفال: لا يملك مطالبته به (1)، وهو الأقوى عندي؛ إذ الضامن
إنما يرجع بما أدى، فقبل الأداء لا يستحق الرجوع، فلا يستحق المطالبة.
وإن كان المضمون له لم يطالب الضامن، فهل للضامن أن يطالب
المضمون عنه بالتخليص؟ للشافعية وجهان:
أحدهما: نعم، كما لو استعار عينا ليرهنها ورهنها، فإن للمالك
المطالبة بالفك. ولأن عليه ضررا في بقائه؛ لأنه قد يتلف مال المضمون عنه
فلا يمكنه الرجوع عليه.
وأصحهما عندهم: أنه ليس له المطالبة؛ لأنه لم يغرم شيئا،
ولا توجهت عليه مطالبة، والضمان تعلق بذمته، وذلك لا يبطل شيئا من
منافعه، فإذا لم يطالب لم يطالب، بخلاف الرهن؛ فإن الرهن محبوس
بالدين، وفيه ضرر ظاهر (2).
ومعنى التخليص أن يؤدي دين المضمون له ليبرأ ببراءة الضامن.
قال ابن سريج: إذا قلنا: ليس له مطالبته بتخليصه، فللضامن أن يقول
للمضمون له: إما أن تطالبني بحقك، أو تبرئني (3).
مسألة 529: إذا ضمن بسؤاله، كان له الرجوع إذا غرم، وليس له
الرجوع قبل الغرم.
وللشافعية في أنه هل يمكن الضامن من تغريم الأصيل قبل أن يغرم؟
وجهان؛ بناء على الأصل المذكور، إن أثبتنا له حقا على الأصيل بمجرد
الضمان، فله أخذه، وإلا فلا (4).

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 173.
(2) العزيز شرح الوجيز 5: 173، روضة الطالبين 3: 497.
(3) العزيز شرح الوجيز 5: 173.
(4) العزيز شرح الوجيز 5: 173، روضة الطالبين 3: 497.
349

إذا ثبت هذا، فإن أخذ الضامن من المضمون عنه عوضا عما يقضي
به دين الأصيل قبل أن يغرم، الأقرب: أنه لا يملكه؛ لجواز السقوط
بالإبراء، فيكون للأصيل.
وللشافعية وجهان؛ بناء على الأصل السابق (1).
ولو دفعه الأصيل ابتداء من غير جبر ومطالبة، فإن الضامن لا يملكه
كما قلناه أولا، فعليه رده، وليس له التصرف فيه.
ولو هلك عنده، ضمن، كالمقبوض بالشراء الفاسد، على إشكال،
وهو أحد قولي الشافعي.
وفي الآخر: يملكه، فله التصرف فيه، كالفقير إذا أخذ الزكاة
المعجلة، لكن لا يستقر ملكه إلا بالغرم، حتى لو أبرأه المستحق، كان عليه
رد ما أخذ، كرد الزكاة المعجلة إذا هلك المال قبل الحلول (2).
ولو دفعه إليه وقال: اقض به ما ضمنت عني، فهو وكيل الأصيل،
والمال أمانة في يده.
مسألة 530: لا يجوز للضامن حبس الأصيل إذا (3) حبس المضمون له
الضامن، وهو أصح قولي الشافعي.
والثاني - وبه قال أبو حنيفة - للضامن حبس المضمون عنه؛ بناء على
إثبات العلاقة بين الضامن والأصيل (4).
وليس بجيد.
ولو أبرأ الضامن الأصيل عما سيغرم، لم يصح الإبراء؛ لأنه إبراء مما

(1 و 2) العزيز شرح الوجيز 5: 173، روضة الطالبين 3: 497.
(3) في " ث " والطبعة الحجرية: " لو " بدل " إذا ".
(4) التهذيب - للبغوي - 4: 172، العزيز شرح الوجيز 5: 173، روضة الطالبين 3:
497 - 498.
350

لم يجب وعما يتجدد، والإبراء إسقاط يستلزم الثبوت قبل الإبراء.
وقال الشافعي: إن أثبتنا العلاقة بين الضامن والمضمون عنه في
الحال، صح الإبراء، وإلا خرج على الإبراء عما لم يجب ووجد سبب
وجوبه (1).
ولو صالح الضامن الأصيل عن العشرة التي سيغرمها على خمسة،
لم يصح.
وقالت الشافعية: إن أثبتنا العلاقة في الحال، صح الصلح كأنه (2) أخذ
عوض بعض الحق وأبرأ عن الباقي، وإلا لم يصح (3).
ولو ضمن ضامن عن الأصيل للضامن بما ضمن، احتمل صحة
الضمان؛ لأن حق الضامن وإن لم يكن ثابتا إلا أن سبب ثبوته موجود.
وبطلانه.
ولو رهن الأصيل عند الضامن شيئا بما ضمن، ففي الصحة إشكال.
والمنع في هذه المسائل كلها عند الشافعية أصح الوجهين (4).
ولو شرط في ابتداء الضمان أن يعطيه الأصيل ضامنا، ففي صحة
الشرط للشافعية الوجهان، إن صح فإن أدى الضامن وأعطاه ضامنا، فذاك،
وإلا فله فسخ الضمان. وإن فسد، فسد به الضمان على أصح الوجهين (5).
النظر الثالث: في الرجوع.
مسألة 531: من كان عليه دين فأداه غيره عنه تبرعا بغير إذنه من غير

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 173، روضة الطالبين 3: 498.
(2) في " ث ": " لأنه " بدل " كأنه ".
(3 و 4) العزيز شرح الوجيز 5: 173، روضة الطالبين 3: 498.
(5) العزيز شرح الوجيز 5: 173 - 174، روضة الطالبين 3: 498.
351

ضمان، لم يكن له الرجوع به؛ لأنه متبرع بفعله، بخلاف ما لو أوجر طعامه
المضطر، فإنه يرجع عليه وإن لم يأذن المضطر؛ لأنه ليس متبرعا بذلك،
بل يجب عليه إطعام المضطر استبقاء لمهجته، ويخالف الهبة؛ فإن في
اقتضائها الثواب خلافا يأتي؛ لأن الهبة متعلقة باختيار المتهب، ولا اختيار
للمديون هنا، وبه قال الشافعي (1).
وقال مالك: إنه يثبت له الرجوع، إلا إذا أدى العدو دين العدو، فإنه
يتخذه ذريعة إلى إيذائه بالمطالبة (2).
وإن أداه بإذن المديون، فإن [جرى بينهما] (3) شرط الرجوع، ثبت
الرجوع.
وإن لم يجر شرط الرجوع بينهما، ففي الرجوع إشكال ينشأ: من أنه
لم يوجد منه سوى الإذن في الأداء، وذلك لا يستلزم الرجوع؛ إذ ليس من
ضرورة الأداء الرجوع؛ لانتفاء الدلالات الثلاث في الأداء على الرجوع.
ومن أن العادة قاضية في المعاملات بأن الرجوع تابع للإذن في الأداء،
والدافع جرى في ذلك على قانون العادات.
والثاني أصح وجهي الشافعية (4).
قال بعض الشافعية: يقرب هذا الخلاف من الخلاف في أن الهبة

(1) الوسيط 3: 251، العزيز شرح الوجيز 5: 174، روضة الطالبين 3: 498،
منهاج الطالبين: 130، مختصر اختلاف العلماء 4: 261 / 1979.
(2) المدونة الكبرى 5: 255 و 218، بداية المجتهد 2: 298، الكافي في فقه أهل
المدينة: 399، العزيز شرح الوجيز 5: 174، مختصر اختلاف العلماء 4:
261 / 1979.
(3) ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.
(4) العزيز شرح الوجيز 5: 174.
352

المطلقة هل تقتضي الثواب وترتيبه عليه؟ والحكم بالرجوع أولى من الحكم
بالثواب ثم؛ لأن الهبة مصرحة بالتبرع، والأداء بخلافه. ولأن الواهب مبتدئ
بالتبرع، والأداء هاهنا مسبوق بالاستدعاء الذي هو كالقرينة المشعرة
بالرجوع (1).
وأيضا في الهبة قول فارق بين أن يكون الواهب ممن يطمع مثله في
ثواب المتهب، أو لا يكون، فخرج وجه ثالث للشافعية (2) مثله هنا.
مسألة 532: إذا كان عليه دين فضمنه ضامن عنه ويؤدي المال عنه إلى
المضمون له، فأقسامه أربعة:
الأول: أن يضمن بإذن الأصيل ويؤدي بإذنه.
الثاني: أن يضمن متبرعا من غير سؤال، ويؤدي كذلك.
الثالث: أن يضمن متبرعا، ويؤدي بسؤال.
الرابع: أن يضمن بسؤال، ويؤدي متبرعا.
فالأول يرجع الضامن فيه على المضمون عنه، سواء قال له المضمون
عنه: اضمن عني، أو أد عني، أو أطلق وقال: اضمن وأد، عند علمائنا
أجمع - وبه قال الشافعي ومالك وأحمد وأبو يوسف (3) - لأنه صرف ماله
إلى منفعته بأمره، فأشبه ما لو قال: اعلف دابتي، فعلفها. ولأنه ضمن بإذنه
ودفع بإذنه، فأشبه ما إذا كان مخالطا له، أو قال: اضمن عني.
وقال أبو حنيفة ومحمد: إنما يرجع إذا قال: اضمن عني وأد عني،

(1 و 2) العزيز شرح الوجيز 5: 174.
(3) الحاوي الكبير 6: 438، المهذب - للشيرازي - 1: 349، حلية العلماء 5: 62،
التهذيب - للبغوي - 4: 171، العزيز شرح الوجيز 5: 174، روضة الطالبين 3:
498، الكافي في فقه الإمام أحمد 2: 131 و 132، المغني 5: 86، الشرح الكبير
5: 88.
353

ولو لم يقل: أد عني، لم يرجع، إلا أن يكون مخالطا له يستقرض منه
ويودع عنده، أو يكون مخالطا له بشركة أو زوجية أو نحوهما؛ لأنه إذا
قال: اضمن عني وأد عني، كان قوله هذا إقرارا منه بالحق، وإذا أطلق ذلك،
صار كأنه قال: هب لهذا أو تطوع عليه، وإذا كان مخالطا له، رجع
- استحسانا - لأنه قد يأمر مخالطه بالنقد عنه (1).
وليس بصحيح؛ لأنه إذا أمره بالضمان، لا يكون إلا لما هو عليه؛ لأن
أمره إنما يكون بذلك، وأمره بالنقد بعد ذلك ينصرف إلى ما ضمنه بدليل
المخالطة له، فيجب عليه أداء ما أدى عنه، كما لو صرح به، وليس هذا أمرا
بالهبة.
هذا إذا عرف من الإطلاق إرادة الضمان عنه، ولو لم يعرف ذلك
ولا وجد قرينة تدل عليه، فالوجه: ما قاله أبو حنيفة ومحمد.
مسألة 533: لا فرق في ثبوت الرجوع بين أن يشترط الرجوع أو
لا يشترط، وبه قال أكثر الشافعية (2).
وقال الجويني: يحتمل في القياس أن ينزل الإذن في الضمان والأداء
منزلة الإذن في الأداء من غير ضمان حتى نقول: إن شرط الرجوع، ثبت له
الرجوع، وإلا فلا، كما في الإذن في الأداء من غير سبق ضمان، وإن
لم يشترط، فعلى الخلاف (3).
والمعتمد ما قلناه.
مسألة 534: لو تبرع بالضمان والأداء معا، فإنه لا يرجع الضامن على

(1) حلية العلماء 5: 62 - 63، العزيز شرح الوجيز 5: 175، المغني 5: 86،
الشرح الكبير 5: 88.
(2) الوسيط 3: 251، العزيز شرح الوجيز 5: 175، روضة الطالبين 3: 498.
(3) العزيز شرح الوجيز 5: 175، روضة الطالبين 3: 498.
354

المضمون عنه بما أداه، عند علمائنا كافة - وبه قال الشافعي وأبو حنيفة
وابن المنذر وأحمد في إحدى الروايتين (1) - لحديث علي (عليه السلام)
وأبي قتادة (2)، لأن النبي (صلى الله عليه وآله) صلى على الميتين بعد ضمانهما ما عليهما،
ولو كان لهما الرجوع لما صلى؛ لبقاء الدين في ذمتهما. ولأنه (صلى الله عليه وآله) قال:
" الآن بردت جلده عن النار " (3) ولو بقي الدين لما حصل التبريد. ولأنه لو
بقي الدين لما قال لعلي (عليه السلام): " جزاك الله عن الإسلام خيرا، فك الله
رهانك كما فككت رهان أخيك " (4) ولولا براءة الذمة لما حصل فك الرهان.
ولأنه تبرع بذلك، فلا يرجع عليه، كما لو علف دوابه وأطعم عبيده بغير
إذنه.
وقال مالك وأحمد في الرواية الثانية: إنه يرجع بما أدى - وهو قول
عبيد الله بن الحسن وإسحاق - لأنه قضاء مبرئ من دين واجب، فكان من
ضمان من هو عليه، كالحاكم إذا قضاه عنه عند امتناعه. ولأن الضمان بغير
إذنه صحيح، فإذا لزمه الدفع عنه، رجع عليه، كما لو كان بأمره (5).

(1) الحاوي الكبير 6: 437 - 438، المهذب - للشيرازي - 1: 349، حلية العلماء
5: 62، التهذيب - للبغوي - 4: 171 - 172، الإشراف على مذاهب أهل العلم
1: 124، الإشراف على نكت مسائل الخلاف 2: 601 / 1013، الوسيط 3: 251،
العزيز شرح الوجيز 5: 175، روضة الطالبين 3: 499، الهداية - للمرغيناني - 3:
91، الاختيار لتعليل المختار 2: 274، مختصر اختلاف العلماء 4: 261 / 1979،
الكافي في فقه الإمام أحمد 2: 132، المغني 5: 88، الشرح الكبير 5: 89.
(2) راجع المصادر في الهامش (5 و 6) من ص 281، والهامش (1) من ص 282.
(3) راجع المصادر في الهامش (1) من ص 343.
(4) راجع المصادر في الهامش (5) من ص 281.
(5) الإشراف على نكت مسائل الخلاف 2: 601 / 1013، الإشراف على مذاهب أهل
العلم 1: 124، حلية العلماء 5: 62، الكافي في فقه الإمام أحمد 2: 132، المغني 5: 88،
الشرح الكبير 5: 89.
355

والفرق بين الضامن والحاكم ظاهر؛ لأن للحاكم الاستدانة عن الممتنع
والدفع، بخلاف الضامن. والفرق بين الأمر بالضمان والأداء وعدمه ظاهر،
فلا يصح القياس.
مسألة 535: لو ضمن متبرعا بغير سؤال، وأدى المال بالسؤال،
لا يرجع هنا أيضا، عند علمائنا - وهو أظهر وجهي الشافعية (1) - لأن الدين
لزمه بتبرعه، فإن اللزوم باعتبار الضمان ولم يأذن فيه، وأمره بالقضاء
انصرف إلى ما وجب عليه بالضمان، كما لو أمره بقضاء دينه الذي وجب
عليه بالأصالة، وكما لو أذن غير المضمون عنه.
وللشافعي (2) وجه آخر: أنه يرجع عليه - وبه قال أحمد - لأنه دفع
بأمره، فأشبه ما إذا ضمن بأمره وما إذا لم يكن ضامنا. ولأنه أسقط الدين
عن الأصيل بإذنه (3).
وليس بصحيح؛ لأنه لا يملك مطالبته بفكه، فلا يرجع عليه إذا فك
نفسه. والفرق بين ما إذا ضمن بإذنه وبغير إذنه ظاهر، فلا يصح القياس.
والحكم في غير الضامن ممنوع على ما تقدم. وإسقاط الدين مستند إلى
الضمان الذي تبرع به، والإذن إنما كان في إسقاط الدين عن الضامن،
لا عنه.

(1) الحاوي الكبير 6: 438، المهذب - للشيرازي - 1: 349، الوسيط 3: 252،
حلية العلماء 5: 61، التهذيب - للبغوي - 4: 172، العزيز شرح الوجيز 5:
175، روضة الطالبين 3: 499، المغني 5: 87، الشرح الكبير 5: 89.
(2) كذا، والظاهر: " وللشافعية ".
(3) الحاوي الكبير 6: 438، المهذب - للشيرازي - 1: 349، الوسيط 3: 252، حلية
العلماء 5: 61، التهذيب - للبغوي - 4: 172، العزيز شرح الوجيز 5: 175، روضة
الطالبين 3: 499، المغني 5: 87 - 88، الشرح الكبير 5: 89.
356

وبعض الشافعية رتب الوجهين على الوجهين فيما إذا أدى دين الغير
بإذنه من غير ضمان ومن غير شرط الرجوع.
قال: وهذه الصورة أولى بمنع الرجوع؛ لأن الإذن في الأداء بعد
اللزوم بالضمان في حكم اللغو.
وذكر احتمالين فيما إذا أذن في الأداء بشرط الرجوع والحالة هذه:
أحدهما: يرجع، كما لو أذن في الأداء بهذا الشرط من غير ضمان.
والثاني: أن الأداء مستحق بالضمان، والمستحق بلا عوض لا يجوز
أن يقابل بعوض، كسائر الحقوق الواجبة (1).
مسألة 536: لو ضمن بسؤال وأدى بغير سؤال ولا إذن، فإنه يرجع
الضامن عليه، عند علمائنا - وبه قال مالك وأحمد والشافعي في أحد
الوجوه (2) - لأن الضامن لم يتبرع بالضمان، بل نقل المال إلى ذمته غير
متبرع، بل بسؤال المضمون عنه، والأصل في الباب الالتزام وقد صادفه
الإذن فيكتفى به في الرجوع. ولأن إذنه في الضمان يتضمن الإذن في
الأداء؛ لأن الضمان يوجب عليه الأداء، فكان له الرجوع عليه، كما لو أذن
في الأداء.
والثاني للشافعي: لا يرجع؛ لأن الغرم حصل بغير إذن الأصيل، وربما
لم يقصد إلا التوثيق بالضمان. ولأنه دفع بغير أمره، فكان كما لو ضمن بغير
أمره (3).

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 175، روضة الطالبين 3: 499.
(2) الحاوي الكبير 6: 438، حلية العلماء 5: 61، المهذب - للشيرازي - 1: 349،
العزيز شرح الوجيز 5: 175، روضة الطالبين 3: 499، المغني 5: 87، الشرح
الكبير 5: 88.
(3) الحاوي الكبير 6: 438، حلية العلماء 5: 61، العزيز شرح الوجيز 5: 175،
روضة الطالبين 3: 499، المغني 5: 87، الشرح الكبير 5: 88.
357

وقصد التوثيق يستلزم قصد الأداء عنه؛ لأن الضمان عندنا ناقل.
والقياس باطل؛ للفرق، وهو ما تقدم من أن الأصل في الالتزام إنما هو
الضمان لا الأداء.
والثالث: إن أدى من غير مطالبة أو عن مطالبة لكن أمكنه مراجعة
الأصيل واستئذانه فلم يفعل، لم يثبت له الرجوع؛ لأنه لم يكن مضطرا إلى
الأداء عنه، فكان متبرعا به. وإن لم يتمكن من مراجعته لغيبة أو حبس أو
غير ذلك، فله الرجوع (1).
والحق ما تقدم من وجوب المال بالضمان المأذون فيه، وأنه لا عبرة
بالأداء.
وكذا لو وكله في أن يشتري عبدا له بألف فاشتراه، فإن الوكيل يطالب
بالثمن، فإن أدى من ماله، فإنه يرجع عندنا إذا لم يكن البائع عالما
بالوكالة.
وللشافعية الوجوه الثلاثة فيه (2).
مسألة 537: لو أحال الضامن المضمون له بالدين - الذي ضمنه - على
إنسان وقبل المحتال والمحال عليه الحوالة، كان كالأداء في صورة الرجوع
له على المضمون عنه في كل موضع ثبت له الرجوع فيه، وعدمه في موضع
العدم.
ولو أحال رب المال غريما له على الضامن بالمال الذي ضمنه له
فقبل الضامن الحوالة عليه، كان كالأداء أيضا يرجع فيما يرجع في الأداء.

(1) المهذب - للشيرازي - 1: 349، حلية العلماء 5: 61، العزيز شرح الوجيز 5:
176، روضة الطالبين 3: 499، المغني 5: 87، الشرح الكبير 5: 88.
(2) المهذب - للشيرازي - 1: 360 - 361، حلية العلماء 5: 62 و 135.
358

ولو تصالح المضمون له والضامن [عن] (1) مال الضمان على عوض،
كان كالأداء أيضا.
ولو صار الدين ميراثا للضامن، كان كالأداء في ثبوت الرجوع وعدمه.
النظر الرابع: فيما به يرجع الضامن.
مسألة 538: إذا دفع الضامن المال إلى ربه وكان قد ضمن بسؤال
المضمون عنه وكان المدفوع من جنس الدين وعلى صفته، رجع به.
وإن اختلف الجنس، فالمأذون له في الضمان لو صالح رب الدين
على غير جنسه، رجع إجماعا؛ لأن الضمان سبب لإثبات الحق في ذمته
ثبوته في ذمة الأصيل، والمصالحة معاملة مبنية عليه.
ثم ينظر إن كانت قيمة المصالح عليه أكثر من قدر الدين، لم يرجع
بالزيادة؛ لأنه متطوع بها.
وإن كانت أقل - كما لو صالح عن ألف على عبد يساوي ستمائة -
لم يرجع إلا بستمائة لا غير - وهو أصح وجهي الشافعية (2) - لما رواه عمر
ابن يزيد عن الصادق (عليه السلام) في رجل ضمن على رجل ضمانا ثم صالح
عليه، قال: " ليس له إلا الذي صالح عليه " (3).
وعن ابن بكير قال: سألت الصادق (عليه السلام): عن رجل ضمن عن رجل
ضمانا ثم صالح على بعض ما عليه، قال: " ليس له عليه إلا الذي صالح
عليه " (4).

(1) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطية والحجرية: " على ". والظاهر ما أثبتناه.
(2) الوسيط 3: 254، الوجيز 1: 168، العزيز شرح الوجيز 5: 177، روضة
الطالبين 3: 500.
(3) الكافي 5: 259 / 7، التهذيب 6: 210 / 490.
(4) التهذيب 6: 210 / 489.
359

ولأنه لم يغرم سواها.
وبه قال أحمد (1).
والثاني: أنه يرجع بالألف؛ لأنه قد حصل براءة ذمته بما فعل،
ومسامحة رب الدين جرت معه (2).
ولو باع العبد بألف وتقاصا، احتمل الرجوع بالألف؛ لأنه ثبت في
ذمته ألف، وقيمة العبد؛ لأن الضمان وضع للارتفاق.
والشافعية على الأول خاصة (3).
مسألة 539: لا فرق بين أن يدفع الأقل أو الأكثر في القدر أو الوصف
فيما ذكرنا، فلو ضمن ألفا مكسرة ودفع ألفا صحيحة، لم يكن له الرجوع
إلا بالمكسرة؛ لأنه تبرع بالزيادة، فلا يرجع بها.
ولو انعكس الفرض، فضمن ألفا صحيحة وأدى ألفا مكسرة،
لم يكن له الرجوع بالصحيحة إلا بالمكسرة؛ لأنه إنما يرجع بما غرم
وبالأقل من المغروم والمال.
وللشافعية فيما إذا أدى الضامن [غير] (4) الأجود قولان:
أحدهما: أن فيه الخلاف المذكور في اختلاف الجنس.
والثاني: القطع بأنه يرجع بما أدى (5).

(1) المغني والشرح الكبير 5: 89، الكافي في فقه الإمام أحمد 2: 132.
(2) نفس المصادر في الهامش (2) من ص 359.
(3) العزيز شرح الوجيز 5: 177، روضة الطالبين 3: 500.
(4) ما بين المعقوفين أضفناه لاقتضاء ما في المصدر له، حيث إن القولين للشافعية
في الأداء من غير الأجود.
(5) الحاوي الكبير 6: 439، التهذيب - للبغوي - 4: 174، العزيز شرح الوجيز 5:
177، روضة الطالبين 3: 500.
360

والفرق أن غير الجنس يقع عوضا، والمكسرة لا تقع عوضا عن
الصحاح، ولا يبقى إلا رعاية حكم الإيفاء والاستيفاء.
مسألة 540: لو ضمن ألفا ودفع إليه عبدا قيمته ستمائة، فقال
للمضمون له: بعت منك هذا العبد بما ضمنته لك عن فلان، ففي صحة
البيع وجهان للشافعية (1).
فإن صححنا البيع، رجع بالأقل - عندنا - من المال المضمون ومن
قيمة العبد، وهو أحد وجهي الشافعية.
وفي الثاني: يرجع بما ضمنه (2).
ولو لم يضمن، بل أذن له المديون في الأداء بشرط الرجوع لو صالح
رب الدين على غير جنسه، فهل له الرجوع أو لا؟ للشافعية ثلاثة أوجه:
أصحها عندهم: أن له الرجوع؛ لأن مقصوده أن يبرئ ذمته وقد فعل.
وثانيها: ليس له الرجوع؛ لأنه إنما أذن في الأداء دون المصالحة.
وثالثها: الفرق بين أن يقول: أد ما علي من الدنانير - مثلا -
فلا يرجع، وبين أن يقتصر على قوله: أد ديني، أو ما علي، فيرجع، ويرجع
بما سبق في الضامن (3).
مسألة 541: لو ضمن عشرة وأدى خمسة وأبرأه رب المال عن
الباقي، لم يرجع الضامن إلا بالخمسة التي غرمها، وتسقط الخمسة الأخرى
عن الأصيل عندنا؛ لأن إبراء الضامن يستلزم إبراء المضمون عنه، خلافا
للجمهور؛ فإنهم قالوا: تبقى الخمسة في ذمة الأصيل يطالب بها المضمون
له؛ لأن إبراء الضامن لا يوجب براءة الأصيل (4).

(1 و 2) العزيز شرح الوجيز 5: 177، روضة الطالبين 3: 500.
(3) الوسيط 3: 251، العزيز شرح الوجيز 5: 176، روضة الطالبين 3: 500.
(4) العزيز شرح الوجيز 5: 177، روضة الطالبين 3: 501.
361

ولو صالحه من العشرة على خمسة، لم يرجع إلا بالخمسة أيضا،
لكن يبرأ الضامن والأصيل عن الباقي وإن كان صلح الحطيطة إبراء في
الحقيقة عند الشافعية؛ لأن لفظ الصلح يشعر برضا المستحق بالقليل عن
الكثير، بخلاف ما إذا صرح بلفظ الإبراء عندهم (1).
واعترض بعض الشافعية: بأن [لفظ] (2) الصلح يتضمن الرضا بالقليل
ممن يجري الصلح معه، أم على الإطلاق؟ الأول مسلم، والثاني ممنوع،
ولم يتضح لهم الجواب (3).
ولو أدى الضامن جميع الدين ولم يبرئه المضمون له من شيء منه،
لكن وهبه الدين بعد دفعه (4) إليه، فالأقرب: أن له الرجوع.
وفيه للشافعية وجهان مبنيان على القولين [فيما لو وهبت المرأة] (5)
الصداق من الزوج ثم طلقها قبل الدخول (6). وسيأتي إن شاء الله تعالى.
مسألة 542: لو ضمن ذمي لذمي دينا عن مسلم ثم تصالحا على
خمر، فهل يبرأ المسلم أم لا؟ يحتمل البراءة؛ لأن المصالحة بين الذميين،
وأن لا يبرأ، كما لو دفع الخمر بنفسه.
وفيه للشافعية وجهان، فإن قالوا بالأول، ففي رجوع الضامن على

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 177.
(2) ما بين المعقوفين من المصدر.
(3) العزيز شرح الوجيز 5: 177.
(4) في " ث، ج، ر ": " الدفع " بدل " دفعه ".
(5) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطية والحجرية: " كما لو وهب ". والصحيح ما
أثبتناه كما في المصادر.
(6) الحاوي الكبير 6: 439، المهذب - للشيرازي - 1: 349، الوسيط 3: 248،
حلية العلماء 5: 63، التهذيب - للبغوي - 4: 173، العزيز شرح الوجيز 5:
178 - 179، روضة الطالبين 3: 502.
362

المسلم وجهان، إن اعتبروا بما أدى، لم يرجع بشيء، وإن اعتبروا بما
أسقط، يرجع بالدين (1).
والوجه عندي: أن المضمون عنه يؤدي أقل الأمرين من قيمة الخمر
عند مستحليه، ومن الدين الذي ضمنه.
مسألة 543: لو ضمن الضامن ضامن آخر، انتقل المال من ذمة
الضامن الأول إلى ذمة الثاني، وسقطت مطالبة المضمون له عن الأصيل
والضامن الأول عند علمائنا وجماعة تقدم (2) ذكرهم.
وقال أكثر العامة: لا ينتقل، بل تبقى الذمم الثلاث مشتركة، ويصح
الضمان؛ لأن الحق ثابت في ذمة الضامن، كما هو ثابت في ذمة الأصيل،
فإذا جاز أن يضمن عن الأصيل جاز أن يضمن عن الضامن (3).
لا يقال: الضمان وثيقة على الحق، فلا يجوز أن يكون له وثيقة، كما
لا يجوز أن يأخذ رهنا بالرهن.
لأنا نقول: الفرق: أن الضمان حق ثابت في الذمة، والرهن حق
متعلق بالعين، والرهن لا يصح بحق متعلق بالعين، فافترقا.
فإن أدى الثاني، فرجوعه على الضامن الأول كرجوع الضامن الأول
على الأصيل، فيراعى الإذن وعدمه.
وإذا لم يكن له الرجوع على الأول، لم يثبت بأدائه الرجوع للأول
على الأصيل؛ لأن الضامن إنما يرجع بما أدى وغرم، والضامن الأول
لم يغرم شيئا، فلا يكون له مطالبته بشيء.

(1) الوسيط 3: 254، التهذيب - للبغوي - 4: 174، العزيز شرح الوجيز 5: 177،
روضة الطالبين 3: 501.
(2) في ص 342، النظر الأول من البحث الرابع: في أحكام الضمان.
(3) المغني 5: 83 - 84، الشرح الكبير 5: 82، وراجع الهامش (2) من ص 344.
363

ولو ثبت له الرجوع على الأول فرجع عليه، كان للأول الرجوع على
الأصيل إذا وجد شرط الرجوع.
ولو أراد الثاني أن يرجع على الأصيل ويترك الأول، فإن كان الأصيل
قد قال له: اضمن عن ضامني، ففي رجوعه عليه للشافعية وجهان (1)، كما
لو قال الإنسان: أد ديني، فأدى، وليس هذا كقول القائل لغيره: اقض دين
فلان، ففعل، حيث لا يرجع على الآمر؛ لأن الحق لم يتعلق بذمته.
وإن لم يقل له: اضمن عن ضامني، فإن كان الحال بحيث لا يقتضي
رجوع الأول على الأصيل، لم يرجع الثاني عليه.
وإن كان يقتضيه، فكذلك على أصح الوجهين عندهم؛ لأنه
لم يضمن عن الأصيل (2).
والوجه عندي: أنه ليس للثاني أن يرجع على الأصيل على كل
تقدير، إلا أن يقول: اضمن عن ضامني ولك الرجوع علي.
ولو ضمن الثاني عن الأصيل أيضا، لم يصح الضمان عندنا إن ضمن
للمضمون له؛ إذ لا مطالبة للمضمون له، فيكون في الحقيقة ضمان ما
لم يجب، ولا يتحقق سبب الوجوب. وإن ضمن للضامن، فالأقوى:
الجواز؛ لوجود سبب الوجوب.
وعند أكثر العامة يصح ضمان الثاني عن الأصيل؛ لشغل ذمته وذمة
الضامن الأول معا، فتتشارك الذمم الثلاث في الشغل، فحينئذ لا يرجع أحد
الضامنين على الآخر، وإنما يرجع المؤدي على الأصيل (3).

(1) التهذيب - للبغوي - 4: 181، العزيز شرح الوجيز 5: 178، روضة الطالبين 3: 501.
(2) العزيز شرح الوجيز 5: 178، روضة الطالبين 3: 501.
(3) حلية العلماء 5: 64، التهذيب - للبغوي - 4: 182، العزيز شرح الوجيز 5:
178، روضة الطالبين 3: 501، المغني 5: 85، الشرح الكبير 5: 73.
364

ولو ضمن عن الأول والأصيل جميعا، لم يصح ضمانه عن الأصيل
عندنا.
وعندهم يصح، فإن أدى، كان له أن يرجع على أيهما شاء، وأن
يرجع بالبعض على هذا وبالبعض على ذاك. ثم للأول الرجوع على الأصيل
بما غرم إذا وجد شرط الرجوع (1).
مسألة 544: لو كان لرجل على اثنين عشرة على كل واحد منهما
خمسة فضمن كل واحد منهما صاحبه، فإن أجاز المضمون له الضمان،
لم يفد الضمان شيئا عندنا في باب المطالبة؛ لأن الضمان عندنا ناقل، فإذا
ضمن كل واحد منهما الآخر، فقد انتقل ما على كل واحد منهما إلى الآخر
وكانا في الدين كما كانا قبل الضمان، إلا أنه يستفاد بالضمان صيرورة المال
الأصلي في ذمة كل واحد منهما منتقلا إلى ذمة الآخر.
ولا نقول: إنه يبطل الضمان من أصله؛ لأنه قد يستفاد منه فائدة،
وهي: لو أدى أحد الضامنين عن مال الضمان بعضه ثم أبرأه صاحب الدين
من الباقي، لم يكن له الرجوع على المضمون عنه إلا بما أداه.
وإن لم يأذن لهما المضمون له بالضمان فضمنا، فإن رضي بضمان
أحدهما خاصة، كان الدينان معا عليه، ولم يبق له مطالبة الآخر، لكن
الضامن يرجع على الآخر إن ضمن بإذنه، وإلا فلا.
وعند أكثر العامة يصح ضمان كل منهما عن صاحبه، ويبقى كل
الدين مشتركا في ذمتهما معا على ما هو أصلهم، فلرب المال - عندهم - أن
يطالبهما معا ومن شاء منهما بالعشرة، فإن أدى أحدهما جميع العشرة، برئا

(1) التهذيب - للبغوي - 4: 182، العزيز شرح الوجيز 5: 178، روضة الطالبين 3:
501 - 502.
365

معا، وللمؤدي الرجوع بخمسة إن وجد شرط الرجوع. وإن أدى كل واحد
منهما خمسة عما عليه، فلا رجوع، فإن أداها عن الآخر، فلكل واحد
الرجوع على الآخر. ويجيء خلاف التقاص.
وإن أدى أحدهما خمسة ولم يؤد الآخر شيئا، فإن أداها عن نفسه،
برئ المؤدي عما كان عليه وصاحبه عن ضمانه، وبقي على صاحبه ما كان
عليه، والمؤدي ضامن له.
وإن أداها عن صاحبه، رجع عليه بالمغروم، وبقي عليه ما كان
عليه (1)، وصاحبه ضامن له.
وإن أداها عنهما، فلكل نصف حكمه (2).
وإن أدى ولم يقصد شيئا، فوجهان عندهم (3): التقسيط عليهما؛ لأنه
لو عينه عن كل واحد منهما، وقع، فإذا أطلق اقتضى أن يكون بينهما؛
لاستوائهما فيه. وأن يقال: اصرفه إلى ما شئت، كما لو أعتق عبده عن
كفارته وكان عليه كفارتان، كان له تعيين العتق عن أيهما شاء. وكذا في
زكاة المالين.
ومن فوائده أن يكون بنصيب أحدهما رهن، فإذا قلنا: له صرفه إلى
ما شاء، فصرفه إلى نصيبه، انفك الرهن، وإلا فلا.
ولو اختلفا فقال المؤدي: أديت عما علي، فقال رب المال: بل
أديت عن صاحبك، فالقول قول المؤدي مع يمينه، وإنما أحلفناه؛ لأنه قد

(1) كلمة " عليه " لم ترد في " ر، ث ".
(2) الحاوي الكبير 6: 446، التهذيب - للبغوي - 4: 182، العزيز شرح الوجيز 5:
179، روضة الطالبين 3: 502 - 503.
(3) الحاوي الكبير 6: 447، التهذيب - للبغوي - 4: 183، العزيز شرح الوجيز 5:
179، روضة الطالبين 3: 503.
366

يتعلق بهذا فوائد، وإن كان قد يستحق المطالبة بالكل؛ لأنه قد يكون ثمنا،
فإذا أفلس، رجع في المبيع، ويسقط أيضا عن صاحبه، فإذا حلف، برئ
عما كان عليه، ولرب المال مطالبته بخمسة؛ لأنه إن كان صادقا، فالأصل
باق عليه. وإن كان كاذبا، فالضمان باق.
وقال بعض الشافعية: لا مطالبة له؛ لأنه إما أن يطالب عن جهة
الأصالة وقد حكم الشرع بتصديق المؤدي في البراءة عنها، أو عن جهة
الضمان وقد اعترف رب المال بأنه أدى عنها.
هذا حكم الأداء، أما لو أبرأ رب الدين أحدهما عن جميع العشرة،
برئ أصلا وضمانا عندهم، وبرئ الآخر عن الضمان دون الأصيل عندهم؛
لأن الدين عندهم لا يسقط عن المضمون عنه بسقوطه عن الضامن.
وعندنا يسقط.
ولو أبرأ أحدهما عن خمسة، فإن أبرأه عن الأصيل، برئ عنه وبرئ
صاحبه عن ضمانه، وبقي عليه ضمان ما على صاحبه. وإن أبرأه عن
الضمان، برئ عنه، وبقي عليه الأصل، وبقي على صاحبه الأصل والضمان.
وإن أبرأه من الخمسة عن الجهتين (1) جميعا، سقط عنه نصف الأصل
ونصف الضمان، وعن صاحبه نصف الضمان، ويبقى عليه الأصل ونصف
الضمان فيطالبه بسبعة ونصف، ويطالب المبرأ عنه بخمسة.
وإن لم ينو عند الإبراء شيئا، فيحمل على النصف، أو يخير ليصرف
إلى ما شاء؟ فيه الوجهان.
ولو قال المبرئ: أبرأت عن الضمان، وقال المبرأ عنه: بل عن
الأصل، فالقول قول المبرئ (2).

(1) أي: جهتا الأصالة والضمان.
(2) العزيز شرح الوجيز 5: 179، روضة الطالبين 3: 503.
367

هذا كله على مذهب الشافعي، وقد بينا مذهبنا في صدر المسألة.
مسألة 545: لو كان على زيد عشرة فضمنها اثنان كل واحد منهما
خمسة، وضمن أحدهما عن الآخر وبالعكس، فقد بينا أنه بمنزلة عدم
الضمان إذا أجاز المضمون له ضمانهما معا.
وعند أكثر العامة يصح ضمانهما معا، فلرب المال - عندهم - مطالبة
كل واحد منهما بالعشرة نصفها عن الأصيل ونصفها عن الضامن الآخر، فإن
أدى أحدهما جميع العشرة، رجع بالنصف على الأصيل وبالنصف على
صاحبه.
وهل له الرجوع بالكل على الأصيل إذا كان لصاحبه الرجوع عليه إن
غرم؟ فيه الوجهان عندهم.
وإن لم يؤد إلا خمسة، فإن أداها عن الأصيل أو عن صاحبه أو
عنهما، ثبت له الرجوع بخمسة (1).
مسألة 546: لو باع شيئا وضمن ضامن الثمن فهلك المبيع قبل
القبض، أو وجد به عيبا فرده، أو ضمن الصداق فارتدت المرأة قبل
الدخول، أو فسخت بعيب، فإن كان ذلك قبل أن يؤدي الضامن، برئ
الضامن والأصيل.
وإن كان بعده فإن كان بحيث يثبت له الرجوع، رجع بالمغروم على
الأصيل، ورجع الأصيل على رب المال بما أخذ إن كان هالكا، وإن كان
باقيا، رد عينه.
وهل له إمساكه ورد بدله؟ فيه خلاف مأخوذ مما إذا رد المبيع بعيب

(1) التهذيب - للبغوي - 4: 182، العزيز شرح الوجيز 5: 178، روضة الطالبين 3:
502.
368

وعين الثمن عند البائع، فأراد إمساكه ورد مثله.
والأصح: المنع، وبه قال الشافعي (1).
ولو كان الذي دفعه الضامن أجود أو أزيد، فالأقرب: أنه ليس
للأصيل أخذ الزيادة.
وإنما يغرم رب المال للأصيل دون الضامن؛ لأن في ضمن الأداء عنه
إقراضه وتمليكه إياه.
وإن كان بحيث لا يثبت له الرجوع، فلا شيء للضامن على الأصيل،
وعلى المضمون له رد ما أخذه.
وعلى من يرد؟ فيه احتمال أن يرده على الضامن، أو على الأصيل.
وسيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى في المتبرع بالصداق إذا طلق الزوج قبل
الدخول.
مسألة 547: لو كان لرجل على آخر دين فادعى صاحب الدين على
آخر بأنه ضمنه له على المديون، فأنكر الضامن الضمان، سقط حق رب
المال عن الأصيل عندنا؛ لانتقال المال عن ذمته إلى ذمة الضامن، خلافا
لأكثر العامة (2).
ثم مدعي الضمان إن لم تكن له بينة فأحلف الضامن على أنه
لم يضمن، سقط ما له، أما عن الضامن: فلبراءته باليمين، وأما عن
الأصيل: فلاعترافه ببراءة ذمته بالضمان.
وإن كان له بينة فأقامها على الضامن بالضمان، ثبت له عليه المطالبة،
فإذا رجع عليه بالمال، رجع الضامن على الأصيل وإن كان قد كذب المدعي

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 178، روضة الطالبين 3: 502.
(2) راجع الهامش (2) من ص 344.
369

للضمان؛ لأن البينة أبطلت حكم إنكاره، فكأنه لم ينكره.
وهذا كما لو اشترى عينا فادعى آخر أنها ملكه وأن بائعها غصبها منه،
فقال المشتري في جوابه: إنها ملك بائعي وليس لك فيها حق، وإنها اليوم
ملكي، فأقام المدعي البينة، فإن المشتري يرجع على البائع وإن أقر له بالملك.
وكذا لو باع عينا على رجل وادعى على آخر أنه ضمن الثمن عن
المشتري وأقام على ذلك بينة وأخذ الثمن من الضامن، يرجع الضامن على
الأصيل.
واعترض بعض الشافعية: بأن البينة إنما تقام عند الإنكار، وإذا أنكر
كان مكذبا للبينة زاعما أن صاحب المال ظالم فيما أخذ منه، فكيف يرجع
على الأصيل بما ظلمه به والمظلوم إنما يرجع على ظالمه!؟ (1).
والجواب: نمنع أن البينة إنما تقام عند الإنكار، بل يجوز أن يقر
الضامن وتقام البينة للإثبات على الأصيل.
سلمنا أنه لم يقر، لكن البينة لا تستدعي الإنكار بخصوصه، بل
يكفي الإنكار وما يقوم مقامه كالسكوت، فربما كان ساكتا.
سلمنا استدعاءها الإنكار، لكنها لا تستدعي الإنكار منه بخصوصه،
بل يكفي صدور الإنكار من وكيله في الخصومات، فلعل البينة أقيمت في
وجه وكيله المنكر.
سلمنا أنه أنكر، لكنه ربما أنكر الضمان وسلم البيع، وهذا الإنكار لو
منع لكان مانعا للرجوع بجهة غرامة المضمون.
وجائز أن يكون هذا الرجوع باعتبار أن المدعي ظلمه بأخذ ما على
الأصيل منه، وللظالم مثل المأخوذ على الغائب، فيأخذ حقه مما عنده.

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 180.
370

أما لو وجد منه التكذيب القاطع لكل الاحتمالات، فأصح وجهي
الشافعية أنه يمنع من الرجوع (1).
وقيل: لا يمنع (2) على ما اخترناه أولا.
البحث الخامس: في اللواحق.
مسألة 548: كل موضع قلنا فيه بأن المأذون له في الأداء أو الضامن
يرجع على الآذن والمضمون عنه بما غرم فإنما هو مفروض فيما إذا أشهد
المؤدي أو الضامن على الأداء شهادة يثبت بها الحكم، سواء أشهد رجلين
أو رجلا وامرأتين.
ولو أشهد واحدا اعتمادا على أن يحلف معه، فالوجه: الاكتفاء؛ لأن
الشاهد مع اليمين حجة في نظر الشرع، كافية لإثبات الأداء، عند أكثر
العلماء (3)، وهو أحد وجهي الشافعية.
والثاني: أنه لا يكفي؛ لأنهما قد يترافعان إلى حنفي لا يقضي
بالشاهد واليمين، فكان ذلك ضربا من التقصير (4).
وإنما تنفع الشهادة ما إذا أشهد عدلين أو عدلا وامرأتين ثقتين أو
عدلا واحدا على الخلاف.
ولو أشهد فاسقين مشهورين بالفسق، لم يكف، وكان مقصرا.
ولو أشهد مستورين فبانا فاسقين، فالأقرب: الاكتفاء؛ إذ يمتنع
الاطلاع على البواطن، فكان معذورا، وهو أصح وجهي الشافعية.

(1 و 2) العزيز شرح الوجيز 5: 180.
(3) المغني 12: 11، الشرح الكبير 12: 94.
(4) الحاوي الكبير 6: 450، الوسيط 3: 253، حلية العلماء 5: 86، التهذيب
- للبغوي - 4: 185، العزيز شرح الوجيز 5: 180 - 181، روضة الطالبين 3: 504.
371

وفي الثاني: لا يكفي، ويكون بمنزلة من لم يشهد؛ لأن الحق
لا يثبت بشهادتهما (1).
وهو غلط، كما لو فسقا بعد الإشهاد والأداء.
ولا تكفي شهادة من يعرف ظعنه (2) عن قريب؛ لأنه لا يفضي إلى
المقصود.
أما إذا أدى من غير إشهاد، فإن كان الأداء في غيبة الأصيل، فهو
مقصر بترك الإشهاد؛ إذ كان من حقه الاحتياط وتمهيد طريق الإثبات. وإن
كان بحضوره، فلا تقصير.
مسألة 549: لو جحد رب الدين أداء الضامن إليه، وادعاه الضامن،
ولا بينة، فإن كذب الأصيل الضامن في الدفع، لم يرجع عليه، فإذا حلف
رب الدين، أخذ من الضامن ثانيا، ويرجع الضامن على المضمون عنه بما
أداه ثانيا، إلا أن يكون الذي أداه أولا أقل مقدارا أو أقل صفة وادعى رضاه
به، فإنه يرجع بما أداه أولا.
وإن صدقه الأصيل، فالأقوى: رجوع الضامن عليه بما أداه أولا إن
ساوى الحق أو قصر عنه، لا بما يؤديه ثانيا بحلف المضمون له، ويؤدي
الضامن إلى المضمون له ثانيا لحلفه.
وللشافعية فيه وجهان، هذا أحدهما.
والثاني: أنه ليس له الرجوع بما أداه أولا وصدقه عليه؛ لأنه لم يؤد
بحيث ينتفع به الأصيل، فإن رب المال منكر، والمطالبة بحالها (3).

(1) الوسيط 3: 253، حلية العلماء 5: 86، التهذيب - للبغوي - 4: 185، العزيز
شرح الوجيز 5: 181، روضة الطالبين 3: 504.
(2) ظعن: سار. الصحاح 6: 2159 " ظعن ". والمراد هنا السفر.
(3) العزيز شرح الوجيز 5: 181، روضة الطالبين 3: 504.
372

ولا بأس به عندي.
فعلى هذا القول لو كذبه الأصيل هل يحلف؟ قال بعض الشافعية:
يبنى على أنه لو صدقه هل يرجع عليه؟ إن قلنا: نعم، حلفه على نفي العلم
بالأداء. وإن قلنا: لا يرجع، يبنى على أن النكول ورد اليمين كالإقرار، أو
كالبينة؟ إن قلنا بالأول، لم يحلفه؛ لأن غايته أن ينكل فيحلف الضامن،
فيكون كما لو صدقه، وذلك لا يفيد الرجوع. وإن قلنا بالثاني، حلفه طمعا
في أن ينكل فيحلف (1)، فيكون كما لو أقام البينة (2).
ولو كذبه الأصيل وصدقه رب المال، فالأقوى: أنه يرجع على
الأصيل؛ لسقوط المطالبة بإقراره، وإقراره أقوى من البينة مع إنكاره، وهو
أظهر قولي الشافعية.
والثاني: أنه لا يرجع، ولا ينهض قول رب المال حجة على
الأصيل (3).
ولو أدى في حضور الأصيل، قال بعض الشافعية: إنه لا يرجع (4)،
كما لو ترك الإشهاد في غيبته (5).
وظاهر مذهب الشافعي: أنه يرجع (6)؛ لأنه حال الغيبة مستبد بالأمر،
فعليه الاحتياط والتوثيق بالإشهاد، وإذا كان الأصيل حاضرا، فهو أولى
بالاحتياط، والتقصير بترك الإشهاد في حضوره مستند إليه (7).
مسألة 550: إذا توافق الأصيل والضامن على أن الضامن أشهد بالأداء

(1) في " ج، ر " والمصدر: " ويحلف ".
(2 و 3) العزيز شرح الوجيز 5: 181، روضة الطالبين 3: 504.
(4) في النسخ الخطية والحجرية: " إنه يرجع ". وما أثبتناه كما في المصدر.
(5) العزيز شرح الوجيز 5: 181، روضة الطالبين 3: 504.
(6) في النسخ الخطية والحجرية: " أنه لا يرجع ". وما أثبتناه كما في المصدر.
(7) العزيز شرح الوجيز 5: 181، روضة الطالبين 3: 504.
373

ولكن مات الشهود أو غابوا، ثبت له الرجوع على الأصيل؛ لاعترافه بأن
الضامن أتى بما عليه من الإشهاد والتوثيق، والموت والغيبة ليسا إليه، وهو
قول الشافعي (1).
ونقل الجويني وجها بعيدا: أنه لا يرجع؛ إذ لم ينتفع بأدائه، فإن
القول قول رب المال في نفي الاستيفاء (2).
ولو ادعى الضامن الإشهاد، وأنكر الأصيل الإشهاد، فالقول قول
الأصيل مع اليمين؛ لأصالة عدم الإشهاد، وهو أصح وجهي الشافعية.
والثاني: أن القول قول الضامن؛ لأن الأصل عدم التقصير. ولأنه قد
يكون صادقا، وعلى تقدير الصدق يكون منعه من الرجوع إضرارا، فليصدق؛
للضرورة، كما يصدق الصبي في دعوى البلوغ؛ إذ لا يعرف إلا من جهته (3).
ولو قال: أشهدت فلانا وفلانا، وكذباه، فهو كما لو لم يشهد.
ولو قالا: لا ندري وربما نسيناه، احتمل تصديقه وتكذيبه.
ولو أقام بينة على الشاهدين بأنهما أقرا بالشهادة، فالأقوى: السماع.
وإذا لم يقم بينة على الأداء وحلف رب المال، بقيت مطالبته بحالها،
فإن أخذ المال من الأصيل، فذاك. وإن أخذه من الضامن مرة أخرى،
لم يرجع بهما؛ لأنه مظلوم بإحداهما، فلا يرجع إلا على من ظلمه.
وفي قدر رجوعه للشافعية وجهان:
أحدهما: أنه لا يرجع بشيء، أما بالأول (4): فلأنه قصر عند أدائه
بترك الإشهاد. وأما بالثاني (5): فلاعترافه بأنه مظلوم به.
والأظهر عندهم: أنه يرجع؛ لأنه غرم لإبراء ذمته (6).

(1 و 2) العزيز شرح الوجيز 5: 181، روضة الطالبين 3: 504.
(3) العزيز شرح الوجيز 5: 181 - 182، روضة الطالبين 3: 504.
(4 و 5) أي: المبلغ الأول... المبلغ الثاني.
(6) العزيز شرح الوجيز 5: 182، روضة الطالبين 3: 505.
374

وعلى هذا [هل] (1) يرجع بالأول؛ لأنه المبرئ للذمة، أو بالثاني؛ لأنه
المسقط للمطالبة؟ فيه لهم وجهان (2).
مسألة 551: إذا ضمن المريض في مرض موته، فإن كان على وجه
يثبت له الرجوع ووجد الضامن مالا يرجع فيه، فالضمان صحيح، يخرج
من صلب المال؛ لأنه عقد شرعي ناقل للمال ولم يوجد تبرع من
المريض، فكان ماضيا من الأصل.
وإن كان الضمان متبرعا به غير متضمن للرجوع، أو كان بالسؤال وله
الرجوع، لكن لم يجد مالا يرجع فيه، بأن يموت الأصيل معسرا، فهذا
الضمان من الثلث؛ لأنه تبرع محض، فلا ينفذ في أكثر من الثلث. فإذا
ضمن المريض تسعين درهما عن رجل بأمره، ولا مال للمريض سوى
التسعين ومات الأصيل ولم يترك إلا نصف التسعين ومات الضامن، دخلها
الدور.
وتقريره أن نقول: إذا وفت التركة بثلثي الدين، فلا دور؛ لأن
صاحب الحق إن أخذ الحق من تركة الضامن، رجع ورثته بثلثي الدين في
تركة الأصيل. وإن أخذ تركة الأصيل وبقي شيء، أخذه من تركة الضامن،
ويقع تبرعا؛ لأن ورثة الضامن لا يجدون مرجعا.
وإن لم تف التركة بالثلثين - كما في هذه الصورة - فقد ثبت الدور.
وتحقيقه أن نقول: صاحب الحق بالخيار إن شاء أخذ تركة الأصيل
بتمامها، وحينئذ فلا دور أيضا، وله مطالبة ورثة الضامن بثلاثين درهما،
ويقع تبرعا؛ إذ لم يبق للأصيل تركة حتى يفرض فيها رجوع.

(1) ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.
(2) العزيز شرح الوجيز 5: 182، روضة الطالبين 3: 505.
375

فإن أراد الأخذ من تركة الضامن، لزم الدور؛ لأن ما يغرمه ورثة
الضامن يرجع إليهم بعضه من جهة أنه يصير المغروم دينا لهم على الأصيل
يتضاربون به مع صاحب الحق في تركته، ويلزم من رجوع بعضه زيادة
التركة، ومن زيادة التركة زيادة المغروم، ومن زيادة المغروم زيادة الراجع.
وطريق معرفته أن يقال: يأخذ صاحب الحق من ورثة الضامن شيئا،
ويرجع إليهم مثل نصفه؛ لأن تركة الأصيل نصف تركة الضامن، فيبقى
عندهم تسعون إلا نصف شيء، وهي تعدل مثلي ما تلف بالضمان، والتالف
نصف شيء، فمثلاه شيء، فإذن تسعون إلا نصف شيء يعدل شيئا، فإذا
جبرنا وقابلنا، عدلت تسعون شيئا ونصف شيء، فيكون الشيء ستين،
فبان لنا أن المأخوذ ستون، وحينئذ تكون الستون دينا لهم على الأصيل،
وقد بقي لصاحب الحق ثلاثون، فيضاربون في تركته بسهمين وسهم،
وتركته خمسة وأربعون يأخذ منها الورثة ثلاثين، وصاحب الحق خمسة
عشر، ويعطل باقي دينه، وهو خمسة عشر، فيكون الحاصل للورثة ستين،
ثلاثون بقيت عندهم، وثلاثون أخذوها من تركة الأصيل، وذلك مثلا ما
تلف ووقع تبرعا، وهو ثلاثون.
ولو كانت المسألة بحالها لكن تركة الأصيل ثلاثون، قلنا: يأخذ
صاحب الحق شيئا، ويرجع إلى ورثة الضامن مثل ثلثه؛ لأن تركة الأصيل
ثلث تركة الضامن، فيبقى عندهم تسعون ناقصة ثلثي شيء تعدل مثلي
المتلف بالضمان، وهو ثلثا شيء، فمثلاه شيء وثلث، فإذن تسعون إلا
ثلثي شيء تعدل شيئا وثلثا، فيجبر ويقابل، عدلت تسعون شيئين، فالشيء
خمسة وأربعون، وذلك ما أخذه صاحب الحق، وصار دينا لورثة الضامن
على الأصيل، وبقي لصاحب الحق عليه خمسة وأربعون أيضا، فيتضاربون
376

في تركته بسهم وسهم، فيجعل بينهما نصفين.
ولو كانت تركة الأصيل ستين، فلا دور، بل لصاحب الحق أخذ تركة
الضامن كلها بحق الرجوع، ويقع الباقي تبرعا.
ولو كانت المسألة بحالها وكان قد ضمن عن الضامن ضامن ثان
ومات الضامن الثاني ولم يترك إلا تسعين درهما أيضا، كان لصاحب الحق
أن يطالب ورثة أيهما شاء.
فإن طالب به ورثة الضامن الأول، قال بعض الشافعيين: كان كالمسألة
الأولى يأخذ ستين، ومن ورثة من كان عليه أصل المال خمسة عشر،
ويرجع ورثة الضامن على ورثة الذي كان عليه الحق بثلاثين (1).
وإن طالب ورثة الضامن الثاني، أخذ منهم سبعين درهما، ومن ورثة
من كان عليه الأصل خمسة عشر، ويرجع ورثة الضامن الثاني على الضامن
الأول بأربعين درهما، ويرجع الضامن الأول في مال من عليه أصل الحق
بثلاثين.
وإنما كانت هذه المسألة كالأولى فيما إذا طالب ورثة الضامن الأول؛
لأنه لا يأخذ منهم إلا ستين، ويأخذ من تركة الأصيل خمسة عشر، كما في
الصورة السابقة، لكن لا يتلف من ماله شيء هنا، بل يطالب بالباقي - وهو
خمسة عشر - ورثة الضامن.
وأما إذا طالب ورثة الضامن الثاني، فقد غلطه جماعة الشافعية في
قوله من جهة أنه أتلف من مال الثاني ثلاثين؛ لأنه أخذ منهم سبعين، وأثبت
لهم الرجوع بأربعين، وكان الباقي عندهم عشرين، فالمجموع ستون،
ولم يتلف من مال الأول إلا عشرة؛ لأنه أخذ منهم أربعين، وأثبت لهم

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 183.
377

الرجوع بثلاثين، ومعلوم أن الضامن الثاني إنما ضمن تسعين عمن يملك
تسعين، والأول ضمن تسعين عمن يملك خمسة وأربعين، فكيف يؤخذ
من الثاني أكثر مما يؤخذ من الأول!؟ (1).
واختلفت الشافعية في الجواب.
فقال الأستاذ أبو إسحاق (2): يأخذ صاحب الحق من ورثة الضامن
خمسة وسبعين، ويرجعون بمثلها على ورثة الأول، ويرجع [ورثة] (3) الأول
على ورثة الأصيل بتركته، وهي خمسة وأربعون، فيكون جملة ما معهم
ستين: خمسة عشر من الأصل، والباقي من العوض، وذلك مثلا الثلاثين
التالفة عليهم، ولم يثبت لصاحب الحق مطالبة ورثة الثاني بكمال الدين (4).
وقال الأكثر: له مطالبة ورثة الثاني بجميع الدين، ثم هم يرجعون
على ورثة الأول بخمسة وسبعين، ويتلف عليهم خمسة عشر؛ للضرورة،
ويرجع ورثة الأول على ورثة الأصيل بتركته، كما ذكره الأستاذ (5).
قال الجويني: كأن الأستاذ اعتقد أن ضمان الأول لم يصح إلا في قدر
لو رجع معه في تركة الأصيل لما زاد التالف من تركته على ثلثها، وإذا
لم يصح ضمانه فيما زاد، لم يصح ضمان الثاني عنه، وإلا دار (6).
قالوا: إنما لا يؤخذ أكثر من الثلث لحق الورثة، لكنه صحيح في
الجميع متعلق بالذمة، فيكون ضمان الثاني عنه فيما زاد كالضمان عن
المعسر (7).

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 184.
(2) كذا في النسخ الخطية والحجرية، وفي المصدر: " أبو منصور ".
(3) ما بين المعقوفين من المصدر.
(4 - 7) العزيز شرح الوجيز 5: 184.
378

ويجب أن يكون هذا الخلاف جاريا في مطالبتهم بتتمة التسعين إذا
طالب أولا ورثة الضامن الأول وإن [لم] (1) يذكر ثم. وإن أخذ المستحق أولا
بتركة الأصيل، برئ الضامنان عن نصف الدين.
ثم المستحق - على جواب الأكثرين - إن شاء أخذ من ورثة الأول
ثلاثين، ومن ورثة الثاني خمسة عشر، وإن شاء أخذ الكل من ورثة الثاني
وهم يرجعون على ورثة الأول بثلاثين، فيصل إلى تمام حقه بالطريقين.
وعلى جواب الأستاذ ليس له من الباقي إلا ثلاثون، إن شاء أخذها من
ورثة الأول ولا رجوع، وإن شاء أخذها من ورثة الثاني، وهم يرجعون بها
على ورثة الأول (2).
مسألة 552: يجوز ترامي الضمان لا إلى غاية معينة.
وهل يجوز دوره بأن يضمن ضامن رجلا على دين ثم يضمن الرجل
المضمون الضامن على ذلك الدين بعينه؟ منع منه الشافعية؛ لأن الضامن
فرع المضمون عنه، فلا يجوز أن يكون أصله (3).
وفيه عندي نظر.
أما لو ضمن غير ذلك الدين، فإنه يجوز قطعا؛ لأن الأصل في شيء
قد يكون فرعا لفرعه في شيء آخر.
وكذا لو تبرع الضامن بالضمان، فإن الحق يثبت في ذمته، وتبرأ ذمة
المضمون عنه عندنا، فيجوز حينئذ للمضمون عنه أن يضمن الضامن.
فلو كان له على اثنين عشرة على كل واحد منهم خمسة، فضمن كل
واحد صاحبه فضمن ثالث عن أحدهما العشرة وقضاها، سقط الحق

(1) ما بين المعقوفين من المصدر.
(2) العزيز شرح الوجيز 5: 184.
(3) راجع: الحاوي الكبير 6: 444.
379

- عندنا وعند الشافعية (1) - عن الجميع بالأداء، ورجع على الذي ضمن عنه
بخمسة؛ لأنها هي التي تثبت في ذمته، ولم يرجع على الآخر بشيء؛ لأنه
لم يضمن عنه، وإنما قضى الدين عنه تبرعا.
وعند الشافعية يكون له الرجوع على الذي ضمن عنه بالعشرة،
ولا يرجع على الآخر بشيء؛ لأنه لم يضمن عنه، وإذا رجع على الذي
ضمن عنه، رجع على الآخر بنصفها؛ لأنه ضمنها عنه وقضاها (2).
ولو كان المضمون عنه دفع مال الضمان إلى الضامن بإذنه وقال له:
اقض هذا المال للمضمون له عني، فقضاه، كان أمانة في يده؛ لأنه نائب
عنه في دفعه إلى صاحب الدين، فإن (3) تلف قبل الدفع بغير تفريط منه،
لم يضمنه.
وإن دفعه إليه عن الذي ضمنه وقال له: خذ هذا عوضا عما ضمنته،
فللشافعية وجهان:
أحدهما: يصح ويملكه؛ لأن رجوعه عليه يتعلق بسبب الضمان
والغرم، فإذا وجد أحد السببين، جاز أن يدفعه، كالزكاة.
والثاني: لا يصح ولا يملكه؛ لأنه يدفعه عوضا عما يغرم، ولم يغرم
بعد، فلا تصح المعاوضة على ما لم يجب له (4).
ويمكن أن يقال: هذا لا يجيء على مذهب الشافعية؛ لأن لصاحب
الحق أن يطالب من عليه الدين بذلك، فكيف تصح المعاوضة عنه مع

(1 و 2) لم نعثر عليه فيما بين أيدينا من المصادر، وراجع: المغني والشرح الكبير 5:
89 - 90.
(3) في " ج ": " وإن ".
(4) المهذب - للشيرازي - 1: 348، العزيز شرح الوجيز 5: 173، روضة الطالبين
3: 497.
380

توجه المطالبة به!؟ فإن قلنا: إنه يملك، صح له التصرف فيه، وإلا فلا،
ويكون مضمونا عليه؛ لأنه قبضه على وجه المعاوضة.
مسألة 553: لو ادعى على رجل حاضر أنه باع منه ومن الغائب شيئا
بألف وكل منهما ضامن لصاحبه، فإن أقر الحاضر، لم يلزمه عندنا إلا
النصف الذي ضمنه، بناء على أصلنا من انتقال المال إلى ذمة الضامن،
وعند الشافعية من اشتراك الذمتين في المال (1): يؤدي الحاضر الألف، فإذا
قدم الغائب وصدقه، رجع عليه. وإن أنكره وحلف، لم يكن له الرجوع
عليه (2).
وأما إن أنكر الحاضر الضمان، فإن لم يكن للمدعي بينة، قدم قول
المنكر مع يمينه. فإذا (3) حلف، سقطت الدعوى عنه.
فإذا قدم الغائب فإن أنكر (4)، حلف وبرئ، وإن اعترف، لزمه
خمسمائة التي ادعاها عليه، ويسقط (5) عنه الباقي؛ لأن المضمون عنه
سقطت عنه بيمينه، قاله بعض الشافعية (6).
وقال بعضهم: إنه غير صحيح؛ لأن اليمين لم تبرئه من الحق، وإنما
أسقطت عنه في الظاهر، فإذا أقر به الضامن، لزمه، ولهذا لو أقام البينة عليه
بعد يمينه، لزمه ولزم الضامن، فإذن الحق لم يسقط عنه ولا عن الضامن (7).
وأما إذا أقام على الحاضر البينة، وجب عليه الألف عندهم، فإذا قدم

(1) راجع المصادر في الهامش (2) من ص 344.
(2) الحاوي الكبير 6: 448، حلية العلماء 5: 87، التهذيب - للبغوي - 4: 183 -
184، العزيز شرح الوجيز 5: 180، روضة الطالبين 3: 503 - 504.
(3) في الطبعة الحجرية: " وإذا ".
(4) في الطبعة الحجرية: " فأنكر " بدل " فإن أنكر ".
(5) في " ر " والطبعة الحجرية: " سقط ".
(6 و 7) حلية العلماء 5: 87.
381

الغائب، لم يكن للحاضر الرجوع على الغائب؛ لأنه منكر لما شهدت به
البينة، مكذب لها، مدع أن ما أخذه ظلم، فلم يرجع (1).
ونقل المزني أنه يرجع بالنصف على الغائب (2).
وتأوله الشافعية بأمور، أحدها: أنه يجوز أن تسمع البينة مع إقراره؛
لأنه يثبت بذلك الحق على الغائب، فتسمع عليهما، أو يكون أنكر شراءه
ولم ينكر شراء شريكه والضمان عنه، بل سكت (3).
مسألة 554: لو شرط في الضمان الأداء من مال بعينه، صح الضمان
والشرط معا؛ لتفاوت الأغراض في أعيان الأموال، فلو تلف المال قبل
الأداء بغير تفريط الضامن، فالأقرب: فساد الضمان؛ لفوات شرطه، فيرجع
صاحب المال على الأصيل.
وهل يتعلق الضمان بالمال المشروط تعلقه به تعلق الدين بالرهن أو
الأرش بالجاني؟ الأقرب: الأول، فيرجع على الضامن لو تلف.
وعلى الثاني يرجع على المضمون عنه.
وكذا لو ضمن مطلقا ومات معسرا على إشكال.
ولو بيع متعلق الضمان بأقل من قيمته؛ لعدم الراغب، رجع الضامن
بتمام القيمة؛ لأنه يرجع بما أدى.
ويحتمل بالثمن خاصة؛ لأنه الذي قضاه.
ولو لم يساو المال قدر الدين، فالأقرب: الرجوع على الضامن،
ويرجع على المضمون عنه.

(1) حلية العلماء 5: 88.
(2) مختصر المزني: 108، حلية العلماء 5: 88.
(3) حلية العلماء 5: 88.
382

وقد بينا أن ضمان المجهول صحيح، فلو ضمن عنه ما في ذمته،
صح، ولزمه ما تقوم به البينة على ثبوته وقت الضمان، لا ما يتجدد،
ولا ما يوجد في دفتر وكتاب، ولا ما يقر به المضمون عنه أو يحلف عليه
المالك برد اليمين من المديون.
ولو ضمن ما تقوم به البينة، لم يصح؛ لعدم العلم بثبوته حينئذ.
مسألة 555: لو ضمن الدين اثنان على التعاقب مع صاحب الحق عن
المديون، طولب الضامن الأول، وبطل الثاني؛ لأن الحق انتقل من ذمة
المضمون عنه إلى ذمة الضامن، فالضامن الثاني لم يصادف ضمانه حقا على
المضمون عنه للمضمون له.
ولو قال الضامن الثاني: ضمنت لك هذا الدين على من كان، فإن
قلنا: يصح الضمان عن المجهول، صح هذا الضمان، وكان ضامنا عن
الضامن السابق، وإلا بطل.
ولو ضمن الثاني من وكيل صاحب الحق، بطل الثاني.
ولو اتفق ضمان الأول مع صاحب الحق وضمان الثاني مع وكيله في
الزمان الواحد، بطل الضمانان معا؛ لعدم أولوية أحدهما بالصحة والآخر
بالبطلان.
مسألة 556: لو شرط الضمان في مال بعينه ثم أفلس وحجر عليه
الحاكم، كان حق الضمان في العين التي تعلق الضمان بها - كالرهن - مقدما
على حق الغرماء، فإن فضل شيء من حق الضمان، تعلق حق الغرماء
بالفاضل، وإلا فلا.
383

ولو ضمن كل من المديونين ما على صاحبه، تعاكست الأصالة
والفرعية فيهما إن أجازهما المضمون له على ما بيناه، وتتساقطان إذا أدى
كل واحد منهما مال الضمان عن صاحبه، فلو شرط أحدهما كون الضمان
من مال بعينه وحجر عليه بفلس قبل الأداء، رجع على الموسر بما أدى،
ويضرب الموسر مع الغرماء.
ولو أجاز ضمان أحدهما خاصة، رجع عليه بالجميع، ويرجع
المؤدي على الآخر بنصيبه، فإن دفع النصف، انصرف إلى ما قصده،
ويصدق باليمين، وينصرف الإبراء إلى ما قصده المبرئ، فإن أطلق
فالتقسيط.
ولو ادعى الأصيل قصده، ففي توجه اليمين عليه أو على الضامن
إشكال ينشأ: من عدم توجه اليمين لحق الغير، ومن خفاء القصد.
ولو تبرع بالضمان ثم سأل ثالثا الضمان عنه فضمن، رجع عليه، دون
الأصيل وإن أذن له الأصيل في الضمان والأداء.
مسألة 557: لو دفع الأصيل الدين إلى المستحق أو إلى الضامن، فقد
برئ، سواء أذن له الضامن في الدفع أو لا.
ولو ضمن فأنكر الأصيل الإذن في الضمان، قدم قوله مع اليمين،
وعلى الضامن البينة بالإذن؛ لأصالة عدمه.
وكذا لو أنكر الأصيل الدين الذي ضمنه عنه الضامن؛ لأصالة براءة
ذمته.
ولو أنكر الضامن الضمان فاستوفى المستحق بالبينة، لم يرجع على
384

الأصيل إن أنكر الدين أيضا أو الإذن، وإلا رجع اقتصاصا، إلا أن ينكر
الأصيل الإذن ولا بينة.
ولو أنكر المستحق دفع الضامن بسؤال، قدم إنكاره.
فإن شهد الأصيل ولا تهمة، قبلت، ومع التهمة يغرم ثانيا، ويرجع
على الأصيل بالأول مع مساواته الحق أو قصوره.
ولو لم يشهد، رجع بالأقل من الثاني والأول والحق.
مسألة 558: كما ينبغي التنزه عن الدين ينبغي التنزه عن الضمان مع
الإعسار؛ لما فيه من التغرير بمال الغير.
وقد روى أبو الحسن الخزاز عن الصادق (عليه السلام)، قال: سمعته يقول
لأبي العباس الفضل: " ما منعك من الحج؟ " قال: كفالة تكفلت بها، قال: " ما
لك والكفالات؟ أما علمت أن الكفالة هي التي أهلكت القرون الأولى؟ " (1).
وعن داود الرقي عن الصادق (عليه السلام) قال: " مكتوب في التوراة: كفالة
ندامة غرامة " (2).
وقد روى الحسن (3) بن خالد عن الكاظم (عليه السلام)، قال: قلت له:
جعلت فداك، قول الناس: الضامن غارم، قال: فقال: " ليس على الضامن
غرم، الغرم على من أكل المال " (4). والمراد منه أن الضمان يستقر على
الأصيل.

(1) التهذيب 6: 209 / 484.
(2) التهذيب 6: 210 / 492.
(3) في المصدر: " الحسين ".
(4) الكافي 5: 104 - 105 / 5، التهذيب 6: 209 / 485.
385

الفصل الثاني: في الكفالة
وفيه مباحث:
الأول: العقد.
مسألة 559: الكفالة عقد شرع للتعهد بالنفس، ويشابه الضمان، فإن
الشيء المضمون قد يكون حقا على الشخص، وقد يكون نفس الشخص.
وهي عقد صحيح عند عامة أهل العلم، وبه قال الثوري ومالك
والليث وأبو حنيفة وأحمد والشافعي (1)، ولا نعرف فيه مخالفا، إلا ما نقل
عن الشافعي من قوله في كتاب الدعاوي: إن الكفالة بالبدن ضعيفة (2).
وقال في اختلاف العراقيين وفي الإقرار وفي المواهب وفي كتاب
اللعان: إن الكفالة بالبدن جائزة (3).
واختلف أصحابه.
فقال بعضهم: إن الكفالة صحيحة قولا واحدا، وأراد بقوله: " إنها

(1) المغني 5: 95، الشرح الكبير 5: 98، بداية المجتهد 2: 295، المعونة 2:
1230، الهداية - للمرغيناني - 3: 87، المبسوط - للسرخسي - 20: 2، مختصر
اختلاف العلماء 4: 253 / 1975، النتف 2: 758، الاختيار لتعليل المختار 2:
270، الحاوي الكبير 6: 462، المهذب - للشيرازي - 1: 349، الوجيز 1:
184، الوسيط 3: 239، حلية العلماء 5: 67، التهذيب - للبغوي - 4: 187،
العزيز شرح الوجيز 5: 159، روضة الطالبين 3: 486.
(2) الأم 3: 231، و 6: 229، الحاوي الكبير 6: 462، المهذب - للشيرازي - 1:
349، حلية العلماء 5: 67، التهذيب - للبغوي - 4: 187، العزيز شرح الوجيز
5: 159، المغني 5: 95، الشرح الكبير 5: 98.
(3) الأم 7: 118، الحاوي الكبير 6: 462، المهذب - للشيرازي - 1: 349.
387

ضعيفة " أي ضعيفة في القياس وإن كانت ثابتة بالإجماع والأثر.
ومنهم من قال: إن فيها قولين:
أحدهما: أنها صحيحة، وهو قول عامة العلماء.
والثاني: أنها غير صحيحة؛ لأنها كفالة بعين فلم تصح، كالكفالة
بالزوجة وبدن الشاهدين (1).
والحق: الأول؛ لقوله تعالى: (قال لن أرسله معكم حتى تؤتون
موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم) (2) فطلب يعقوب (عليه السلام) من بنيه
كفيلا ببدن يوسف (عليه السلام)، وقالوا ليوسف (عليه السلام): (إن له أبا شيخا كبيرا فخذ
أحدنا مكانه) (3) وذلك كفالة بالبدن.
وما رواه العامة من قول النبي (صلى الله عليه وآله): " الزعيم غارم " (4).
ومن طريق الخاصة: قول الباقر (عليه السلام): " إن عليا (عليه السلام) أتي برجل كفل
برجل بعينه فأخذ الكفيل، فقال: احبسوه حتى يأتي بصاحبه " (5).
ولإطباق الناس عليه في جميع الأعصار في كل الأصقاع، ولو لم تكن
صحيحة امتنع إطباق الخلق الكثير عليه. ولأن الحاجة تدعو إليه، وتشتد
الضرورة إليه، فلو لم يكن سائغا لزم الحرج والضرورة. ولأن ما وجب
تسليمه بعقد وجب تسليمه بعقد الكفالة، كالمال ووجوب تسليم البدن

(1) المهذب - للشيرازي - 1: 349، حلية العلماء 5: 86، التهذيب - للبغوي - 4:
187، العزيز شرح الوجيز 5: 159، المغني 5: 95، الشرح الكبير 5: 98.
(2) يوسف: 66.
(3) يوسف: 78.
(4) سنن ابن ماجة 2: 804 / 2405، سنن أبي داود 3: 297 / 3565، سنن الترمذي
3: 565 / 1265، سنن الدار قطني 4: 70 / 8، سنن البيهقي 6: 72، سنن سعيد
ابن منصور 1: 125 - 126 / 427، مسند أحمد 6: 358 / 21792، و 397 / 22001.
(5) التهذيب 6: 209 / 486، وفيه: " بالمكفول " بدل " الكفيل ".
388

يكون بعقد النكاح والإجارة.
مسألة 560: ويصح عقد الكفالة حالة ومؤجلة عند أكثر علمائنا (1)
- وبه قال الشافعي (2) - للأصل الدال على الجواز.
وقال الشيخ (رحمه الله): لا يصح ضمان مال ولا نفس إلا بأجل معلوم (3).
وهو ممنوع.
إذا ثبت هذا، فإذا أطلق عقد الكفالة أو شرط الحلول، كانت حالة؛
لأن كل عقد دخله الحلول إذا أطلق اقتضى الحلول، كالثمن.
وإذا ذكر أجلا، وجب تعيينه، فإن أبهم، كان العقد باطلا عندنا - وبه
قال الشافعي وأحمد (4) - لما فيه من الغرر بجهالة الأجل. ولأنه ليس له
وقت يستحق مطالبته فيه.
وكذا الضمان.
فإن جعله إلى الحصاد والجذاذ والقطاع (5)، لم يصح عندنا، وهو أحد
قولي الحنابلة (6).
والأولى عندهم: صحته؛ لأنه تبرع من غير عوض جعل له أجلا
لا يمنع من حصول المقصود فيه، فصح (7).
وعن أحمد رواية: أنه إذا قيد الكفالة بساعة، صح، ولزمه. وتوقف

(1) منهم: الشيخ الطوسي في المبسوط 2: 337، والحلي في السرائر 2: 77،
والمحقق في شرائع الإسلام 2: 115.
(2) المهذب - للشيرازي - 1: 350.
(3) النهاية: 315.
(4) المهذب - للشيرازي - 1: 350، الوسيط 3: 244، الوجيز 1: 185، حلية
العلماء 5: 72 و 77، التهذيب - للبغوي - 4: 190، العزيز شرح الوجيز 5:
169، روضة الطالبين 3: 493، المغني 5: 100، الشرح الكبير 5: 106.
(5) في " ث ": " القطاف " بدل " القطاع ".
(6 و 7) المغني 5: 100، الشرح الكبير 5: 106.
389

لو عين الوقت المتسع (1).
ولأنه شرط فيها شرطا فاسدا فلم يصح مطلقها؛ لعدم الرضا به،
ولا مقيدها بهذا الشرط؛ لفساده.
وللشافعي وجه آخر: أنها تصح كالعارية بأجل مجهول (2).
وهو غلط؛ لأن العارية لا تلزم، ولهذا لو قال له: أعرتك أحد هذين
الثوبين، جاز، وكان له الانتفاع بأحدهما، ولو قال: كفلت لك بأحد هذين،
لم يصح، كذا هنا.
مسألة 561: عقد الكفالة يصح دخول الخيار فيه، فإن شرط الخيار
فيها مدة معينة، صح؛ لقوله (عليه السلام): " المؤمنون عند شروطهم " (3).
وقوله تعالى: (أوفوا بالعقود) (4) أمر بالوفاء بالعقد، وإنما وقع
العقد على هذا الشرط، وليس منافيا لمقتضاه، كما لا ينافي غيره من
العقود.
وقال الشافعي: إذا شرط في الكفالة الخيار، بطل العقد؛ لأنه عقد
لا يجوز فيه شرط الخيار، فإذا شرطه بطل، كالسلم والصرف (5).
والمقدمة الأولى ممنوعة، والحكم في المقيس عليه ممنوع.
وقال أبو حنيفة: إذا شرط الخيار في الكفالة، صح العقد، وبطل
الشرط؛ لأن الضمان يتعلق بغرر وخطر، فلم يفسد بالشرط الفاسد،

(1) المغني 5: 100، الشرح الكبير 5: 106.
(2) المهذب - للشيرازي - 1: 350، حلية العلماء 5: 72 و 77.
(3) التهذيب 7: 371 / 1503، الاستبصار 3: 232 / 835، الجامع لأحكام القرآن 6: 33.
(4) المائدة: 1.
(5) حلية العلماء 5: 77، التهذيب - للبغوي - 4: 191، العزيز شرح الوجيز 5:
167، روضة الطالبين 3: 493.
390

كالنكاح (1).
مسألة 562: لابد في العقد من صيغة دالة على الإيجاب والقبول،
فيقول الكفيل: كفلت لك بدن فلان، أو: أنا كفيل بإحضاره، أو: كفيل به،
أو بنفسه، أو ببدنه، أو بوجهه، أو برأسه؛ لأن كل ذلك يعبر به عن
الجملة.
ولو كفل رأسه أو كبده أو عضوا لا تبقى الحياة بدونه، أو بجزء شائع
فيه، كثلثه أو ربعه، قال بعض علمائنا: لا يصح؛ إذ لا يمكن إحضار
ما شرط مجردا، ولا يسري العقد إلى الجملة (2).
وقال بعض الشافعية: تصح الكفالة؛ لأنه لا يمكن إحضار ذلك
المكفول إلا بإحضار كله (3). وهو الوجه عندي.
ولو تكفل بعضو تبقى الحياة بعد زواله، كيده ورجله وإصبعه
وغيرها، للشافعية وجهان:
أحدهما: الصحة؛ لأنه لا يمكنه إحضار هذه الأعضاء على صفتها إلا
بإحضار البدن كله، فأشبه الكفالة بالوجه والقلب. ولأنه حكم تعلق
بالجملة، فيثبت حكمه إذا أضيف إلى البعض، كالعتق.
والثاني: لا تصح؛ لأنه لا يمكن (4) إحضاره بدون الجملة مع بقائها (5).

(1) حلية العلماء 5: 77، العزيز شرح الوجيز 5: 167.
(2) راجع: شرائع الإسلام 2: 118.
(3) الحاوي الكبير 6: 465، المهذب - للشيرازي - 1: 350، حلية العلماء 5: 74،
التهذيب - للبغوي - 4: 192، العزيز شرح الوجيز 5: 170، روضة الطالبين 3:
495.
(4) في المغني والشرح الكبير: " يمكن " بدون " لا " النافية.
(5) الحاوي الكبير 6: 465، المهذب - للشيرازي - 1: 350، حلية العلماء 5: 74،
التهذيب - للبغوي - 4: 192، العزيز شرح الوجيز 5: 170، روضة الطالبين 3:
495، المغني 5: 96، الشرح الكبير 5: 100 - 101.
391

وقال بعض الشافعية: لا تصح الكفالة في جميع ذلك كله، سواء
بقيت الحياة بدونه أو لا، وسواء كان جزءا مشاعا أو لا؛ لأن ما لا يسري إذا
خص به عضوا لم يصح، كالبيع والإعارة والوصية والإجارة (1).
البحث الثاني: في الكفيل والمكفول والمكفول له.
مسألة 563: يشترط في الكفيل البلوغ والعقل والحرية وجواز
التصرف، فلا تصح كفالة الصبي ولا المجنون ولا العبد ولا من لا يجوز
تصرفه، كالسكران والغافل والنائم والساهي والمحجور عليه للسفه
والفلس؛ لأن الكفالة تستلزم غرم المال مع عدم الإحضار، وهؤلاء كلهم
ممنوعون من التصرف في أموالهم.
ولا يشترط ذلك في المكفول ولا في المكفول له، فإنه تجوز الكفالة
للصبي والمجنون وغيرهما إذا قبل الولي.
مسألة 564: يشترط رضا الكفيل، فلا تصح كفالة المكره على
الكفالة؛ لأنه لا يصح أن يلزمه الحق ابتداء إلا برضاه. ولا نعلم فيه خلافا.
وكذا يعتبر رضا المكفول له؛ لأنه صاحب الحق، فلا يجوز إلزامه
شيئا بغير رضاه، وكما يعتبر رضا المرتهن في الارتهان، كذا المكفول له
يعتبر رضاه في الكفالة.
وقال أحمد: لا يعتبر رضاه؛ لأنها (2) التزام حق له من غير عوض،

(1) المهذب - للشيرازي - 1: 350، حلية العلماء 5: 74، التهذيب - للبغوي - 4:
192، العزيز شرح الوجيز 5: 170، روضة الطالبين 3: 495.
(2) في النسخ الخطية والحجرية: " لأنه ". وما أثبتناه كما في المصدر.
392

فلم يعتبر رضاه فيها (1).
وليس بصحيح.
أما المكفول به فلا يعتبر رضاه، بل تصح الكفالة وإن كره المكفول
به، عند علمائنا - وبه قال ابن سريج من الشافعية (2) - لأنها وثيقة على
الحق، فصحت بغير أمر من عليه، كالضمان.
وقال عامة الشافعية - وهو منقول عن الشافعي -: إنه يعتبر رضا
المكفول (3) به؛ لأنه إذا لم يأذن المكفول به في الكفالة لم يلزمه الحضور
معه، فلم يتمكن من إحضاره، فلم تصح (4) كفالته؛ لأنها كفالة بغير المقدور
عليه، بخلاف الضمان؛ لأنه يمكنه الدفع من ماله، ولا يمكنه أن ينوب عنه
في الحضور (5).
ونمنع عدم لزوم الحضور.
وخلاف الشافعية هنا مبني على أن الكفيل هل يغرم عند العجز؟ إن
قلنا: لا يغرم، لم تصح الكفالة؛ لأنه إذا تبرع لم يتمكن من إحضاره؛ إذ
لا تلزمه الإجابة، فلا تفضي الكفالة إلى مقصود. وإن قلنا: نعم، يغرم عند
العجز (6).
فعلى قولنا إذا تكفل به بغير أمره فطالبه المكفول له بإحضاره، وجب

(1) المغني 5: 103، الشرح الكبير 5: 102.
(2) الحاوي الكبير 6: 464، حلية العلماء 5: 73.
(3) في النسخ الخطية والحجرية: " المضمون " بدل " المكفول ". والظاهر ما أثبتناه.
(4) في النسخ الخطية: " فلا تصح ".
(5) الحاوي الكبير 6: 464، المهذب - للشيرازي - 1: 350، حلية العلماء 5: 73،
التهذيب - للبغوي - 4: 189، العزيز شرح الوجيز 5: 165، روضة الطالبين 3:
491، المغني 5: 103 - 104، الشرح الكبير 5: 102.
(6) العزيز شرح الوجيز 5: 165.
393

عليه إحضاره، ووجب على المكفول به الحضور، لا من جهة الكفالة،
ولكن لأن المكفول له أمره بإحضاره، فهو بمنزلة وكيله في مطالبته
بحضوره.
ولو لم يقل المكفول له: أحضره، ولكن قال: أخرج إلي من
كفالتك، أو: أخرج عن حقي، فهل يجب على المكفول به الحضور؟
الأقرب: ذلك؛ لأن ذلك يتضمن الإذن له في إحضاره، وهو أحد وجهي
الشافعية على قول ابن سريج.
والثاني: لا يلزمه؛ لأنه طالبه بما عليه من الإحضار، فعلى هذا له
حبسه، ولا يلزم المكفول به الحضور (1).
وهو باطل؛ لأنه يحبس على ما لا يقدر عليه.
مسألة 565: يشترط في المكفول به التعيين، فلو قال: كفلت أحد
هذين، أو كفلت زيدا أو عمروا، لم يصح؛ لأنه لم يلتزم بإحضار أحدهما
بعينه.
وكذا لو قال: كفلت لك ببدن زيد على أني إن جئت به وإلا فأنا كفيل
بعمرو، لم يصح؛ لأنه لم يلتزم إحضار أحدهما بعينه. ولأنه علق الكفالة
في عمرو بشرط، والكفالة لا تتعلق بالشرط، فلو قال: إن جئت فأنا كفيل
به، لم يصح. وكذا لو قال: إن جاء زيد فأنا كفيل به، أو: إن طلعت
الشمس، وبذلك كله قال الشافعي (2).
ولو قال: أنا أحضره، أو أؤدي ما عليه، لم يكن كفالة.

(1) حلية العلماء 5: 73، العزيز شرح الوجيز 5: 165 - 166، روضة الطالبين 3:
492.
(2) التهذيب - للبغوي - 4: 181 و 190 و 191، العزيز شرح الوجيز 5: 161 و 167
و 171، روضة الطالبين 3: 487 و 493 و 496.
394

مسألة 566: كل من عليه حق مالي صحت الكفالة ببدنه، ولا يشترط
العلم بمبلغ ذلك المال؛ لأن الكفالة إنما هي بالبدن لا بذلك المال، والبدن
معلوم، فلا تبطل الكفالة لاحتمال عارض. ولأنا قد بينا أن ضمان المجهول
صحيح، وهو التزام المال ابتداء، فالكفالة التي لا تتعلق بالمال ابتداء أولى،
وهو قول أكثر الشافعية (1).
وقال بعضهم: لا تصح كفالة من عليه حق مجهول؛ لأنه قد يتعذر
إحضار المكفول به، فيلزمه الدين، ولا يمكن طلبه منه؛ لجهله. ولأنهم
قالوا ذلك بناء على أنه لو مات، غرم الكفيل ما عليه (2).
وهذا عندنا غير صحيح.
مسألة 567: يشترط أن يكون ذلك المال ثابتا في الذمة بحيث يصح
ضمانه، فلو تكفل ببدن من لا دين عليه أو من جعل جعالة قبل الفعل
والشروع فيه، لم يصح.
ولو تكفل ببدن المكاتب للنجوم التي عليه، صح عندنا؛ لأن مال
الكتابة عندنا ثابت في ذمة المكاتب على ما سلف (3).
وللشيخ قول بعدم الثبوت؛ لأن له أن يعجز نفسه (4)، وبه قال
الشافعي (5).

(1) المهذب - للشيرازي - 1: 350، العزيز شرح الوجيز 5: 159 - 160، روضة
الطالبين 3: 486.
(2) المهذب - للشيرازي - 1: 350، العزيز شرح الوجيز 5: 160، روضة الطالبين
3: 486.
(3) في ص 316، المسألة 507.
(4) المبسوط - للطوسي - 2: 197 و 320.
(5) الحاوي الكبير 6: 441، المهذب - للشيرازي - 1: 347، الوسيط 3: 238،
التهذيب - للبغوي - 4: 175، العزيز شرح الوجيز 5: 155، روضة الطالبين 3: 482.
395

فعلى هذا لا تصح كفالة بدن المكاتب للنجوم التي عليه؛ لأنه لو
ضمن النجوم لم يصح، فالكفالة بالبدن للنجوم أولى أن لا تصح. ولأن
الحضور لا يجب على المكاتب، فلا تجوز الكفالة به، كدين الكتابة.
مسألة 568: إذا كان عليه عقوبة، فإن كانت من حقوق الله تعالى
- كحد الزنا والسرقة والشرب - لم تصح الكفالة ببدنه عليها عند علمائنا
- وهو المشهور من مذهب الشافعي (1) - لأن الكفالة للتوثيق، وحقوق الله
تعالى مبنية على الإسقاط، وينبغي السعي في دفعها ما أمكن، ولهذا لما أقر
ماعز بالزنا عرض له رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالرجوع والإنكار، فقال له: " لعلك
قبلتها، لعلك لامستها " وأعرض بوجهه (صلى الله عليه وآله) عنه (2).
وطرد القاضي ابن سلمة وابن خيران من الشافعية القولين فيه (3).
والخلاف في هذا الباب شبيه الخلاف في ثبوت العقوبات بالشهادة
على الشهادة وكتاب القاضي إلى القاضي.
وأما إن كانت العقوبة من حقوق الآدميين - كالقصاص وحد القذف -
فالأقرب عندي: ثبوتها في القصاص، أما الحد فلا تصح الكفالة به؛ لما
رواه العامة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه) (4)
قال: " لا كفالة في حد " (5).
ومن طريق الخاصة: ما رواه الصدوق (رحمه الله) عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام)،

(1) الحاوي الكبير 6: 463، المهذب - للشيرازي - 1: 350، التهذيب - للبغوي -
4: 187، العزيز شرح الوجيز 5: 160، روضة الطالبين 3: 486.
(2) صحيح البخاري 8: 207، سنن الدار قطني 3: 121 / 131 و 132، مسند أحمد
1: 394 / 2130، المعجم الكبير - للطبراني - 11: 338 / 11936.
(3) العزيز شرح الوجيز 5: 160.
(4) بدل ما بين القوسين في " ج، ر ": " أن النبي (صلى الله عليه وآله) ".
(5) الكامل - لابن عدي - 5: 1681، تاريخ بغداد 3: 391.
396

قال: قضى أنه لا كفالة في حد (1).
وهذا القول بعدم صحة الكفالة في الحد قول أكثر العلماء، وبه قال
شريح والحسن البصري وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وأصحاب الرأي
وأحمد (2).
واختلف قول الشافعي فيه.
فقال في باب اللعان: إنه لا يكفل رجل في حد ولا لعان (3).
ونقل المزني عنه أنه قال: تجوز الكفالة بمن (4) عليه حق أو حد (5).
واختلف أصحابه في ذلك على طرق أظهرها عندهم - ويحكى عن
ابن سريج - أنه على قولين:
أحدهما: الجواز؛ لأنه حق لازم لآدمي، فصحت الكفالة به، كسائر
حقوق الآدميين. ولأن الحضور مستحق عليه، فجاز التزام إحضاره.
والثاني: المنع؛ لأن العقوبات مبنية على الدفع، ولهذا قال (عليه السلام):
" ادرؤوا الحدود بالشبهات " (6) فينبغي إبطال الذرائع المؤدية إلى توسيعها
وتحصيلها. ولأنه حق لا يجوز استيفاؤه من الكفيل إذا تعذر إحضار
المكفول به، فلم تصح الكفالة بمن (7) هو عليه، كحد الزنا (8).

(1) الفقيه 3: 54 / 184.
(2) المغني 5: 97، الشرح الكبير 5: 99.
(3) الأم 5: 297، مختصر المزني: 214، الحاوي الكبير 6: 462، العزيز شرح
الوجيز 5: 160، المغني 5: 97، الشرح الكبير 5: 160.
(4) في النسخ الخطية والحجرية: " لمن " بدل " بمن ". والظاهر ما أثبتناه.
(5) العزيز شرح الوجيز 5: 160، المغني 5: 97، الشرح الكبير 5: 100.
(6) تاريخ بغداد 9: 303، تاريخ مدينة دمشق 23: 347.
(7) في النسخ الخطية والحجرية: " ممن " بدل " بمن ". والظاهر ما أثبتناه.
(8) العزيز شرح الوجيز 5: 160.
397

وأبو حامد من الشافعية بنى القولين على أنه إذا مات المكفول ببدنه
هل يغرم الكفيل ما عليه من الدين؟ إن قلنا: نعم، لم تصح الكفالة؛ لأنه
لا يمكن مؤاخذته بما عليه. وإن قلنا: لا، صحت، كما لو تكفل ببدن من
عليه مال (1).
وقضية هذا البناء أن يكون قول التصحيح أظهر.
وهو اختيار القفال (2).
وادعى الروياني أن المذهب المنع (3).
الطريق الثاني للشافعية: القطع بالجواز، وحمل ما ذكره في اللعان
على الكفالة بنفس الحد (4).
الطريق الثالث: القطع بالمنع؛ لأنه لا تجوز الكفالة بما عليه،
فلا تجوز ببدنه (5).
والضابط في ذلك أن نقول: حاصل كفالة البدن التزام إحضار
المكفول ببدنه، فكل من يلزمه حضور مجلس الحكم عند [الاستدعاء] (6)
أو يستحق إحضاره تجوز الكفالة ببدنه.
مسألة 569: لو ادعى شخص زوجية امرأة، صحت الكفالة ببدنها؛
لوجوب الحضور عليها إلى مجلس الحكم. وكذلك الكفالة بها [لمن] (7)
ثبتت زوجيته.
وقال بعض الشافعية: الظاهر أن حكم هذه الكفالة حكم الكفالة ببدن

(1 - 5) العزيز شرح الوجيز 5: 160.
(6) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطية والحجرية: " الاستعداء ". والظاهر ما
أثبتناه.
(7) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطية والحجرية: " ثم ". والصحيح ما أثبتناه.
398

من عليه القصاص؛ لأن المستحق عليها لا يقبل النيابة (1).
ولو تكفل ببدن عبد آبق لمالكه، صح، ويلزمه السعي في رده.
ويتأتى فيه ما قيل في الزوجة.
ومن في يده مال مضمون - كالغصب والمستام والعارية بشرط
الضمان - تصح كفالته وضمان عين المغصوب والمستام ليردها على
مالكها، فإن رد، برئ من الضمان. وإن تلفت، ففي إلزامه بالقيمة وجهان،
الأقرب: العدم.
وتصح كفالة المستودع والأمين؛ لوجوب رد الوديعة عليه.
والميت قد يستحق إحضاره ليقيم الشهود الشهادة على صورته إذا
تحملوها كذلك من غير معرفة النسب ولا الاسم، فتصح الكفالة على
إحضار بدنه.
وأيضا الصبي والمجنون قد يستحق إحضارهما لإقامة الشهادة على
صورتهما في الإتلاف وغيره، فتجوز الكفالة ببدنهما.
ثم إن كفل بإذن وليهما، فله مطالبة وليهما بإحضارهما عند الحاجة.
وإن كفل بغير إذنه، فهو كالكفالة ببدن العاقل بغير إذنه، وقد بينا (2)
جوازه عندنا.
وللشافعي قولان (3).
قال (4) الجويني: لو كفل رجل ببغداد ببدن رجل بالبصرة، فالكفالة

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 161، روضة الطالبين 3: 486.
(2) في ص 393، ضمن المسألة 564.
(3) حلية العلماء 5: 77، التهذيب - للبغوي - 4: 192، العزيز شرح الوجيز 5:
161، روضة الطالبين 3: 487، وراجع الهامش (2 و 5) من ص 393.
(4) في الطبعة الحجرية: " وقال ".
399

باطلة؛ لأن من بالبصرة لا يلزمه الحضور ببغداد في الخصومات، والكفيل
فرع المكفول ببدنه، فإذا لم يجب عليه الحضور، لا يمكن إيجاب
الإحضار على الكفيل (1).
وهو حسن.
مسألة 570: كل من يستحق عليه الحضور إلى مجلس الشرع تجوز
كفالته، فتصح كفالة من ادعى عليه وإن لم تقم البينة عليه بالدين وإن
جحد؛ لاستحقاق الحضور عليه.
والأصل فيه: أن المنكر يجب عليه فصل الخصومة، فإذا رضي
بتأخيرها، صحت الكفالة عليه وإن كانت الكفالة في نفسها ليست لازمة إذا
طلب الفصل في الحال.
وأما كفالة الحق فالحق الذي يدعى على المكفول ببدنه إن ثبت
بإقراره أو بالبينة، فلا خلاف في صحة الكفالة ببدنه.
وإن (2) لم يثبت لكن ادعى المدعي عليه، فإن لم ينكر ولم يصدق بل
سكت، صحت الكفالة أيضا.
وإن أنكر، صحت الكفالة أيضا؛ لأن الحضور مستحق (3) عليه، فجاز
[التزام] (4) إحضاره، ومعظم الكفالات إنما تتفق قبل ثبوت الحقوق، وهو
أصح وجهي الشافعية.
والثاني: البطلان؛ لأن الأصل براءة ذمة المكفول، وقد تأيد ذلك
بصريح الإنكار، والكفالة ببدن من لا حق عليه باطلة (5).

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 161، روضة الطالبين 3: 487.
(2) في " ث، ر ": " فإن ".
(3) في الطبعة الحجرية: " يستحق ".
(4) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطية والحجرية: " إلزام ". والظاهر ما أثبتناه.
(5) العزيز شرح الوجيز 5: 161، روضة الطالبين 3: 487.
400

والأول أقوى.
إذا عرفت هذا، فإن الكفالة وإن صحت لكن ليس للمدعي قبل ثبوت
دعواه إلزام الغريم بكفيل على الحضور، كما ليس له إلزامه بكفيل على
المال، لكن لو كفله شخص على الحضور قبل ثبوت الدعوى، صح.
إذا ثبت هذا، فإن الكفالة تصح ببدن الغائب والمحبوس وإن تعذر
تحصيل الغرض في الحال، كما يجوز من المعسر ضمان المال، وبه قال
الشافعي (1).
وقال أبو حنيفة: لا تجوز (2).
وتصح كفالة من يدعى (3) عليه الكفالة، وكذا من يدعى عليه
القصاص والحد؛ لأن الحد وإن لم تصح الكفالة عليه فإنه تصح الكفالة
ببدن من يدعى عليه الحد؛ لوجوب حضوره عند الحاكم ليثبت المدعي
عليه حقه بالبينة أو الإقرار.
مسألة 571: إذا عين الكفيل في كفالته مكان التسليم، تعين،
ولم يجب عليه تسليمه في غير ذلك المكان، سواء كان أرفق له أو لا.
ولو طلب ذلك المكفول له، لم تجب له إجابته.
وإن أطلق، فالأقرب: وجوب تسليمه في موضع العقد؛ لأنه المفهوم
عند الإطلاق.
وقال بعض الشافعية: إن فيه قولين، كما لو أطلق السلم ولم يعين

(1) التهذيب - للبغوي - 4: 188، العزيز شرح الوجيز 5: 161، روضة الطالبين 3:
487.
(2) العزيز شرح الوجيز 5: 161، المغني 5: 97، الشرح الكبير 5: 99.
(3) في النسخ الخطية: " ادعي " بدل " يدعى ".
401

مكان التسليم (1).
وقال الجويني: يحمل على مكان الكفالة، ولا يجيء فيه ذلك
الخلاف (2).
وعلى كل تقدير فالأقوى جواز الإطلاق، وحمله على مكان العقد،
وقد بينا أنه إذا عين المكان أو أطلق وحملنا الإطلاق على موضع العقد
فأحضره في غيره، لم يلزمه تسلمه، سواء كان عليه مؤونة أو مشقة في
حمله إلى المعين أو لا.
وقال الشافعي: إن كان عليه مؤونة أو مشقة في حمله إلى الموضع
الذي عينه، لم يلزمه تسلمه، وإن لم يكن عليه في ذلك ضرر، لزمه
قبوله (3).
وحكى أبو العباس ابن سريج فيه وجهين (4).
والحق ما قلناه من أنه لا يبرأ بالتسليم في غير المعين، وبه قال
أبو يوسف ومحمد (5).
وقال بعض العامة: إن أحضره بمكان آخر من البلد وسلمه، برئ من
الكفالة (6).
وقال بعضهم: متى أحضره في أي مكان كان وفي ذلك الموضع

(1 و 2) العزيز شرح الوجيز 5: 163.
(3) المهذب - للشيرازي - 1: 351، حلية العلماء 5: 80.
(4) حلية العلماء 5: 81.
(5) تحفة الفقهاء 3: 245، بدائع الصنائع 6: 12، المبسوط - للسرخسي - 19: 166، الهداية
- للمرغيناني - 3: 88، الاختيار لتعليل المختار 2: 272، فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى
الهندية 3: 57، المغني 5: 99، الشرح الكبير 5: 103.
(6) المغني 5: 99، الشرح الكبير 5: 103.
402

سلطان، برئ من الكفالة؛ لكونه لا يمكنه الامتناع من مجلس الحكم،
ويمكن إثبات الحجة فيه (1).
وهو غلط؛ لأنه سلم ما شرط تسليمه في مكان في غير ذلك المكان،
فلم يبرأ بهذا التسليم، كما لو أحضر المسلم فيه في غير المكان المشترط.
ولأنه قد سلمه في موضع لا يقدر على إثبات الحجة فيه إما لغيبة شهوده،
أو لعدم (2) معرفة الحاكم وأهل بلده بحالهم (3) أو غير ذلك، وقد يهرب منه
ولا يقدر على إمساكه.
إذا عرفت هذا، فإن الكفيل إذا أتى بالمكفول [به] في غير الموضع،
لم يلزم المكفول له قبوله، لكن يجوز له قبوله، وله أن يمتنع وإن لم يكن
له غرض، خلافا للشافعي (4)، كما تقدم، أو كان (5) بأن كان قد عين مجلس
الحكم أو بقعة يجد فيها من يعينه على خصمه.
مسألة 572: إذا دفع الكفيل المكفول ببدنه إلى المكفول له من غير
حائل من يد سلطان أو شبهه، بل تسليما تاما، لزمه قبوله، أو إبراء ذمة
الكفيل من الكفالة، فإن امتنع، دفعه إلى الحاكم وسلمه إليه ليبرأ. وإن
لم يجد حاكما، أشهد عدلين بإحضاره إلى المكفول له وامتناع المكفول له.
والأقوى: أنه يكفي الإشهاد على الامتناع، وأنه سلمه إليه
فلم يتسلمه، ولا يجب دفعه إلى الحاكم؛ لأن مع وجود صاحب الحق
لا يلزمه دفعه إلى من ينوب عنه من حاكم أو غيره.

(1) المغني 5: 99، الشرح الكبير 5: 103.
(2) في " ث، ج ": " عدم ".
(3) أي: حال الشهود.
(4) العزيز شرح الوجيز 5: 163، روضة الطالبين 3: 489.
(5) أي: كان له غرض.
403

وللشافعية القولان (1).
ويبرأ الكفيل بتسليم المكفول [به] في المكان الذي وجب التسليم
فيه، سواء طلبه المستحق أو لم يطلبه بل أتاه به، بشرط أن لا يكون هناك
حائل من يد سلطان ومتغلب وحبس بغير حق لينتفع بتسليمه ويطالب
الخصم.
ولو كان المكفول [به] محبوسا في حبس ظالم، لم يكن له أن يسلمه
إليه محبوسا، ولا يبرأ بذلك، ولا يلزمه أن يتسلمه محبوسا؛ لأن ذلك
الحبس يمنعه من استيفاء حقه (2).
وإن كان محبوسا عند الحاكم فسلمه إليه محبوسا، لزمه تسلمه،
وبرئ الكفيل من الكفالة؛ لأن حبس الحاكم لا يمنعه من استيفاء حقه،
لإمكان إحضاره ومطالبته بالحق، فإذا طالب الحاكم بإحضاره، أحضره
بمجلسه، وحكم بينهما، فإذا فرغت الحكومة، رده إلى الحبس بالحق
الأول.
وإن توجه عليه حق المكفول له، حبسه بالحق الأول وحق المكفول
له، ومن أيهما خلص بقي محبوسا على الآخر.
فروع:
أ - لو ارتد المكفول به ولحق بدار الحرب، لزم الكفيل إحضاره إن
تمكن منه، وإلا فلا. وكذا المحبوس عند غير الحاكم.
ب - لا يشترط تسليم المكفول به من الكفيل في براءة ذمة الكفيل،

(1) حلية العلماء 5: 79.
(2) في " ث، خ، ر " والطبعة الحجرية: " من الاستيفاء بحقه ".
404

بل لو جاء المكفول به وسلم نفسه إلى المكفول له تسليما تاما، برئ
الكفيل من الكفالة؛ لأن القصد رده إلى المكفول له، فلا فرق بين حصوله
في يده بالكفيل أو بغيره نائبا عنه.
ج - لو أخذ المكفول له المكفول به إما طوعا أو كرها وأحضره
مجلس الحكم، برئ الكفيل من الكفالة؛ لما تقدم.
د - لو حضر المكفول به وقال: سلمت نفسي إليك عن جهة
الكفيل، برئ الكفيل، كما يبرأ الضامن بأداء الأصيل الدين.
ولو لم يسلمه نفسه عن جهة الكفيل، لم (1) يبرأ الكفيل؛ لأنه
لم يسلمه إليه ولا أحد من جهته، حتى قال بعض الشافعية: لو ظفر به
المكفول له في مجلس الحكم وادعى عليه، لم يبرأ الكفيل (2).
وليس بجيد، والوجه: ما قلناه أولا.
ه‍ - لو سلمه أجنبي لا عن جهة الكفيل، لم يبرأ الكفيل.
ولو (3) سلمه عن جهة الكفيل، فإن كان بإذنه، فهو كما لو سلمه
بنفسه؛ إذ لا تشترط المباشرة. وإن كان بغير إذنه، لم يجب على المكفول
له القبول؛ إذ لا يجب عليه قبض الحق إلا ممن عليه. لكن لو قبل، برئ
الكفيل.
مسألة 573: لو تكفل واحد ببدن رجل لاثنين فسلمه (4) إلى أحدهما،
لم يبرأ من كفالة الآخر، فإن العقد مع اثنين بمنزلة العقدين، فهو كما لو

(1) في " ج، ر " والطبعة الحجرية: " لا " بدل " لم ".
(2) التهذيب - للبغوي - 4: 188 - 189، العزيز شرح الوجيز 5: 163 - 164،
روضة الطالبين 3: 489.
(3) في النسخ الخطية: " وإن " بدل " ولو ".
(4) في النسخ الخطية والحجرية: " فسلم ". والظاهر ما أثبتناه.
405

تكفل لكل واحد منهما به على الانفراد، وكما لو ضمن دينين لشخصين
فأدى دين أحدهما، لم يبرأ من دين الآخر.
ولو كفل رجلان برجل لرجل، صحت الكفالة، كما يصح أن يضمن
اثنان واحدا. فإن رده أحدهما إلى المكفول له، فهل يبرأ الآخر؟ الأقرب:
البراءة، كما لو أدى الدين أحد الضمناء، برئ الباقون، وهو أحد قولي
الشافعية.
والثاني لهم: أنهما إن كفلا على الترتيب، وقع تسليمه عن المسلم
دون صاحبه، سواء قال: سلمت عن صاحبي، أم لم يقل (1).
وإن كفلا معا، فوجهان.
قال المزني: يبرأ المسلم والآخر أيضا، كالضامنين إذا أدى أحدهما.
وقال ابن سريج والأكثر: لا يبرأ، كما لو كان بالدين رهنان فانفك
أحدهما، لا ينفك الآخر، بخلاف ما إذا أدى أحد الضامنين الدين، فإنه
يوجب براءة الأصيل، وإذا برئ الأصيل برئ كل ضامن، وهنا سقطت
الوثيقة عن أحدهما مع بقاء الحق (2).
ولو كفل اثنان بواحد وكفل كل من الكفيلين ببدن صاحبه، صحت
الكفالات كلها؛ لأن كل مكفول هنا عليه حق. فعلى ما قلناه إذا أحضر
أحدهما المكفول به وسلمه، يبرأ كل واحد منهما عن كفالة صاحبه وكفالة
الذي كفلا به.
وعلى قول ابن سريج وجهان:

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 164، روضة الطالبين 3: 489 - 490.
(2) حلية العلماء 5: 75، التهذيب - للبغوي - 4: 191، العزيز شرح الوجيز 5:
164، روضة الطالبين 3: 490.
406

أحدهما: يبرأ الأصيل والكفيل.
والثاني: أن الذي أحضره تسقط كفالته بالمكفول به، وتسقط عن
الآخر كفالته بالكفيل الذي أحضره، وبقي عليه وجوب إحضار المكفول به (1).
مسألة 574: يصح ترامي الكفالات، فلو تكفل رجل ببدن من عليه
الحق ثم تكفل آخر ببدن الكفيل وتكفل ثالث ببدن الكفيل الثاني، جاز،
كالضمان يصح أن يضمن الضامن الحق ويضمن ثان عن الضامن ويضمن
عن ضامن الضامن ضامن آخر، وهكذا.
فإذا أحضر الكفيل الأول من عليه الحق، برئ وبرئ الكفيلان
الآخران؛ لأنهما فرعاه.
وإن أحضر الكفيل الثاني الكفيل الأول، برئ وبرئ الثالث؛ لأنه
فرعه، ولم يبرأ الأول ولا من عليه الحق.
فإن مات من عليه الحق، فعندنا وعند الشافعي (2) يبرأ الكفلاء الثلاثة،
ولا شيء عليهم.
وإن مات الكفيل الأول، برئ الكفيلان الآخران.
وإن مات الثاني، برئ الثالث، دون الأول.
وإن مات الثالث، لم يبرأ الأولان.
مسألة 575: إذا مات المكفول به، بطلت الكفالة، ولم يلزم الكفيل
شيء، عند علمائنا - وبه قال شريح والشعبي وحماد بن أبي سليمان
وأبو حنيفة والشافعي وأحمد (3) - لأنه تكفل ببدنه على أن يحضره، وقد

(1) لاحظ: العزيز شرح الوجيز 5: 164، وروضة الطالبين 3: 490.
(2) في " ث ": " الشافعية ". ولاحظ الهامش التالي.
(3) الهداية - للمرغيناني - 3: 88، الاختيار لتعليل المختار 3: 273، الحاوي الكبير
6: 466، المهذب - للشيرازي - 1: 351، حلية العلماء 5: 75، المغني 5:
105، الشرح الكبير 5: 104.
407

سقط الحضور عن المكفول [به] فيبرأ الكفيل، كما لو برئ من الدين. ولأن
ما التزم به من أجله يسقط عن الأصل (1) فيبرأ الفرع، كالضامن إذا قضى
المضمون عنه الدين أو أبرئ منه عندهم (2). ولأنه تكفل ببدنه، فلا يلزمه
ما في ذمته، كما لو غاب غيبة منقطعة. ولأنه لا يلزمه بذل نفسه فما في
ذمته أولى.
وقال مالك والحكم والليث: يجب على الكفيل المال الذي كان في
ذمته - وبه قال ابن سريج من الشافعية - لأن الكفيل وثيقة على الحق، فإذا
تعذر استيفاء الحق ممن هو عليه، استوفي من الوثيقة كالرهن (3).
والفرق ظاهر؛ فإن الرهن تعلق بالمال، فاستوفي منه.
وقال بعض الشافعية: لا تبطل الكفالة، ولا ينقطع طلب الإحضار عن
الكفيل - وهو أصح قولي الشافعية عندهم - بل عليه إحضاره ما لم يدفن
- وقلنا بتحريم النبش لأخذ المال - إذا أراد المكفول له إقامة الشهادة على
صورته، كما لو تكفل ابتداء ببدن الميت (4).
وليس بجيد؛ لأن الكفالة على الإحضار إنما يفهم منها إحضاره حال
الحياة، وهو المتعارف بين الناس والذي يخطر بالبال، فيحمل الإطلاق
عليه.
وعلى قول ابن سريج ومالك هل يطالب بالدين أو بالأقل من الدين

(1) فيما عدا " ج " من النسخ الخطية والحجرية: " الأصيل ".
(2) المغني 5: 105، الشرح الكبير 5: 104.
(3) الكافي في فقه أهل المدينة: 398، الحاوي الكبير 6: 466، المهذب
- للشيرازي - 1: 351، حلية العلماء 5: 76، العزيز شرح الوجيز 5: 165،
روضة الطالبين 3: 491، المغني 5: 105، الشرح الكبير 5: 104.
(4) العزيز شرح الوجيز 5: 165، روضة الطالبين 3: 491.
408

ودية المقتول؟ وجهان مبنيان على القولين في أن السيد يفدي العبد الجاني
بالأرش أو بالأقل من الأرش وقيمة العبد؟ (1).
البحث الثالث: في الأحكام.
مسألة 576: إذا كانت الكفالة حالة أو مؤجلة وحل أجلها، فإن كان
المكفول به حاضرا، وجب على الكفيل إحضاره إذا طلبه المكفول له، فإن
أحضره، وإلا حبس. وإن كان غائبا فإن كان موضعه معلوما يمكنه رده منه،
أمهل الكفيل بقدر ذهابه ومجيئه، فإذا مضى قدر ذلك ولم يأت به من غير
عذر، حبس، ولا يحبس في الحال، وبه قال عامة أهل العلم.
وقال ابن شبرمة: يحبس في الحال؛ لأن الحق قد توجه عليه (2).
وهو غلط؛ لأن الحق وإن كان قد حل فإنه يعتبر فيه إمكان التسليم،
وإنما يجب عليه إحضار الغائب عند إمكان ذلك.
وإن كان غائبا غيبة منقطعة - والمراد منها أن لا يعرف موضعه وينقطع
خبره - لم يكلف الكفيل إحضاره؛ لعدم الإمكان، ولا شيء عليه؛ لأنه
لم يكفل المال، وبه قال الشافعي (3).
وقال أحمد: يجب عليه المال (4)، مع أنه قال: إذا مات المكفول برئ
الكفيل، ولا شيء عليه (5).

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 165، روضة الطالبين 3: 491.
(2) حلية العلماء 5: 80، المغني 5: 98، الشرح الكبير 5: 106.
(3) العزيز شرح الوجيز 5: 164، روضة الطالبين 3: 490.
(4) المغني 5: 98 - 99، الشرح الكبير 5: 106.
(5) المغني 5: 105، الشرح الكبير 5: 104.
409

فروع:
أ - لو عرف موضعه، فقد بينا أنه يجب عليه إحضاره، سواء كان
على أزيد من مسافة القصر أو أنقص.
وقال بعض الشافعية: إن كان دون مسافة القصر، فعليه إحضاره
ويمهل مدة الذهاب والإياب ليتبعه. وإن كان على مسافة القصر، فوجهان:
أظهرهما عندهم: أنه كما لو كان دون مسافة القصر، كما لو كان
المديون غائبا إلى هذه المسافة، يؤمر بإحضاره.
والثاني: أنه لا يطالب بإحضاره، إلحاقا لهذه الغيبة بالغيبة المنقطعة،
كما لو غاب [الولي] (1) أو شاهدا (2) الأصل إلى مسافة القصر، يكون كما لو
غاب غيبة منقطعة (3).
ب - لو كان غائبا حين كفل، فالحكم في إحضاره كما لو غاب بعد
الكفالة.
ج - لو كانت الكفالة مؤجلة، لم يكن للمكفول له مطالبة الكفيل
بالإحضار قبل الأجل، سواء كان عليه مؤونة في التقديم أو لا.
ولو دفعه قبل الأجل، لم يجب على المكفول له أخذه، سواء كان
عليه ضرر في أخذه، أو انتفى الضرر.
وقال بعض العامة: إذا انتفى الضرر، وجب عليه أخذه (4).

(1) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطية والحجرية: " المولى ". والظاهر
ما أثبتناه.
(2) في " ث، ج، ر ": " شاهد ".
(3) العزيز شرح الوجيز 5: 164، روضة الطالبين 3: 490.
(4) المغني 5: 99، الشرح الكبير 5: 103 - 104.
410

وليس بمعتمد.
د - لو فرط الكفيل في تحصيله بأن طالبه المكفول له بإحضاره وكان
متمكنا منه فهربه أو ماطل بإحضاره حتى غاب غيبة منقطعة ولم يعرف له
خبر، فإن أوجبنا المال، وجب هنا، وإلا فإشكال.
مسألة 577: قال الشيخ (رحمه الله): ومن ضمن لغيره نفس إنسان إلى أجل
معلوم بشرط ضمان النفس ثم لم يأت به عند الأجل، كان للمضمون له
حبسه حتى يحضر المضمون، أو يخرج إليه مما عليه (1).
وهذا يقتضي وجوب أحد الأمرين على الكفيل: الإحضار، أو الأداء.
فإن طلب المكفول له الإحضار لا غير، فالأقرب عندي: إلزامه به؛
لأنه قد يكون له غرض لا يتعلق بالأداء، وقد يرغب المكفول له في القبض
من غير الغريم.
وعلى ظاهر كلام الشيخ يبرأ الكفيل بأداء المال.
إذا عرفت هذا، فإذا أدى الكفيل المال فإن كان قد كفل بإذنه أو أدى
بإذنه، كان له الرجوع عليه، بخلاف ما قلنا في الضمان: إنه لو ضمن متبرعا
وأدى بالإذن، لم يكن له الرجوع؛ لأن الكفالة ليست بالمال، فيكون حكمه
حكم الأجنبي إذا أدى بإذن من عليه الدين، كان له الرجوع - على ما تقدم -
إن شرط الرجوع، أو مطلقا على الخلاف.
وإنما أوجبنا الرجوع هنا فيما إذا كفل بإذنه؛ لأن الإذن في الكفالة إذن
في لوازمها، ومن لوازمها الأداء مع عدم الإحضار.
إذا ثبت هذا، فإن تمكن من الإحضار وأدى المال من غير حبس أو

(1) النهاية: 315.
411

معه، فالأقرب: أنه لا يرجع وإن كفل بإذنه؛ لأن الواجب في الكفالة
الإحضار مع المكنة، وقد أمكنه الإحضار، فيكون في أداء المال متبرعا.
مسألة 578: قد بينا أنه لا يعتبر رضا المكفول به عندنا، وهو أحد
قولي الشافعي. وفي الثاني: يشترط (1).
وإذا كفل بإذن المكفول به فأراد الكفيل إحضاره إما لطلب المكفول له
أو ابتداء ليخرج عن العهدة، فعليه الإجابة، ومؤونة الإحضار على الكفيل.
وإن كفل بغير إذنه عندنا أو على قوله بالصحة فطالبه المكفول له
بالإحضار، فللكفيل مطالبته بالحضور على جهة التوكيل من المضمون له.
ولو قال: أخرج من حقي، للشافعية وجهان:
أحدهما: قال ابن سريج: لم يكن له مطالبة المكفول به بالإحضار،
كما لو ضمن بغير إذنه مالا وطالب المضمون له الضامن، فإنه لا يطالب
الأصيل.
والثاني: نعم؛ لتضمنه التوكيل في الإحضار (2).
مسألة 579: لو مات المكفول له، انتقل حقه من الكفالة إلى ورثته،
وتكون الكفالة باقية، وتقوم ورثته مقامه، كما لو ضمن له المال، وهو أظهر
وجوه الشافعية.
والثاني: أن الكفالة تنقطع؛ لأنها ضعيفة، فلا يحكم بتوريثها.
والثالث: إن كان له وصي أو عليه دين، بقيت الكفالة؛ لأن الوصي
نائبه، وتمس حاجته إلى قضاء الدين، فإن لم يكن وصي ولا دين،
انقطعت الكفالة (3).

(1) تقدم تخريجه في ص 393، الهامش (2 و 5).
(2) تقدم تخريجه في ص 394، الهامش (1).
(3) الوسيط 3: 242، العزيز شرح الوجيز 5: 166، روضة الطالبين 3: 492.
412

والصحيح عندنا: الأول؛ لأنه حق للميت، فانتقل عنه إلى ورثته،
كغيره من الحقوق.
ونمنع ضعفها. سلمنا، لكن تنتقل إلى الوارث ضعيفة.
والثالث لا وجه له؛ لأن الكفالة إما أن تورث وتكون حقا متروكا
للميت، أو لا، فإن كانت، ورثت على التقديرين. وإن لم تكن، لم يصيرها
الدين والوصي حقا موروثا.
مسألة 580: إذا تكفل برجل إلى أجل إن جاء به، وإلا لزمه ما عليه،
فإن قدم كفالة النفس بأن قال: إن لم أحضره كان علي كذا، لم يلزمه إلا
الإحضار، عند علمائنا؛ لأن الضمان لا يقبل التعليق بخطر، فإنه لا يصح لو
علقه بقدوم زيد، فلهذا بطل ضمان المال، ووجب عليه الإحضار بالكفالة،
ولا يضر ضميمة الضمان الباطل؛ لأنه قصد بالضمان تأكيد الحجة عليه
بالإحضار وتقوية حق الإحضار عليه.
وإن قدم ضمان المال، فقال: علي كذا إلى كذا إن لم أحضره،
ولم يحضره، وجب عليه ما ذكره من المال؛ لما رواه الخاصة عن
أبي العباس عن الصادق (عليه السلام)، قال: سألته عن الرجل يكفل بنفس الرجل
إلى أجل فإن لم يأت به فعليه كذا وكذا درهما، قال: " إن جاء به إلى أجل
فليس عليه مال، وهو كفيل بنفسه أبدا إلا أن يبدأ بالدراهم، فإن بدأ
بالدراهم فهو له ضامن إن لم يأت [به] إلى الأجل الذي أجله " (1).
وعن أبي العباس أيضا عن الصادق (عليه السلام): رجل كفل لرجل بنفس
رجل، فقال: إن جئت به وإلا فعلي خمسمائة درهم، قال: " عليه نفسه،

(1) التهذيب 6: 209 - 210 / 488، وما بين المعقوفين من المصدر.
413

ولا شيء عليه من الدراهم " فإن قال: علي خمسمائة درهم إن لم أدفعه إليه،
فقال: " تلزمه الدراهم إن لم يدفعه إليه " (1).
إذا عرفت هذا، فإن الشافعي ومحمد بن الحسن قالا: إذا تكفل
برجل إلى أجل إن جاء به فيه وإلا لزمه ما عليه، لا تصح الكفالة، ولا يلزمه
ما عليه. وكذا لو قال: متى لم أحضره كان علي كذا وكذا؛ لأن هذا خطر،
ولا يجوز تعليق الضمان به، كما لو قال: إن جاء المطر فأنا ضامن،
لم يصح (2).
وقال أبو يوسف وأبو حنيفة وأحمد: تصح الكفالة، فإن جاء به في
الوقت وإلا لزمه ما عليه؛ لأن هذا موجب الكفالة ومقتضاها، فصح
اشتراطه، كما لو قال: إن جئت به في وقت كذا وإلا فلك حبسي (3).
ولا بأس به عندي.
أما لو قال: إن جئت به في قت كذا وإلا فأنا كفيل ببدن فلان، أو:
فأنا ضامن ما لك على فلان، أو قال: إذا جاء زيد فأنا ضامن ما عليه، أو:
إذا قدم الحاج فأنا كفيل فلان، أو قال: أنا كفيل بهذا شهرا، على إشكال في
الأخير، لم تصح الكفالة - وبه قال الشافعي ومحمد بن الحسن (4) - لأن
الضمان خطر، فلا يجوز تعليقه على شرط، كالهبة.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: فتصح؛ لأنه أضاف الضمان إلى سبب

(1) التهذيب 6: 210 / 493.
(2) حلية العلماء 5: 77، الهداية - للمرغيناني - 3: 89، المغني والشرح الكبير 5:
101.
(3) الهداية - للمرغيناني - 3: 89، حلية العلماء 5: 77، المغني 5: 100 - 101،
الشرح الكبير 5: 101.
(4) الهداية - للمرغيناني - 3: 89، المغني والشرح الكبير 5: 101.
414

الوجوب، فتصح، كضمان الدرك (1).
وقال بعض العامة: إذا قال: كفلت بفلان إن جئت به في وقت كذا
وإلا فأنا كفيل بفلان، أو ضامن المال الذي على فلان، يصح (2).
والحق: البطلان؛ لأن الأول موقوف، والثاني معلق على شرط.
مسألة 581: لو قال: كفلت ببدن فلان على أن يبرأ فلان الكفيل، أو
على أن تبرئه من الكفالة، فالأقوى عندي: الصحة؛ عملا بقوله تعالى:
(أوفوا بالعقود) (3) وبقوله (عليه السلام): " المؤمنون عند شروطهم " (4) وهذا شرط
تمس الحاجة إليه، ولا وجه لفساده؛ لأنه شرط تحول الوثيقة التي على
الكفيل إليه.
وقالت الشافعية: لا تصح الكفالة؛ لأنه شرط فيها شرطا لا يلزمه
الوفاء به، فيكون فاسدا، فتفسد به الكفالة (5).
ونمنع من عدم لزومه مع الشرط.
وقال ابن سريج كما قلناه؛ لأنه طلب تحويل الحق في الكفالة إليه (6).
فعلى هذا لا تلزمه الكفالة إلا أن يبرئ المكفول له الكفيل الأول من

(1) الهداية - للمرغيناني - 3: 89، المغني والشرح الكبير 5: 101.
(2) المغني 5: 101 - 102، الشرح الكبير 5: 101.
(3) المائدة: 1.
(4) التهذيب 7: 371 / 1503، الاستبصار 3: 232 / 835، الجامع لأحكام القرآن 6:
33.
(5) المهذب - للشيرازي - 1: 351، حلية العلماء 5: 74 - 75، التهذيب - للبغوي -
4: 190 - 191، العزيز شرح الوجيز 5: 171، روضة الطالبين 3: 496،
ولاحظ: المغني 5: 102، والشرح الكبير 5: 101.
(6) المهذب - للشيرازي - 1: 351، حلية العلماء 5: 74 - 75، التهذيب - للبغوي -
4: 190، العزيز شرح الوجيز 5: 171، روضة الطالبين 3: 496.
415

الكفالة؛ لأنه إنما كفل بهذا الشرط، فلا تثبت كفالته بدون شرطه.
ولو قال: كفلت لك بهذا الغريم على أن تبرئني من الكفالة بفلان،
أو: ضمنت لك هذا الدين بشرط أن تبرئني من ضمان الدين الآخر، أو:
على أن تبرئني من الكفالة بفلان، خرج فيه الوجهان.
والأولى عندي: الصحة.
وقال بعض العامة: لا تصح؛ لأنه شرط فسخ عقد في عقد،
فلم تصح، كالبيع بشرط فسخ بيع آخر (1).
ونمنع ثبوت الحكم في الأصل.
ولو شرط في الكفالة أو الضمان أن يتكفل المكفول له أو المكفول به
بآخر أو يضمن دينا عنه أو يبيعه شيئا أو يؤجره داره، فالأقرب: الصحة،
خلافا لبعض العامة (2).
مسألة 582: تصح الكفالة ببدن المحبوس والغائب؛ لأن كل وثيقة
صحت مع الحضور صحت مع الغيبة والحبس، كالرهن والضمان. ولأن
الحبس لا يمنع من التسليم؛ لكون المحبوس يمكن تسليمه بأمر الحاكم أو
أمر من حبسه ثم يعيده إلى الحبس بالحقين جميعا، والغائب يمضي إليه
فيحضره إن كانت الغيبة غير منقطعة. وإن لم يعلم خبره، لزمه ما عليه عند
بعض العامة (3).
وقال أبو حنيفة: لا تصح (4).

(1) المغني 5: 102، الشرح الكبير 5: 101.
(2) المغني والشرح الكبير 5: 102.
(3) المغني 5: 97، الشرح الكبير 5: 99.
(4) العزيز شرح الوجيز 5: 161، المغني 5: 97، الشرح الكبير 5: 99.
416

مسألة 583: إذا دفع الكفيل المكفول به إلى المكفول له في وقته
ومكانه وسلمه تسليما تاما، برئ من الكفالة عند أكثر أهل العلم؛ لأنه عقد
على عمل، فيبرأ منه بعمل المعقود عليه، كالإجارة (1).
وقال ابن أبي موسى: لا يبرأ حتى يقول: قد برئت يدي منه، أو: قد
سلمته إليك، أو: قد أخرجت نفسي من كفالته (2).
وإذا أبرأ المكفول له الكفيل من الكفالة أو اعترف بذلك بأن يقول:
أبرأته، أو: برئ إلي، أو: رد إلي المكفول به، برئ من الكفالة، وإذا أبرئ
الكفيل، لم يبرأ المكفول به من الدين، بخلاف الضمان.
ولو أبرئ المكفول به من الحق الذي كفل الكفيل عليه، برئ الكفيل
أيضا.
ولو ادعى الكفيل أن المكفول به برئ من الحق وأن الكفالة سقطت
عنه، وأنكر ذلك المكفول له، فالقول قوله مع يمينه إذا لم تكن للكفيل
بينة، فإذا حلف برئ من دعوى الكفيل، فإن جاء المكفول به فادعى
الإبراء، لم يكتف باليمين التي حلفها للكفيل، بل كان عليه يمين أخرى.
ولو نكل في دعوى الكفيل، حلف الكفيل، وبرئ من الكفالة،
ولا يبرأ المكفول به من الحق؛ لأنه لا يجوز أن يبرأ بيمين غيره.
ولو نكل عن يمين المكفول به، حلف المكفول به، وبرئ هو
والكفيل وإن كان قد حلف على عدم الإبراء له.
ولو قال: تكفلت لك به ولا حق لك عليه، أو ضمنت ما عليه
ولا شيء عليه، فالقول قول المكفول له؛ لأن الظاهر صحة الكفالة والضمان.

(1 و 2) المغني 5: 98، الشرح الكبير 5: 102.
417

وهل يحلف؟ للشافعية وجهان:
أحدهما: لا يحلف؛ لأن دعوى الكفيل تخالف ظاهر قوله.
والثاني: يحلف؛ لأن ما يدعيه ممكن (1).
فإن حلف، فلا كلام. وإن نكل، رددنا اليمين على الكفيل؛ لجواز أن
يعلم أنه لا حق له عليه بقول المكفول له: إنه لا حق لي عليه.
فإن قال: تكفلت به بشرط الخيار، لم يقبل منه في قوله: " بشرط
الخيار " وحكم عليه بالكفالة، سواء قلنا: إنه يدخلها الخيار أو لا، وهو أحد
قولي الشافعية. والثاني: يسقط إقراره (2).
والأصل فيه أنه إذا عقب إقراره بما يبطله، هل يبطل الإقرار أو
المبطل؟
ولو قال رجل لآخر: إن فلانا يلازم فلانا ويضايقه على حقه فاذهب
وتكفل به، ففعل، كانت الكفالة لازمة للمباشر دون الآمر؛ لأن المباشر فعل
باختياره، والأمر بذلك حث وإرشاد.
مسألة 584: من خلى غريما من يد صاحبه قهرا وإجبارا، ضمن
إحضاره أو أداء ما عليه؛ لأنه غصب اليد المستولية المستحقة من صاحبها،
فكان عليه إعادتها أو أداء الحق الذي بسببه تثبت اليد عليه.
ولو خلى قاتلا من يد الولي، لزمه إحضاره أو الدية وإن كان القتل
عمدا، ولا نوجب عليه عين حق القصاص؛ إذ لا يجب إلا على المباشر،
فلما تعذر استيفاؤه وجبت الدية، كما لو هرب القاتل عمدا أو مات، فإن

(1) حلية العلماء 5: 78، العزيز شرح الوجيز 5: 170، روضة الطالبين 3: 495.
(2) التهذيب - للبغوي - 4: 192، العزيز شرح الوجيز 5: 170 - 171، روضة
الطالبين 3: 495 - 496.
418

دفع الدية ثم حضر القاتل، تسلط الوارث على قتله، ويدفع ما أخذه من
المخلص؛ لأن الدية إنما أخذها لمكان الحيلولة وقد زالت.
وإن لم يقتل وتمكن من استيفاء القصاص، وجب دفع المال أيضا
إلى صاحبه، ولا يتسلط الكفيل لو رضي هو والوارث بالمدفوع بدية
ولا قصاص.
ولو تعذر عليه استيفاء الحق من قصاص أو مال وأخذنا المال أو
الدية من الكفيل، كان للكفيل الرجوع على الغريم الذي خلصه قصاصا.
مسألة 585: إذا كفل بدن شخص ادعي عليه مال ثم قال الكفيل:
لا حق لك عليه، قدم قول المكفول له؛ لاستدعاء الكفالة ثبوت المال.
فإن تعذر إحضاره، فهل يجب عليه أداء المال من غير بينة؟ إشكال
أقربه: عدم الوجوب.
وإن أوجبناه فدفع المال، لم يكن له الرجوع على المكفول به؛ لأنه
اعترف ببراءة ذمته وأنه مظلوم في أخذ المال منه، والمظلوم إنما يرجع
على من ظلمه.
مسألة 586: لو كان لذمي على ذمي خمر وتكفل به ذمي آخر، فأسلم
المكفول له أو المكفول عنه، برئ الكفيل والمكفول عنه.
وقال أبو حنيفة: إذا أسلم المكفول عنه، لم يبرأ واحد منهما،
ويلزمهما قيمة الخمر؛ لأنه كان واجبا، ولم يوجد إسقاط ولا استيفاء، ولا
وجد من المكفول له ما أسقط حقه، فبقي بحاله (1).
وهو غلط؛ لأن المكفول به مسلم، فلم يجب عليه الخمر، كما لو
كان مسلما قبل الكفالة، وإذا برئ المكفول به، برئ كفيله، كما لو أدى
الدين أو أبرئ منه.

(1) المبسوط - للسرخسي - 20: 24، اختلاف الفقهاء: 269، المغني 5: 107.
419

ولو أسلم المكفول له، برئ الجميع، وكذا إن أسلم المكفول به.
وإن أسلم الكفيل وحده، برئ من الكفالة؛ لامتناع وجوب الخمر
عليه وهو مسلم.
ولو كان ضمانا، فإنه لا يسقط بإسلام المضمون عنه.
وفي رجوع الضامن المأذون عليه بالقيمة نظر.
مسألة 587: لو قال: أعط فلانا ألفا، ففعل، لم يرجع على الآمر،
ولم يكن ذلك كفالة ولا ضمان مال، إلا أن يقول: أعطه عني.
وقال أبو حنيفة: يرجع عليه إذا كان خليطا له؛ لجريان العادة
بالاستقراض من الخليط (1).
ولو تسلط الظالم عليه فأخذ منه شيئا، لم يتسلط المظلوم على الآمر،
ولم يكن له الرجوع بما أخذه الظالم وإن كان سببا؛ لأن الحوالة مع اجتماع
المباشر والسبب على المباشر. أما لو قبض وسلم إلى الظالم، فإنه يطالب
قطعا.
مسألة 588: إذا كانت سفينة في البحر وفيها متاع فخيف عليها الغرق
فألقى بعض الركبان متاعه في البحر لتسلم السفينة ومن فيها، لم يكن له
الرجوع على أحد، سواء ألقاه بنية الرجوع على الركبان أو لا بنية الرجوع؛
لأنه أتلف مال نفسه باختياره من غير ضمان.
ولو قال له بعض الركبان: ألق متاعك، فألقاه، لم يرجع أيضا على
أحد؛ لأنه لم يكرهه على إلقائه، ولا ضمن له.
ولو قال له: ألق متاعك وعلي ضمانه، فألقاه، فعلى القائل ضمانه

(1) فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهندية 3: 65، المبسوط - للسرخسي - 20:
73، العزيز شرح الوجيز 5: 175، المغني والشرح الكبير 5: 107.
420

وإن كان ضمان ما لم يجب؛ للحاجة الداعية إلى ذلك.
ولو قيل بأنه جعالة، خلصنا من الإلزام.
ولو قال: ألقه وأنا وركبان السفينة ضمناء له، ففعل، فالأقرب أن
نقول: إن كان ضمان اشتراك، فليس عليه إلا ضمان حصته؛ لأنه لم يضمن
الجميع، إنما ضمن حصته، وأخبر عن سائر الركبان بضمان الباقي،
ولم يقبل قوله في حق الباقين.
وإن كان ضمان اشتراك وانفراد بأن يقول: كل واحد منا ضامن لك
متاعك أو قيمته، لزم القائل ضمان الجميع، وسواء قال هذا والباقون
يسمعون وسكتوا، أو قالوا: لا نضمن شيئا، أو لم يسمعوا؛ لأن سكوتهم
لا يلزمهم به حق.
وقال بعض العامة: يضمنه القائل وحده، إلا أن يتطوع بقيتهم (1).
ولو قال: ألقه وعلي ضمانه وعلى الركبان فقد أذنوا لي، فأنكروا بعد
الإلقاء، ضمن الجميع بعد اليمين على إشكال ينشأ: من استناد التفريط إلى
المالك حيث ألقى متاعه قبل الاستيثاق.
ولو لم يكن خوف، فالأقرب: بطلان الضمان.
وكذا يبطل لو قال: مزق ثوبك وعلي ضمانه، أو اجرح نفسك وعلي
ضمانه؛ لعدم الحاجة، فلا يصح الضمان ولا الجعالة إن ألحقنا مثل هذا
بالجعالة؛ لأنها ليست على عمل مقصود.
أما لو قال: طلق زوجتك وعلي كذا، أو أعتق عبدك وعلي كذا،
ففعل، لزمه ذلك؛ لإمكان أن يعلم التحريم بينهما فطلب التفرقة بالعوض
أو طلب ثواب العتق.
مسألة 589: لو انتقل الحق عن المستحق ببيع أو إحالة أو غيرهما،

(1) المغني والشرح الكبير 5: 108.
421

برئ الكفيل من الكفالة؛ لأنه إنما كفل له، لا لغيره، وقد انتقل المال عنه،
فلا يتعدى حق الكفالة إلى من انتقل إليه المال.
وكذا لو أحال المكفول به المكفول له بالمال الذي عليه وقبل
المحتال والمحال عليه، برئ الكفيل أيضا؛ لأن الحوالة كالقضاء إذا كان
المحال عليه مليا.
أما لو كان معسرا أو لم يعلم المحتال، فالأقوى: عدم البراءة، إلا أن
يرضى بالحوالة على المعسر.
ولو أدى الكفيل لتعذر إحضار المكفول ببدنه، كان له مطالبة المكفول
بما أداه عنه، سواء كفل بإذنه أو لا.
ولو ظهر بعد الأداء سبق موت المكفول، رجع الكفيل على المكفول
له بما قبضه؛ للعلم ببطلان الكفالة.
ولو مات المحال عليه الموسر ولم يترك شيئا، برئ الكفيل، وسقط
دين المحتال.
مسألة 590: قد بينا أن الميت تحل عليه الديون المؤجلة عليه، عند
علمائنا أجمع - وعليه عامة الفقهاء، وبه قال الشعبي والنخعي وسعيد بن
المسيب وسوار ومالك والثوري والشافعي وأصحاب الرأي وأحمد في
إحدى الروايتين (1) - لأن هذا الدين إما أن يبقى في ذمة الميت أو ذمة الورثة
أو متعلقا بالمال.
والأول محال؛ لأن الميت خرجت ذمته، وتعذرت مطالبته.

(1) المدونة الكبرى 5: 236، الإشراف على نكت مسائل الخلاف 2: 589 / 987،
بداية المجتهد 2: 286، المهذب - للشيرازي - 1: 234، حلية العلماء 4: 519،
المغني 4: 526، الكافي في فقه الإمام أحمد 2: 105، الشرح الكبير 4: 544 -
545.
422

والثاني باطل؛ لأن صاحب الدين لم يرض بذمتهم، والذمم تختلف
وتتباين. وأيضا فإنهم لم يلتزموا به.
والثالث باطل؛ إذ لا يجوز تعلقه بالأعيان وتأجيله؛ لما فيه من
الإضرار بالميت وصاحب الدين، ولا منفعة للورثة فيه، بل ربما استضروا
به.
أما الميت: فلقوله (صلى الله عليه وآله): " الميت مرتهن بدينه حتى يقضى عنه " (1).
وأما صاحبه: فقد تتلف الأعيان فيسقط حقه.
ولا منفعة للورثة؛ فإنهم لا ينتفعون بالأعيان ولا يتصرفون فيها. وإن
تصور في ذلك منفعة لهم، فلا يسقط حق الميت وصاحب الدين ليحصل
لهم منفعة.
وقال ابن سيرين وعبيد الله بن الحسن وإسحاق وأبو عبيد وطاوس
وأبو بكر بن محمد والزهري وسعيد بن إبراهيم والحسن البصري وأحمد
في الرواية الأخرى: لا تحل؛ لأنه لو كان له دين مؤجل لم يحل، فكذلك ما
عليه، كالحي. ولأن الموت ما جعل مبطلا للحقوق، إنما هو علامة على
الوراثة، وقد قال (عليه السلام): " من ترك حقا أو مالا فلورثته " (2) (3).
والفرق: أن الحي له ذمة، وما له يمكن حفظه، بخلاف ما عليه، فإن

(1) جامع المسانيد - للخوارزمي - 2: 74، المغني 4: 526، الشرح الكبير 4:
545.
(2) صحيح البخاري 3: 128، سنن ابن ماجة 2: 807 / 2416، سنن النسائي 4:
66، سنن البيهقي 3: 214، و 6: 214، مسند أبي داود الطيالسي: 156 -
157 / 1150، مسند أحمد 4: 222 / 13744 و 13745، المصنف - لعبد الرزاق -
8: 289 - 290 / 15257، المعجم الكبير - للطبراني - 20: 264 - 266 / 625 -
628، وفي الجميع: " من ترك مالا فلورثته ".
(3) حلية العلماء 4: 519، المغني 4: 526، الشرح الكبير 4: 544، الكافي في
فقه الإمام أحمد 2: 105.
423

المديون يتضرر بترك الحق متعلقا بالعين. ولأن النبي (صلى الله عليه وآله) لما امتنع من
الصلاة على المديون حتى ضمن الدين علي (عليه السلام) تارة وأبو قتادة أخرى (1)
لم يسأل هل كان الدين مؤجلا؟ فلا تجوز مطالبته في الحال لو لم يحل
ولم يكن هناك مانع من الصلاة، أو كان حالا؟ وترك الاستفصال يدل على
العموم.
وما رواه السكوني عن الصادق عن الباقر (عليهما السلام)، قال: " إذا كان على
الرجل دين إلى أجل ومات الرجل حل الدين " (2).
وعن الحسين بن سعيد قال: سألته عن رجل أقرض رجلا دراهم إلى
أجل مسمى ثم مات المستقرض، أيحل مال القارض عند موت المستقرض
منه، أو لورثته من الأجل ما للمستقرض في حياته؟ فقال: " إذا مات فقد
حل مال القارض " (3).
مسألة 591: لو مات من له الدين المؤجل، قال أكثر علمائنا (4):
لا يحل دينه بموته - وهو قول أهل العلم (5) - لعدم دليل الحلول، وأصالة
الاستصحاب، وبراءة ذمة من عليه الدين من الحلول.
وقال الشيخ (رحمه الله) في النهاية: إذا مات وله دين مؤجل، حل أجل ما له،
وجاز للورثة المطالبة به في الحال (6).

(1) تقدم تخريجه في ص 281، الهامش (5 و 6).
(2) التهذيب 6: 190 / 408.
(3) التهذيب 6: 190 / 409.
(4) منهم: الشيخ الطوسي في الخلاف 3: 271، ضمن المسألة 14، وابن إدريس في
السرائر 2: 53، والمحقق الحلي في شرائع الإسلام 2: 93.
(5) في الطبعة الحجرية: " قول أكثر أهل العلم ".
(6) النهاية: 310.
424

لما رواه أبو بصير عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: " إذا مات الميت (1) حل
ما له وما عليه من الدين " (2).
ولأنه دين، فحل بموت صاحبه، كما يحل بموت من هو عليه.
والرواية مقطوعة السند، على أنها غير دالة على المطلوب
بالنصوصية؛ إذ لم تشتمل على ذكر الأجل.
والفرق بين موت صاحب الدين والمديون ظاهر؛ فإن الميت لا ذمة
له، فلا يبقى للدين محل، ومن له الدين ينتقل حقه بعد موته إلى الورثة،
وإنما كان له دين مؤجل، فلا يثبت للوارث ما ليس له.
مسألة 592: قد بينا أن الدين المؤجل يحل بموت من عليه وأن أحمد
قد خالف فيه في إحدى الروايتين (3).
فعلى قوله يبقى الدين في ذمة الميت كما كان، ويتعلق بعين ماله،
كتعلق حقوق الغرماء بمال المفلس عند الحجر عليه، فإن أحب الورثة أداء
الدين والتزامه للغريم ويتصرفون في المال، لم يكن لهم ذلك، إلا أن
يرضى الغريم، أو يوفوا الحق بضمين مليء، أو برهن يثق به لوفاء حقه،
فإن الوارث قد لا يكون أمينا وقد لا يرضى به الغريم، فيؤدي إلى فوات
حقه (4).
وقال بعض العامة: إن الحق ينتقل إلى ذمم الورثة بموت مورثهم من
غير أن يشترط التزامهم له، ولا ينبغي أن يلزم الإنسان دين لم يتعاط له،

(1) كذا في النسخ الخطية والحجرية، وفي المصدر: " الرجل " بدل " الميت ".
(2) الكافي 5: 99 (باب أنه إذا مات الرجل حل دينه) ح 1، التهذيب 6:
190 / 407.
(3) راجع المصادر في الهامش (3) من ص 423.
(4) المغني 4: 526 - 527، الشرح الكبير 4: 545.
425

ولو لزمهم ذلك بموت مورثهم للزمهم وإن لم يخلف وفاء (1).
وهذا كله ساقط عندنا، إلا أن يرضى الغريم بتذمم الورثة بالدين،
ويصير عليهم تبرعا منه.
وعلى قولنا بحلول الدين بموت المديون يتخير الوارث بين الدفع
من عين التركة ومن غيرها؛ لانتقال المال إليهم، فإن امتنعوا من الأداء من
عين التركة ومن غيرها، باع الحاكم من التركة ما يقضى به الدين.
مسألة 593: من مات وعليه دين لم يمنع الدين من نقل التركة إلى
الورثة على أشهر قولي أصحابنا؛ لأن مستحق التركة إما الميت، وهو محال؛
إذ ليس هو أهلا للتملك، أو الغريم، وهو محال؛ لأنه لو أبرأه لم يكن له
في التركة شيء، أو لا لمالك، وهو محال، فلم يبق إلا الورثة. ولأن تعلق
الدين بالمال لا يزيل الملك في حق الجاني [والراهن] (2) والمفلس،
فلم يمنع نقله هنا.
وإن تصرف الوراث (3) في التركة ببيع أو غيره، صح تصرفهم،
ولزمهم أداء الدين، فإن تعذر وفاؤه، فسخ تصرفهم، كما لو باع السيد
عبده الجاني أو النصاب الذي وجبت فيه الزكاة.
وقال بعض علمائنا: إن التركة لا تنتقل (4) - وعن أحمد روايتان (5) -
لقوله تعالى: (من بعد وصية يوصى بها أو دين) (6) فجعل التركة للوارث

(1) المغني 4: 527، الشرح الكبير 4: 545 - 546.
(2) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطية والحجرية: " الرهن ". والصحيح ما أثبتناه.
(3) في النسخ الخطية والحجرية: " الوارث " بدل " الوراث ". وما أثبتناه يقتضيه
السياق.
(4) شرائع الإسلام 4: 16.
(5) المغني 4: 527 - 528، الشرح الكبير 4: 546.
(6) النساء: 11.
426

من بعد الدين والوصية، فلا يثبت لهم الملك قبلهما، فعلى هذا لو تصرف
الورثة، لم يصح تصرفهم - لأنهم تصرفوا في غير ملكهم - إلا بإذن الغرماء.
ولو تصرف الغرماء، لم يصح، إلا بإذن الورثة.
والحق: الأول؛ لأن المراد زوال الحجر عن التركة بعد الوصية
والدين.
* * *
427

الفصل الثالث: في الحوالة
وفيه مباحث:
الأول: في ماهيتها ومشروعيتها.
الحوالة مشتقة من تحويل الحق من ذمة إلى ذمة. وهي عقد وضع
للإرفاق، منفرد بنفسه، وليست بيعا ولا محمولة عليه عند علمائنا أجمع،
وهو قول أكثر العلماء (1)، وإلا لما صحت؛ لأنها بيع دين بدين، وذلك
منهي عنه (2)، والحوالة مأمور بها، فتغايرا.
ولأنها لو كانت بيعا، لما جاز التفرق قبل القبض؛ لأنه بيع مال الربا
بجنسه، فلا يجوز مع التأخير والتفرق قبل القبض، ولجازت بلفظ البيع،
ولجازت من جنسين، كالبيع.
ولأن لفظها يشعر بالتحويل لا بالبيع. فعلى هذا لا يدخلها خيار
المجلس، وفي خيار الشرط ما تقدم (3)، وتلزم بمجرد العقد.
وقد قيل: إنها بيع، فإن المحيل يشتري ما في ذمته بما له في ذمة
المحال عليه، وجاز تأخير القبض رخصة؛ لأنه موضوع على الرفق،
فيدخلها حينئذ خيار المجلس لذلك (4).
والصحيح ما تقدم؛ فإن البيع مختص بألفاظ ولوازم منفية عن هذا

(1) راجع المغني والشرح الكبير 5: 54.
(2) الكافي 5: 100 (باب بيع الدين بالدين) ح 1، التهذيب 6: 189 / 400.
(3) في ج 11، ص 64، ضمن المسألة 251.
(4) المغني والشرح الكبير 5: 54.
429

العقد.
مسألة 594: الحوالة عقد جائز بالنص والإجماع.
روى العامة عن أبي هريرة أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: " مطل الغني ظلم، وإذا
أتبع أحدكم على مليء فليتبع " (1).
وفي لفظ آخر: " وإذا أحيل أحدكم بحق على مليء فليحتل " (2).
ومن طريق الخاصة: ما رواه منصور بن حازم عن الصادق (عليه السلام)،
قال: سألته عن الرجل يحيل على الرجل الدراهم أيرجع عليه؟ قال:
" لا يرجع عليه أبدا إلا أن يكون قد أفلس قبل ذلك " (3).
وقد أجمع كل من يحفظ عنه العلم على جواز الحوالة في الجملة.
إذا عرفت هذا، فمعنى " أتبع " هو معنى " أحيل ".
قال صاحب الصحاح: يقال: أتبع فلان بفلان، إذا أحيل له عليه،
والتبيع: الذي لك عليه مال (4).
والأشهر في الرواية الثانية: " وإذا أحيل أحدكم " بالواو. ويروى: " فإذا "
بالفاء.
فعلى الأول هو مع قوله: " مطل الغني ظلم " جملتان لا تعلق للثانية

(1) صحيح البخاري 3: 123، صحيح مسلم 3: 1197 / 1564، سنن ابن ماجة 2:
803 / 2403، سنن أبي داود 3: 247 / 3345، سنن الترمذي 3: 600 / 1308،
سنن النسائي 7: 317، سنن البيهقي 6: 70، سنن الدارمي 2: 261، الموطأ 2:
674 / 84، مسند أحمد 3: 78 / 8715.
(2) سنن البيهقي 6: 70، مسند أحمد 3: 225، ضمن ح 9655، العزيز شرح
الوجيز 5: 125، المغني والشرح الكبير 5: 54 بتفاوت يسير.
(3) الكافي 5: 104 / 4، التهذيب 6: 212 / 498.
(4) الصحاح 3: 1190 " تبع ".
430

بالأولى، ويصير كقوله (عليه السلام): " العارية مردودة، والزعيم غارم " (1).
وعلى الثاني يجوز أن يكون المعنى في الترتيب أنه إذا كان المطل
ظلما من الغني، فليقبل من أحيل بدينه عليه، فإن الظاهر أنه يحترز عن
الظلم والمطل.
وهل الأمر بالاحتيال على الإيجاب أو الاستحباب؟ الأقوى عندنا:
الثاني - وبه قال الشافعي (2) - لأصالة البراءة.
وعن أحمد أنه للوجوب (3)؛ قضية لمطلق الأمر.
مسألة 595: مدار الحوالة على ستة أشياء: أشخاص ثلاثة: محيل
ومحال عليه ومحتال، ودينان ومعاملة، فإذا كان لزيد عليك عشرة، ولك
على عمرو مثلها، فأحلت زيدا على عمرو، فأنت محيل، وزيد محتال،
وعمرو محال عليه، وقد كان لزيد عليك دين، ولك على عمرو دين،
وجرت بينك وبين زيد مراضاة بها، انتقل حقه إلى عمرو، فهذه ستة أمور
لابد منها في وجود الحوالة، إلا الخامس؛ فإن فيه خلافا يأتي إن شاء الله
تعالى.
ويشترط في صحتها أمور، منها ما يرجع إلى الدينين، ومنها ما يتعلق
بالأشخاص الثلاثة.
مسألة 596: الحوالة عقد لازم، فلابد فيها من إيجاب وقبول، كغيرها
من العقود.
والإيجاب كل لفظ يدل على النقل والتحويل، مثل: أحلتك،

(1) ورد نصه في العزيز شرح الوجيز 5: 125 - 126، وفي سنن أبي داود 3: 296 -
297 / 3565، ومسند أحمد 6: 358 / 21791 بتفاوت يسير.
(2 و 3) العزيز شرح الوجيز 5: 126.
431

وقبلتك، وأتبعتك.
والقبول ما يدل على الرضا، نحو: رضيت، وقبلت.
ولا تقع معلقة بشرط ولا صفة، بل من شرطها التنجيز، فلو قال: إذا
جاء رأس الشهر، أو: إن قدم زيد فقد أحلتك عليه، لم تصح؛ لأصالة
البراءة، وعدم الانتقال.
ولا يدخلها خيار المجلس؛ لأنه مختص بالبيع، وليست بيعا عندنا.
وهل يدخلها خيار الشرط؟ منع منه أكثر العامة (1).
والحق: جواز دخوله؛ لقولهم (عليهم السلام): " كل شرط لا يخالف الكتاب
والسنة فإنه جائز " (2).
ولو قال: أحلني على فلان، فقال: أحلتك، افتقر إلى القبول،
ولا يكفي الاستيجاب.
والخلاف المذكور في البيع في الاستيجاب والإيجاب آت هنا.
وقطع بعض الشافعية بالانعقاد هنا؛ لأن الحوالة أجيزت رفقا بالناس،
فيسامح فيها بما لا يسامح في غيرها (3).
والمعتمد ما قلناه.
مسألة 597: اختلف العامة في أن الحوالة هل هي استيفاء حق، أو بيع
واعتياض؟ فللشافعي قولان:
أحدهما - وهو الأقوى عندي -: أنها استيفاء حق كأن المحتال

(1) الحاوي الكبير 5: 30، المهذب - للشيرازي - 1: 345، التنبيه: 105، العزيز
شرح الوجيز 4: 193، روضة الطالبين 3: 111.
(2) الكافي 5: 169 / 1، الفقيه 3: 127 / 553، التهذيب 7: 22 / 94، الخلاف 3:
255، المسألة 64.
(3) العزيز شرح الوجيز 5: 128، روضة الطالبين 3: 463.
432

استوفى ما كان له على المحيل وأقرضه المحال عليه؛ لأنها لو كانت
معاوضة، لجاز أن يحيل بالشيء على أكثر منه أو أقل.
وأظهرهما عندهم: أنها بيع؛ لأنها تبديل مال بمال، فإن كل واحد
من المحيل والمحتال يملك بها ما لم يملكه قبلها، وهذا هو حقيقة
المعاوضة، وليس فيها استيفاء ولا إقراض محقق، فلا يقدران (1).
وقد بينا عندنا ما في هذا القول.
وعلى تقديره هي بيع ماذا بأي شيء؟ للشافعية وجهان:
أحدهما: أنها بيع عين بعين، وإلا لبطلت؛ للنهي عن بيع الدين
بالدين.
وكأن هذا القائل نزل الدين على الشخص منزلة استحقاق منفعة تتعلق
بعينه، كالمنافع في إجارات الأعيان. وهذا غير معقول.
والثاني - وهو المعقول -: أنها بيع الدين بالدين، فإن حق الدين
لا يستوفى من عين الشخص، ولغيره أن يؤديه عنه.
واستثني هذا العقد عن النهي؛ لحاجة الناس إليه مسامحة وإرفاقا،
ولهذا المعنى لم يعتبر فيه التقابض، كما في القرض، ولم يجز فيه الزيادة
والنقصان؛ لأنه ليس بعقد مماكسة، كالقرض (2).
وقال الجويني وشيخه: لا خلاف في اشتمال الحوالة على المعنيين:
الاستيفاء، والاعتياض، والخلاف في أيهما أغلب؟ (3).
وكل هذه تمحلات لا فائدة تحتها، ولا دليل عليها.

(1 و 2) الحاوي الكبير 6: 420، العزيز شرح الوجيز 5: 126، روضة الطالبين 3:
462.
(3) العزيز شرح الوجيز 5: 126، روضة الطالبين 3: 462.
433

البحث الثاني: في الشرائط.
وهي أربعة تشتمل عليها أربعة أنظار:
الأول: كمالية الثلاثة، أعني المحيل والمحتال والمحال عليه؛ لأن
رضاهم شرط على ما يأتي.
وإنما يعتبر الرضا ممن له أهلية التصرف، فلا تصح من الصبي وإن
كان مميزا، أذن له الولي أو لا، ولا المجنون، سواء كانا محيلين أو محتالين
أو محالا عليهما.
وكذا يشترط رفع الحجر في الثلاثة.
أما المحيل: فلما فيه من التصرف المالي، والسفيه والمفلس ممنوعان
منه.
وأما المحتال: فكذلك أيضا؛ لما فيه من الاعتياض عن ماله بماله.
وأما المحال عليه: فلأنه التزام بالمال.
مسألة 598: يشترط ملاءة المحال عليه وقت الحوالة، كالضمان، أو
علم المحتال بإعسار المحال عليه، فلو كان معسرا واحتال عليه مع جهله
بإعساره، كان له فسخ الحوالة، ومطالبة المحيل بالمال، سواء شرط
التساوي أو أطلق، عند علمائنا؛ لما فيه من الضرر والتغرير به.
ولما رواه منصور بن حازم عن الصادق (عليه السلام) أنه سأله عن الرجل
يحيل على الرجل الدراهم أيرجع عليه؟ قال: " لا يرجع عليه أبدا إلا أن
يكون قد أفلس قبل ذلك " (1) وهو نص في الباب.

(1) تقدم تخريجه في ص 430، الهامش (3).
434

ولا يشترط استمرار الملاءة، بل لو كان المحال عليه مليا وقت
الحوالة ورضي المحتال ثم تجدد إعسار المحال عليه بالمال بعد الحوالة،
لم يكن للمحتال الرجوع على المحيل؛ لأن الحوالة لزمت أولا، وانتقل
الحق عن ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، فلا يعود إلا بسبب ناقل
للمال.
ولو رضي المحتال بالحوالة على المعسر، لم يكن له بعد ذلك
الفسخ، ولا الرجوع على المحيل بشيء، بل لو مات المحال عليه معسرا،
ضاع ماله.
إذا ثبت هذا، فقد وافقنا - على أن المحتال يرجع إلى ذمة المحيل إذا
ظهر إفلاسه ولم يشترط للمحال [عليه] الملاءة ولم يعلم المحتال بإفلاسه -
مالك وأحمد في إحدى الروايتين وجماعة من أصحابه؛ لأن الفلس عيب
في المحال عليه، لأن الظاهر سلامة الذمة، وقد ظهر أنها معيبة، فكان له
الرجوع، كما لو اشترى سلعة فوجدها معيبة. ولأن المحيل غره، فكان له
الرجوع، كما لو دلس المبيع (1).
وقال الليث والشافعي وأبو عبيد وأحمد - في الرواية الأخرى - وابن
المنذر: ليس له الرجوع، سواء أمكن استيفاء الحق أو تعذر بمطل أو فلس
أو موت أو غير ذلك؛ لأن هذا الإعسار لو حدث قبل قبضه لم يثبت له
الخيار، فكذا حال العقد (2).
وهو ممنوع؛ لأن المتجدد لا يمكن الاحتراز منه، ولا غرر فيه،

(1) المغني 5: 59، الشرح الكبير 5: 55، الكافي في فقه الإمام أحمد 2: 125.
(2) العزيز شرح الوجيز 5: 132، روضة الطالبين 3: 466، المغني 5: 59، الشرح
الكبير 5: 55، الكافي في فقه الإمام أحمد 2: 125.
435

بخلاف المقارن.
مسألة 599: قد بينا أن الحوالة تقتضي نقل الحق من ذمة المحيل إلى
ذمة المحال عليه، عند علمائنا أجمع، وبه قال عامة الفقهاء، إلا ما يحكى
عن زفر، فإنه قال: لا ينتقل الحق، وأجراها مجرى الضمان (1).
وهو خطأ؛ لأن الحوالة مشتقة من تحول الحق، بخلاف الضمان
عندهم (2)، فإنه مشتق من ضم ذمة إلى ذمة، فعلق على كل واحد منهما ما
يقتضيه لفظه.
وأما عندنا فإن الضمان أيضا ناقل على ما تقدم (3) بيانه.
مسألة 600: إذا تمت الحوالة بأركانها وكان المحال عليه موسرا أو علم
المحتال بإفلاسه، انتقل الحق من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه،
ولم يكن للمحتال الرجوع على المحيل أبدا - وبه قال الشافعي ومالك
وأحمد في إحدى الروايتين (4) - لما رواه العامة: أن حزنا جد سعيد بن
المسيب كان له على علي (عليه السلام) دين فأحاله به، فمات المحال عليه فأخبره،
فقال: " اخترت علينا أبعدك الله تعالى " (5) فأبعده بمجرد احتياله، ولم يخبره
أن له الرجوع، ولو كان له الرجوع لأخبره بذلك.

(1) مختصر اختلاف العلماء 4: 271 / 1993، تحفة الفقهاء 3: 247، بدائع الصنائع
6: 17، الهداية - للمرغيناني - 3: 99، الاختيار لتعليل المختار 3: 5، حلية
العلماء 5: 35، المغني 5: 58 - 59، الشرح الكبير 5: 55.
(2) راجع الهامش (1) من ص 344.
(3) في ص 342 (النظر الأول).
(4) الحاوي الكبير 6: 421، المهذب - للشيرازي - 1: 345، الوسيط 3: 223،
حلية العلماء 5: 36، التهذيب - للبغوي - 4: 163، العزيز شرح الوجيز 5:
132، روضة الطالبين 3: 466، الذخيرة 9: 249، المغني 5: 59، الشرح الكبير
5: 55.
(5) الحاوي الكبير 6: 421، المغني 5: 59، الشرح الكبير 5: 55.
436

ومن طريق الخاصة: قول الصادق (عليه السلام): " لا يرجع عليه أبدا " وقد
تقدم (1).
وعن عقبة بن جعفر عن أبي الحسن (عليه السلام)، قال: سألته عن الرجل
يحيل الرجل بمال على الصيرفي ثم يتغير حال الصيرفي أيرجع على
صاحبه إذا احتال ورضي (2)؟ قال: " لا " (3).
ولأن الحوالة براءة من دين ليس فيها قبض ممن عليه، فلا يكون
فيها رجوع عليه، كما لو أبرأه من الدين.
وقال شريح والشعبي والنخعي: متى (4) أفلس أو مات رجع على
صاحبه (5).
وقال أبو حنيفة: يرجع عليه في حالتين: إذا مات المحال عليه
مفلسا، وإذا جحد وحلف عليه عند الحاكم.
وقال أبو يوسف ومحمد: يرجع عليه في هاتين الحالتين وفي حال
أخرى: إذا أفلس وحجر عليه.
لما روي أن عثمان سئل عن رجل أحيل بحقه فمات المحال عليه
مفلسا، فقال: يرجع بحقه لا يزرأ (6) على مال مسلم (7).
ولأنه عقد معاوضة لم يسلم العوض فيه لأحد المتعاقدين، فكان له

(1) في ص 430 و 434.
(2) في النسخ الخطية والحجرية بدل " ورضي ": " وضمن ". وما أثبتناه من المصدر.
(3) التهذيب 6: 212 / 501.
(4) في النسخ الخطية والحجرية بدل " متى ": " من ". والصحيح ما أثبتناه من المصدر.
(5) المغني 5: 59، الشرح الكبير 5: 55.
(6) كذا قوله: " لا يزرأ " في جميع النسخ الخطية والحجرية، وبدلها في الحاوي الكبير
والمغني والشرح الكبير: " لا توى " أي الهلاك. والإزراء: التهاون بالشيء، يقال:
أزريت به، إذا قصرت به. الصحاح 6: 2368 " زرى ".
(7) الحاوي الكبير 6: 421، المغني 5: 59، الشرح الكبير 5: 55.
437

الفسخ، كما لو اعتاض بثوب فلم يسلمه إليه.
ولأنه نقل حق من ذمة إلى غيرها، فإذا لم يسلم له ما نقل إليه، كان
له الرجوع بحقه، كما لو أخذ دينه عينا فتلفت (1) في يد من عليه الحق (2).
ورواية عثمان ضعيفة لم تصح يرويها خليد (3) بن جعفر عن معاوية
ابن قرة عن عثمان (4)، ولم يصح سماعه منه. وقد روي أنه قال: في حوالة
أو كفالة (5)، وهو يدل على شكه وتردده في الرواية، فلا يجوز العمل بها.
على أن قول عثمان ليس بحجة، خصوصا مع معارضته للحجة، وهو
قول علي (عليه السلام) (6).
ولا نسلم أن الحوالة معاوضة؛ لاشتمالها على بيع الدين بالدين، وهو
منهي عنه (7).
والقياس على العين باطل؛ لأنه لا يشبه مسألتنا؛ لأن في ذلك قبضا
يقف استقرار العقد عليه، وهنا الحوالة بمنزلة العوض المقبوض، وإلا كان
بيع دين بدين.

(1) في " ث، خ " والطبعة الحجرية: " وتلفت ".
(2) تحفة الفقهاء 3: 247، بدائع الصنائع 6: 18، الهداية - للمرغيناني - 3: 99 -
100، الاختيار لتعليل المختار 3: 5، فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهندية 3:
73، مختصر اختلاف العلماء 4: 271 / 1993، الحاوي الكبير 6: 421، الوسيط 3:
223، حلية العلماء 5: 36، التهذيب - للبغوي - 4: 163، العزيز شرح الوجيز 5:
132، الذخيرة 9: 249، المغني 5: 59، الشرح الكبير 5: 55.
(3) في المغني 5: 59، والشرح الكبير 5: 55، ونسختي " ج، خ ": " خالد ".
(4) راجع: الحاوي الكبير 6: 421، والمغني 5: 59، والشرح الكبير 5: 55.
(5) مختصر المزني: 107، الحاوي الكبير 6: 421، المغني 5: 59، الشرح الكبير
5: 55.
(6) المغني 5: 59، الشرح الكبير 5: 55.
(7) تقدم تخريجه في ص 429، الهامش (2).
438

مسألة 601: لو شرط المحتال ملاءة المحال عليه فبان معسرا، كان له
الرجوع على المحيل؛ لما بينا من أنه يرجع عند الإطلاق فمع شرط الملاءة
أولى - وهو قول ابن سريج (1) - لقوله (عليه السلام): " المسلمون على شروطهم (2) " (3).
ولأنه شرط ما فيه مصلحة العقد في عقد معاوضة، فيثبت فيه الفسخ
بفواته، كما لو شرط صفة في المبيع، وقد يثبت بالشرط ما لا يثبت بإطلاق
العقد، كما لو شرط صفة في المبيع.
وقال المزني - نقلا عن الشافعي -: إنه لا يرجع؛ لأنه قال: غره أو
لم يغره لا يرجع (4).
قال ابن سريج: هذا الذي نقله المزني لا نعرفه للشافعي، والذي
يشبه أصله: أنه يرجع كما إذا شرط صفة في المبيع فبان بخلافها (5).
قال بعض الشافعية: الصواب ما نقله المزني؛ لأن الإعسار لا يرد
الحوالة إذا لم يشترط الملاءة مع كونه نقصا، فلو ثبت ذلك بالشرط لثبت
بغير شرط. ولأن الإعسار لو حدث لم يثبت له فسخ الحوالة، بخلاف

(1) المهذب - للشيرازي - 1: 345، حلية العلماء 5: 36، التهذيب - للبغوي - 4:
163، العزيز شرح الوجيز 5: 133.
(2) في " ج، ر ": " المؤمنون عند شروطهم ". وفي " ث، خ ": " المسلمون عند
شروطهم ".
(3) صحيح البخاري 3: 120، سنن الدارقطني 3: 27 / 96 و 98 و 99، و 28 / 100،
سنن البيهقي 7: 249، الجامع لأحكام القرآن 6: 33، التهذيب 7: 371 / 1503،
الاستبصار 3: 232 / 835.
(4) مختصر المزني: 107، الحاوي الكبير 6: 423، المهذب - للشيرازي - 1:
345، العزيز شرح الوجيز 5: 133.
(5) الحاوي الكبير 6: 423، حلية العلماء 5: 36، العزيز شرح الوجيز 5: 133،
المغني 5: 60، الشرح الكبير 5: 62.
439

النقص الحادث في المبيع، فكذلك عدم المشروط. ولأن الإعسار يثبت به
فسخ البيع بغير شرط، ولا يثبت مثل ذلك في الحوالة، فاختلفا (1).
ونمنع كون الإعسار لا يرد الحوالة إذا لم يشترط، وقد سبق. ونمنع
الملازمة بين ثبوته بالشرط وبعدمه، ونحن لا ندعي مساواة الحوالة للبيع
في جميع أحكامه.
تذنيب: لو كان المحال عليه معسرا ولم يعلم المحتال ثم تجدد
اليسار وعلم سبق الفقر، احتمل ثبوت الخيار؛ للاستصحاب. وعدمه؛
لزوال المقتضي.
مسألة 602: إذا حصلت الحوالة مستجمعة الشرائط، انتقل المال إلى
ذمة المحال عليه، وبرئ المحيل، سواء أبرأه المحتال أو لا - وهو قول عامة
الفقهاء (2) - لأن الحوالة مأخوذة من التحويل للحق، وإنما يتحقق هذا المعنى
لو انتقل المال من ذمة إلى أخرى، وليس هنا إلا ذمة المحيل والمحال
عليه، فإذا تحول الحق من ذمة أحدهما إلى الآخر مع اليسار أو علم
الإعسار، لم يعد الحق إليه؛ لعدم المقتضي.
وقال شيخنا (رحمه الله) في النهاية: ومن كان له على غيره مال فأحال به على
غيره، وكان المحال عليه مليا به في الحال وقبل الحوالة وأبرأه منه، لم يكن
له الرجوع عليه، ضمن ذلك المحال به عليه أو لم يضمن بعد أن يكون قد
قبل الحوالة، فإن لم يقبل الحوالة إلا بعد ضمان المحال عليه ولم يضمن
من أحيل عليه ذلك، كان له مطالبة المحيل، ولم تبرأ ذمته بالحوالة، فإن
انكشف لصاحب المال أن الذي أحيل به عليه غير ملي بالمال، بطلت

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 133، المغني 5: 60، الشرح الكبير 5: 62.
(2) المغني 5: 58، الشرح الكبير 5: 55.
440

الحوالة، وكان له الرجوع على المديون بحقه عليه، ومتى لم يبرئ المحال
له بالمال المحيل في حال ما يحيله، كان له أيضا الرجوع عليه في أي وقت
شاء (1).
وكان الحسن البصري أيضا لا يرى الحوالة مبرئة إلا أن يبرئه (2).
واحتج الشيخ (رحمه الله) بما رواه زرارة - في الحسن - عن الصادق أو
الباقر (عليهما السلام): في الرجل يحيل الرجل بمال كان له على رجل [آخر]، فيقول
له الذي احتال: برئت مما لي عليك، قال: " إذا أبرأه فليس له أن يرجع
عليه، وإن لم يبرئه فله أن يرجع على الذي أحاله " (3).
وهذه الرواية لا بأس بها؛ لصحة السند، لكن المشهور عند
الأصحاب والعامة البراءة بمجرد الحوالة، فلابد من حمل الرواية على
شيء، وليس ببعيد من الصواب حملها على ما إذا شرط المحيل البراءة،
فإنه يستفيد بذلك عدم الرجوع لو ظهر إفلاس المحال عليه، أو نقول: إذا
لم يبرئه، فله أن يرجع على الذي أحاله إذا تبين له إعساره وقت الحوالة.
النظر الثاني: في الرضا بالحوالة.
مسألة 603: يشترط في الحوالة رضا المحيل - وهو الذي عليه الحق -
إجماعا، فلو أكره على أن يحيل فأحال بالإكراه، لم تصح الحوالة،
ولا نعرف فيه خلافا؛ لأن من عليه الحق مخير في جهات القضاء، فله أن
يقضي من أي جهة شاء، فلا يعين عليه بعض الجهات قهرا، فلا يلزمه

(1) النهاية: 316.
(2) المغني 5: 58، الشرح الكبير 5: 55.
(3) الكافي 5: 104 / 2، التهذيب 6: 211 - 212 / 496، وما بين المعقوفين من
المصدر.
441

أداؤه من جهة الدين الذي له على المحال عليه، إلا في صورة واحدة
لا يعتبر فيها رضا المحيل، وهي ما إذا جوزنا الحوالة على من لا دين عليه
لو قال للمستحق: أحلت بالدين الذي لك على فلان على نفسي، فقبل،
صحت الحوالة، فإذن لا يشترط هنا رضا المحيل، بل رضا المحتال
والمحال عليه خاصة.
مسألة 604: يشترط رضا المحتال عند علمائنا أجمع - وبه قال
الشافعي وأبو حنيفة (1) - لأن حقه ثابت في ذمة المحيل، فلا يلزمه نقله إلى
ذمة أخرى، إلا برضاه، كما أنه لا يجوز أن يجبر على أن يأخذ بالدين
عوضا، وكما إذا ثبت حقه في عين، لا يملك نقله إلى غيرها بغير رضاه.
وقال داود وأحمد: لا يعتبر رضاه إذا كان المحال عليه مليا؛
لقوله (صلى الله عليه وآله): " من أحيل على مليء فليحتل " (2) والأمر للوجوب (3).
ونحن نمنع الوجوب، بل المراد به الإرشاد.
مسألة 605: يشترط عندنا رضا المحال عليه، فلو لم يرض المحال
عليه أو لم يعلم هل رضي أم لا؟ لم تصح الحوالة، وبه قال أبو حنيفة
والزهري والمزني (4).

(1) الحاوي الكبير 6: 418، المهذب - للشيرازي - 1: 345، التهذيب - للبغوي -
4: 162، العزيز شرح الوجيز 5: 127، روضة الطالبين 3: 462، الهداية
- للمرغيناني - 3: 99، الاختيار لتعليل المختار 3: 5، الذخيرة 9: 243، المغني
والشرح الكبير 5: 61.
(2) مسند أحمد 3: 225، ضمن ح 9655.
(3) الحاوي الكبير 6: 418، بداية المجتهد 2: 299، الذخيرة 9: 243، المعونة
2: 1228، المغني والشرح الكبير 5: 61.
(4) الهداية - للمرغيناني - 3: 99، الاختيار لتعليل المختار 3: 5، الحاوي الكبير
6: 418، الوسيط 3: 221، حلية العلماء 5: 35، التهذيب - للبغوي - 4:
162، العزيز شرح الوجيز 5: 127، المغني 5: 61، الشرح الكبير 5: 61 - 62.
442

وقال أبو العباس ابن القاص: نص الشافعي في الإملاء على أنها تفتقر
إلى رضا المحال عليه - وإليه ذهب أبو سعيد الإصطخري من الشافعية - لأنه
أحد من تتم به الحوالة، فأشبه المحتال والمحيل. ولأن الناس يختلفون في
الاقتضاء والاستيفاء سهولة وصعوبة. ولأن الأصل بقاء الحق في ذمة المحال
عليه للمحيل، فيستصحب إلى أن يظهر المعارض.
وأصح القولين عند الشافعي: أنه لا يعتبر رضا المحال عليه إذا كانت
الحوالة على من عليه دين للمحيل - وبه قال مالك وأحمد - لأن المحيل
أقام المحتال مقام نفسه في القبض بالحوالة، فلم يفتقر إلى رضا من عليه
الحق، كما لو كان وكيلا في قبضه، بخلاف المحتال، فإنه ينتقل حقه،
وتبرأ ذمته منه. ولأن المحال عليه محل الحق والتصرف، فلا يعتبر رضاه،
كما لو باع عبدا، لا يعتبر رضاه (1).
وبنوا الوجهين على أن الحوالة اعتياض أو استيفاء؟ إن قلنا بالأول،
فلا يشترط؛ لأنه حق للمحيل، فلا يحتاج فيه إلى رضا الغير. وإن قلنا
بالثاني، يشترط؛ لتعذر إقراضه من غير رضاه (2).
وإن كانت الحوالة على من لا دين عليه، لم تصح عند الشافعي إلا
برضا المحال عليه؛ لأنا لو صححناه، لألزمناه قضاء دين الغير قهرا. وإن
رضي، ففي صحة الحوالة وجهان بناهما الجمهور على الأصل المذكور (3).

(1) الحاوي الكبير 6: 418، المهذب - للشيرازي - 1: 345، الوسيط 3: 221،
حلية العلماء 5: 35، التهذيب - للبغوي - 4: 162، العزيز شرح الوجيز 5:
127، روضة الطالبين 3: 462، بداية المجتهد 2: 299، التلقين 2: 443،
الذخيرة 9: 243، المعونة 2: 1229، المغني 5: 61، الشرح الكبير 5: 61 -
62.
(2 و 3) العزيز شرح الوجيز 5: 127، روضة الطالبين 3: 462.
443

وسيأتي (1).
فقد ظهر من هذا الإجماع على اعتبار رضا المحيل إلا في الصورة
التي ذكرناها في أول النظر، وأن أصحابنا اشترطوا رضا الثلاثة: المحيل
والمحتال والمحال عليه.
النظر الثالث: في الدين.
مسألة 606: إذا أحال زيد عمرا على بكر بألف، فلا يخلو إما أن
تكون ذمة زيد (2) مشغولة بالألف لعمرو، أو لا، وعلى كلا التقديرين فإما أن
يكون بكر بريء الذمة منها أو مشغولها، فالأقسام أربعة:
أ - أن تكون ذمة زيد وبكر مشغولتين، ولا خلاف هنا في صحة
الحوالة.
ب - قسيم هذا، وهو أن تكون ذمتهما بريئة، فإذا أحال زيد - وهو
بريء الذمة - عمرا - ولا دين له عليه - على بكر، وهو بري الذمة، لم يكن
ذلك إحالة صحيحة؛ لأن الحوالة إنما تكون بدين، وهنا لم يوجد، بل
يكون ذلك وكالة في اقتراض، وإنما جازت الوكالة هنا بلفظ الحوالة؛
لاشتراكهما في المعنى، وهو استحقاق الوكيل أن يفعل ما أمره الموكل من
الاقتراض، وأن يطالبه من المحال عليه، كما يستحق المحتال مطالبة
المحال عليه.
ج - أن يكون المحيل بريء الذمة والمحال عليه مشغولها، (فيحيل

(1) في ص 445، القسم " د " من الأقسام المذكورة في المسألة 606.
(2) في " ج ": " ذمته " بدل " ذمة زيد ".
444

من لا دين عليه من لا دين له على من للمحيل عليه دين) (1) بقبضه،
فلا يكون ذلك أيضا حوالة؛ لأن الحوالة مأخوذة من تحول الحق وانتقاله،
ولا حق [هاهنا] (2) ينتقل ويتحول، بل يكون ذلك في الحقيقة وكالة في
الاستيفاء؛ لاشتراكهما في استحقاق الوكيل مطالبة من عليه الدين،
كاستحقاق المحتال مطالبة المحال عليه، وتحول ذلك إلى الوكيل كتحوله
إلى المحيل.
د - أن يكون المحيل مشغول الذمة والمحال عليه بري الذمة.
وفي صحة هذه الحوالة إشكال أقربه: الصحة - وبه قال أبو حنيفة
وأصحابه (3) - لأن المحال عليه إذا قبلها، صار كأنه قضى دين غيره بذمته؛
لأن الحوالة بمنزلة الحق المقبوض، وإذا قبض حقا من غيره، صح وسقط
عن غيره، كذا هنا، لكن يكون ذلك بالضمان أشبه.
وللشافعية وجهان مبنيان على أن الحوالة اعتياض أو استيفاء؟ فإن
قلنا: إنها اعتياض، لم تصح؛ لأنه ليس له على المحال عليه شيء نجعله
عوضا عن حق المحتال. وإن قلنا: إنها استيفاء حق، صحت (4)، كأنه أخذ
المحتال حقه وأقرضه من المحال عليه (5).
قال الجويني: الصحيح عندي تخريج الخلاف على الخلاف في أنه

(1) بدل ما بين القوسين في الطبعة الحجرية: " فيحيل من لا دين له عليه على من
للمحيل عليه دين ". وكذا في " ر " بإسقاط " له " من " لا دين له عليه ".
(2) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطية والحجرية: " فيها ". والصحيح ما أثبتناه.
(3) راجع: فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهندية 3: 73 و 74، وبدائع الصنائع 6: 16.
(4) في النسخ الخطية والحجرية: " صح ". والظاهر ما أثبتناه.
(5) التهذيب - للبغوي - 4: 164، العزيز شرح الوجيز 5: 127، روضة الطالبين 3:
462.
445

هل يصح الضمان بشرط براءة الأصيل؟ بل هذه (1) الصورة غير (2) تلك
الصورة؛ فإن الحوالة تقتضي براءة المحيل، فإذا قبل الحوالة، فقد التزم
على أن يبرئ المحيل (3).
وهذا ذهاب منه إلى براءة المحيل وجعلها أصلا مفروغا عنه.
لكن للشافعية وجهان:
أحدهما: أنه يبرأ على قياس الحوالات.
والثاني - وبه قال أكثرهم -: أنه لا يبرأ، وقبول الحوالة ممن لا دين
عليه ضمان مجرد (4).
ثم فرعوا فقالوا: إن قلنا: لا تصح هذه الحوالة، فلا شيء على
المحال عليه، فإن تطوع وأداه، كان كما لو قضى دين الغير. وإن قلنا:
تصح، فهو كما لو ضمنه، فيرجع على المحيل إن أدى بإذنه (5).
وكذا إن أدى بغير إذنه عندنا وعلى أظهر الوجهين عند الشافعية (6)؛
لجريان الحوالة بإذنه.
وللمحال عليه الرجوع على المحيل هنا قبل الأداء - وهو أحد وجهي
الشافعية (7) - لأن المحيل يبرأ، فينتقل الحق إلى ذمة المحال عليه بمجرد
الحوالة.

(1) في النسخ الخطية والحجرية: " هنا " بدل " هذه ". والمثبت كما في المصدر.
(2) كذا في النسخ الخطية والحجرية، وفي المصدر " عين " بدل " غير ". وفي " ر ": " على
غير ".
(3) العزيز شرح الوجيز 5: 127.
(4) العزيز شرح الوجيز 5: 127، روضة الطالبين 3: 462.
(5) العزيز شرح الوجيز 5: 127 - 128، روضة الطالبين 3: 462.
(6 و 7) العزيز شرح الوجيز 5: 128، روضة الطالبين 3: 463.
446

والثاني: ليس له ذلك بناء على أن المحيل لا يبرأ، كما أن الضامن
لا يرجع على المضمون عنه قبل الأداء (1).
وإذا طالبه المحتال بالأداء، فله مطالبة المحيل بتخليصه.
وهل له ذلك قبل مطالبة المحتال؟ الأقوى عندي: ذلك.
وللشافعية وجهان كالوجهين في مطالبة الضامن (2).
ولو أبرأه المحتال، لم يرجع على المحيل بشيء.
ولو قبضه المحتال ثم وهبه منه، فالأقوى: الرجوع؛ لأنه قد غرم
عنه، وإنما عاد المال إليه بعقد مستأنف.
وللشافعية وجهان ينظر في أحدهما إلى أن الغرم لم يستقر عليه،
فلم يغرم عنه في الحقيقة شيئا. وفي الثاني إلى أنه عاد إليه بتصرف
مبتدأ (3).
وهما مأخوذان من القولين فيما إذا وهبت منه الصداق بعد القبض ثم
طلقها قبل الدخول.
ولو ضمن عنه ضامن، لم يرجع على المحيل حتى يأخذ المحتال
المال منه أو من ضامنه.
ولو أحال المحتال على غيره، نظر إن أحاله على من عليه دين،
رجع على محيله بنفس الحوالة؛ لحصول الأداء بها. وإن أحال على من
لا دين عليه، لم يرجع عليه الذي أحاله عليه.
مسألة 607: الأقوى عندي أنه لا يشترط في الدين المحال به اللزوم

(1 - 3) العزيز شرح الوجيز 5: 128، روضة الطالبين 3: 463.
447

- وهو أصح وجهي الشافعية (1) - كما لو أحال بالثمن في مدة الخيار بأن
يحيل المشتري البائع على رجل أو يحيل البائع رجلا على المشتري. ولأنه
صائر إلى اللزوم، والخيار عارض فيه، فيعطى حكم اللازم.
والثاني لهم: المنع؛ لأنه ليس بلازم (2).
وهو مصادرة على المطلوب.
قال بعض الشافعية: هذا الخلاف مبني على أن الحوالة معاوضة أو
استيفاء؟ إن قلنا معاوضة، فهي كالتصرف في المبيع في زمان الخيار. وإن
قلنا: استيفاء، فتجوز (3).
قالوا: فإن قلنا بالمنع، ففي انقطاع الخيار وجهان:
أحدهما: أنه لا ينقطع؛ لحكمنا ببطلانه، وتنزيلنا إياه منزلة
العدم.
والثاني: نعم؛ لأن التصرف في عوض العقد يتضمن الرضا بإبطال
الخيار (4).
وإن قلنا بالجواز، لم يبطل الخيار عند بعضهم (5).
وقال آخرون: يبطل؛ لأن قضية الحوالة اللزوم، ولو بقي الخيار لما
صادفت الحوالة مقتضاها، وكانت هذه الحوالة كالحوالة على النجوم (6).
والأقوى: بقاء الخيار.
مسألة 608: إذا وقعت الحوالة بالثمن المتزلزل بالخيار ثم انفسخ البيع

(1 و 2) الحاوي الكبير 6: 419، الوسيط 3: 222 - 223، العزيز شرح الوجيز 5:
129، روضة الطالبين 3: 464.
(3) العزيز شرح الوجيز 5: 129.
(4 - 6) العزيز شرح الوجيز 5: 129، روضة الطالبين 3: 464.
448

بفسخ صاحب الخيار، بطل الثمن، وبطلت الحوالة المترتبة عليه، فلو أحال
البائع على المشتري بالثمن رجلا له عليه دين ثم فسخ المشتري بالخيار،
بطلت الحوالة؛ لأنها فرع البيع، والبيع قد بطل.
وعندي فيه نظر؛ لأن البيع لم يبطل من أصله، وإنما تجدد له
البطلان، فلا يؤثر في الحوالة التي جرت منهما.
ولو أحال المشتري البائع على غيره ثم فسخ البيع بالخيار، بطلت
الحوالة؛ لترتبها على البيع، والبيع قد بطل.
ويحتمل قويا عدم بطلان الحوالة.
وعلى قول الشافعية ببطلان الخيار لو أحال المشتري البائع على
ثالث، يبطل خيارهما جميعا؛ لتراضيهما. ولو أحال البائع رجلا على
المشتري، لم يبطل خيار المشتري، إلا أن يقبل ويرضى بالحوالة (1).
مسألة 609: لو أحال زيد على عمرو بكرا بمال فأداه عمرو - بعد
قبول الثلاثة الحوالة - إلى بكر، ثم جاء عمرو يطالب زيدا بما أداه بحوالته
إلى بكر، فادعى زيد أنه إنما أحال بما له عليه، وأنكر عمرو ذلك وأنه
احتال ولا شيء لزيد عليه، كان القول قول عمرو؛ لأصالة براءة ذمته.
ويحتمل أن يقال: إن قلنا بصحة الحوالة على من لا مال عليه، كان
القول قول المحال عليه قطعا. وإن قلنا: إنها لا تصح، كان القول قول
المحيل؛ لاعترافهما بالحوالة، وادعاء المحال عليه بطلانها، والأصل
الصحة.
مسألة 610: لو أحال السيد على مكاتبه بمال النجوم، فإن كان بعد

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 129، روضة الطالبين 3: 464.
449

حلوله، صح؛ لثبوته في ذمة المكاتب. وإن كان قبل الحلول، فكذلك على
الأقوى.
ويجيء على قول الشيخ (رحمه الله) المنع (1)؛ لأن مال الكتابة غير واجب
- عنده (2) - على المكاتب؛ إذ له أن يعجز نفسه، فله أن يمتنع من أدائه.
وللشافعية وجهان فيما إذا أحال السيد غيره على مكاتبه بالنجوم.
أحدهما: الجواز - كما قلناه - لأن النجوم دين ثابت على المكاتب،
فأشبه سائر الديون.
وأصحهما عندهم: المنع؛ لأن النجوم غير لازمة على المكاتب، وله
إسقاطها متى شاء، فلا يمكن إلزامه الدفع إلى المحتال (3).
وعلى ما اخترناه - من صحة الحوالة - لو أعتق السيد عبده المكاتب،
بطلت الكتابة، ولم يسقط عن المكاتب مال الحوالة؛ لأن المال بقبوله
الحوالة صار لازما له للمحتال، ولا يضمن السيد ما يغرمه من مال الحوالة.
ولو كان للسيد عليه دين معاملة غير مال الكتابة، صحت الحوالة به
قطعا؛ لأن حكمه حكم الأحرار في المداينات.
وقال بعض الشافعية: إنه مبني على أن المكاتب لو عجز نفسه، هل
يسقط ذلك الدين؟ إن قلنا: نعم، لم تصح الحوالة، وإلا صحت (4).
والمعتمد ما قلناه، وهو قول أكثر الشافعية وقول أكثر العامة (5).
ولو أحال المكاتب السيد على إنسان بمال الكتابة، صحت الحوالة

(1) المبسوط - للطوسي - 2: 321.
(2) الخلاف 6: 393، المسألة 17، المبسوط - للطوسي - 6: 73 و 82.
(3) العزيز شرح الوجيز 5: 129 - 130، روضة الطالبين 3: 464.
(4) العزيز شرح الوجيز 5: 130، روضة الطالبين 3: 464.
(5) روضة الطالبين 3: 464، المغني 5: 56، الشرح الكبير 5: 57.
450

عندنا وعند أكثر الشافعية وأكثر المانعين من حوالة السيد عليه بالنجوم (1)،
وتبرأ ذمة المكاتب من مال الكتابة، ويتحرر، ويكون ذلك بمنزلة الأداء،
سواء أدى المحال عليه أو مات مفلسا؛ لأن ما أحاله عليه مستقر، والكتابة
لازمة من جهة السيد، فمتى أدى المحال عليه وجب على السيد القبول أو
الإبراء.
وقال بعض الشافعية: لا تصح هذه الحوالة أيضا (2).
فللشافعية إذن ثلاثة أقوال في الجمع بين الصورتين:
أحدها: جواز إحالة المكاتب بالنجوم، وإحالة السيد على النجوم،
وهو قول ابن سريج.
والثاني: منعهما جميعا.
والثالث: أظهرها عندهم، وهو: جواز إحالة المكاتب بها، ومنع
إحالة السيد عليها (3).
ولو أحال السيد بأكثر مال الكتابة ثم أعتقه، سقط عن المكاتب
الباقي، ولم تبطل الحوالة.
مسألة 611: مال الجعل في الجعالة إن استحق بالعمل، صحت الحوالة
به إجماعا.
وإن لم يشرع في العمل، فالأقرب: الجواز؛ لأنا نجوز الحوالة على
بريء الذمة.

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 130، روضة الطالبين 3: 464، المغني 5: 56، الشرح
الكبير 5: 57.
(2) العزيز شرح الوجيز 5: 130، روضة الطالبين 3: 464.
(3) الوسيط 3: 223، العزيز شرح الوجيز 5: 130.
451

وقياس الشافعية أنه يجيء في الحوالة به وعليه الخلاف المذكور في
الرهن به وفي ضمانه (1).
وقال بعض الشافعية: تجوز الحوالة به وعليه بعد العمل، لا قبله (2).
ولو أحال من عليه الزكاة الساعي على إنسان بالزكاة، جاز، سواء
قلنا: إن الحوالة استيفاء أو اعتياض؛ لأنه دين ثابت في الذمة، فجازت
الحوالة.
وعندنا يجوز دفع قيمة الزكاة عن عينها، فجاز الاعتياض فيها.
أما الشافعية فإنهم منعوا من دفع القيمة في الزكاة ومن الاعتياض
عنها (3)، فهنا قالوا: إن قلنا: إن الحوالة استيفاء، صحت الحوالة هنا. وإن
قلنا: إنها اعتياض، لم تجز؛ لامتناع أخذ العوض عن الزكاة (4).
ولو أحال الفقير المديون صاحب دينه بالزكاة على من وجبت عليه،
لم تصح؛ لأنها لم تتعين له إلا بالدفع إليه.
ولو قبل من وجبت عليه، صح، ولزمه الدفع إلى المحتال.
مسألة 612: تجوز الحوالة بكل مال لازم ثابت في الذمة معلوم؛ لأنها
إما اعتياض، فلا تصح على المجهول، كما لا يصح بيعه، وإما استيفاء،
وإنما يمكن استيفاء المعلوم، أما المجهول فلا. ولاشتماله على الغرر.
فلو قال: أحلتك بكل ما لك علي، فقبل، لم تصح.

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 130، روضة الطالبين 3: 464.
(2) روضة الطالبين 3: 464.
(3) المهذب - للشيرازي - 1: 157، المجموع 5: 428 - 429، و 6: 132، حلية
العلماء 3: 167، التهذيب - للبغوي - 3: 65، المغني 2: 671، الشرح الكبير
2: 521.
(4) روضة الطالبين 3: 465.
452

ويحتمل الصحة، ويكون على المحال عليه للمحتال كل ما تقوم به
البينة، كما قلناه في الضمان.
ولا يشترط اتفاق الدينين في سبب الوجوب، فلو كان أحدهما ثمنا
والآخر أجرة أو قرضا أو بدل متلف أو أرش جناية وما أشبهه، جازت
الحوالة، ولا نعلم فيه خلافا.
مسألة 613: تصح الحوالة بكل دين ثابت في الذمة، سواء كان مثليا،
كالذهب والفضة والحبوب والأدهان، أو من ذوات القيم، كالثياب والحيوان
وغيرهما - وهو أصح وجهي الشافعية (1) - لأنه حق لازم ثابت في الذمة،
فأشبه ما له مثل.
والثاني: المنع؛ لأن الغرض من الحوالة إيصال الحق إلى مستحقه من
غير تفاوت، وهذا الغرض لا يتحقق فيما لا مثل له؛ لأن المثل لا يتحرز (2)،
ولهذا لا يضمن بمثله في الإتلاف (3).
والأول أصح. والوصول إلى الحق قد يكون بالمثل، وقد يكون
بالقيمة، وكما يجوز إبراء المديون منه بالأداء، كذا المحال عليه.
ولو كان المال مما لا يصح السلم فيه، ففي جواز الحوالة به إشكال
أقربه: الجواز؛ لأن الواجب في الذمة حينئذ القيمة، وتلك العين لا تثبت
في الذمة، فلا تقع الحوالة بها ولا بمثلها؛ لعدمه، بل بالقيمة.

(1) المهذب - للشيرازي - 1: 344، حلية العلماء 5: 32، التهذيب - للبغوي - 4:
162، العزيز شرح الوجيز 5: 130، روضة الطالبين 3: 465.
(2) في النسخ الخطية: " لا يتحرر " بالراءين المهملتين.
(3) المهذب - للشيرازي - 1: 344، حلية العلماء 5: 32، التهذيب - للبغوي - 4:
162، العزيز شرح الوجيز 5: 130، روضة الطالبين 3: 465.
453

ولو كان عليه خمس من الإبل أرش الموضحة مثلا، وله على آخر
مثلها، فأحاله بها، فالأقرب: الصحة؛ لأنها تنحصر بأقل ما يقع عليه الاسم
في السن والقيمة وسائر الصفات، وهو أحد قولي الشافعي (1).
والثاني: لا تجوز؛ لأن صفاتها مجهولة (2).
وهو ممنوع.
وقال بعض الشافعية: إذا أحال بإبل الدية وعليها وفرعنا على جواز
الحوالة في المتقومات، فوجهان أو قولان مبنيان على جواز المصالحة
والاعتياض عنها.
والأصح عندهم: المنع؛ للجهل بصفاتها (3).
ولو كان الحيوان صداقا ودخل بها، جازت الحوالة عند بعض
الشافعية؛ لأنه لا يكون مجهولا (4).
ومنعه بعضهم؛ لأنه لا تجوز المعاوضة معها (5).
النظر الرابع: في تساوي الجنسين.
مسألة 614: من مشاهير الفقهاء (6) وجوب تساوي الدينين - أعني
الدين الذي للمحتال على المحيل، والذي للمحيل على المحال عليه -
جنسا ووصفا، فلو كان له دنانير على شخص فأحال عليه بدراهم،
لم تصح؛ لأن الحوالة إن جعلناها استيفاء، فلأن مستحق الدراهم إذا

(1 و 2) التهذيب - للبغوي - 4: 162، ولاحظ: حلية العلماء 5: 33.
(3) المهذب - للشيرازي - 1: 344، العزيز شرح الوجيز 5: 130، روضة الطالبين
3: 465.
(4 و 5) راجع: التهذيب - للبغوي - 4: 162.
(6) بداية المجتهد 2: 300، العزيز شرح الوجيز 5: 131، روضة الطالبين 3:
466، المغني 5: 55، الشرح الكبير 5: 59.
454

استوفاها وأقرضها فمحال أن ينتقل حقه إلى الدنانير.
وإن جعلناها معاوضة، فلأنها وإن كانت معاوضة فليست هي على
حقيقة المعاوضات التي يقصد بها تحصيل ما ليس بحاصل من جنس مال
أو زيادة قدر أو صفة، وإنما هي معاوضة إرفاق ومسامحة للحاجة، فاشترط
فيها التجانس والتساوي في القدر والصفة؛ لئلا يتسلط على المحال عليه،
كما في القرض.
ولأنا نجبر المحال عليه عند من لا يشترط رضاه، ولا يمكن إجباره
مع الاختلاف.
ولأن الحوالة لا يطلب بها الفضل، ولهذا جازت دينا بدين، ألا ترى
أنه لا يجوز بيع الدين بالدين، فلو جوزنا الإحالة مع الاختلاف في الجنس
أو الوصف، لكان بيع الدين بالدين.
ومع هذا فقد قال المشترطون للتساوي: إنه تصح الحوالة على من
لا دين عليه، والأحرى جواز الإحالة على من عليه دين مخالف. لكن
الغرض بقولهم: " إذا تغاير الدينان جنسا أو وصفا أو قدرا، لم تصح
الحوالة " أن الحق لا يتحول بها من الدنانير إلى الدراهم وبالعكس، لكنها إذا
جرت فهي حوالة على من لا دين له عليه، وحكمه ما تقدم (1).
مسألة 615: لو كان عليه إبل من الدية وله على آخر مثلها قرضا،
فأحاله صاحب القرض على المقترض بإبل الدية، فإن قلنا: يرد في القرض
مثلها، صحت الحوالة؛ لأنه يمكن استيفاء الحق على صفته من المحال
عليه. ولأن الخيرة في التسليم إلى من عليه الدين، وقد رضي بتسليم ما له

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 131، روضة الطالبين 3: 466.
455

في ذمة المقترض، وهو مثل الحق، فكانت الحوالة صحيحة.
وإن قلنا: إنه يرد في القرض القيمة، لم تصح الحوالة؛ لاختلاف
الجنس.
وكذا ما يثبت في الذمة قيمته في القرض - كالجواهر واللآلئ وغيرهما
مما لا يصح السلم فيه - لا تصح الحوالة به.
ولو احتال المقرض بإبل الدية، لم تصح؛ لأنا إن قلنا: تجب القيمة
في القرض، فقد اختلف الجنس. وإن قلنا: يجب المثل، فللمقرض مثل ما
أقرض في صفاته، والذي عليه الدية لا يلزمه ذلك.
مسألة 616: يجب تساوي الدينين في القدر، فلا يحال بخمسة على
عشرة، ولا بعشرة على خمسة؛ لما قلنا من أن هذا العقد للإرفاق،
ولإيصال كل حق إلى مستحقه، ولم يوضع لتحصيل زيادة أو حط شيء.
والمراد بذلك وقوع المعاوضة بالقليل عن الكثير وبالعكس، وإلا فلو
كان له عشرة فأحال بخمسة منها، أو كان له خمسة فأحال بها وبخمسة
أخرى، فإنه تصح.
وللشافعية وجه في الإحالة بالقليل على الكثير: أنها جائزة، وكأن
المحيل تبرع بالزيادة (1).
وقال أبو العباس ابن سريج: الحوالة بيع إلا أنه غير مبني على
المكايسة والمغابنة وطلب الربح والفضل، بل جعل رفقا، كالقرض، وإن
كان نوع معاوضة، فلا تجوز إلا مع اتفاق الجنس جنسا وقدرا وصفة، وقد
قال الشافعي في كتاب البيوع في باب الطعام قبل أن يستوفى: وإن حل عليه

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 131، روضة الطالبين 3: 466.
456

طعام فأحال به على رجل له عليه طعام أسلفه إياه، لم تجز من قبل أن هذا
الطعام لما لم يجز بيعه لم تجز الحوالة به؛ لأنه بيع، وهذا نص منه (1).
وقيل: ليست بيعا (2) - وهو ما اخترناه نحن أولا - لأن النبي (صلى الله عليه وآله)
ندب إليها، فقال: " من أحيل على مليء فليحتل " (3). ولأنها لا تصح بلفظ
البيع، ولا تجوز الزيادة فيها ولا النقصان، ولما جازت في النقود إلا مع
التقابض في المجلس، إلا أن هذا القائل لا يجوز الحوالة بالمسلم فيه، وهذا
تشمير (4) لقول من قال: إنه بيع.
لا يقال: لو كان بيعا، لكان على المحيل تسليمه إلى المحال عليه؛
لأنه عوض من جهته، كما إذا باع شيئا في يد غيره، فإنه يطالبهما به
المشتري.
لأنا نقول: أجاب من قال: " إنه بيع ": بأنه لما استحق مطالبة المحال
عليه به لم يستحق مطالبة المحيل؛ لأنه لو استحق مطالبتهما، لكان قد
حصل له بالحوالة زيادة في حق المطالبة، وقد ثبت أن الحوالة مبنية على
أنه لا يستحق بها إلا مثل ما كان يستحقه، بخلاف البيع؛ لأنه تجوز فيه
الزيادة.
وفائدة الاختلاف: ثبوت خيار المجلس إن قلنا: إنها بيع.
والحق ما تقدم، والاعتذار باطل؛ لأن تخلف لازم البيع يقضي
بانتفائه.

(1) انظر: الحاوي الكبير 6: 419، والعزيز شرح الوجيز 5: 126، وراجع: الأم 3:
73.
(2) انظر: الحاوي الكبير 6: 419، والعزيز شرح الوجيز 5: 126.
(3) المصنف - لابن أبي شيبة - 7: 79 / 2445.
(4) التشمير: التقليص والإرسال. لسان العرب 4: 428 " شمر ".
457

مسألة 617: الأقرب: أنه لا يشترط تساوي المالين في الحلول
والتأجيل، فيجوز أن يحيل بالمؤجل على الحال؛ لأن للمحيل أن يعجل
ما عليه، فإذا أحال به على الحال فقد عجل.
وكذا يجوز أن يحيل بالحال على المؤجل.
ثم إن رضي المحال عليه بالدفع معجلا، جاز، وإلا لم يجز، ووجب
على المحتال الصبر، كما لو احتال مؤجلا.
وللشافعية قولان:
أصحهما عندهم: أنه يشترط التساوي في الحلول والتأجيل؛ إلحاقا
للوصف بالقدر.
والثاني: أنه يجوز أن يحيل بالمؤجل على الحال؛ لأنه تعجيل،
ولا يجوز العكس؛ لأن حق المحتال حال، وتأجيل الحال لا يلزم (1).
ونحن نمنع عدم اللزوم مطلقا، بل إذا تبرع به، لم يلزم، أما إذا
شرطه في عقد لازم، فإنه يلزم، والحوالة عقد لازم، والمحيل إنما أحال
بالمؤجل، والمحال عليه إنما قبل على ذلك، فلم يكن للمحتال الطلب
معجلا.
فروع:
أ - لو كان الدينان مؤجلين، فإن تساويا في الأجل، صحت الحوالة
قطعا.
وإن اختلفا، صحت عندنا أيضا.
وللشافعية وجهان بناء على الوجهين في الحال والمؤجل، فإن منعناه
هناك، منعناه هنا. وإن جوزناه هناك، جاز هنا على حد ما جاز هناك على
معنى أنه يجوز أن يحال بالأبعد على الأقرب؛ لأنه تعجيل، ولا يجوز

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 131، روضة الطالبين 3: 466.
458

العكس؛ لأنه تأجيل الحال (1).
ب - لو كان أحدهما صحيحا والآخر مكسرا، قالت الشافعية:
لم تجز الحوالة بينهما على الوجه الأول، وعلى الثاني يحال بالمكسر على
الصحيح، ويكون المحيل متبرعا بصفة الصحة، ولا يحال بالصحيح على
المكسر، إلا إذا كان المحتال تاركا لصفة الصحة، ويرضى بالمكسرة رشوة
ليحيله المحيل.
ج - يخرج على هذا الخلاف عندهم حوالة الأردأ على الأجود في
كل جنس، وبالعكس (2).
والأقرب عندي: جواز ذلك كله.
د - لو أدى المحال عليه الأجود إلى المحتال، وجب القبول. وكذا
الصحيح عوض المكسر.
أما تعجيل المؤجل فلا يجبر عليه، خلافا للشافعية، فإنهم
أوجبوه (3)، حيث يجبر المستحق على القبول (4).
وهذا يتفرع على الصحيح في أن المديون إذا جاء بأجود مما عليه من
ذلك النوع، يجبر المستحق على قبوله، ولا يكون ذلك معاوضة؟ (5).
ه‍ - لو كان الدينان حالين فشرط في الحوالة أن المحتال يقبض حقه
أو بعضه بعد شهر، صح عندنا - خلافا لأحمد (6) - لعموم قوله (عليه السلام):

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 131، روضة الطالبين 3: 466.
(2) العزيز شرح الوجيز 5: 131 - 132.
(3) في النسخ الخطية: " جوزوه " بدل " أوجبوه ".
(4 و 5) العزيز شرح الوجيز 5: 132.
(6) المغني 5: 56، الشرح الكبير 5: 59.
459

" المؤمنون عند شروطهم " (1).
ولأن مبنى الحوالة على الإرفاق، وهذا مناسب لمقتضى العقد،
فيكون لازما.
وكذا يصح لو كان الدين المحال به مؤجلا، فشرط المحتال في
الحوالة الحلول، ورضي الثلاثة به، صح ولزم؛ عملا بالشرط.
و - لو اجتمعت شرائط الحوالة وجرى بينهما عقدها ثم رضي
المحتال بأخذ الأقل أو الأردأ أو الصبر إلى أجل، صح إجماعا، ولم يكن
للمحيل الرجوع على المحال عليه بتمام دينه.
وكذا لو رضي المحال عليه بدفع الأجود والأكثر والمعجل، صح،
ولا نعلم فيه خلافا.
ز - لو احتال بالحق الذي له على من عليه مثله فتعاوضا عن الحق
بمخالفه، جاز؛ لأنه يجوز اقتضاء أحد الجنسين من الآخر مع التراضي.
وقد روى داود بن سرحان - في الصحيح - عن الصادق (عليه السلام)، قال:
سألته عن الرجل كانت له على رجل دنانير فأحال عليه رجلا بدنانير أيأخذ
بها دراهم؟ قال: " نعم " (2).
البحث الثالث: في الأحكام.
مسألة 618: إذا جرت الحوالة بشرائطها، برئ المحيل من دين
المحتال، وتحول حق المحتال إلى ذمة المحال عليه، وبرئ المحال عليه

(1) التهذيب 7: 371 / 1503، الاستبصار 3: 232 / 835، الجامع لأحكام القرآن 6: 33.
(2) التهذيب 6: 212 / 499.
460

من دين المحيل، حتى لو أفلس المحال عليه ومات أو لم يمت أو جحد
وحلف، لم يكن للمحتال الرجوع على المحيل، كما لو أخذ عوضا عن
الدين وتلف في يده، وقد سبق (1).
ولأن النبي (صلى الله عليه وآله) تعرض للملاءة، فقال: " إذا أحيل أحدكم على مليء
فليحتل " (2) ولو تمكن المحتال من الرجوع، لما كان للتعرض للملاءة كثير
فائدة.
ولأن الحوالة إما أن يتحول بها الحق، فقد برئت ذمته، فوجب أن
لا يعود إليه، كما لو أبرأه. وإن لم يتحول، فلتدم المطالبة كما في الضمان.
ولو شرط في الحوالة الرجوع بتقدير الإفلاس أو الجحود، ففي صحة
الحوالة إشكال.
وللشافعية وجهان، فإن صحت، ففي صحة الشرط وجهان لهم إذا
طرأ الإفلاس (3).
أما لو اقترن الإفلاس بعقد الحوالة وجهله المحيل، فللمحتال هنا
الرجوع - عندنا - على المحيل على ما تقدم.
وعند الشافعية ينظر إن لم يجر شرط الملاءة، فالمشهور أنه لا رجوع
للمحتال، ولا خيار له، وما يلحقه من الضرر فهو نتيجة ترك التفحص (4).
ولهم وجه نقله الجويني: أنه يثبت له الخيار تداركا لما لحقه من
الخسران، كما لو اشترى شيئا فبان معيبا (5).

(1) في ص 435.
(2) سنن البيهقي 6: 70.
(3 و 4) العزيز شرح الوجيز 5: 133، روضة الطالبين 3: 466.
(5) العزيز شرح الوجيز 5: 133
461

وإن شرط ملاءة المحال عليه، فبان معسرا، فإن قلنا بثبوت الخيار
عند الإطلاق، فهنا أولى. وإن منعناه ثم، ففي الحكم هنا قول للمزني: إنه
لا يرجع (1).
وقال ابن سريج: يرجع، نقلا عن الشافعي، كما لو اشترى عبدا
بشرط أنه كاتب فبان خلافه، يثبت له الخيار (2).
واختار أكثرهم نقل المزني؛ لأنه لو ثبت الرجوع بالحلف في شرط
اليسار، لثبت عند الإطلاق؛ لأن الإعسار نقص في الذمة، كالعيب في المبيع
يثبت الخيار، سواء شرطت السلامة أو لا، بخلاف شرط الكتابة؛ فإن
فواتها ليس نقصا، وإنما هو عدم فضيلة (3).
فإذا جمع بين [صورتي] (4) الإطلاق والاشتراط، حصل للشافعية في
ثبوت الخيار ثلاثة أوجه ثالثها: الفرق بين الصورتين (5).
تذنيب: لو صالح مع أجنبي عن دين على عين ثم جحد الأجنبي
وحلف، هل يعود إلى من كان عليه الدين؟ قال بعض الشافعية: نعم،
ويفسخ الصلح (6).
وقال بعضهم: لا يعود (7).
مسألة 619: لو خرج المحال عليه عبدا، فإن كان لأجنبي وللمحيل
دين في ذمته، صحت الحوالة، كما لو أحال على معسر، ويتخير المحتال
عندنا؛ لأن إعسار العبودية أعظم إعسار، فإن رضي بالحوالة عليه، تبعه

(1 - 3) العزيز شرح الوجيز 5: 133
(4) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطية والحجرية: " صورة ". والظاهر ما أثبتناه.
(5) العزيز شرح الوجيز 5: 133.
(6 و 7) العزيز شرح الوجيز 5: 133، روضة الطالبين 3: 467.
462

المحتال بعد العتق.
ولو كان الدين الذي على العبد للمحيل مما يجب قضاؤه من كسبه أو
من رقبته وصحت الحوالة برضا المحتال، كان له مطالبته على حد ما كان
للمحيل.
وهل يلحق بالمعسر في تخير المحتال لو كان الدين مما يتعلق بالرقبة
كأرش الجناية؟ الأقرب ذلك أيضا.
ولو كان عبدا للمحيل، فالحوالة عليه حوالة على من لا دين عليه،
فإن صححناها وقلنا: إنها ضمان، فهذا ضمان العبد عن سيده بإذنه، وقد
سبق (1).
وإنما قلنا: إنها حوالة على من لا دين عليه؛ لاستحالة ثبوت دين
السيد في ذمة عبده.
وأما الشافعية فقالوا: إن كان في ذمته دين - بأن ثبت قبل أن ملكه -
وفرعنا على أنه لا يسقط إذا ملكه، فهو كما لو كان لأجنبي (2).
مسألة 620: لو اشترى عبدا وأحال المشتري البائع بالثمن على رجل
ثم اطلع على عيب قديم في العبد فرده، قال الشيخ: تبطل الحوالة؛ لأنها
فرع البيع، فإذا بطل الأصل بطل الفرع (3) (4).
وقال المزني: إنها لا تبطل (5).

(1) في ص 303، ضمن المسألة 491.
(2) العزيز شرح الوجيز 5: 134، روضة الطالبين 3: 467.
(3) في الطبعة الحجرية: " فرعه " بدل " الفرع ".
(4) الخلاف 3: 308، المسألة 7، المبسوط 2: 313.
(5) الحاوي الكبير 6: 424، الوسيط 3: 225، العزيز شرح الوجيز 5: 134.
463

وله قول آخر: إنها تبطل (1).
ولأصحاب الشافعي في ذلك ثلاثة طرق، أظهرها عندهم: أن في
بطلان الحوالة قولين، أظهرهما: البطلان.
وهما مبنيان على أن الحوالة استيفاء أو اعتياض؟
إن قلنا: إنها استيفاء، بطلت وانقطعت؛ لأن الحوالة على هذا التقدير
نوع إرفاق ومسامحة، فإذا بطل الأصل، بطلت هيئة الإرفاق، التابعة له، كما
لو اشترى شيئا بدراهم مكسرة وتطوع بأداء الصحاح ثم رده بالعيب، فإنه
يسترد الصحاح، ولا يقال: يطالب بمثل المكسرة ليبقى التبرع بصفة
الصحة.
وإن قلنا: إنها اعتياض، لم تبطل، كما لو استبدل عن الثمن ثوبا ثم
رد المبيع بالعيب، فإنه لا يبطل الاستبدال، بل يرجع بمثل الثمن. على أن
بعض الشافعية منع هذه المسألة، وجعلها كمسألة الحوالة.
والطريق الثاني: القطع بالبطلان.
والثالث: القطع بعدم البطلان.
وقد تأول أصحاب الطريقين الأخيرين، وجمعوا بين قولي المزني
بوجوه:
أحدها: حمل قوله بالبطلان على ما إذا كان العيب لا يمكن حدوثه
في يد المشتري، أو كان بحيث يمكن حدوثه، إلا أن البائع أقر بقدمه،
وحمل قوله بالصحة على ما إذا ثبت قدمه بالبينة ورده.

(1) مختصر المزني: 107، الحاوي الكبير 6: 424، المهذب - للشيرازي - 1:
345، الوسيط 3: 225، حلية العلماء 5: 37، التهذيب - للبغوي - 4: 166،
العزيز شرح الوجيز 5: 134.
464

والفرق: أن في الحالة الأولى اعترف البائع بسقوط الثمن عند الفسخ،
وأما في الحالة الثانية فإنه يزعم بقاء حقه واستمرار الحوالة، فلا يمنع من
مطالبة المحال عليه بدعوى المشتري.
والثاني: حمل الأول على ما إذا ذكر المحيل أنه يحيله من جهة
الثمن، وحمل الثاني على ما إذا لم يذكر ذلك، فإنه إذا لم يذكر، لا ينبغي
العود إليه؛ لبراءة ذمته عن حقه ظاهرا.
والثالث: أن البطلان مفرع على أن الحوالة تفتقر إلى رضا المحال
عليه، فإن الحوالة حينئذ تتم برضا الثلاثة، فلا تنقطع بموافقة اثنين.
والرابع: حمل البطلان على ما إذا كانت الحوالة على من لا دين عليه
ورضي المحال عليه، فإنه إذا أسقط الثمن انقطع تطوعه، وسقطت المطالبة
عنه (1).
وعندي في قول الشيخ (رحمه الله) بالبطلان نظر.
مسألة (2) 621: لم يفرق الشيخ (رحمه الله) بين ما إذا كان الرد بالعيب بعد قبض
المبيع أو قبله (3).
وقال بعض الشافعية: إن محل الخلاف ما إذا كان الرد بعد قبض
المبيع، فإن كان قبله، انقطعت الحوالة بلا خلاف؛ لكون المبيع معرض
الانفساخ، وعدم تأكده، ولهذا جعلنا الفسخ قبل القبض ردا للعقد من أصله
على رأي. ثم زيف ذلك، وقضى بطرد القولين في الحالتين (4).

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 134 - 135.
(2) في " ث ": " تذنيب " بدل " مسألة ".
(3) لاحظ: الهامش (4) من ص 463.
(4) العزيز شرح الوجيز 5: 135.
465

وقضية الطريقين معا تجويز الإحالة بالثمن قبل قبض المبيع، لكنه
قبل قبض المبيع غير مستقر.
والمشهور في كتب الشافعية (1) أن من شرط الحوالة استقرار ما يحال
عليه (2).
وقال بعض الشافعية: لا تجوز الحوالة بالثمن قبل قبض المبيع (3).
مسألة 622: فرق بعض الشافعية بين أن يتفق الرد بعد قبض المحتال
مال الحوالة، أو قبله.
وفيه للشافعية طريقان:
أحدهما: أن الحوالة لا تنقطع إذا اتفق الرد بعد القبض جزما،
والخلاف مخصوص بما إذا كان [ذلك] (4) قبل القبض. والفرق تأكد الأمر
بالقبض، وبراءة ذمة المحال عليه.
والثاني: طرد القولين في الحالتين، وهو قول أكثرهم (5).
قال المزني: إذا رده قبل قبض المحتال مال الحوالة، بطلت الحوالة،
وتعدى حق المشتري إلى ذمة المحال عليه، و [به] (6) قال أبو إسحاق (7).

(1) كما في العزيز شرح الوجيز 5: 135 - 136.
(2) في المصدر: " ما يحال به ويحال عليه ".
(3) العزيز شرح الوجيز 5: 136.
(4) ما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.
(5) العزيز شرح الوجيز 5: 136.
(6) ما بين المعقوفين أضفناه لاقتضاء ما في المصادر إياه.
(7) مختصر المزني: 107، الحاوي الكبير 6: 424، المهذب - للشيرازي - 1:
345، حلية العلماء 5: 37، التهذيب - للبغوي - 4: 166، العزيز شرح الوجيز
5: 134 و 135.
466

[وقال أبو علي:] (1) لا تبطل (2).
وإن كان الرد في مدة الخيار، فالحوالة باطلة؛ لأنها كانت بالثمن،
فصار له الثمن في ذمة المحال عليه، وانتقل إليها من ذمة المحيل، فإذا
انفسخ البيع، سقط الثمن، فوجب أن يسقط عن ذمة المحال عليه.
واحتج القائل بعدم البطلان: بأن المشتري دفع إلى البائع بدل ما له في
ذمته، وعاوضه عنه بما في ذمة المحال عليه، فإذا انفسخ العقد الأول،
لم ينفسخ، كما لو أعطاه بالثمن ثوبا وسلمه إليه ثم فسخ، لم يرجع عليه
بالثوب، كذا هنا.
وقد عرفت ما اخترناه هنا.
مسألة 623: لو أحال البائع رجلا على المشتري بالثمن ثم ظهر عيب
فرده المشتري بالعيب، فالأقرب: عدم بطلان الحوالة، بل هو أولى بعدم
البطلان من المسألة السابقة التي احتال البائع فيها؛ لأن الحوالة هنا تعلقت
بالأجنبي غير المتعاقدين.
واختلفت الشافعية هنا.
فمنهم من طرد القولين.
والجمهور منهم قطعوا هنا بأنه لا تنقطع الحوالة، سواء قبض المحتال
مال الحوالة من المشتري أو لم يقبضه؛ لأن الحوالة هنا تعلق بها حق غير
المتعاقدين، وهو الأجنبي المحتال، فيؤخذ ارتفاعها بفسخ يخص
المتعاقدين، وصار كما لو اشترى عبدا بجارية وقبضه وباعه ثم وجد بائع

(1) ما بين المعقوفين أضفناه لاقتضاء ما في المصادر إياه.
(2) الحاوي الكبير 6: 424، المهذب - للشيرازي - 1: 345، حلية العلماء 5: 37.
467

العبد بالجارية عيبا فردها، لا يفسخ البيع الثاني؛ لتعلق حق الثالث به،
بخلاف المسألة الأولى، فإن المحال عليه لا حق له في الحوالة (1).
ولو ظهر بطلان البيع من أصله، بطلت الحوالة في المسألتين، فيتخير
المشتري في الرجوع على من شاء من المحتال والبائع.
مسألة 624: لو أحال المشتري البائع بالثمن ثم فسخ بالعيب، فإن
قلنا: لا تبطل الحوالة، برئ المحال عليه، ولم يكن للمشتري مطالبة
المحال عليه بشيء بحال؛ لأنه قبض منه بإذنه، بل يرجع على البائع فيطالبه
إن كان قد قبض مال الحوالة، ولا يتعين حق المشتري فيما أخذه البائع من
المحال عليه، بل للبائع أن يدفع إليه عوضه؛ لبقاء الحوالة صحيحة. وإن
لم يكن البائع قد قبض، فله أن يقبضه.
وهل للمشتري الرجوع عليه قبل قبضه؟ وجهان للشافعية:
أحدهما: نعم؛ لأن الحوالة كالمقبوضة، ألا ترى أن المشتري إذا
أحال البائع بالثمن، سقط حق الحبس (2)، والزوج إذا أحال المرأة
[بالصداق] (3) سقط حق حبسها (4).
وأصحهما عندهم: أنه لا يرجع؛ لأنه لم توجد حقيقة القبض (5).
وإن كان للحوالة حكم القبض، والغرامة إنما تكون بحسب القبض،

(1) المهذب - للشيرازي - 1: 346، الوسيط 3: 226، التهذيب - للبغوي - 4:
166، العزيز شرح الوجيز 5: 136، روضة الطالبين 3: 467 - 468.
(2) أي: حبس المبيع.
(3) ما بين المعقوفين أضفناه من " التهذيب " - للبغوي - و " العزيز شرح الوجيز ".
(4) أي: حبس نفسها عن الزوج.
(5) التهذيب - للبغوي - 4: 167، العزيز شرح الوجيز 5: 136، روضة الطالبين 3:
468.
468

فإن قلنا: لا يرجع المشتري عليه قبل أن يقبض، فله مطالبته بتحصيل مال
الحوالة ليرجع عليه؛ لأن البائع إنما ملك مطالبة المحال عليه من جهته،
فكيف يمنعه من المطالبة مطلقا!؟
وفيه للشافعية وجه بعيد: أنه لا يملك المطالبة بالتحصيل أيضا (1).
وإن قلنا: تبطل الحوالة، فإن كان قد قبض المال من المحال عليه،
فليس له رده عليه؛ لأنه قبضه (2) بإذن المشتري، ولو رد لم تسقط مطالبة
المشتري عنه، بل حقه الرد على المشتري ويبقى حقه فيما قبضه، وإن كان
تالفا، فعليه بدله.
وإن لم يكن قبضه، فليس له قبضه؛ لأنه عاد إلى ملك المشتري كما
كان، ولو خالف وقبض، لم يقع عنه.
وهل يقع عن المشتري؟ وجهان:
أحدهما: يقع؛ لأنه كان مأذونا في القبض بحقه (3)، فإذا بطلت تلك
الجهة، بقي أصل الإذن.
وأصحهما: المنع؛ لأن الحوالة قد بطلت، والوكالة عقد آخر
يخالفها، فإذا بطل عقد، لم ينعكس عقدا آخر (4).
وقد قرب بعضهم هذا الخلاف من الخلاف في أن من يحرم بالظهر
قبل الزوال هل تنعقد صلاته نفلا؟ (5).

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 136، روضة الطالبين 3: 468.
(2) في " ث، ج، خ ": " قبض ".
(3) في " العزيز شرح الوجيز ": " بجهة " بدل " بحقه ".
(4) العزيز شرح الوجيز 5: 137، روضة الطالبين 3: 468.
(5) العزيز شرح الوجيز 5: 137.
469

وأما في صورة المسألة الثانية - وهي التي أحال البائع فيها ثالثا على
المشتري بالثمن - إن قلنا بصحة الحوالة مع فسخ البيع بالعيب - على ما هو
الأصح عندنا - فإن كان المحتال قد قبض الحق من المشتري، رجع
المشتري على البائع.
وإن لم يكن قد قبضه، فهل يرجع المشتري عليه، أم لا يرجع إلا
بعد القبض؟ فيه الوجهان السابقان (1).
فروع:
أ - لا فرق في هاتين المسألتين بين أن يكون الرد بالعيب أو التحالف
أو الإقالة أو الخيار أو غير ذلك.
ب - إذا قلنا بعدم بطلان إحالة المشتري البائع بالثمن، فللمشتري
مطالبة البائع بأمرين: إما التحصيل ليغرم، وإما الغرم في الحال، فإذا قلنا: له
الرجوع قبل أن يقبض البائع مال الحوالة، فله أن يقول: أغرم لي، وله أن
يقول تسهيلا: خذه ثم أغرم لي. وإن قلنا: لا رجوع له قبل أن يقبض مال
الحوالة، فله أن يقول: خذه لتغرم لي، وإن رضيت بذمته فشأنك، فاغرم
لي.
ج - الحوالة إذا انفسخت، فالإذن الذي كان ضمنا لا يقوم بنفسه،
فيبطل أيضا.
لكن يشكل بالشركة والوكالة إذا فسدتا، فإن الإذن الضمني يبقى،
ويصح التصرف.
ويمكن الفرق بأن الحوالة تنقل الحق إلى المحتال، فإذا صار الحق

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 137، روضة الطالبين 3: 468.
470

له، ملك قبضه لنفسه بالاستحقاق، لا للمحيل بالإذن، بخلاف الوكالة
والشركة، فإنه إذا بطل خصوص الإذن، جاز أن يبقى عمومه.
مسألة 625: لو أحالت المرأة على زوجها بالصداق قبل الدخول،
صح؛ لثبوته في ذمته بالعقد وإن كان متزلزلا.
ومن شرط اللزوم أبطله.
ولو أحال الزوج زوجته بالصداق على غريم، صح؛ لأن له تسليمه
إليها، وحوالته به تقوم مقام تسليمه، فإذا أحالها على الغريم ثم طلق قبل
الدخول، لم تبطل الحوالة، وللزوج أخذها بنصف المهر.
وهذه المسألة مترتبة على ما إذا أحال المشتري البائع على غريمه، إن
قلنا: لا تبطل الحوالة هناك، فهنا أولى. وإن قلنا: تبطل، ففي البطلان هنا
في نصف الصداق وجهان للشافعية (1).
والفرق: أن الطلاق سبب حادث لا استناد له إلى ما تقدم، بخلاف
الفسخ، والصداق أثبت من غيره، ولهذا لو زاد الصداق زيادة متصلة،
لم يرجع في نصفه إلا برضاها، بخلاف ما إذا كان (2) في المبيع.
ولو أحالها ثم ارتدت قبل الدخول، أو فسخ أحدهما النكاح بعيب
الآخر، ففي بطلان الحوالة هذان الوجهان (3).
والأظهر: أنها لا تبطل، ويرجع الزوج عليها بنصف الصداق في
صورة الطلاق، وبجميعه في الردة والفسخ بالعيب.

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 138، روضة الطالبين 3: 468.
(2) الظاهر: " كانت ".
(3) المهذب - للشيرازي - 1: 345، التهذيب - للبغوي - 4: 167، العزيز شرح
الوجيز 5: 138، روضة الطالبين 3: 468.
471

وإذا قلنا بالبطلان، فليس لها مطالبة المحال عليه، بل تطالب الزوج
بالنصف في الطلاق.
مسألة (1) 626: قد بينا الخلاف فيما إذا أحال المشتري البائع بالثمن ثم
فسخ بعيب وشبهه، فإن المزني أبطل الحوالة؛ لأنها كانت بالثمن، فصار له
الثمن في ذمة المحال عليه، وانتقل إليها من ذمة المحيل، فإذا انفسخ البيع،
سقط الثمن، فيسقط عن ذمة المحال عليه (2).
وقال غيره: لا تبطل (3)؛ لأن المشتري دفع مالا بدل ما له في ذمته،
وعاوضه بما في ذمة المحال عليه، فإذا انفسخ الأول، لم تنفسخ المعاوضة،
كما لو أعطاه بالثمن ثوبا ثم فسخ بالعيب، لم يرجع عليه بالثوب، كذا هنا.
وأجيب: بأن الثوب ملكه بعقد آخر، بخلاف الحوالة، فإن نفس
الحق تحول إلى ذمة المحال عليه، ولهذا لا يجوز أن يختلف ما في ذمة
المحيل والمحال عليه.
وقال بعضهم: لا نسلم مسألة الثوب أيضا، بل إذا فسخ العقد، وجب
رد الثوب الذي أخذه بدلا من الثمن (4).
لا يقال: قد قال الشافعي: إذا باع عبدا بثوب ثم سلم العبد وتصرف
المشتري، ثم وجد بالثوب عيبا، فإنه يرده، ولا يبطل التصرف في العبد (5).
لأنا نقول: إن العبد تعلق به حق لغير المتعاقدين، فلم يكن لهما
إبطاله، وهنا لم يخرج الحق عنهما، فلهذا إذا فسخا البيع، بطلت الحوالة.

(1) في " ث ": " تذنيب " بدل " مسألة ".
(2) راجع الهامش (1) من ص 464.
(3) راجع الهامش (1) من ص 465.
(4 و 5) لم نعثر عليه في مظانه.
472

لا يقال: المحال عليه قد كانت برئت ذمته من المحيل.
لأنا نقول: الحق في ذمته لا يتغير للمحيل أو للمحتال، فلهذا لا تفتقر
الحوالة إلى رضاه عند بعضهم (1).
إذا ثبت هذا، فإن كان المحتال قد قبض الحوالة، فعلى الاختلاف، إن
قلنا: ينفسخ، رد على المشتري ما أخذه. وإن قلنا: لا ينفسخ، رجع عليه
بالثمن.
وكذا يجري الوجهان (2) لو أحال الزوجة بالصداق ثم ارتدت قبل
الدخول، فهل تبطل الحوالة؟ على ما تقدم (3) من الخلاف.
مسألة 627: لو كان المبيع عبدا وأحال البائع غريمه بالثمن على
المشتري ثم تصادق المتبايعان على أنه حر الأصل إما ابتداء أو ادعى العبد
الحرية فصدقاه، فإن وافقهما المحتال، بطلت الحوالة؛ لاتفاقهم على بطلان
البيع، وإذا بطل البيع من أصله، لم يكن على المشتري ثمن، وإذا بطلت
الحوالة، رد المحتال على المشتري، وبقي حقه على البائع كما كان.
وإن كذبهما المحتال، فإما أن تقوم بينة على الحرية أولا.
فإن قامت، بطلت الحوالة، كما لو تصادقوا.
وهذه البينة يتصور أن يقيمها العبد؛ لأن العتق حقه، وأن يبتدئ
الشهود على سبيل الحسبة، ولا يمكن أن يقيمها المتبايعان؛ لأنهما كذباها
بالدخول في البيع.

(1) راجع المصادر في الهامش (1) من ص 443.
(2) المهذب - للشيرازي - 1: 345، حلية العلماء 5: 37، التهذيب - للبغوي - 4:
167، العزيز شرح الوجيز 5: 138، روضة الطالبين 3: 468.
(3) في ص 471، ذيل المسألة 625.
473

ويحتمل أن يقيماها إذا أظهرا عذرا بأن يكون البائع قد وكل في العتق
وصادف البيع العبد معتوقا، فإن للبائع هنا إقامة البينة حيث لم يكن في
إقامته تكذيب لها.
وكذا لو ادعى المشتري عتق البائع وجهله.
وإن لم تكن بينة، لم يلتفت إلى تصادقهما في حق المحتال، كما لو
باع المشتري العبد ثم اعترف هو وبائعه أنه كان حرا، لم يقبل قوله على
المشتري، لكن لهما تحليف المحتال على نفي علم العتق، فإن حلف،
بقيت الحوالة في حقه، ولم يكن تصادقهما حجة عليه، وإذا بقيت الحوالة،
فله أخذ المال من المشتري.
وهل يرجع المشتري على البائع المحيل؟ الوجه: ذلك؛ لأنه قضى
دينه بإذنه، وعلى هذا فيرجع إذا دفع المال إلى المحتال.
وهل يرجع قبله؟ الأقرب: لا.
ولو نكل المحتال، حلف المشتري.
ثم إن جعلنا اليمين المردودة كالإقرار، بطلت الحوالة. وإن جعلناها
كالبينة، فالحكم كما لو لم يحلف؛ لأنه ليس للمشتري إقامة البينة.
ولو نكل المشتري، فهل للعبد الحلف؟ الأقرب: ذلك إن ادعاه
ولا بينة ونكل المحتال عن اليمين التي وجبت عليه للعبد.
وكذا للبائع الحلف أيضا.
هذا إذا اتفقوا على أن الحوالة بالثمن، ولو لم يقع التعرض لكون
الحوالة بالثمن وزعم البائع أن الحوالة على المشتري بدين آخر له على
المشتري، فإن أنكر المشتري أصل الدين، فالقول قوله مع يمينه؛ لأصالة
474

براءة ذمته.
وإن سلمه وأنكر الحوالة به، فإن لم نعتبر رضا المحال عليه،
فلا عبرة بإنكاره. وإن اعتبرناه، فالقول قول من يدعي صحة الحوالة، أو
قول من يدعي فسادها؟ فيه للشافعية قولان (1)، أكثرهم على تقديم مدعي
صحة الحوالة؛ لأن الأصل صحتها، وهما يدعيان ما يفسدها، فكانت حيثيته
أقوى، فإن أقاما البينة بأن الحوالة كانت بالثمن، سمعت البينة في ذلك؛
لأنهما لم يكذباها.
ولو اتفق المحيل والمحتال على حرية العبد وكذبهما المحال عليه،
لم يقبل قولهما عليه في حرية العبد؛ لأنه إقرار على غيرهما، وتبطل
الحوالة؛ لاتفاق المرجوع عليه بالدين والراجع به على عدم استحقاق
الرجوع، والمحال عليه يعترف للمحتال بدين لا يصدقه فيه، فلا يأخذ منه
شيئا، وإن كان قد أخذ، لم يكن للمأخوذ منه الرجوع.
ولو اعترف المحتال والمحال عليه بحرية العبد، عتق؛ لإقرار من هو
في يده بحريته، وبطلت الحوالة بالنسبة إليهما، وكان للمحيل الرجوع على
المحال عليه بمال الحوالة، ولم يكن للمحتال الرجوع على المحيل بشيء؛
لأن دخوله في قبول الحوالة بالثمن اعتراف ببراءته، فلم يكن له الرجوع
عليه.
ولو اتفق المحيل والمحتال على الحرية وكذبهما المحال عليه،
لم تبطل العبودية، وسقط الثمن عنه؛ لاعتراف البائع والمحتال ببراءة ذمته،
لكنه يعترف للمحتال بالثمن، فليس للمحتال قبضه.

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 139، روضة الطالبين 3: 470.
475

وإن كان قد قبضه، لم يكن للمحال عليه استعادته، لكن إن كان قد
قبضه، برئ المحيل على إشكال أقربه: العدم؛ لاعترافه بأن المحتال قد
ظلم المحال عليه بأخذ المال منه، فيجب عليه الدفع إلى المحتال.
مسألة 628: إذا كان لرجل على آخر دين فأذن المديون له في قبض
دين له على ثالث ثم اختلفا، فقال المديون للقابض: وكلتك في قبض
حقي من الثالث لي، وقال القابض: بل أحلتني على الثالث، فإن اختلفا في
أصل اللفظ فزعم المديون أنه وكله بلفظ الوكالة، وزعم القابض أن الجاري
لفظ الحوالة وهي مقصودة، فالقول قول المديون مع اليمين وعدم البينة؛
لأن الأصل استمرار حق القابض على المديون، واستمرار حق المديون على
الثالث، فالموكل يدعي بقاء الأصل، والآخر يدعي خلافه، فكان المقدم
مدعي الوكالة.
ولو كان مع أحدهما بينة، حكم بها؛ لأن اختلافهما في اللفظ،
ويمكن إقامة البينة عليه.
ولو اتفقا على جريان لفظ الحوالة ثم ادعى المديون أنه قصد التسليط
بالوكالة، وعبر عن الوكالة بلفظ الحوالة، وادعى القابض أنه قصد حقيقة
اللفظ، وهو معنى الحوالة، احتمل تقديم قول المديون؛ لأنه أعرف بلفظه،
وأخبر من غيره بقصده.
ولأن الأصل بقاء حق المحيل على المحال عليه، وبقاء حق المحتال
عليه، والمحتال يدعي نقلهما والمحيل ينكرهما، والقول قول المنكر مع
اليمين، وكما يستعمل اللفظ في معناه الحقيقي، يستعمل في معناه
المجازي، والتعويل في إرادة أحدهما إلى المتكلم.
وهذا قول بعض الشافعية وأبي حنيفة وأصحابه؛ لأن اللفظ محتمل
476

لما يدعيه المديون، وهو أعرف بنيته وإرادته، فأشبه ما إذا قال له المديون:
اقبض، ثم اختلفا في المراد منه (1).
ويحتمل تقديم قول المحتال؛ عملا بالظاهر من حمل الألفاظ على
حقائقها، ومن يدعي حملها على مجازاتها فقد ادعى خلاف الظاهر لا يقبل
منه، كما لو ادعى ثوبا في يد زيد، فإنا نقضي لزيد به؛ عملا بظاهر اليد،
كذا هنا، فيقدم قول مدعي الحوالة؛ عملا بظاهر اللفظ بشهادة لفظ الحوالة
له.
هذا إذا قال له المديون: أحلتك بمائة على الثالث، أما لو قال:
أحلتك بالمائة التي لك علي على المائة التي لي على الثالث، فهذا لا يحتمل
إلا حقيقة الحوالة، فالقول قول مدعيها قطعا.
مسألة 629: إذا قدمنا قول القابض باعتبار حمل اللفظ على حقيقته،
يحلف، فإن حلف، ثبتت الحوالة، وبرئت ذمته. وإن نكل، حلف
المديون، وبطلت الحوالة.
وإن قدمنا قول المديون فيما إذا اختلفا في اللفظ أو اتفقا على جريان
لفظ الحوالة واختلفا في المراد، يحلف، فإن حلف، نظر فإن كان القابض
قبض ما على الثالث، برئت ذمة الثالث؛ لأن القابض إما وكيل كما زعم
المديون، أو محتال كما زعم القابض، وعلى كلا التقديرين يبرأ الثالث
بالدفع إليه.
وحكى الجويني وجها ضعيفا: أنه لا يبرأ في صورة ما إذا اتفقا على
جريان لفظ الحوالة (2).

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 140، روضة الطالبين 3: 470.
(2) العزيز شرح الوجيز 5: 140.
477

ثم ينظر فإن كان المقبوض باقيا، فعليه تسليمه.
وهل للقابض مطالبة المحيل؟ الوجه: ذلك؛ لأنه إن كان وكيلا، فحقه
باق على المديون. وإن كان محتالا، فقد استرجع المحيل ماله منه ظلما،
فلا وجه لتضييع حقه، وبه قال أكثر الشافعية (1).
وقال بعضهم: ليس للقابض مطالبة المحيل بحقه؛ لاعترافه ببراءة
المديون بدعوى الحوالة (2).
وليس شيئا.
هذا كله من حيث الظاهر، فأما فيما بينه وبين الله تعالى فإنه إذا
لم يصل إلى المحتال حقه من المحيل، فله إمساك المأخوذ؛ لأنه ظفر
بجنس حقه من مال المديون، والمديون ظالم له.
وإن كان المقبوض تالفا، فإن لم يكن بتفريط من القابض، احتمل أن
لا يضمن؛ لأنه وكيل بقول المحيل، والوكيل أمين، وليس للقابض مطالبة
المديون بحقه؛ لأنه قد استوفاه بزعمه وهلك عنده.
ويحتمل الضمان؛ لأنه وكيل بحلف المحيل، وتثبت وكالته، والوكيل
إذا أخذ المال لنفسه، ضمن.
وإن كان المحتال لم يقبض من الثالث شيئا، فليس له القبض بعد
حلف المحيل؛ لأن الحوالة قد اندفعت بيمين المحيل، وصار المحتال
معزولا عن الوكالة بإنكاره.
وللمديون أن يطالب الثالث بما كان له عليه، وللمحتال مطالبة
المديون بحقه، وهو أحد وجهي الشافعية.

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 140 - 141، روضة الطالبين 3: 470.
(2) العزيز شرح الوجيز 5: 140، روضة الطالبين 3: 470.
478

والثاني لهم: أنه ليس له المطالبة (1).
وقطع بعضهم على أنه لا يطالب هنا وجها واحدا؛ لاعترافه بأن حقه
ثابت على الثالث، وأن ما يقبضه المديون من الثالث ليس حقا، بخلاف
ما إذا كان قد قبض، فإن حقه قد تعين في المقبوض، فإذا أخذه المديون،
يكون قد أخذ مال المحتال، فافترقا (2).
تذنيب: إذا ادعى المحتال جريان لفظ الحوالة، وصدقه المحيل على
ذلك وادعى قصد الوكالة وأنه لا حق عليه للمحتال، وادعى المحتال ثبوت
الحق في ذمته، فالوجه: أنه لا يثبت الحق بمجرد جري لفظ الحوالة.
مسألة 630: لو انعكس الفرض، فقال المديون لزيد: أحلتك على
عمرو، وقال القابض: بل وكلتني بقبض ما عليه، وحقي باق عليك - وتظهر
الفائدة عند إفلاس عمرو - فإن اختلفا في أصل اللفظ، قدم قول مدعي
الوكالة مع يمينه؛ عملا بأصالة بقاء الحقين، والمديون يدعي خلافهما
وانتقالهما، فكان عليه البينة.
ولو اتفقا على جريان لفظ الحوالة، فالوجهان في المسألة الأولى على
العكس هنا، فكل من قال في المسألة الأولى: القول قول مدعي الحوالة
يقول هنا: القول قول مدعي الوكالة، وبالعكس مع اليمين فيهما؛ لما مر في
الوجهين السابقين.
فإذا قلنا: يقدم قول مدعي الحوالة فحلف، برئ من دين المحتال،
وكان لزيد مطالبة عمرو إما بالوكالة أو بالحوالة، وما يأخذه يكون له؛ لأن
المديون يقول: إنه حقه، وعلى زعم زيد إنه للمديون وحق زيد على

(1 و 2) العزيز شرح الوجيز 5: 141، روضة الطالبين 3: 470.
479

المديون، فأخذه بحقه.
وإذا قلنا: القول قول زيد المحتال فحلف، نظر إن لم يكن قبض
المال من عمرو، فليس له القبض؛ لأن قول الموكل: " ما وكلتك " يتضمن
عزله - على إشكال يأتي - لو كان وكيلا، وله مطالبة المديون بحقه.
وهل للمديون الرجوع إلى (1) عمرو؟ فيه احتمال: من حيث إن
المديون اعترف بتحول ما كان عليه إلى زيد، ومن حيث إن زيدا إن كان
وكيل المديون فإذا لم يقبض، بقي حق المديون. وإن كان محتالا، فقد ظلم
المديون بأخذ المال منه، وما على عمرو حقه، فللمديون أن يأخذه عوضا
عما ظلم المديون به.
وإن كان قد قبض المال من عمرو، فقد برئت ذمة عمرو.
ثم إن كان المقبوض باقيا، فوجهان:
أحدهما: أنه يطالب المديون بحقه، ويرد المقبوض على المديون.
والثاني: أنه يملكه الآن وإن لم يملكه عند القبض؛ لأنه جنس حقه،
وصاحبه يزعم أنه ملكه. وهو المعتمد.
وإن كان تالفا، نظر إن تلف بتفريط منه، فللمديون عليه الضمان، وله
على المديون حقه، وربما يقع في التقاص. وإن لم يكن مقصرا،
فلا ضمان؛ لأنا إذا صدقناه في نفي الحوالة، كانت يده يد وكالة، والوكيل
أمين.
ونقل الجويني وجها آخر: أنه يضمن؛ لأن الأصل فيما يتلف في يد
الإنسان من ملك غيره الضمان، ولا يلزم من تصديقه في نفي الحوالة ليبقى

(1) في النسخ الخطية: " على " بدل " إلى ".
480

حقه تصديقه في إثبات الوكالة ليسقط عنه الضمان، كما إذا اختلف
المتبايعان في قدم العيب وحدوثه، وصدقنا البائع بيمينه في نفي الرد، ثم
اتفق الفسخ بتحالف وغيره، فإنه لا يمكن من المطالبة بأرش ذلك العيب
ذهابا إلى أنه حادث بمقتضى يمينه السابقة (1).
مسألة 631: يجوز ترامي الحوالات ودورها، فلو أحال المديون زيدا
على عمرو ثم أحال عمرو زيدا على بكر ثم أحال بكر زيدا على خالد،
جاز، وهكذا؛ لأن حق الثاني ثابت مستقر في الذمة، فصح أن يحيل به
كالأول، فيبرأ بالحوالة، كما برئ المحيل الأول بالحوالة.
وكذا كلما أحال واحد على واحد، كان كالأول.
وهنا قد تعدد المحال عليهم والمحتال واحد.
ولو أحال المديون زيدا على عمرو فأحال عمرو زيدا على المديون،
صحت الحوالتان معا، وبقي الدين كما كان.
ولو أحال المديون زيدا على عمرو ثم ثبت لعمرو مثل ذلك الدين
فأحال زيدا على المديون، جاز.
مسألة 632: لو كان لزيد على اثنين مائة على كل واحد خمسون،
وكل واحد ضامن عن صاحبه، فأحال أحدهما زيدا بالمائة على شخص،
فعندنا هذا الضمان لا فائدة تحته، بل الدين كما كان عليهما قبل الضمان.
ومن جوزه قال: يبرءان معا (2).
ولو أحال زيد على أحدهما بالمائة، برئ الثاني؛ لأن الحوالة
كالقبض.

(1) العزيز شرح الوجيز 5: 142، روضة الطالبين 3: 471.
(2) العزيز شرح الوجيز 5: 142، روضة الطالبين 3: 472.
481

وإن أحال زيد عليهما على أن يأخذ المحتال المائة من أيهما شاء،
فيه للشافعية وجهان: المنع؛ لأنه لم يكن له إلا مطالبة واحد، فلا يستفيد
بالحوالة زيادة، كما لا يفيد زيادة (1) قدر وصفة. والجواز؛ للأصل (2).
ولا اعتبار بهذا الارتفاق، كما لو أحاله على من هو أملأ منه وأشد
وفاء.
مسألة 633: قد بينا أنه يشترط ملاءة المحال عليه، أو علم المحتال
بالإعسار في لزوم الحوالة، فلو بان معسرا، كان له الرجوع على الأصيل،
سواء شرط الملاءة أو لا.
ومع هذا لو شرط، كان له الرجوع لو بان معسرا، خلافا لأكثر
الشافعية؛ لأن الحوالة عندهم لا ترد بالإعسار إذا لم يشترط، فلا ترد به وإن
شرط (3).
ولو لم يرض المحتال بالحوالة ثم بان إعسار المحال عليه أو موته،
رجع المحتال على المحيل بلا خلاف، فإنه لا يلزمه الاحتيال على المعسر؛
لما فيه من الضرر، وإنما أمر النبي (صلى الله عليه وآله) بقبول الحوالة إذا أحيل على
ملي (4).
ولو أحاله على ملي فلم يقبل حتى أعسر، فله الرجوع على قول من

(1) كذا في النسخ الخطية والحجرية، وفي " العزيز شرح الوجيز ": " لا يستفيد بها
زيادة ".
(2) العزيز شرح الوجيز 5: 142، روضة الطالبين 3: 472.
(3) المهذب - للشيرازي - 1: 345، حلية العلماء 5: 36 و 37، التهذيب - للبغوي -
4: 163، العزيز شرح الوجيز 5: 133، روضة الطالبين 3: 466، المغني 5:
60، الشرح الكبير 5: 62.
(4) سنن البيهقي 6: 70، المصنف - لابن أبي شيبة - 7: 79 / 2445، مسند أحمد
3: 225، ذيل ح 9655.
482

أوجب قبول الحوالة على الملي.
مسألة 634: لو كان لزيد على عمرو ألف درهم ولخالد على زيد مثلها
فجاء خالد إلى عمرو وقال: قد أحالني زيد بالألف التي له عليك، فإن كذبه
فأقام خالد البينة بدعواه [ثبتت] (1) في حقه وحق زيد، ولزمه الدفع إلى
المحتال. وإن لم تكن له بينة فأنكر، فالقول قوله مع اليمين، فإذا حلف،
سقطت دعواه، ولم يكن لخالد الرجوع على زيد؛ لأنه أقر أنه بري من دينه
بالحوالة. ثم ننظر في زيد، فإن كذب خالدا، كان له مطالبة عمرو بدينه.
وإن صدق خالدا، برئ عمرو من دينه.
وقال بعض الشافعية: ليس من شرط الحوالة رضا المحال عليه
عنده (2)، فحينئذ تثبت الحوالة بتصديقه المحتال، ويكون له المطالبة.
وأما إن صدق عمرو خالدا، وجب عليه دفع المال إليه؛ لاعترافه
باستحقاقه عليه.
ثم ننظر في زيد، فإن صدقه، فلا كلام. وإن كذبه، كان القول قوله
مع يمينه، فإذا حلف، رجع على عمرو بالألف، ولا يرجع خالد عليه
بشيء؛ لأنه قد استوفى حقه بالحوالة بإقراره، وله أن يستوفي ذلك من
عمرو؛ لتصادقهما على ذلك.
إذا عرفت هذا، فإذا ادعى أن فلانا الغائب أحاله عليه، فأنكر
ولا بينة، حلف المنكر.

(1) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطية والحجرية: " ثبت " بدل " ثبتت ". والظاهر
ما أثبتناه.
(2) الحاوي الكبير 6: 418، المهذب - للشيرازي - 1: 345، التنبيه: 105، حلية
العلماء 5: 35، الوجيز 1: 181، العزيز شرح الوجيز 5: 127، روضة الطالبين
3: 462، منهاج الطالبين: 128.
483

وقال بعض العامة: لا تلزمه اليمين، بناء على أنه لا يلزمه الدفع إليه؛
لأنه لا يأمن إنكار المحيل ورجوعه عليه، فكان له الاحتياط لنفسه، كما لو
ادعى عليه أني وكيل فلان في قبض دينه منك، فصدقه وقال: لا أدفعه
إليك (1).
مسألة 635: لو كان عليه ألف ضمنه رجل فأحال الضامن صاحب
الدين [به] (2) برئت ذمته وذمة المضمون عنه؛ لأن الحوالة كالتسليم، ويكون
الحكم هنا كالحكم فيما لو قضى عنه الدين.
وإن (3) كان لرجل دين آخر على آخر فطالبه به، فقال: قد أحلت به
على فلان الغائب، وأنكر صاحب الدين، فالقول قوله مع اليمين. وإن كان
لمن عليه الدين بينة بدعواه، سمعت بينته لإسقاط حق المحيل عليه.
مسألة 636: إذا كان له على رجل دين فأحال (4) به آخر ثم قضاه
المحيل، صح القضاء، كما إذا قضى الإنسان دين غيره عنه.
ثم إن كان المحال عليه قد سأله القضاء عنه، كان له الرجوع عليه بما
أداه إلى المحتال.
وإن لم يكن قد سأله ذلك، بل قضاه متبرعا به، لم يكن له الرجوع
عليه - وبه قال الشافعي (5) - لأنه قضى عنه دينه بغير إذنه، والمتبرع لا يرجع
على أحد.

(1) المغني 5: 67، الشرح الكبير 5: 68.
(2) إضافة يقتضيها السياق.
(3) في النسخ الخطية: " فإن " بدل " وإن ".
(4) في الطبعة الحجرية: " فأحاله ".
(5) حلية العلماء 5: 41.
484

وقال أبو حنيفة وأصحابه (1): لا يكون متبرعا بذلك، ويكون له
الرجوع به؛ لأن الدين باق في ذمة المحيل من طريق الحكم وإن برئ في
الظاهر؛ لأنه يرجع عليه (2) عند تعذره.
وهو غلط؛ لأنه لا يملك إبطال الحوالة وإسقاط حقه عن المحيل،
فما يدفعه يكون متبرعا إذا كان بغير إذن من عليه [الدين] (3) كالأجنبي.
وما ذكروه فهو ممنوع وليس بصحيح أيضا؛ لأنه لو كان الحق باقيا
في ذمته حكما، لملك مطالبته، كالمضمون عنه.
وإذا أحاله على من لا دين عليه وقلنا بصحة الحوالة إذا رضي المحال
عليه، يكون للمحتال مطالبة المحال عليه، فإذا طالبه، كان له مطالبة المحيل
بتخليصه، كالضامن يطالب المضمون عنه بتخليصه، فإن دفع بإذن المحيل،
رجع.
وإن دفع بغير إذنه، احتمل الرجوع؛ لأن الحوالة تقتضي التسليط،
فإذا سلطه عليه بالمطالبة، كان ضامنا لما يغرمه. ولأنه يكون في الحقيقة
ضمانا بسؤاله.
ويحتمل عدمه؛ لأنه متبرع.
فإن ادعى المحيل أنه كان لي عليك ما أحلت به عليك، وأنكر
المحال عليه ذلك، قدم قوله مع اليمين؛ لأصالة عدم ذلك.
ولو ضمن رجل عن رجل ألف درهم وأحال الضامن المضمون له
على رجل - له عليه ألف - بالألف، وقبل الحوالة، برئ الضامن والمضمون
عنه، كما قررناه أولا، ورجع الضامن على المضمون عنه إن كان ضمن

(1) حلية العلماء 5: 41.
(2) في " ج، ر ": " إليه " بدل " عليه ".
(3) ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.
485

بإذنه، سواء أدى بإذنه أو لا، عندنا، وعند الشافعي إذا أدى بغير إذنه
وجهان (1)، وسواء قبض المحتال الحوالة أو أبرأ المحال عليه؛ لأن الضامن
قد غرم، والإبراء قد حصل للمحال عليه، فلا يسقط رجوع الضامن.
وأما إذا أحاله على من ليس له عليه شيء، فإن قلنا: لا تصح
الحوالة، فالمال باق على الضامن بحاله. وإن قلنا: تصح، فقد برئت ذمة
الضامن والمضمون عنه، ولكن لا يرجع على المضمون عنه بشيء في
الحال؛ لأنه لم يغرم شيئا، فإن قبض المحتال الحوالة ورجع المحال عليه
على الضامن، رجع على المضمون عنه، وإن أبرأه من الحوالة، لم يرجع
على المحيل، ولم يرجع الضامن على المضمون عنه؛ لأنه لم يغرم شيئا.
وأما إن قبضه منه ووهبه، فهل يرجع على المحيل؟ وجهان
[كالوجهين فيما] (2) إذا وهبت المرأة الصداق ثم طلقها.
وقال (3) أبو حنيفة وأصحابه: يرجع عليه، وهب له أو تصدق به أو
ورثه من المحتال. ووافقنا في الإبراء أنه لا يرجع (4).
وعندنا أن هبته قبل القبض بمنزلة الإبراء.
وعندهم (5) لا يكون بمنزلته، ويثبت له الرجوع؛ لأنه يملك ما في
ذمته بالهبة والصدقة والميراث، فكان له الرجوع، كالأداء، فإنه يملك ما في
ذمته بالأداء، بخلاف الإبراء؛ لأنه إسقاط حق.
وهو غلط؛ لأنه لم يغرم عنه شيئا، فلم يرجع عليه، كالإبراء.

(1) لاحظ: التهذيب - للبغوي - 4: 164، والعزيز شرح الوجيز 5: 128.
(2) إضافة يقتضيها السياق.
(3) في " ر " والطبعة الحجرية: " فقال ".
(4) حلية العلماء 5: 63.
(5) حلية العلماء 5: 64.
486

وقولهم: " إنه يملك ما في ذمته " غلط؛ لأن الإنسان لا يملك في ذمته
شيئا، وإنما يسقط عن ذمته بوجود سبب الملك، فصار كالإبراء.
مسألة 637: لو كان لرجل على رجلين ألف درهم فادعى عليهما أنهما
أحالاه على رجل لهما عليه ألف درهم، فأنكرا ذلك، فالقول قولهما مع
أيمانهما، فإن حلفا، سقطت دعواه.
وإن شهد له ابناه، سمعت عندنا، خلافا للشافعي (1).
وإن شهد عليهما ابناهما، لم تسمع عندنا، خلافا للشافعي (2).
ولو انعكس الفرض فادعيا عليه إنما أحالاه وأنكر، فالقول قوله مع يمينه.
فإن شهد عليه ابناه، لم يقبل عندنا، خلافا للشافعي (3).
وإن شهد ابناهما، قبل عندنا، خلافا للشافعي (4).
وهل تقبل شهادة ابن كل واحد منهما للآخر؟ للشافعي قولان، بناء
على أن الشهادة إذا ردت للتهمة في بعضها، فهل ترد في الباقي؟ (5).
ولو ادعى المديون عند مطالبة صاحب الدين أن صاحب الدين أحال
الغائب عليه، فأنكر صاحب الدين، فأقام المدعي بينة، سمعت لإسقاط
حق المحيل عنه، ولا يثبت بها الحق للغائب، قاله بعض الشافعية (6)؛ لأن
الغائب لا يقضى له بالبينة، فإذا قدم الغائب وادعى ذلك وأنكر صاحب
الدين أنه أحاله، احتاج إلى إعادة البينة ليثبت له.
وفيه نظر؛ لأن المطالبة إنما تسقط بالبينة عن المحال عليه، فإذا قدم
الغائب وادعى فإنما يدعي على المحال عليه دون المحيل، وهو يقر له بذلك،

(1) راجع: حلية العلماء 5: 42.
(2) لم نعثر عليه في مظانه.
(3 - 5) حلية العلماء 5: 42.
(6) حلية العلماء 5: 41 - 42.
487

فلا حاجة به إلى إقامة البينة، ألا ترى أن المحال عليه لو دفع إليه، لم يكن
لصاحب الدين مطالبته بشيء؛ لأن حق المطالبة قد سقط عنه بالبينة.
ولو ادعى رجل على رجل أنه أحاله عليه فلان الغائب، وأنكر
المدعى عليه، فإن القول قوله مع اليمين، فإن أقام المدعي البينة، ثبتت في
حقه وحق الغائب؛ لأن البينة يقضى بها على الغائب.
تذنيب: لو قال صاحب الدين لمن لا دين له عليه: قد أحلتك
بالدين الذي لي على فلان فاقبضه منه، كان ذلك وكالة عبر عنها بلفظ
الحوالة، فلو مات المحيل، بطلت؛ لأنها وكالة، وكان لورثة المحيل قبض
المال.
وكذا لو جن، كان للحاكم المطالبة بالمال.
مسألة 638: الحوالة عند أبي حنيفة ضربان:
مطلقة بأن يقول المحيل للمحتال: أحلتك بالألف التي لك علي على
فلان، سواء كان له على فلان ألف أو لم يكن، وإذا قبل فلان الحوالة،
لزمت، ويبرأ المحيل، إلا إذا مات المحال عليه مفلسا لم يدع مالا
ولا كفيلا، وإذا جحد المحال عليه الحوالة ولا بينة، فيحلف، فيرجع على
المحيل في هاتين الصورتين.
ومقيدة بأن يقول المحيل: أحلتك على فلان بالألف التي لك علي
على أن يؤديها من الوديعة التي لي عنده، أو من المال الذي لي عليه، وإذا
قبل فلان، برئ المحيل من دين المحتال، فلو قال: أحلتك بالألف التي لي
على فلان، فمات فلان مفلسا أو جحد المحال عليه الحوالة ولا بينة،
بطلت الحوالة، وعاد دين المحتال على المحيل (1).

(1) تحفة الفقهاء 3: 248، بدائع الصنائع 6: 16، فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى
الهندية 3: 73 و 74.
488

وقد بينا ما عندنا في ذلك.
ولو كانت الحوالة مقيدة بوديعة كانت عند المحال عليه، فهلكت
الوديعة، أو استحقت، بطلت الحوالة، وعاد الدين إلى المحيل؛ لأن
المحتال لم يضمن المال مطلقا، وبه قال أبو حنيفة (1).
ولو كانت الحوالة مقيدة بغصب كان عند المحال عليه، فاستحق
الغصب، بطلت الحوالة.
ولو هلك لم تبطل إذا كان مليا بمال الحوالة؛ لأن مال الضمان قائم
مقام عين المغصوب.
ومهما دام المال الذي قصد به الحوالة قائما لا يكون للمحيل أن
يأخذ ماله ولا دينه من المحال عليه؛ لأن ذلك المال صار مشغولا بمال
الحوالة.
ولو كاتب المولى أم ولده ثم أحال غريمه عليها بمال الكتابة ثم مات
المولى، انعتقت أم الولد، وبطلت الكتابة.
قال أبو حنيفة: ولا تبطل الحوالة استحسانا (2).
مسألة 639: لو أحاله بألف كانت للمحيل على المحال عليه، وقبل
الثلاثة، صحت الحوالة، ثم [إن] (3) أبرأ المحتال المحال عليه عن مال
الحوالة، برئ المحيل والمحال عليه عن دين المحتال، أما المحيل:
فبالحوالة، وأما المحال عليه: فبالإبراء. ويبرأ أيضا المحال عليه من دين
المحيل؛ لأنه بالحوالة نقل حقه من المحال عليه إلى المحتال.
وقال أبو حنيفة: يرجع المحيل بدينه على المحال عليه (4).

(1 و 2) فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهندية 3: 74.
(3) إضافة يقتضيها السياق.
(4) فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهندية 3: 74 - 75.
489

وليس بجيد.
ولو وهب المحتال مال الحوالة للمحال عليه، جازت الهبة، وبطل
ما كان للمحيل على المحال عليه، ولا يكون للمحيل أن يرجع بدينه على
المحال عليه، وبه قال أبو حنيفة (1).
مسألة 640: لو كانت الحوالة مقيدة بوديعة كانت عند المحال عليه،
فمرض المحيل فدفع المحال عليه الوديعة إلى المحتال ثم مات المحيل
وعليه ديون كثيرة، لم يضمن المستودع شيئا لغرماء المحيل؛ لأنه دفع بأمر
المحيل المالك للوديعة.
وهل يملكها المحتال حينئذ؟ الأقرب ذلك؛ عملا بالحوالة الناقلة.
وقال أبو حنيفة: لا يسلم الوديعة للمحتال، بل تكون بينه وبين
غرماء المحيل بالحصص؛ لأن الدفع وقع حالة الحجر بالمرض (2).
ولو أن المحال عليه أمسك الوديعة لنفسه وقضى دين المحتال من
مال نفسه، قال أبو حنيفة: تكون الوديعة له، ولا يكون متبرعا استحسانا (3).
والأقرب ذلك إن تراضيا هو والمحتال على أخذ العوض، فإن لم يقع
بينهما عقد مراضاة، كان للمحتال أن يرجع إلى العين، وللمحال عليه
استرداد ما دفعه إليه.
مسألة 641: لو كان على رجل دين لرجل فأحال صاحب الدين
بجميع ما له عليه - وهو ألف مثلا - على رجل وقبل المحال عليه الحوالة،
ثم إن المحيل أحال المحتال على رجل آخر بجميع ما له عليه وقبل المحال
عليه الثاني، قال أبو حنيفة: تكون الحوالة الثانية نقضا للأولى؛ لأنه لا صحة
للثانية إلا بعد نقض الأولى، والمحيل والمحتال يملكان النقض، فإذا نقضا

(1 - 3) فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهندية 3: 75.
490

الحوالة الأولى، انتقضت، وبرئ المحال عليه الأول، بخلاف ما إذا كان
المديون أعطى صاحب الدين كفيلا آخر بعد الكفيل الأول، فإن الكفالة
الثانية لا تكون إبطالا للكفالة الأولى؛ لأن المقصود من الكفالة التوثيق مع
بقاء الدين على الأصيل، وضم الكفيل إلى الكفيل يزيد في التوثيق (1).
وهذا غير صحيح على أصلنا؛ لأن الحوالة ناقلة، فإذا صار الدين
- الذي على المحال عليه للمحيل - [للمحتال] (2) لم يمكن النقض؛ لأنا
نعتبر رضا المحال عليه.
نعم، لو كان المحيل قد قصد بالحوالة الثانية الحوالة بما على المحال
عليه من المال، صح، وبرئ المحال عليه، وكان متبرعا بالحوالة عن
المحال عليه، ولا يرجع على أحد.
مسألة 642: إذا احتال بالحال على شرط الصبر مدة، وجب تعيينها،
وصح الشرط عندنا - خلافا لأحمد (3) - على ما بيناه.
ولو لم يعين المدة، بطلت الحوالة؛ لبطلان شرطها.
ولو شرط أداء المال من ثمن دار المحال عليه أو من ثمن عبده، صح
الشرط؛ لعموم قوله (عليه السلام): " المؤمنون عند شروطهم " (4) وبه قال
أبو حنيفة (5).
وهل يجبر المحال عليه على بيع داره أو عبده معجلا؟ الأقرب ذلك

(1) فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهندية 3: 75 - 76.
(2) ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.
(3) المغني 5: 56، الشرح الكبير 5: 59.
(4) التهذيب 7: 371 / 1503، الاستبصار 3: 232 / 835، الجامع لأحكام القرآن 6:
33.
(5) فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهندية 3: 76.
491

إن كانت الحوالة معجلة، وإلا عند الأجل.
وقال أبو حنيفة: لا يجبر على البيع، وهو بمنزلة ما لو قبل الحوالة
على أن يعطى المال عند الحصاد أو ما أشبه ذلك، فإنه لا يجبر على أداء
المال قبل الأجل (1).
إذا عرفت هذا، فهل يشترط الأجل في مثل هذه الحوالة؟ يحتمل
ذلك؛ إذ الثمن ليس موجودا في الحال، بل لا بد من مضي مدة يحصل فيها
الراغب في الشراء ولو قل زمانه، فأشبه المكاتب إذا عقد الكتابة حالة،
فحينئذ يجب تعيين المدة، خلافا لأبي حنيفة (2).
مسألة 643: لو كان عليه دين لزيد فأحال زيدا به على عمرو وليس
للمديون على عمرو شيء وقبل، صحت الحوالة على الأقوى، وبه قال
أبو حنيفة (3).
فإذا جاء فضولي وقضى الدين عن المحال عليه تبرعا، كان للمحال
عليه أن يرجع على المحيل، كما لو أدى المحال عليه المال بنفسه وليس
عليه دين، فإنه يرجع على المحيل، وبه قال أبو حنيفة (4).
ولو كان للمحيل دين على المحال عليه، فجاء الفضولي وقضى دين
المحتال عن المحيل الذي عليه أصل المال، لم يكن للمحيل أن يرجع
بدينه على المحال عليه عندنا؛ لأن قضاء الفضولي عنه كقضائه بنفسه.
ولو قضى المحيل دين الطالب بمال نفسه بعد الحوالة، لم يكن له
الرجوع إذا كان متبرعا.

(1) فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهندية 3: 76.
(2) لم نعثر عليه في مظانه.
(3 و 4) فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهندية 3: 77.
492

وقال أبو حنيفة: يرجع (1).
وقد سلف (2) بطلانه.
فعلى قوله لو اختلف المحيل والمحال عليه كل واحد منهما يدعي أن
الفضولي قضى عنه، رجع إلى الفضولي.
فإن مات قبل البيان، قال أبو حنيفة: يكون القضاء عن المحال عليه؛
لأن القضاء يكون عن المطلوب ظاهرا (3).
مسألة 644: لو أحال البائع غريما له على المشتري حوالة مقيدة
بالثمن، لم يبق للبائع حق الحبس.
ولو أحال المشتري البائع على غريم له، قال أبو حنيفة: يكون للبائع
حق الحبس (4).
وقال: لو أحال الزوج امرأته بصداقها على آخر، كان للزوج أن
يدخل بها. ولو أحالت المرأة على زوجها بالمهر غريما لها، كان لها أن
تمنع نفسها؛ لأن غريمها بمنزلة وكيلها، ما لم يصل الصداق إلى وكيلها،
كان لها حق المنع (5).
ويشكل إذا جعلنا الحوالة استيفاء.

(1) فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهندية 3: 77.
(2) في ص 485، المسألة 636.
(3 و 4) فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهندية 3: 77.
(5) فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهندية 3: 77 - 78.
493