الكتاب: المسح على الرجلين
المؤلف: الشيخ المفيد
الجزء:
الوفاة: ٤١٣
المجموعة: فقه الشيعة الى القرن الثامن
تحقيق: الشيخ مهدي نجف
الطبعة: الثانية
سنة الطبع: ١٤١٤ - ١٩٩٣ م
المطبعة:
الناشر: دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات: طبع بموافقة اللجنة الخاصة المشرفة على المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد / سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد

المسح على الرجلين
تأليف
الإمام الشيخ المفيد
محمد بن محمد النعمان ابن المعلم
أبي عبد الله العكبري البغدادي
(336 - 413 ه‍)
تحقيق
الشيخ مهدي نجف
1

بسم الله الرحمن الرحيم
تمثل هذه الرسالة واحدة من بحوث الشيخ المفيد الفقهية، وخاصة في
مجال الفقه المقارن الذي يتم البحث فيه مع العامة الخالفين لنا في المباني
الأصولية والمناهج الفرعية و وحدات الأدلة وطرق الاستدلال بها.
والشيخ يعتمد منهجه الرصين للبحث العلمي:
1 - فهو أولا - يوافق الخصم، عندما يستدل بحديث يرويه كل بطرقه عن
النبي صلى الله عليه وآله، فلا يجابهه الشيخ بإنكار الرواية وردها كما لم
يعارضه بإنكار مبناه في الاعتماد على أخبار الآحاد، التي لا يعترف الشيخ
بحجيتها.
فهو يقول للخصم: (أنا أسلم لك العمل بأخبار الآحاد تسليم نظر وإن
كنت لا أعتقد ذلك) ووجهته في هذا التصرف ما ذكره. يقوله: (استظهارا في
الحجة) يعني إذا ألزمه على مبناه وأبطل مستنده كان ذلك أنجع في الحجة و
أحكم في الإلزام.
ويقول له أيضا: (نحن سلمنا حديثك، وما رويناه قط، ولا صححه أحد
3

منا، ثم كلمناك عليه... وقد كان يسعنا دفع حديثك في أول الأمر) ويطلب
منه الإنصاف واتباع نفس الطريقة فيقول: فينبغي لك أن تنصف وترضى
لغيرك بما ترضاه لنفسك).
وبهذا قرر الشيخ المفيد واحدة من (آداب البحث والمناظرة).
2 - وهو ثانيا ينبه الخصم على عدم صحة (الانتقال في المناظرة) وأصل
(الانتقال) هو: ترك الدليل الأول، والاعتراض بشئ أخر. فالمفروض في
البحث العلمي أن يكمل المستدل دليله الأول، ويخرج عن عهدته، بجميع
فروضه ونقوضه وما يرد عليه، ثم يتركه إلى غيره.
وقد ذكر الشيخ - بكل هدوء - أمثلة لهذا الانتقال، وأوضح عدم صحته،
وبين ما وقع من المستدل من ذلك.
ثم إن الشيخ تصدى لرد الخبر الذي استدل به الخصم وهو المنسوب إلى
النبي صلى الله عليه وآله من قوله: (هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به) بعد
أن غسل رجليه في ذلك الوضوء.
وقد رده الشيخ بوجهين:
1 - بتحليل الخبر على أساس من ألفاظه ومفرداته، فقال ما معناه:
إن اسم الإشارة (هذا) يدل على أن الحكم المذكور وارد على المشار إليه
المعين بالإشارة، فالحكم مختص بما صدر من الرسول صلى الله عليه وآله في
تلك القضية والواقعة، ولا يسرى إلى غيره، لأن التعدي بحاجة إلى دليل من
عقل وليس هناك دليل عقلي عليه، وليس هذا أيضا محلا للقياس، لأن اللفظ
(هذا) يدل على الخصوصية في المستعمل فيه فلا يمكن شمول غيره.
وإذا كان لفظ (هذا) إشارة إلى خصوص ما صدر منه في هذا المورد، سواء
4

كان ما وقع منه - من غسل الرجل - جزءا للعمل أو خارجا منه لضرورة التطهير
مثلا، كما إذا كانت الرجل محتاجة إلى الغسل لإماطة نجاسة ظاهرية أو مانع
عن مسح البشرة، ونحو ذلك فإن عمل الغسل ودخوله في خصوص هذا
العمل لا يدل على دخوله في خصوص فرض الوضوء، لأنه أعم كما ذكرنا.
ثم إن إطلاق كلمة (الوضوء) على مجموع ما هو داخل في فرض
الوضوء، وما هو خارج عنه، باعتبار الجموع أمر متعارف، وفيه من المسامحة
العرفية ما هو متداول، لأن اللوازم القريبة والمقدمات اللازمة التي يتوقف عليها
العمل، تدخل في التعبير به، للمناسبة اللغوية، وإن لم تكن داخلة في حقيقة
لفظه.
2 - بالنقض على الخبر، بالأخبار التي تدل على عدم اشتراط غسل
الرجلين في الوضوء.
وقد نقل الشيخ المفيد تلك الأخبار الناقضة من طرق المخالفين لتكون أتم
في الحجة على الخصم وإلزامه بما يلتزم هو به.
ثم إن الخصم عمد إلى رواية نسبها إلى أمير المؤمنين علي عليه السلام، و
فيها: (إنه توضأ ومسح على رجليه، وقال: هذا وضوء من لم يحدث) وجعلها
دليلا على رأيه القائل بأن الغسل واجب في الوضوء، وذلك لأن قوله: (من لم
يحدث) معناه: من لم يصدر منه الحدث الناقض للطهارة، فيكون الوضوء المجرد
من غسل الرجل، والمحتوى على مجرد المسح وضوءا غير رافع للحدث.
ورد الشيخ المفيد بأن ظاهر الرواية: أنه أخبر عن أن الوضوء المشتمل على
مسح الرجلين هو الوضوء الذي لم يتغير ولم يدخله إحداث أو تغيير، فيكون
الوضوء بغسل الرجلين وضوءا محدثا مبتدعا، حيث لم يجئ به كتاب ولا
5

سنة، فكان الغاسل بدلا عن المسح محدثا بدعة في الدين.
والدليل على صحة هذا التأويل - دون الأول -: انعقاد إجماع الأمة على
صحة وضوء من أحدث إذا أتى به من لم يحدث، كالمتوضئ تجديدا، وعلى أن
من لم يحدث فليس له وضوء خاص به.
ثم إن هذا التأويل الثاني، إذا لم يكن متعينا معلوما، فهو - على الأقل
احتمال مفروض في الرواية - وإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال على
الاحتمال الأول.
وهذه الرسالة على صغرها تحتوي على آراء عديدة للشيخ المفيد، هي:
1 - عدم الاعتقاد بالعمل بأخبار الآحاد.
2 - الالتزام بخصوصية المعنى المستعمل فيه الحرف.
3 - أن المجازات يحتاج صحتها إلى مناسبات لغوية.
4 - رأيه في تأويل الأخبار وما يصح منه وما لا يصح.
5 - التزامه بالوضوء التجديدي لمن كان على طهارة.
6 - مضافا إلى توضيحه بعض قواعد المناظرة وآداب البحث وتطبيقها في
بحثه هذا.
وصدر الرسالة يدل على أن مجلس الشيخ المفيد كان مفتوحا أمام المخالفين
وعلمائهم، ليحضروا ويطرحوا آراءهم بكل حرية، فمثل الشيخ النسفي - (ت
414) الذي كان في عمر الشيخ المفيد - يحضر هذا المجلس ويدخل مع الشيخ
المفيد غمار المناقشات العلمية، كما عرفنا.
وقد صرح ابن كثير في تاريخه (البداية والنهاية) بهذا حيث قال: (و
كان له - أي للشيخ المفيد - مجلس يحضره خلق كثير من العلماء من سائر
6

الطوائف).
وهذا يدل على انفتاح علمي، وسمو في روح التعامل الفكري، مضافا
إلى ما يستتبعه من إثارة المناقشات العلمية والفكرية المؤدية إلى نمو المعرفة و
نشرها، وتركيز الحق وتعميقه ووضوحه على المستوى الخاص والعام.
كما يدل على الاستعداد التام لدى الشيخ المفيد لخوض بحار العلوم وفي
المجلس العام، وهو الأمر الذي يستكشف بوضوح من خلال مناظراته ومجالس
بحثه المسجلة، والتي جمع طرفا منها تلميذه السيد الشريف المرتضى في كتاب
(الفصول المختارة).
والله ولي التوفيق. وكتب السيد محمد رضا الحسيني الجلالي
7

الصفحة الأولى من نسخة الأصل
8

الصفحة الأخيرة من نسخة الأصل
9

الصفحة الأولى من النسخة (ج)
10

صورة من النسخة المخطوطة
11

صورة من النسخة المخطوطة
12

صورة من النسخة المخطوطة
13

المسح على الرجلين
تأليف
الإمام الشيخ المفيد
محمد بن محمد النعمان ابن المعلم
أبي عبد الله العكبري البغدادي
(336 - 413 ه‍)
15

بسم الله الرحمن الرحيم
[رب يسر]
سأل بعض أهل مجلس الشيخ أبي عبد الله، محمد بن محمد بن
النعمان رضي الله عنه، أبا جعفر المعروف بالنسفي العراقي (1).
فقال له: ما فرض الله تعالى من الوضوء في الرجلين؟
فقال: غسلهما.
فقال: ما الدليل على ذلك؟
فقال: قول النبي عليه السلام، وقد توضأ، فغسل وجهه، وغسل
ذراعيه، ومسح برأسه وغسل رجليه، وقال: (هذا وضوء لا يقبل الله
الصلاة إلا به) (2).
فقال له السائل: ما أنكرت على من قال: إنه لا حجة لك في الخبر،

(1) أبو جعفر، محمد بن أحمد بن محمود النسفي، القاضي. كان من أعيان فقهاء الحنفية،
أخذ الفقه عن أبي بكر الرازي. توفي سنة أربع عشرة وأربعمائة (414 ه‍). المنتظم
8: 15، الجواهر المضية في طبقات الحنفية 2: 24، وهدية العارفين 2: 62.
(2) لا أعلم لهذا الحديث بهذا اللفظ في الكتب الحديثية موضعا.
17

لأنه من أخبار الآحاد، لا يوجب علما ولا عملا
فقال له أبو جعفر: أخبار الآحاد عندي موجبة للعمل، وإن لم تكن
موجبة للعلم. وأنا إنما أبني الكلام على أصلي دون أصل المخالف.
وتردد الكلام بينه وبين السائل في هذا المعنى ترددا يسيرا.
فقال الشيخ أبو عبد الله رضي الله عنه: أنا أسم بك العمل بأخبار
الآحاد تسليم نظر، وإن كنت لا أعتقد ذلك، استظهارا في الحجة، وأبين
أنه لا دليل لك في الخبر الذي تعلقت به، على ما تذهب إليه من فرض
غسل الرجلين في الوضوء.
وذلك: أن قول النبي عليه السلام - إن صح عنه -: (هذا وضوء
لا يقبل الله الصلاة إلا به) مختص الحكم بذلك الوضوء الذي أشار إليه
بقوله: (هذا) دون ما عداه من غيره، أو فعل نفسه؟
فالحكم بإيجاب ذلك، في أفعال غيره وأفعال نفسه، لما بعد، حكم
جائز لا حجة عليه.
فلم يبين أبو جعفر معنى هذا الكلام، وقال - على ظن منه خلاف
المراد فيه -: الوضوء اسم للجنس المشروع منه، والتعلق بحكمه على
العموم حقيقة لا مجاز.
فقال له الشيخ: هذا كلام من لم يتأمل معنى ما أوردته عليه، وليس
العبارة بالوضوء، عن جنس مشروع يمنع مما ألزمتك في التعلق بقول النبي عليه
السلام، وثبت أن حكمك به على كل وضوء يحدث ليس بمأخوذ من
حقيقة الكلام، وإنما هو دعوى لا تثبت إلا ببرهان بناء في الخبر (1)، ويكون
خارجا عنه.

(1) كذا، ولعل الصحيح: (ينافي الخبر).
18

وذلك: أن قول النبي عليه السلام (هذا) لا يقع على معدوم، ولا
الإشارة به إلا إلى موجود.
وإذا كان الأمر على ما ذكرناه، وجب أن يختص حكمه بنفس ذلك
الوضوء الذي أشار إليه النبي عليه السلام، ويكون المراد بالصلاة المذكورة
معه ما يقام به دون ما عداها.
فمن أين يخرج منه أن ما سوى هذا الوضوء مما يتجدد بفعل النبي
عليه السلام؟ أو يكون وضوءا لغيره؟ فحكمه حكمه؟ بقياس عليه، أو
بحجة تعقل، أو بمفهوم اللفظ.
وإذا لم يكن للقياس في هذا مجال، ولا للعقل فيه مدخل، ولم يفده
اللفظ، لم يبق إلا الاقتراح فيه، والدعوى له بغير برهان.
فقال أبو جعفر: قد ثبت أنه إذا كان حكم وضوء النبي عليه
السلام ذلك، وأن الله تعالى لا يقبل صلاته إلا به، وجب أن يكون حكم
غيره كحكمه فيه، إذ ليس في الأمة من يفرق بين الأمرين، فزعم أن للنبي
صلى الله عليه وآله وضوءا على انفراده، وللأمة وضوء على حياله.
فقال الشيخ: هذا ذهاب عن وجه الكلام الذي أوردناه عليك،
مع استئنافك إياه، وانتقالك عما كنت معتمدا عليه في الخبر، ويكفي
الخصم من خصمه، والنظر أن يضطره إلى الانتقال عن معتمده إلى غيره،
وإظهار الرغبة إلى سواه.
والذي بعد فإن الذي طالبناك به هو أن يكون قوله عليه السلام
(هذا وضوء) إشارة إلى ذلك الشئ الواقع دون غيره من أمثاله.
ولم نسلم لك أن المراد به كل وضوء يحدثه النبي عليه السلام في
مستقبل الأوقات فيبنى الكلام على ذلك، ويستدل على مذهبك فيه بما
19

خرجته من الاجماع، فيجب أن تأتي بفصل مما ألزمناك، وإلا فالكلام عليك
متوجه مع انتقالك من دليل إلى دليل للاضطرار دون الاختيار.
فقال: هذا لا معنى له، لأنه لم يكن النبي عليه السلام في حال من
الأحوال، قد أمر بوضوء لا يقبل الله صلاته إلا به، ثم نقل عنه إلى غيره،
وإذا ثبت أن العبادة له كانت بوضوء استمر على الأحوال والأوقات، لم يلزم
ما أدخلت علي من الكلام.
فقال الشيخ رحمه الله: وهذا أيضا مما لم يتأمل، وسبق إلى وهمك منه
ما لم نقصده في الالزام، وذلك إنا لم نرد بما ذكرناه في تخصيص وضوء النبي
عليه السلام الواقع منه في تلك الحال ما قدرت من أنه كان مفروضا عليه
غسل الرجلين للوضوء دون ما سواه، وإنما أوردنا ذلك على التقدير.
فما أنكرت أن يكون غسل النبي عليه السلام رجليه في ذلك
الوضوء لإماطة نجس كان بهما، ففعل ذلك لما ذكرناه، دون إقامة فرض
الوضوء للصلاة على انفراده مما سميناه، فيكون قوله عليه السلام حينئذ:
(هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به) مختصا بذلك الوضوء الذي دخل
فيه فرض إماطة النجاسة عن الرجلين، دون ما عداه، وهذا خلاف ظنك
الذي أطلت فيه الكلام.
فقال أبو جعفر: هذا أيضا غير لازم، إماطة (1) النجاسة لا يطلق
عليها وضوء شرعي، وقول النبي عليه السلام: (هذا وضوء) لفظ شرعي
يخص نوع الوضوء دون ما عداه.
فقال له: الأمر كما وصفت من أنه لا يطلق لفظ الوضوء إذا انفرد

(1) أي إزالة النجاسة. أنظر مجمع البحرين 4: 274 مادة (ميط).
20

ذلك مما سواه، لكنه ما أنكرت أن يطلق ذلك على الوضوء المشروع إذا فعل
في جملته إماطة نجاسة عن الجسد أو الأبعاض (1)، [و] لو لم تمط في حال
الوضوء أو معه، ووقعت على الانفراد لم يطلق عليها ذلك، فيكون
للاتصال من الحكم ما لا يكون للإنفصال، ويكون الإشارة بقوله: (هذا
وضوء) إلى أكثر الأفعال التي وقعت مما هي وضوء في نفسه، وإن يتخللها
ما لا يسمى على الانفراد وضوءا، وهذا معروف في لغة العرب لا يتناكره
منهم اثنان.
ألا ترى أنهم يسمون الشئ باسم مجاورة، يستعيرون فيه اسم ما
دخل في جملته، ويعبرون عنه بحقيقة اللفظ منه وإن تخلل أجزاءه ما ليس
منه، ولا خلاف مع هذا بينهم أن السمات قد تطلق على الأشياء بحكم
الأغلب، ويحكم عليها بالغلبة وإن كان فيها ما ليس من الأغلب، وهذا
يبين عن وجه الكلام عليك، وأنك ذهبت عنه مذهبا بعيدا.
فقال: لو جاز أن يعبر عن إماطة النجاسة عن الرجل بالوضوء
لجاز أن يعبر عن إماطتها عن الثوب بذلك، ويعبر عن السترة في الصلاة
بذلك، ويعبر عن التوجه والقبلة بالوضوء، لأن الصلاة [لا تتم إلا بذلك
كما] (2) لا تتم إلا بإماطة النجاسة عن القدمين وغيرهما من الجسد، وهذا
ما لا يقوله أحد.
فقال الشيخ رضي الله عنه: هذا أيضا كلام على غير ما اعتمدناه،
ولو تأملت ما ذكرناه لأغناك عن تكلف هذا الخطاب، وذلك أنا لم نقل أن
إماطة النجاسة عن القدمين بغسلهما يقال لها وضوء، ولا حكمنا أن النبي

(1) في نسخة (ج) الانقاص.
(2) ما بين المعقوفين ساقط من (ج).
21

عليه السلام قصد ذلك بقوله: (هذا وضوء) ولا عناه، وإنما قلنا إنه عنى
الوضوء المشروع مع دخول ما ليس من جنسه ونوعه.
وليس كذلك غسل الثوب، لأنه لا يدخل في جملة الوضوء، ولا
يتخلل أجزاء الفعل منه، ولو اتفق دخوله بالعرض، وتخلل أجزاء الفعل منه
لا سيما على أصلك في ترك موالاة الوضوء، لم يجز أن يعبر عن الوضوء وعنه
جميعا بالعبارة عن الوضوء المطلق، كما عبر بذلك عن غسل الرجلين، لما
ذكرناه في الفرض من قبل أن لفظ الوضوء في اللغة إنما هو موضوع على
تنظيف الجسد، وتحسينه دون غيره، ولذلك قيل: فلان وضئ الوجه،
ولم يقولوا: فلان وضئ الثوب، وإن كان الثوب في نفسه، حسنا.
فلا ينكر استعمال العبارة فيما ليس بوضوء شرعي مع الوضوء
الشرعي، بما وضعت له عبارة الوضوء في الأصل، من التحسين للجسد،
والتنظيف له.
بل لو استعملت هذه العبارة في تنظيف الجسد المفرد من الوضوء
الشرعي لكانت جارية على الأصل من اللغة، فكيف إذا وضعت في
موضوع الشرع واللغة، وقصد بها ما هي موضوعة له في الشريعة، مع ما
تخلله مما يطلق عليه في اللغة، فأما السترة في الصلاة، والتوجه، والقبلة،
والنية فليس من هذا في شئ لأمرين:
أحدهما: أن كل واحد من هذه لا يتخلل أجزاء الوضوء.
والثاني: أنه مما لا يطلق عليه هذه العبارة في مجاز اللغة.
* * *
22

فصل
فاقتضى بعض الحاضرين الموافقة لأبي جعفر على الانتقال
فقال الشيخ رحمه الله: أما الانتقال من أبي جعفر فكثير في هذا
المجلس، وأصل الانتقال منه تركه الخبر جانبا (1) إلى الاستدلال من
مقتضى الخبر، فليسأل عن التعلق بالظاهر منه بعد اعتماده، ثم تركه جانبا
إلى غيره.
فقال أبو جعفر: ليس هذا نقلة عندي، لأنني إنما صرت إلى ما
صرت إليه عند الزيادة على ما لم يرد في السؤال الأول.
فقال الشيخ رضي الله عنه: سواء انتقلت بالزيادة أو بغيرها، فقد
خرجت عن حد النظر، وأظهرت الرغبة عما كنت عليه لضعفه عندك،
ولجأت إلى غيره.
وبعد: فكيف نقلتك الزيادة التي تدعيها؟ وإنما طولت بوجه
البرهان من الخبر فرمته، فلما لم تجد إليه سبيلا عدلت إلى سواه، وهو أنك
جعلت قول النبي: (هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به) حكما ساريا
علي، فلما بينا بطلان ذلك جعلته خاصا للنبي عليه السلام في وضوء
بعينه.
فإن كنت أجبت السائل عن مسألة عامة فاعتمادك [على] خاص
الجواب باطل، وإن كنت أجبته عن خاص من سؤاله، فقد عدلت
عما اقتضاه السؤال بالاتفاق.

(1) في نسخة (ج) خائبا.
23

فقال أبو جعفر: ليس لأحد أن يمنع المجيب عن سؤال عام
بجواب خاص ودليل مختص، ولا يعنته (1) بذلك، إذا بنى كلامه فيما
يسرى (2) إلى العموم عليه.
فقال الشيخ رحمه الله: فهذا لو بدأت به أولا كانت لك حجة
شبهة (3) وإن سقطت، ولكنك لم تفعل ذلك، بل أجبت بجواب عام،
فقلت: فرض الله في الأرجل على العموم الغسل، ثم دللت (4) على ذلك عند
نفسك بظاهر لفظ النبي عليه السلام فإذا (5) طعنا في دليلك، فركنت (6) إلى
التعويل على وضوء واحد للنبي عليه السلام، وضممت إلى ذلك الاجماع
بحسب ما توهمت من إلزامنا لك، فبينا لك خلافه.
وبعد، فما الفرق بينك وبين من سئل عن مسألة في شئ مخصوص
فأجاب عن غيره؟ ثم دل على شئ سوى ما أجاب به، واعتمد في ذلك؟
فإن قال: إنما فعلت ذلك لأبني عليه ما يكون جوابا للسؤال فلم يأت
بفصل يذكر.
* * *

(1) في (ج) يعيبه.
(2) في (ج) يرى.
(3) ليس في نسخة (ج).
(4) في نسخة (ج) فتركها.
(5) في الأصل: دلك.
(6) في الأصل: فانا.
24

فصل
ثم قال الشيخ رضي الله عنه: وفرغنا من الكلام على خبرك، ونحن
نقابلك بالأخبار التي رواها أصحابك في نقيضه، لنستوي في الكلام معك
من هذا الوجه أيضا فما تصنع فيما رواه أصحاب الحديث عن النبي عليه
السلام أنه (قام على سباطة (1) قوم قائما، ثم استدعى ماء، فجاءه بعض
أصحابه بأداوة فيها ماء، فاستبرأ، وغسل وجهه وذراعيه، ومسح برأسه،
ومسح برجليه وهي في النعلين) (2).
وكيف تجمع بين هذا الحديث، وبين مذهبك في أن من لم يغسل
رجليه في الوضوء لم يقبل الله صلاته حسب ما رويته في حديثك؟
بل كيف تصنع فيما رواه أصحاب الحديث في نفس حديثك: (أن
النبي صلى الله عليه وآله توضأ بالماء ثلاثا ثم غسل رجليه وقال: هذا وضوء
لا يقبل الله الصلاة إلا به).
فقال أبو جعفر: هذان الحديثان لا أعرفهما هكذا، وإنها روينا أن
النبي صلى الله عليه وآله بال في سباطة قوم ثم توضأ (3).

(1) السباطة - بضم السين - ملقى الكناسة، الموضع الذي يرمى فيه التراب والأوساخ وما
يكنس من المنازل. النهاية 2: 335 مادة (سبط).
(2) روى مسلم في صحيحة 1: 228 الحديث 73 - 75 عن حذيفة قال: كنت مع النبي
(ص) فانتهى إلى سباطة قوم فبال قائما، فتنحيت، فقال: ادنه، فدنوت حتى تمت
عند عقبيه، فتوضأ فمسح على خفيه. وفي الحديث 75 قال: فغسل وجهه ويديه،
ومسح برأسه، ثم مسح على الخفين.
(3) تقدم مصدره.
25

وروينا أنه توضأ بالماء ثلاثا وقال: (هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من
قبلي ووضوء خليلي إبراهيم) (1).
فقال له الشيخ رحمه الله: ينبغي لك أن تصف وترضى لغيرك بما
ترضاه لنفسك. نحن سلمنا حديثك وما رويناه قط، ولا صححه أحد
منا، ثم كلمناك عليه، وقابلناك بأخبار رواها شيوخك، فدفعتها بألواح،
وقد كان يسعنا دفع حديثك في أول الأمر، ومطالبتك بالحجة على صحته،
فلم نفعل.
فيجب إذا كنت تعمل بأخبار الآحاد أن تنقاد إلى ما تقتضيه، ولا
تلجأ في إطراح العمل بها، إلى القول بأنك لا تعرفها، فيسقط بذلك عن
خصمك قبول ما ترويه إذا لم يعرفه، وهذا إسقاط لنفس احتجاجك،
واجتناب لأصله.
فقال أبو جعفر: الحديث في أنه توضأ بالماء ثلاثا فلا أعرفه إلا فيما رويته
أنا، وأما الرواية عن النبي عليه السلام أنه توضأ ومسح على رجليه، فقد
ثبتت، لكنها لم تزد على الرواية بأنه بال.
وليس يمتنع أن يتوضأ الإنسان وضوءا يمسح فيه رجليه، ويكون
وضوءه ذلك عن غير حدث، كما روينا عن علي بن أبي طالب عليه السلام
أنه توضأ ومسح على رجليه، وقال: (هذا وضوء من لم يحدث) (2).

(1) حكاه ابن الأثير في جامع الأصول 8: 91 عن النسائي ولم أقف عليه في سننه. وذكر
ابن ماجة الحديث في سننه 1: 145 الحديث 419 و 420 بلفظ آخر.
(2) كنز العمال 9: 474 الحديث 27030 عن مسند علي عليه السلام: عن (عن عبد خير
قال: رأيت عليا دعا بالماء ليتوضأ فمسح يديه مسحا ومسح على قدميه وقال: هذا وضوء
من لم يحدث). ورواه أحمد بن حنبل في مسنده
وفي حديث آخر عن النوال بن سبرة قال: أتي علي بكوز من ماء، وهو بالرحبة،
فأخذ كفا من ماء، وتمضمض واستنشق، ومسح وجهه وذراعيه ورجليه، ثم شرب
فضل الماء وهو قائم، ثم قال: (هذا وضوء من لم يحدث، هكذا رأيت رسول الله فعل)
أنظر كنز العمال 9: 474 الحديث 26949 الحديث 27031.
26

فقال الشيخ رحمة الله عليه: طالبناك بالإنصاف في أخبار الآحاد
التي رواها أصحابك، لاحتجاجك بها، لا سيما مع تدينك بإيجاب العمل
بها، وأريناك أن دفاعك لها يبطل احتجاجك على خصومك، وقد مر
عليه، فأجبنا إلى ذلك، ثم قبلت أخبارا رويتها أنت من ذلك، ودفعت
ما رويناه، وهذا رجوع إلى الأول في التحكم والمناقضة.
وبعد فإن أكثر الذي رويته عن النبي صلى الله عليه وآله في مسح
الرجلين يكفي في الحجة عليك، وتأولك له بأنه وضوء عن غير حدث
يقابله إن غسل النبي عليه السلام رجليه في ذلك الوضوء إنما كان لرفع
النجس، فيقابل التأويلان ويتكافأ الاحتجاج الحديثين.
فأما روايته عن أمر المؤمنين عليه السلام فهو حجة عليك لا لك،
وذلك أن قوله عليه السلام وقد مسح رجليه: (هذا وضوء من لم يحدث) (1)
يفيد الخبر عن إحداث الغسل الذي لم يأت به كتاب، بل جاء (2) بنقيضه،
ولم تأت به سنة، فصار الفاعل له بدلا من المسح المفروض محدثا بدعة في
الدين. ولو لم يكن المراد فيه ما ذكرناه على القطع لكفى أن يكون محتملا
له، لأن الحدث غير مذكور في اللفظ، وإنما هو مقدر (3) في التأويل،

(1) كنز العمال 9: 474.
(2) في نسخة (ج)، جاءهما.
(3) في نسخة (ج) مقدور.
27

فكأنكم تقولون إن المضمر: لم يحدث ما ينقض الوضوء والمقدر عندنا
فيه: من لم يحدث غير مشروع في الوضوء.
وبقي عليك الحديث الذي روي أن النبي عليه السلام توضأ
فمسح على رجليه ولم يفصل فارتج عليه الكلام في قول أمير المؤمنين عليه
السلام: (هذا وضوء من لم يحدث) (1) ولجلج فيه، ولم يدر ما يقول،
فأضرب عن ذكره صفحا وقال: فأنا أقبل الحديث أيضا أن النبي عليه
السلام قام فتوضأ ومسح على رجليه وهما في النعلين. فأقول: إنهما كانا في
جوربين، والجوربان في النعلين: كما أقول في القراءة بالخفض: إنها تفيد
مسح الخفين إذا كانت الرجلان فيهما.
فصل
فقال الشيخ رضي الله عنه: هذا كلام بعيد من الصواب، متعسف
في تأويل الأخبار، وذلك أن الراوي لم يذكر جوربين ولا خفين، فلا يجب
أن يدخل في الحديث ما ليس فيه. كما أنا لما سلمنا حديثك لم ننقص منه
ما تضمنه، ولم تزد فيه شيئا يسهل سبيل دفاعك عن الاحتجاج به، ولو
قلنا كما قلت إن النبي عليه السلام توضأ ومسح على رجليه وقال: (هذا
وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به) ثم غسلهما بعد ذلك لكنا في صورتك
وحالك في الزيادة في الأخبار، بل لو قلنا أنه غسل رجليه أولا ثم استأنف
الوضوء، وإن لم يرو ذلك الراوي لكان كقولك إن كان في رجليه جوربان
لم يذكرهما الراوي، وكنا نحن أولى بالتأويل الذي ذكرناه منك، وفاق

(1) كنز العمال 9: 474.
28

أفعال رسول الله صلى الله عليه وآله ظواهر القرآن، وتأولك أنت أقواله،
وحملك فعاله على نقيض القرآن، والزيادة في ألفاظ الأخبار ما لم يذكره أحد
بحال.
على أنه لا يعبر بالجوربين عن الرجلين، ولا بالخفين عنهما في
حقيقة اللغة، ولا في مجازها، ولم يرو ذلك أعجمي، فيكون لك تعلق به،
بل رواه عربي فصيح اللسان، فبطل أيضا حملك الخبر عليه حسب ما
بيناه.
فترك الكلام على ذلك كله، وقال: العرب تقول لمن داس شيئا
برجله وفيها جورب أو خف: قد داس فلان برجله كذا وكذا، وهذه
العامة كلها على ما ذكرناه لا يمتري فيه منهم اثنان.
فقال الشيخ: ليس مثالك (1) بنظير لدعواك، وبينهما (2) عند أهل
العقول واللغة أعظم الفرقان، وذلك أن الدائس برجله وهي في الجورب
أو الخف معد (3) فعل رجله إلى الدوس، وليس الماسح على الخوف والجورب معديا
فعله إلى الرجل بالمسح على الاتفاق، فأي نسبة بين ذلك وبين ما تأولت
به الخبر على غير مفهوم اللسان؟.
فقال أبو جعفر: والله ما أدري ما التعدي والاعتماد، وهذا من كلام
المتكلمين، وانقطع الكلام على إخباره عن نفسه بأنه لم يفهم غرض
الكلام.

(1) في نسخة (ج) ببالك.
(2) في نسخة (ج) وسهما.
(3) في نسخة (ج) فعذ.
(4) في نسخة (ج) فعذ.
29

فصل
قال الشيخ رحمه الله: وقلت بعد انفصال المجلس لبعض أصحابنا
في حل كلام أمير المؤمنين عليه السلام من قوله: (هذا وضوء من لم
يحدث) (1) زيادة لم أوردها على الخصم، لأنني لم أؤثر اتفاقه عليها في الحال،
ولم يكن لي فقر. إليها في الحجاج وهي معتدة في برهان الحق - والمنة لله -
وذلك أن قوله عليه السلام وقد توضأ فغسل وجهه ويديه إلى المرفقين
ومسح برأسه ورجليه: (هذا وضوء من لم يحدث) لا يجوز حمله إلا
على الوجه الذي ذكرناه، في حكم الوضوء المشروع، الذي لم يحدث فيه
ما ليس بمشروع من قبل أنه لو كان على ما تأوله للخصوص من أنه أراد
به وضوء من لم يحدث ما يوجب الوضوء، لكان لمن لم يجب عليه الوضوء
وضوء مخصوص لا يتعدى إلى غيره، كما أن لمن توضأ عن حدث وضوءا
مخصوصا لا يجوز تعديه إلى سواه.
ولما أجمعوا على أن له أن يتعدى ذلك إلى غسل الرجلين، ويكون
وضوءا لمن لم يحدث، كما يكون المسح وضوءا له، بطل تأويلهم إذ ما
يختص لا يقع غيره موقعه، وفي إجماعهم على ما بيناه من أن من لم يحدث
ليس له وضوء بعينه مشروع بطلان ما تعلقوا به في تأويل كلام أمير
المؤمنين عليه السلام، ودليل صحة ما ذكرناه منه.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد النبي وآله الطاهرين
وسلم تسليما كثيرا

(1) كنز العمال 9: 474.
30